تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

قال بعضهم : أي : ينهاكم عما ذكر كله.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وتنتهون عنه ، وقال بعضهم : الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية ، وتصرفها إلى طاعة الله ، وقد ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها).

يحتمل أمره (١) بوفاء العهد ، العهود التي يعطي بعضهم لبعض ، أمرهم بوفاء ذلك ، ونهاهم عن نقضها ، ويلزمهم وفاء عهد الله وإن لم يعاهدوا في ذلك ، لكنه ذكر وفاء العهد إذا عاهدوا ونهى عن النقض ؛ لأن ترك وفاء ما عاهدوا ، ونقض ما أعطوا على ذلك شرطا أقبح وأفحاش مما لم يعاهدوا ، وهو كقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [المائدة : ٧] ؛ ترك الوفاء ونقضه بعد قولهم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) : أفحاش ، وأفحاش من نقضه إذا لم يكن لهم عهد سابق وشرط متقدم ، وهذا ـ والله أعلم ـ معنى أمره بوفاء العهد إذا عاهدوا ، وإن كان وفاء العهد لازما لهم ، وإن لم يعاهدوا ؛ إذ جعل الله البشر بحيث يقبلون الحكمة والمحنة ، وجعل بنيتهم وخلقتهم بحيث يقدرون على القيام بذلك ، كقوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ...) الآية [الأحزاب : ٧٢] ، أي : أبي خلقتهم وبنيتهم ، أي : لم يجعل خلقة هذه الأشياء وبنيتها [بحيث](٢) تحتمل ذلك ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) ، أي خلقته وبنيته تحتمل ذلك والقيام بها ، وتحتمل أن تكون العهود التي أمر بوفائها إذا عاهدوا على الأيمان التي يقيمون بها ، حيث قال : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) : ذكر الأيمان ونهى عن نقضها ، ثم لا يحتمل أن يكون النهي عن النقض في الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف ؛ لأنه نهى عن نقضها ، ولو كان يأثم بعقدها لكان لا ينهى عن نقضها ؛ لأن الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف [يؤمر](٣) بنقضها أو لا يؤمر بوفائها وحفظها ، ثم ذكر فيه بعد توكيدها ، ولم يسغ نقض اليمين ، وإن لم يؤكدها إذا لم يكن في الوفاء بها إثم ، لكنه ذكر التوكيد ؛ لأن النقض بعد ذلك أقبح وأفحاش من النقض على غير التوكيد ؛ على ما ذكر (٤) من القبح والفحاش في بعض العهود بعد ما عاهدوا.

وقال بعضهم : قوله : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) هو حلفهم بالله ؛ لأن مشركي العرب كانوا لا

__________________

(١) في أ : أمرها.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : ذكرنا.

٥٦١

يقسمون بالله إلا ما يعظم من الأمر ويجل ، وذلك آخر أقسامهم ؛ ولذلك قال بعض أهل التأويل في قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) [فاطر : ٤٢] : يقول : جهد أيمانهم هو قسمهم بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).

قيل : كانوا يحلفون فيما بينهم على جعل الله كفيلا عليهم ، وقيل : الكفيل : هو الشهيد الحافظ ، وهكذا يؤخذ الكفيل فيما يؤخذ ؛ ليحفظ المال أو النفس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

من الوفاء بما عاهدوا أو النقض ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

اختلف في تأويل الآية :

قال بعضهم : الآية نزلت في مخالفة أهل الكفر بعضهم بعضا ، وهو أن يرث بعضهم بعضا ، وينصر ويعين بعضهم بعضا ، ويحلفون على ذلك ويقسمون ؛ فإن هلكوا في ذلك ـ أي : في نصر بعضهم بعضا [وإعانة بعضهم بعضا](١) ـ ثم إذا رأوا الكثرة والغلبة مع (٢) غير الذين خالفوهم (٣) ـ نقضوا ذلك ، ورجعوا إلى الذين معهم الكثرة والغلبة ؛ فنهوا عن ذلك.

وقال بعضهم : الآية في الذين يكونون بعد رسول الله وأصحابه لما علم أنه يكون خوارج وأهل اختلاف في الدّين ، فربما كانت الكثرة والغلبة لهم على أهل العدل ؛ فنهى من عاهد أهل العدل وبايعهم ـ أن يترك بكثرتهم وغلبتهم الكون مع أهل العدل ، وإعانتهم ، ونقض ما عاهدوا ؛ ولذلك قال :

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ).

وقال : هذا يدل أنه في أهل الإسلام.

وقال بعضهم : الآية في أهل النفاق ؛ أنهم كانوا يقسمون بالله إنهم ينصرون رسول الله وأصحابه ، ويقولون : إنا معكم ، كقوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ...) الآية [التوبة : ٥٦] كانوا يرون من أنفسهم الموافقة لهم ، والنصر ، والعون

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : من.

(٣) في أ : خالفوا.

٥٦٢

لهم على أعدائهم ويحلفون على ذلك ، ثم إذا رأوا الكثرة مع الكفرة والغلبة ، وقلة المؤمنين ـ تحولوا إلى أولئك ، ونقضوا أيمانهم ، وكانوا معهم ، كقوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ...) الآية [النساء : ١٤١].

ويحتمل قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ...) أي : لا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالمرأة التي تنقض غزلها من بعد قوة ، وجائز أن يكون غير هذا.

يقول : ولا تظنوا في الله أن يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ؛ فلو لم يكن بعث لكان يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، وقد عرفتم قبح ذلك ؛ فعلى ذلك : إنشاء الخلق إذا لم يكن بعث يكون في القبح ما ذكر. ثم ضرب الله مثل من أعطى العهد والمواثيق ووكد الأيمان في ذلك ، ثم نقض ذلك بامرأة تغزل ثم تنقض ذلك الغزل من بعد قوة أنكاثا ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : كما لم تنتفع هذه المرأة بغزلها إذا نقضته من بعد إبرامها إياه ؛ كذلك لا ينتفع ولا يوثق بمن أعطى العهد ، ثم نقضه. يقول : فلا هي تركت الغزل تنتفع به ، ولا هي تركت القطن والكتان كما هو ؛ فكذلك الذي يعطي العهد ثم ينقضه فلا هو حين أعطاه وفي به ، ولا هو ترك [العهد](١) فلم يعطه ونحوه. ثم اختلف في تلك المرأة :

قال بعضهم (٢) : هي امرأة من قريش حمقاء بمكة ، كانت إذا غزلت نقضته.

