تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

إحداها : أن القدرة لا تفارق الفعل ، حيث قال : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) ثم قال : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) جعل مقابل الفعل القدرة ، فلو كانت تفارق الفعل لكان ذكر مقابل القدرة [قدرة](١) مثلها ، أو مقابل الفعل فعلا مثله ، فلما ذكر مقابل القدرة الفعل دل أنها لا تفارق الفعل ، وفيه أن العبد لا يملك حقيقة الملك ، حيث ذكر عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وإن قدر [على] ما يملك إنما يملك بإذن من له الملك ، وكذلك الخلائق كلهم لا يملكون حقيقة الإملاك ، إنما حقيقة الملك في الأشياء لله وإن قدر [وا على](٢) ما يملكون إنما يملكون بالإذن على قدر ما أذن لهم.

وفيه أن العبد لا يملك الإنفاق والتصدق ، حيث قال : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) ثم قال فيمن يملك : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) دل أنه لا يملك العبد الإنفاق والهبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال بعضهم : ذكر الحمد لله على إثر ما ذكر ؛ لأنه عرّف رسوله النعم وأنواع المنافع ، ثم عرفه على إثر [ذلك](٣) الحمد لله.

وقال بعضهم : الحمد لله ثناء ، أخبر أن أكثرهم لا يعلمون حمد الله وثناءه.

وقوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً) أي : من أوليائنا ، أو من أولياء ديننا ، وذلك جائز سائغ في اللغة ، ثم قوله : (لا يَعْلَمُونَ) يحتمل نفي العلم عنهم لما لم ينتفعوا بما علموا ، أو على حقيقة النفي لما لم ينظروا في الآيات والحجج ، ولم يتأملوا فيها فلم يعلموا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ...) إلى آخر الآية.

قالوا : هذا المثل كالأوّل ، يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما في الأوّل.

أحدهما : المؤمن والكافر ، شبه الكافر بالمملوك الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ، لا يأتي المولى بخير ، ولا ينتفع به ، وشبه المؤمن بالذى يأتي المولى بكل خير ونفع ، يقول : هل استوى هذا مع هذا عندكم؟ لا يستوي ، فعلى ذلك لا يستوي الكافر الذي لا يعمل شيئا من طاعة الله ، ولا يأتي بخير والمؤمن الذي يعمل كل طاعة الله ، ويأتي بكل خير ، ويأمر بكل عدل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٥٤١

والثاني : ضرب مثل الإله المعبود الحق بالمعبود الباطل ، يقول : هل يستوى من أتاكم بكل نعمة وكل خير ، ويأمر بكل عدل ، بمن هو أبكم لا يقدر على شيء ، ولا يضرّ ، ولا ينفع ، ولا يجيب ، وهو عيال على من يعبده ويخدمه ، هل يستوى هذا مع ذلك؟ لا يستويان مثلا البتة غير أن المثل هاهنا ضرب بالذى لا ينفق بالحق ، ولا يأمر بالعدل ، ذكر مقابل الأبكم الذي يأمر بالعدل ، وفي الأول ضرب مثل الذي لا يملك الإنفاق بالذى يملك الإنفاق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : هو على الحق المستقيم ، وهو المعبود بالحق.

قال أبو عوسجة الكل : العيال ، وكذلك قال غيره من أهل الأدب.

وقال بعضهم : الكل الفقير ، وهو واحد ، والأبكم : الأخرس ، وهو الذي لا ينطق البتة.

وقال : (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بالتوحيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا يحتمل وجوها :

أحدها : ما ذكر أهل التأويل من السؤال عن الساعة وعن وقتها ، كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٧] لخفائها على أهلها ؛ لأن كل خفى ثقيل ، أخبر أنه لا يجليها إلا لوقتها ، فوقت قيامها لا يعلمه غيره.

والثاني : ولله علم ما غيب أهل السموات وأهل الأرض ، أي : ما غيب بعضهم من بعض ، فذلك ليس بمغيب عن الله بل ما غاب عن الخلق وما ظهر لهم ، فذلك لله كله ظاهر بمحل واحد ، وهو كقوله : (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [النحل : ١٩].

والثالث : قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له علم ما في سرية هذه الأشياء الظاهرة ما لا سبيل للخلق إلى علم ذلك ، وإن كانوا يعلمون هذه الأجسام والأشياء الظاهرة ، وتقع حواسهم عليها لا يعلمون ما في سرّيتها : من نحو الماء الذي (١) به حياة كل شيء ، ونحو النطفة التي يخلق منها الإنسان ـ لا يعلمون المعنى الذي به يصير إنسانا ، ومن نحو السمع والبصر والعقل يعلمون ويرون ظواهر [هذه](٢) الحواس ، ولكن لا يدركون المعنى الذي به يسمع وبه يبصر وبه يعقل ويفهم.

__________________

(١) زاد في ب : أخبر أنه حياة كل شيء لا يسرفون المعنى الذي.