وقال بعضهم (٣) : هذا على التمثيل ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : أي لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه ـ لقلتم : ما أحمق هذه!! فعلى ذلك من أعطى العهد والميثاق ، ثم نقض ـ فهو كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ).

قال أبو بكر الأصم : الدخل : الذي لا يصحّ ولا يستقيم ؛ يقال : هذا مدخول ، أي : غير صحيح. وقال غيره (٤) : (دَخَلاً) ، أي : خديعة ومكرا يخدع بعضكم بعضا ، وهو قول

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٣) ، وهو قول عبد الله بن كثير والسدي.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢١٨٨٠) وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٣) ، وهو قول مجاهد وابن زيد.

(٤) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٣) ، وقاله الحسن ، أخرجه ابن جرير (٢١٩٠٥) و (٢١٩٠٦).

٥٦٣

أبي عوسجة أيضا. وقال القتبي (١) : (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) ، أي : خيانة ودغلا بينكم.

(أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ).

أي : فريق.

(أَرْبى).

من فريق.

وقال أبو عوسجة : (أَنْكاثاً) : هي جمع «نكث» ، والنكث ـ من الحبل ـ خيوط تنكث ثم تطرق وتصير صوفا ، ثم من بعد ذلك تفتل. قال : والمطرق : قضيب يضرب (٢) به الصوف حتى ينفش ويلين كما يندف القطن ، يقال : طرقت الصوف ـ أطرقه طرقا ـ أي : ضربته ، ويقال : نفشته ـ أنفشه نفشا ـ أي : فرقت بينه فتفرق ، ومنه قوله : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]. ويقال : حبل مثنى : إذا كان طاقين ، ومثلوث ، ومربوع ، ومخموس ومسدوس [ومسبوع](٣) ومثمون ومتسوع ، ومعشور.

وقال القتبي (٤) : الأنكاث : ما نقض من غزل الشعر وغيره ، واحدها : نكث.

يقول : لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا ؛ فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك فجعلته أنكاثا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

قال الحسن : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة القهر (٥) والقسر ، أي : لو شاء لجبرهم وقهرهم على الإيمان فآمنوا جميعا. فهذا فاسد ؛ لأنه لا يكون بالقهر والجبر إيمان ؛ لأنه لا صنع للعبد في حال القهر والجبر ؛ فيبطل تأويله ؛ إذ لا يجوز أن يثبت إيمان في تلك الحال.

وقال أبو بكر : تأويله قوله : لو شاء لأنزل لهم آية حتى يؤمنوا جميعا بتلك الآية ، كقوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] : أخبر أنه لو أنزل آية [يكونون](٦) لها خاضعين ، لكن عندنا أنهم ليسوا يؤمنون ويخضعون للآية ، ولكن بما شاء لهم ذلك ، ولا يحتمل أن تحملهم الآية على الإيمان ، شاءوا أو أبوا ؛ ألا

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٨) ، وقاله أيضا قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٨٩٠).

(٢) في ب : يطرق.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر تفسير غريب القرآن (٢٤٨) ، ينظر اللباب (١٢ / ١٤٩).

(٥) في ب : الجبر.

(٦) سقط في ب.

٥٦٤

ترى أنهم يكذبون يوم الحشر عند معاينتهم الآيات ، وهو قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) إلى قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٢ ، ٢٣] : أخبر أنهم يكذبون وقد عاينوا الآيات ، وليست الآية التي تنزل عليهم في الدنيا بأعظم من الآيات التى يعاينونها يوم القيامة ، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب ؛ دلّ أن الآية ليست تحملهم على الإيمان ، ولا تضطرهم عليه ، ولكن لو شاء لآمنوا بالاختيار فيبطل تأويله.

ثم الآية تحتمل عندنا وجهين :

أحدهما : قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بظاهر السبب الذي إذا أعطاهم لآمنوا له ، (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية [الزخرف : ٣٣] : أخبر أنه لو ما يرغب الناس في الكفر فيكونون كفارا كلهم ، وإلا جعل سقف أهل الكفر ومعارجهم من فضة ؛ فلو أنه جعل ذلك بعينه لأهل الإسلام وفي أيديهم لآمنوا ـ أيضا ـ كلهم ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في أيدى الكفرة ؛ فيحمل أهل الإسلام على الكفر ، وإذا كان ذلك بعينه لأهل الإسلام ـ لا يحمل أهل الكفر على ترك الكفر والدخول في الإسلام.

والوجه الثاني : لو شاء لجعلهم أمّة واحدة بلطف منه : يشرح صدره للإسلام من غير أن يعلم أن أحدا ألقى ذلك في قلبه ، من نحو ما مكّن للشيطان عدو الله ؛ حتى يقذف في قلوب الخلق ويلقي وساوس ، من غير أن يعلموا أن أحدا دعا إلى ذلك وألقى إلى قلوبهم ؛ ألا ترى أن إبليس لما وسوس إلى آدم ـ عليه‌السلام ـ ليتناول من الشجرة التي نهى عنها ربّه لو علم أنه إبليس لما أجابه ، وكذلك ما مكن للملائكة من تثبيت قلوب الذين آمنوا ، وإلقاء أشياء في قلوبهم ، ويلهمونهم ، وهو قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال : ١٢] من غير أن يعلموا [أنّ](١) أحدا دعاهم إلى ذلك ، أو ألقى أحد ذلك في قلوبهم ؛ فمن ملك تمكين عدوه وملائكته على ما ذكرنا يملك شرح الصّدر للإسلام والدعاء إلى ذلك من غير أن يعلموا أن أحدا فعل ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

على قول الحسن : على الحكم لذلك.

وقال أبو بكر الأصم : يضل بالنهي من نهى ، ويهدي بالأمر. لكن هذا فاسد ؛ لأنه لو كان بالنهي مضلّا وبالأمر هاديا ـ لكان مضلّا للأنبياء والرسل ؛ لأنه قد نهاهم بمناه ؛ فيكون مضلّا لهم.

__________________

(١) سقط في أ.

٥٦٥

فإن قيل : لم يصر ما ذكرت ؛ لأنهم لم يرتكبوا المناهي ـ قيل : الارتكاب فعلهم ؛ فلا يحتمل أن يكون بفعلهم ذلك ؛ فدل أن ما ذكرنا فاسد ، وعلى (١) قولهم يكون بالنهي عاصيا مضلّا ، وعندنا قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي : يخلق فعل الضلال منهم ، أو يضل من علم أنه يختار الضلال على الهدى ويخذلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

هو ظاهر.

وقوله : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ).

قد ذكرنا (٢).

وقوله : ـ عزوجل ـ : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها).

قال أبو بكر : دلّ قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) أن الآيات التي تقدم ذكرها في أهل الإسلام ؛ لأنه أخبر أنه تزل قدم بعد ثبوتها ، وهو الكفر بعد الإسلام.

وعندنا هو ما ذكرنا أن قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) بالخوف ، (بَعْدَ ثُبُوتِها) أي : بعد ما كانوا آمنين ؛ لأنهم بأيمانهم كانوا يأمنون ، وبنقضهم العهود والأيمان يخافون ، فيكون قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) كناية عن الخوف ، والثبوت كناية عن الأمن ، أي صاروا خائفين بنقضهم العهود والأيمان بعد ما كانوا آمنين [بها](٣) ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : عليه.

(٢) قال الواحدي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «الدخل والدغل : الغش والخيانة».

وقيل : الدخل : ما أدخل في الشيء على فساد ، وقيل : الدخل والدغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) الآية لما حذّر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان مطلقا ، قال في هذه الآية (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) وليس المراد منه التّحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلّا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.

فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن نقض عهده ؛ لأنه قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان به وبشرائعه.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٤٩ ، ١٥١) ، وعن الحسن بنحوه (٢١٩٠٥) ، و (٢١٩٠٦) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٤٥) عن الحسن وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) سقط في أ.

٥٦٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

على هذا التأويل : يذوقون ذلك في الدنيا ؛ بالقتل والقهر ، ويحتمل في الآخرة ؛ بما صدّوا الناس عن دين الله ، واستبدلوا به الكفر بعد الإيمان.

(وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

قال بعضهم : عهد الله : دين الله.

وقال بعضهم : عهد الله الذي عهد إليهم.

ويحتمل عهد الله : ما أعطوا من العهد والأيمان ، أي : ينقضوها بشيء يسير ؛ إنما عند الله هو خير لكم دائم باق ، وهذا زائل فان ، أو ما يجزي بوفاء ما عهدوا خير لكم من هذا ، أي : يجزيكم بوفاء ما ذكر من العهد ـ خير لكم من غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

أي : ما أخذتم من الأموال واكتسبتم بنقض العهود والأيمان ينفد ويفنى ، وما عند الله من الجزاء والثواب بوفاء العهد (١) باق.

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ).

يحتمل قوله : (صَبَرُوا) على ما أمروا به ، ونهوا عنه ، وصبروا على وفاء العهد.

(بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

يحتمل قوله : (بِأَحْسَنِ) ، أي : الجزاء الذي يجزيهم على الصّبر أحسن من وفاء العهد ، أو يجزيهم بأحسن ما عملوا ، أي : يجعل سيئاتهم حسنات ؛ كقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً).

اختلف أهل التأويل [في قوله](٢) : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) :

قال بعضهم : قوله (٣) : (حَياةً طَيِّبَةً) في الآخرة ، وهي الجنة.

__________________

(١) في أ : بعهد الوفاء.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله قتادة وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢١٩٠٧) و (٢١٩٠٩).

٥٦٧

وقال بعضهم : (حَياةً طَيِّبَةً) في الدنيا (١).

فمن قال : الحياة الطيبة هي الجنّة ، في الآخرة ، يكون تأويله : من يكن عمله في الدنيا صالحا فليحيينه الله في الآخرة حياة طيبة ؛ وإلا ظاهر قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) إنما هو على عمل واحد ، وكذلك قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] : ظاهره على حسنة واحدة ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا : من يكن عمله في الدنيا صالحا فيفعل ما ذكر. وقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ، أي : ما تؤتينا في الدنيا آتنا حسنة ، أو أن يكون على الختم به ، أي : من ختم بالعمل الصالح فيحييه الله حياة طيبة في الجنة ، كقوله : من جاء بالحسنة فله كذا.

وقال الحسن (٢) : الحياة الطيبة هي الجنة ؛ لأن في الدنيا ما ينغص حياته.

وقال بعضهم : الحياة الطيبة في الدنيا ؛ فتأويله : من يكن همه وجهده في الدنيا العمل الصالح فلنحيينّه حياة [طيبة](٣) ، أي : نوفقه ونيسّره الخيرات والعمل الصالح والطاعات ، وهو ما روى أنه قال : «كلّ ميسّر لما خلق له» (٤) ، وكقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٥ ـ ٧] ، وكقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ونحوه ؛ فذلك هو الحياة الطيّبة في الدنيا ؛ حيث يسّر عليه العمل الصالح ، ووفق للطاعات والخيرات.