(٢) سقط في أ.

٥٤٢

يقول ـ والله أعلم ـ : ولله علم ما غاب عن الخلق ما في هذه الأشياء الظاهرة والأجسام المرئية.

أو يقول : ولله ملك ما غاب عن أهل السموات والأرض (١) ، وملك ما لم يغب عنهم وظهر ؛ فيكون كقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ١٨٩] كأنه قال ـ والله أعلم ـ ولله العلم الذي غيب عن أهل السموات وأهل الأرض ، وهي الساعة : لم يطلع عليها غيره.

وقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).

قال بعضهم قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أهون على الله وأيسر من لمح البصر ؛ [إذ ليس شيء أيسر وأهون على الإنسان من لمح البصر ؛ لأنه يلمح البصر](٢)(أَوْ هُوَ أَقْرَبُ).

[أي :](٣) بل هو أقرب ، أي : أيسر من لمح البصر.

وقال الحسن : إعادة الخلق على الله أيسر وأهون من لمح البصر ؛ لأنه يلمح بصره فيبصر به ـ بلحظة ـ ما بين الأرض إلى السماء ، وهو مسيرة خمسمائة عام. يقول : من قدر أن ينشئ في خلق من خلائقه ما يبصره بلمحة البصر مسيرة خمسمائة عام ـ لقادر على إعادة الخلق وبعثهم بعد الفناء ، بل هو أقرب أي : إعادته إياهم أسرع وأقرب من لمح البصر ، إلى هذا يذهب الحسن.

وقال بعضهم : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي : ما وقت قيام الساعة إلا لمح البصر ، أي : ليس بين وقت قيامها وبين كونها إلا لمح البصر ، بل هو أقرب من لمح البصر ، لكنه مثل لمح البصر لما ليس شيء عند الناس أسرع وأهون من لمح البصر ، ولما ذكرنا أنه يلمح [البصر](٤) ولا يشعر به لسرعته ولخفته عليه ؛ فذكر هذا على التمثيل ، ليس على إرادة حقيقة الوقت بقدر لمح البصر ، ولكن على المبالغة في السرعة ، وذكر أقصى ما يقع في الأوهام ويتصور ؛ من نحو ما قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] ، وما قال : (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [فاطر : ١٣] ، (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [الإسراء : ٧١] ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٤] ، وأمثاله كله يذكر على التمثيل ليس على التحقيق ، أي : فمن (٥) يعمل من قليل وكثير يره ،

__________________

(١) في ب : وأهل الأرض.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ما.

٥٤٣

شرّا كان أو خيرا ، وكذلك (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) و (نَقِيراً) ، أي : لا يظلمون شيئا ، وكذا (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [فاطر : ١٣] ، أي : لا يملكون شيئا ؛ لأن القطمير لا يملك ؛ فإنما يذكر هذا وأمثاله على التمثيل الذي ذكرنا.

أو أن يكون تأويل قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ، أي : ليس ما بين الساعة وبينكم مما مضى من الوقت إلا قدر لمح البصر ، أي : لم يبق من وقت قيامها ممّا مضى إلا ما ذكر من لمح البصر أو أقرب مما ذكر على الاستقصار مما بقي.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وعلى (١) البعث والإعادة ، وعلى كل شيء ، لا يعجزه شيء.

وظاهر الآية ينقض على المعتزلة قولهم ؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد ؛ لأنه أخبر أنه على كل شيء قدير ، وعلى قولهم : هو غير قادر على العالم بشيء (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

يذكر بهذا قدرته وسلطانه على ما سبق : من ذكر سرعة القيامة ، والعلم بها ، والحكمة التي جعل في البعث ؛ فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) : خلق الولد في ظلمات ثلاث ، وجعل غذاه بغذاء الأمهات وبقواهن ، ثم تقلبه في تلك الظلمات من حال إلى حال : ما لو اجتهد الخلائق أن يعلموا اغتذاءه بغذاء الأمهات ، وتقليبه من حال إلى حال ، ومن جوهر إلى جوهر ـ ما قدروا على ذلك ؛ فيدل هذا على أن من قدر على هذا ، وعلم هذا في تلك الظلمات لقادر على البعث وإعادة الخلق بعد الفناء ، وعلم ما غاب عن الخلق.

ويذكرنا ابتداء أحوالنا أنه أخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئا ، ثم صيّرنا بحال صرنا عالمين أشياء ، يذكرنا نعمه ومننه علينا في بلوغنا إلى الأحوال التي صرنا إليها بعد ما كنا ما ذكر.

والثاني : يذكرنا أنكم كنتم بالحال التي ذكر ؛ لنعلم أنه صيرنا في البطون بلا استعانة بأحد منا ولا عون منه إلى أحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

__________________

(١) في ب : ومن.

(٢) في ب : ألف ألف شيء.