وقال بعضهم (٥) : قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ، أي : قنع في الدنيا بما قسم الله له ورزقه ، ورضي به ، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) مما أزال عنه هم طلب الفضل ، وغمه ، وذلّه وحرصه عليه ؛ لأن أكثر هموم الناس في الدنيا وذلهم ؛ لما لم يرضوا بما قسم الله لهم ، ولم يقنعوا به ؛ فهو يحيا حياة طيّبة لما عصم من ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا ؛ لقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل : ٩٧] ، والمراد : ما لا يكون في الآخرة.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢١٩٠٥) ، و (٢١٩٠٦) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٥).

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه البخاري (١٥ / ٥٠١) ، كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ...) [القمر : ١٧] ، (٧٥٥١) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤١) ، كتاب القدر : باب كيفية خلق الآدمي (٩ / ٢٦٤٩) ، عن عمران بن حصين ، وأخرجه البخاري (٧٥٥٢) ، ومسلم (٦ / ٢٦٤٧) ، عن علي بن أبي طالب.

(٥) قاله علي والحسن البصري ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢١٩٠١) و (٢١٩٠٢) ، وهو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٤ ، ٢٤٥).

٥٦٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ).

أي : في الآخرة.

(بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

على تأويل من قال : الحياة الطيّبة في الدّنيا.

وقال بعضهم ـ وهو قول أبي بكر ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) :

في الدنيا ، ما ذكر هؤلاء.

وقال بعضهم (١) : (حَياةً طَيِّبَةً) الرزق الحلال.

وقوله : (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : وقد ذكرنا.

قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٠٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

وقال في آية أخرى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] ، وقال في آية أخرى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الآية [المؤمنون : ٩٧].

فيجب أن يتعوذ من همزاته على ما أمر رسوله ، أو عند نزغ الشيطان على ما ذكر ، لكنه إذا تعوذ منه ـ تعوذ من همزاته ونزغاته.

فإن قيل : كيف خصّ قراءة القرآن بالتعوذ منه دون غيره من الأذكار ، والعبادات ، والأعمال الصالحة؟

قيل : قد يتعوذ منه دون غيره ـ أيضا ـ في غيره من العبادات والأذكار ؛ بقولهم : «بسم

__________________

(١) قاله ابن عباس ، وأخرجه ابن جرير (٢١٨٩٣) و (٢١٨٩٨) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٤) ، وهو قول الضحاك.

٥٦٩

الله» ؛ إذ لا يفتتح شيء إلا به ؛ فذلك تعوذهم منه ، لكن التعوذ في هذا تعوذ بكناية ، والتعوذ في قراءة القرآن بالتصريح ؛ وذلك أنه حجة وبرهان ؛ فطعن الأعداء فيما هو حجة في نفسه أكثر من الأفعال التي فعلوها ؛ ألا ترى أنه كان يلقنهم ـ أعني الشيطان [و] أولياءه ـ أنه سحر ، وأنه : أساطير الأوّلين ، وأنه إنما يعلمه بشر ، ونحوه. وقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام : ١٢١] : كانوا يطلبون الطعن في القرآن ؛ لأنه حجّة وبرهان ، ولم يشتغلوا في طعن فعل من الأفعال أو ذكر من الأذكار ؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون التعوذ منه ـ فيما هو حجة ـ بالتصريح ، وفي غيره بكناية ، والله أعلم.

ثم في هذه الآية ، وفي غيرها من قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] ـ لم يفهم أهلها منها على ظاهر المخرج ؛ ولكن فهموا على مخرج الحكمة ؛ لأن ظاهر المخرج أن يفهم التعوذ بعد فراغه من القراءة ، وكذلك يفهم من الأمر بالقيام إلى الصلاة الوضوء بعد القيام إليه ، ثم [لم](١) يفهموا ـ في هذا ونحوه ـ هذا ؛ ولكن فهموا : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ، وكذلك فهموا من قوله : (إِذا قُمْتُمْ) أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة (فَاغْسِلُوا) ، ولم يفهموا كل قيام ؛ إنما فهموا قياما دون قيام ، أي : إذا [أردتم] القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون ، وفهموا من قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠] ، وفهموا من قوله : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب : ٥٣] ، وكذلك فهموا من قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) [البقرة : ٢٠٠] ـ الفراغ منها ؛ دلّ أن الخطاب لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج ؛ ولكن على مخرج الحكمة والمعنى.

وأصل التعوذ هو الاعتصام بالله من وساوس عدوه وكيده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا).

قال بعضهم : ليس له سبيل على الذين آمنوا.

وقال بعضهم (٢) : السلطان : الحجّة ، أي : ليس له حجة على الذين آمنوا.

وقال بعضهم : أي ليس له ملك على الذين آمنوا ـ ملك القهر والغلبة ـ إنما ملكه على الذين يتولونه ، لكن ليس له ملك القهر على الذين يتولّونه أيضا ؛ إنما يتبعونه ويطيعونه

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢١٩١٨) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٦).

٥٧٠

بإشارات منه طوعا ؛ فدلّ أن تأويل الملك لا يصح في السلطان ، ويكون تأويله السبيل أو الحجّة.

ثم يحتمل قوله : (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ـ بالقرآن ؛ لأنه ذكر على أثر ذكر القرآن ، ويحتمل : الذين آمنوا بربهم ، وهما واحد في الحاصل ؛ (إِنَّما سُلْطانُهُ) : حجته أو سبيله على الذين يتخذونه وليّا ، فيطيعونه في كل أمره وجميع إشاراته وما يلقي (١) إليهم ، وأصله : ليس له سلطان على الذين آمنوا بربهم.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

في جميع أحوالهم وساعاتهم ؛ أي : لا سلطان له ولا سبيل على من آمن به وتوكل عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).

[يحتمل قوله : (بِهِ مُشْرِكُونَ)](٢).

إبليس يتبعونه ويعدلون بربهم ، ويحتمل (بِهِ مُشْرِكُونَ) : بربهم ، والتوكل : هو الاعتماد به ، وتفويض الأمر إليه في كل حال : السراء والضراء وفي وقت الضيق والسّعة ؛ فذلك التوكل به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...).

الآية تحتمل وجهين (٣) :

أحدهما : ما قاله أهل التأويل على التناسخ أن يبدّل آية مكان آية ، وهو على تبديل حكم آية بحكم آية أخرى ، لا على رفع عينها.

والثاني : قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) ، أي : بدّلنا حجّة بعد حجة ، وآية بعد آية لرسالته.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ).

كلما أتاهم حجة على أثر حجة ، وآية بعد آية يقولون : إنما أنت مفتر. ينسبون إليه

__________________

(١) في أ : يلقون.

(٢) سقط في أ.

(٣) اعلم أنه ـ سبحانه جل ذكره ـ شرع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدة ، ثم نزلت آية ألين منها يقولون : إن محمدا يسخر بأصحابه ؛ يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) ، والتبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وهو هنا النسخ.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٥٦).

٥٧١

الافتراء : أنه افترى ، وكذلك كان عادتهم المعاندة والمكابرة ؛ كقوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [الأنعام : ٤] ، وكقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : ٢] ، ونحوه من الآيات. كلما أتى بهم حجة وآية بعد آية كانوا يستقبلونه بالتكذيب لها ، ونسبة رسول الله إلى الافتراء من نفسه ؛ ويزداد لهم بذلك كفرا ، وهو ما قال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥] : أخبر أنه كان يزداد لأهل الإيمان بما ينزل عليهم من سورة إيمانا ، ويزداد لأهل الشرك رجسا وكفرا إلى كفرهم مثل هذا (١).

ولو كان يحتمل أن يكون حرف (إذا) مكان (لو) ـ لكان أقرب ، ويكون تأويله : ولو أنزلنا حجة بعد حجة وآية على أثر آية جديدة ـ فما آمنوا ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأنعام : ١١١] ، وكقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ...) الآية [الرعد : ٣١] ، أي : لو أن هذا القرآن ـ قرآن سيرت به الجبال أو كلم به الموتى ـ فما آمنوا به ؛ لعنادهم ؛ فعلى ذلك : الأول قد يحتمل قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) بالسؤال مكان آية (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ).

يحتمل قوله : [(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) به صلاحهم وغير صلاحهم ، أو أن يكون](٢) : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من تثبيت قلوب الذين آمنوا ؛ كقوله : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل : ١٠٢] ، أو أن يكون (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) : جبريل على رسوله ؛ جوابا لقولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، وكقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ، أي : ليس بمفتر ؛ ولكن نزله جبريل من ربّه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).

يحتمل قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : بالحق الذي عليهم ، أو بالحق الذي لبعضهم على بعض. والحق في الأقوال : هو الصدق ، وفي الأفعال : صواب ورشد ، وفي الأحكام : عدل وإصابة ، والحق : هو الشيء الذي يحمد عليه فاعله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً).

__________________

(١) زاد في ب : والله أعلم.

(٢) سقط في ب.

٥٧٢

هذا تفسير قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) ؛ لأنه أخبر أنه : ليثبت الذين آمنوا ؛ فذكر من زيادة الإيمان ـ هو التثبيت ـ الّذى ذكر هاهنا ـ قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) ، وذكر قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ـ مقابل قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ؛ ليعلم أن الزيادة التي ذكر في سورة التوبة ـ هي ما ذكر هاهنا من التثبيت والطمأنينة ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

أي : هدى من الجهالات والشبهات التي كانت تعرض لهم ، أو من الضّلالة ، وبشرى للمسلمين. وقال : في آية أخرى : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧] ؛ ليعلم أن الإيمان والإسلام واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).

هم لم يقولوا إنما يعلمه بشر ؛ ولكن كانوا ينصّون واحدا فلانا ، لكن الخبر من الله على ذكر البشر ؛ ألا ترى أنه أخبر أن (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

دلّ أن البشر ـ الذي أخبر عنهم أنهم يقولون : إنه يعلمه ـ كان منصوصا عليه مشارا إليه ؛ حيث قال : لسان هذا أعجمى ، ولسان النبي عربي ؛ فكيف فهم هذا عن هذا ، وهذا من هذا ، ولسان هذا غير لسان هذا؟! وما قاله أهل التأويل (١) : أنه كان يجلس إلى غلام يقال له كذا ، وهو يهودي يقرأ التوراة ؛ فيستمع إلى قراءته ، وكان يعلمه الإسلام حتى أسلم ، فعند ذلك قالت له قريش : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، ولو كان ما ذكروا أنه كان يعلمه الإسلام فأسلم ؛ فلقائل أن يقول : كيف فهم ذلك الرجل منه لسان (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولسانه غير لسانه؟! على ما أخبر ؛ لكن يحتمل أن يكون ذلك في القرآن ؛ حيث قالوا : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، ثم يقولون : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ؛ فيقول ـ والله أعلم ـ : إنه كيف علمه هذا القرآن ، وهو لا يفهم من لسانه إلا يسيرا منه ؛ فأنتم لسانكم عربي لا تقدرون أن تأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثلها ، ولا بآية ؛ فكيف قدر على مثله من لا يفهم لسانه ، ولا كان ذلك بلسانه؟! يخرج ذلك على الاحتجاج عليهم.

وبعد ، فإن في قولهم ظاهر التناقض ؛ لأنهم قالوا : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، ثم قالوا :

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٩٣٣) وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٧) ، وهو قول عكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.

(٢) في أ : سنن.

٥٧٣

(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، فالذى علمه غيره ليس بمفتر ؛ إنما يكون الافتراء من ذات نفسه فهو ظاهر التناقض.

وقوله : (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

يحتمل : مبين ما لهم وما عليهم ، أو مبين للحقوق التي لله عليهم وما لبعضهم على بعض ، أو مبين : أي بين أنه من عند الله نزل ؛ ليس بمفترى.

وهذه الآية ترد على الباطنيّة قولهم ؛ لأنّهم يقولون : إن رسول الله هو الذي ألف هذا القرآن بلسانه ، ولم ينزله الله عليه بهذا اللسان ؛ فلو كان على ما ذكروا ما كان لأولئك ادعاء ما ادعوا على رسول الله من الافتراء.

قوله : (يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ).

قال بعضهم (١) : يميلون إليه ، وهو قول أبي عوسجة والقتبي (٢) ؛ قالوا : الإلحاد : الميل (٣) ، وكذلك سمّي اللّحد لحدا ؛ لميله إلى ناحية القبر.

وقال الكسائى : هو من الركون إليه ، أي : يركنون.

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ).

قال الحسن : إنه ـ والله ـ من كذب بآيات الله فهو ليس بمهتد عند الله.

[و] قال أبو بكر : لا يهديهم الله بتكذيبهم الآيات.

فهو كله خيال على كل من يشكل ويخفي أن من كذب بآيات الله فهو غير مهتد من يظن هذا ، وقول أبي بكر ـ أيضا ـ من يتوهم أن من كذب بآيات الله أنه يهديه ـ هذا فاسد ، خيال كله ، وأصله عندنا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) [؛ لعنادهم ومكابرتهم ؛ لأنهم كانوا يعاندون بآيات الله ويكابرونها ، ويكذبون مع علمهم أنها آيات ، وأنها حق أو قال ذلك في قوم علم أنهم لا يؤمنون](٤) ويموتون عليه ؛ فمن علم منه أنه لا يؤمن لا يهديه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ).

لا الذين يؤمنون بها ويصدقونها.

(وَأُولئِكَ).

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٨٥).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٩).

(٣) ينظر اللباب (١٢ / ١٥٩ ، ١٦٠).

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٥٧٤

الذين كذبوها.

(هُمُ الْكاذِبُونَ).

قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) يحتمل وجهين ـ حيث ذكر من كفر بالله ـ : أحدهما : كفر بالله في زعم المكره ؛ لأنه أكرهه به ففي زعمه كافر بالله ؛ لطلبه ذلك منه ، وهو كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] : في زعمهم ؛ لأنهم لم يكونوا آلهة ، وكقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) [طه : ٩٧] : سماه إلها ؛ لأنه ـ في زعم السامري ـ إله.

والثاني : من كفر بالله شارحا صدره بالكفر ـ هو الكافر به حقّا ، وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه ، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنّا به ـ فهو ليس بكافر. وأصله : أن من اعتقد مذهبا [أو دينا](١) أن يعتقده بخصال ثلاث :

إحداها : يقلد آخر ؛ لما رآه (٢) أبصر وآخذ وأعلم فيه ، وهو لا يبلغ ذلك ، فيقلده ؛ لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه.

والثانية : يعتقد للشبهة ؛ لما يتراءى عنده أنه الحق ؛ فيعتقده لذلك للشبهة التي ذكرنا.

والثالثة : [يعتقد لما](٣) يتضح له الحق فيعتقده.

فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد دينا أو مذهبا ، فأما أن يعتقد الإنسان مذهبا مجانا على الجزاف فلا ؛ فكأن إظهار كفر هذا لإكراه من أكرهه لم يصر كافرا.

وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار ؛ فإن الإكراه يزيل اختيار من كفر ؛

__________________

(١) في ب : ودينا.

(٢) في أ : رأى.

(٣) سقط في أ.

٥٧٥

لذلك يبقى على الإيمان على ما كان ؛ لما لم يوجد منه اختيار الكفر.

فإن قيل : أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر ؛ ليسلموا ، وذلك إسلام بإكراه؟! وعلى ذلك نطق الكتاب ، وهو قوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلا الله» (١) ، ثم إذا أسلم لخوف السيف ـ كان إسلامه إسلاما في الظاهر ما يمنع كذلك أنه إذا أكره على الكفر ، فأجرى كلمة الكفر على لسانه ـ كان كفره كفرا في الظاهر ؛ فيحكم بكفره كما حكم في الإسلام على الإكراه ؛ فما الفرق فيه؟!

قيل : إن ذلك كان يجيء إلا أن الله ـ تعالى ـ أعفى عباده عن ذلك ؛ فأبقاهم على الإيمان وحكمه ، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك ؛ فضلا منه ونعمة ، وإلا : القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر ، وأمّا الطلاق والعتاق والنكاح ونحوه ، وهو ظاهر على ما تكلم به ، عامل واقع ؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما ممّا يتعلق بالكلام نفسه لا بغيره ، فهو ـ وإن أكره على ذلك ـ فهو مختار للتكلم به ، قاصد له ؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه ؛ دل أنه على الاختيار يتكلم ، وأما البيع والشراء ونحوه لم يتعلق بالكلام نفسه ؛ إذ قد يكون

__________________

(١) حديث أبي هريرة :

أخرجه البخاري (٣ / ٢٦٢) كتاب : الزكاة ، باب : وجوب الزكاة ، حديث (١٣٩٩) ، ومسلم (١ / ١٨٠) [أبي] كتاب : الإيمان ، باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، (٣٤ / ٢٠) ، وأبو داود (٣ / ١٠١) كتاب : الزكاة ، باب : على ما يقاتل المشركون ، حديث (٢٦٤٠) ، والترمذي (٤ / ١١٧) كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، حديث (٢٧٣٣) ، والنسائي (٥ / ١٤) كتاب : الزكاة ، باب : مانع الزكاة ، وابن ماجه (٢ / ١٢٩٥) كتاب : الفتن ، باب : الكف عمن قال لا إله إلا الله ، حديث (٣٩٢٧) ، والشافعي (١ / ١٣) باب الإيمان والإسلام ، عبد الرزاق (٦ / ٦٧) كتاب : أهل الكتاب ، باب : أقاتلهم حتى يقولوا : (لا إله إلا الله) ، حديث (١٠٠٢٢) ، وأحمد (٢ / ٣٤٥) ، وابن الجارود (ص ـ ٣٤٣) ، باب : فيما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء إلى توحيد الله عزوجل والقتال عليها ، حديث (١٠٣٢) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٣ / ٢١٣) كتاب : السير ، باب : ما يكون الرجل به مسلما ، وابن سعد في الطبقات ، والدارقطني (١ / ٢٣١ ، ٢٣٢) كتاب : الصلاة ، باب : تحريم دمائهم وأموالهم إذا تشهدوا بالشهادتين ، حديث (٢) ، والحاكم (١ / ٣٨٧) كتاب : الزكاة ، وأبو نعيم في الحلية (٣ / ٣٠٦) ، وابن حبان (١٧٤) ، من طريق عن أبي هريرة.

أما حديث ابن عمر :

أخرجه البخاري (١ / ٢٢) كتاب : الإيمان ، باب : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم حديث (٢٥) ، ومسلم (١ / ٥٣) كتاب : الإيمان ، باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (٣٦ / ٢٢) ، والدارقطني (١ / ٢٣٢) ، والبيهقي (٣ / ٩٢).

٥٧٦

بالأخذ والتسليم دون التكلم به ؛ لذلك عمل الإكراه في إبطاله كما أبقاهم على الإيمان وحكمه ، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنّا بذلك ، وعلى ذلك ما روي عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «رفع (١) عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» (٢) ؛ وذلك في الكفر ليس في غيره ؛ لأن الإكراه على الكفر كان ظاهرا يومئذ ، ولم

__________________

(١) في ب : عفوت.

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩) كتاب : الطلاق ، باب : طلاق المكره والناسي ، حديث (٢٠٤٥) ، والعقيلي في الضعفاء (٤ / ١٤٥) ، والبيهقي (٧ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء في طلاق المكره ، كلهم من طريق محمد بن المصفى ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعى عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما استكرهوا عليه وعن الخطأ والنسيان».

ومن طريق محمد بن المصفى :

أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمي المعروف بأخي عاصم في فوائده ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ؛ كما في المقاصد الحسنة (ص ـ ٢٢٩).

قال الحافظ البوصيري في الزوائد (٢ / ١٣٠) : هذا إسناد صحيح إن سلم من الانقطاع ، والظاهر أنه منقطع ، قال المزي في الأطراف رواه بشر بن بكر التنيسي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس. انتهى. وليس ببعيد أن يكون السقط من صنعة الوليد بن مسلم. اه.

وهذا كلام جيد من الحافظ البوصيري ـ رحمه‌الله ـ والطريق الذي أشار إليه الحافظ المزي.

أخرجه ابن حبان (١٤٩٨ ـ موارد) ، والدارقطني (٤ / ١٧٠ ـ ١٧١) كتاب : النذور رقم (٢٣) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٣ / ٩٥) كتاب : الطلاق ، باب : طلاق المكره ، والحاكم (٢ / ١٩٨) كتاب : الطلاق والبيهقي (٧ / ٣٥٦) كتاب : الخلع والطلاق ، باب : طلاق المكره ، والطبراني في الأوسط ؛ كما في «التلخيص» (١ / ٢٨٢) كلهم من طريق بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس.

قال البيهقى : جوده بشر بن بكر.

وقال الطبراني : لم يروه عن الأوزاعي مجودا إلا بشر. اه.

ومن هذا الطريق صححه ابن حبان.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وللحديث طرق أخرى عن ابن عباس.

الطريق الأول :

أخرجه الطبراني في الكبير (١١ / ١٣٣ ـ ١٣٤) رقم (١١٢٧٤) من طريق مسلم بن خالد الزنجي حدثني سعيد ـ هو العلاف ـ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ عزوجل ـ تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (٣٢٦) : أخرجه الجوزجاني ، وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : وهو مكي ، قيل له : كيف حاله؟ قال : لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد ، قال أحمد : وليس هذا مرفوعا إنما هو عن ابن عباس قوله نقل ذلك عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه. اه.

الطريق الثاني :

أخرجه ابن عدي في الكامل (٥ / ٢٨٢) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي حدثني أبي عن ـ

٥٧٧

__________________

ـ سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عفي لي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه».

وعبد الرحيم بن زيد :

قال يحيى : ليس بشيء ، وقال البخاري : تركوه ، وقال السعدي : غير ثقة. أسند ذلك عنهم ابن عدي في الكامل.

وقال النسائي : متروك وضعفه أبو داود وأبو زرعة. التهذيب (٦ / ٢٧٣) ، وزيد العمي ، قال الحافظ في التقريب (١ / ٢٧٤) : ضعيف.

وللحديث شواهد من حديث أبي بكرة وأبى الدرداء وأم الدرداء وثوبان وعقبة بن عامر وابن عمر وأبى ذر.

١ ـ حديث أبي بكرة :

أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (١ / ٩٠ ـ ٩١) ، وابن عدي في الكامل (٢ / ١٥٠) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه».

ومن هذا الوجه أخرجه الحافظ في تخريج أحاديث المختصر (١ / ٥٠٩) ، وقال : هذا حديث غريب ، أخرجه ابن عدي في الكامل عن حذيفة بن الحسن عن أبي أمية محمد بن إبراهيم عن جعفر ، وعده في منكرات جعفر وقال : لم أر للمتقدمين فيه كلاما ، ولعل ذلك من قبل أبيه ، فإني لم أر له رواية عن غيره.

قلت ـ أى : الحافظ ـ أبوه ضعفه يحيى بن معين والبخاري وغيرهما. اه.

٢ ـ حديث أبي الدرداء :

أخرجه الطبراني ؛ كما في نصب الراية (٢ / ٦٥) من طريق أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله : «إن الله تجاوز لأمتي عن النسيان وما أكرهوا عليه».

قال الحافظ في التلخيص (١ / ٢٨٢) : وفي إسناده ضعف.

٣ ـ حديث أم الدرداء :

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ؛ كما في تخريج المختصر (١ / ٥٠٩) من طريق أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه» قال أبو بكر الهذلي : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ؛ أما تقرأ بذلك قرآنا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

قال الحافظ : وأبو بكر الهذلي ضعيف ، وفي الإسناد مع ذلك انقطاع أو إرسال بالنسبة لأم الدرداء ؛ لأنها إن كانت الكبرى فمنقطع ، وإن كانت الصغرى فمرسل ، وفي شهر مقال أيضا. اه.

والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٦٦٥) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

٤ ـ حديث ثوبان :

أخرجه الطبراني في الكبير (٢ / ٩٧) رقم (١٤٣٠) من طريق يزيد بن ربيعة الرحبي ثنا أبو الأشعث عن ثوبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تجاوز عن أمتي ثلاثة : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه».

قال الهيثمي في المجمع (٦ / ٢٥٣) : رواه الطبراني ، وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو ضعيف.

والحديث ضعف سنده الحافظ في التلخيص (١ / ٢٨٢).

٥ ـ حديث عقبة بن عامر : ـ

٥٧٨

يكن في غيره من طلاق وغيره.

وأمّا قتالنا إياهم ؛ ليسلموا ـ فهو يحتمل وجوها :

أحدها : على المجازاة ؛ كقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، فنقاتلهم ليظهروا الإسلام ، وإن لم يعرف حقيقة على المجازاة.

والثاني : قبلنا منهم الإسلام على الإكراه لنقرهم فيما بين المسلمين ؛ فيرون الإسلام ويتعلمون منهم حقيقة ؛ ألا ترى أنه قال : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) [الممتحنة : ١٠] ؛ سمّاهنّ مؤمنات ، ثم أمرنا بامتحانهن ؛ بقوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) ؛ فإنما يمتحنّ ؛ ليظهر حقيقة إيمانهن ، وإلا لم يكن للامتحان معنى لو لا ذلك.

وأصله : أن الله جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيره من الجوارح ؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعمالها بالإكراه ، وأمّا القلب فإنه لا يملك أحد سواه

__________________

ـ ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٦ / ٢٥٣) ، وعزاه للطبراني في الأوسط وقال : وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن ، وفيه ضعف.

٦ ـ حديث ابن عمر :

أخرجه العقيلي في الضعفاء (٤ / ١٤٥) ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٥٢) ، والطبراني في الأوسط ؛ كما في مجمع الزوائد (٦ / ٢٥٣) كلهم من طريق محمد بن المصفى عن الوليد ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

قال أبو نعيم : غريب من حديث مالك تفرد به ابن مصفى عن الوليد وضعفه العقيلى وأعله بابن مصفى ونقل تضعيفه عن الوليد.

وقال الهيثمي في المجمع (٦ / ٢٥٣) : رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه محمد بن مصفى ، وثقه أبو حاتم ، وفيه كلام لا يضر ، وبقية رجاله رجال الصحيح.

٧ ـ حديث أبي ذر :

أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩) كتاب : الطلاق ، باب : طلاق المكره والناسي ، حديث (٢٠٤٣) من طريق أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر مرفوعا.

قال البوصيري في الزوائد (٢ / ١٣٠) هذا إسناد ضعيف ؛ لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي.

قلت : وللحديث علتان أخريان ، ضعف شهر بن حوشب ، والانقطاع بينه وبين أبي ذر.

قال العلائى في جامع التحصيل (ص ـ ١٩٧) : شهر بن حوشب عن تميم الداري وأبي ذر وسلمان رضي الله عنهم ، وذلك مرسل. اه.

وحديث «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان».

صححه الحاكم وابن حبان والضياء والذهبي والنووي في الأربعين (ص ـ ٨٥) فقال : إنه حسن.

وحسنه الحافظ في تخريج المختصر (١ / ٥١٠) ، وقال : وبمجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا.

وتبعه تلميذه السخاوي في المقاصد (ص ـ ٢٣٠). ورمز له السيوطي بالصحة في الجامع الصغير (١٧٠٥).

٥٧٩

استعماله ، وذلك بفضله ومنّه.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً).

ومن شرح صدره بالكفر فهو كافر به إن كان ليس على الإكراه ؛ لما ذكرنا أنه باختياره الكفر ينشرح له الصّدر لما لا يعمل الإكراه على القلب.

(فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ).

أي : ذلك الغضب والعذاب بأنهم.

(اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ؛ جحودا وإنكارا ، وإلا نفس الاستحباب قد يكون من المؤمن ؛ فلا يزيل (١) عنه اسم الإيمان ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله ـ تعالى ـ (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] ؛ فلم يزل عنهم اسم الإيمان باختيارهم واستحبابهم الحياة الدنيا ؛ فدلّ أن الأول عن الجحود له والإنكار ، وهذا على الميل إليه دون الجحود ؛ أو أن يكون كذلك لما لم يروا الآخرة كائنة لا محالة ولكن ظنّا ظنّوا لعلها كائنة ؛ كقولهم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢] وأمّا أهل الإسلام فإنهم لم يكونوا فيها ظانين [متشككين](٢) ؛ ولكن متحققين مستيقنين ؛ فاستحقوا بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

وقت اختيارهم الكفر ؛ [لأن الله](٣) لا يهدي القوم المختارين الكفر على الإيمان ؛ وقال ذلك لقوم علم الله أنهم يختارون الكفر ، وأنهم يموتون على الكفر ؛ فلا يهديهم (٤).

__________________

(١) في أ : يزول.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : أو أنه.

(٤) أي : ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه ـ تعالى ـ ما هداهم إلى الإيمان ، وما عصمهم عن الكفر.

قال القاضي : المراد : أن الله ـ تعالى ـ لا يهديهم إلى الجنة ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)[النحل : ١٠٧] ، معطوف على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ)[النحل : ١٠٧] ؛ فوجب أن يكون قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)[النحل : ١٠٧] ، علة وسببا موجبا لإقدامهم على ذلك الارتداد ، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سببا لذلك الارتداد ولا علة ، بل كسبا عنه ـ

٥٨٠