٥٤٤

فمن قدر على جعل السمع حتى يسمع الأصوات ويميز بينها ، والبصر ليبصر ويميز بين ألوان الأجسام ، والفؤاد (١) ليفهم ويعقل ما له وما عليه ، ما لا يدركون ماهية ما به يسمعون ويبصرون ويعقلون ، وما به يميزون بين ما ذكرنا فهو قادر على إنشاء الخلق بعد الفناء والإعادة بعد الموت. ثم ذكر على أثر قوله : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) : السمع والبصر والأفئدة ؛ فذلك يدل على أن هذه الأشياء من أسباب العلم بالأشياء ، بها يوصل إلى العلم بالأشياء ؛ فمن أعطي أسباب العلم بالشيء فكأن قد أعطي له العلم به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هو حرف شك في الظاهر ؛ ذكر ـ والله أعلم ـ لأنه لا كل الناس يشكرون نعمه ، أو لكي يلزمهم الشكر.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)(٨٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ).

أي : من قدر على إمساك الطير ، وهي أجسام كغيرها من الأجسام في الهواء بلا إعانة في الأسفل ولا تعلق بشيء من الأعلى ، لقادر على إنشاء الخلق وإعادتهم بعد الفناء.

__________________

(١) «الأفئدة» جمع فؤاد ؛ نحو : أغربة وغراب ، قال الزجاج : ولم يجمع (فؤاد) على أكثر العدد ، وما قيل : (فئدان) ، كما قيل : (غراب وغربان).

ولعل الفؤاد إنما جمع على جمع القلة ، تنبيها على أن السمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ، لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية ، والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا جمع جمع القلة ، قاله ابن الخطيب.

وقال الزمخشري ـ رحمه‌الله تعالى ـ : إنه من الجموع التي استعملت للقلة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلة ، نحو : (شسوع) ، فإنها للكثرة ، وتستعمل في القلة ، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال ، وفيه نظر ، فقد سمع فيهم (أشساع) فكان ينبغي أن يقال : غلب (شسوع).

ينظر : اللباب (١٢ / ١٢٩).

٥٤٥

أو يقول : أو لم يروا إلى اللطف الذي جعل في الطير ، والحكمة التي أنشأ فيها حتى قدرت على الاستمساك في الهواء ، والطيران في الجو : ما لو اجتمع الخلائق جميعا أن يدركوا ذلك اللطف أو تلك الحكمة ـ ما قدروا على إدراكه.

وفى ذلك نقض قول المعتزلة ؛ لأن الطيران فعل الطير ، ثم أضاف ذلك إلى الله حيث قال : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) : دلّ ذلك أن لله في ذلك صنعا وفعلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

جميع ما ذكر يكون آية لمن آمن ؛ لأنه هو المنتفع.

قال أبو عوسجة : لمح البصر : سرعة النظر ، وجوّ السماء : هواؤها ، ويقال : بطن السماء ، ويقال : جوف السماء ، ويقال : الجوّ : ما اطمأن من الأرض. والأوّل أشبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً).

ظاهر هذا أنه قد جعل لنا من البيوت ـ أيضا ـ ما ليس بسكن (١) ؛ لأنه قال : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) ، وهو ما ذكر في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) [النور : ٢٩] : وهو كالمساجد والرباطات وغيرها. ويشبه أن يكون ذكر هذا ؛ ليعرفوا عظيم مننه ونعمه ، حيث جعل الأرض بمحل يقرّون عليها ويمكن لهم المقام بها ؛ بالرواسى التي ذكر أنه أثبت فيها بعد ما كانت تميد بهم ولا تقر بها ، أخبر أنه [جعل] فيها رواسى أو أن يكون حرف (من) صلة ، أي : جعل لكم بيوتا تسكنون فيها.

ثم قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : سخر لكم الأرض حتى قدرتم على اتخاذ المساكن فيها تسكنون (٢).

أو جعل لكم بيوتا ، أي : علمكم تسكنون فيها.

ثم قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) : أي [علمكم](٣) ما تبنون فيها من البيوت

__________________

(١) والسكن : ما سكنت إليه ، وما سكنت فيه ، قال الزمخشري : (السكن : ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف). واعلم أن البيوت التي يسكن فيها الإنسان على قسمين :

أحدهما : البيوت المتخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.

والثاني : البيوت المتخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٣١ ، ١٣٢).

(٢) زاد في ب : فيها.

(٣) سقط في أ.

٥٤٦

ما لو لا تعليمه إياكم ما تقدرون على بناء البيوت فيها ؛ يذكر مننه عليهم ، والله أعلم.

وفي هذه الآيات في قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً). ونحوه : دلالة نقض قول المعتزلة (١) ؛ لأنه ذكر أنه جعل بيوتا سكنا ، والسكن فعل العباد ؛ دلّ أنّ لله في فعلهم صنعا.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) ، قال أهل التأويل : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) ، أي : من صوفها ، لكنه أضافها إلى الجلود ؛ لما من الجلود يخرج ، ومنها يجزّ ويؤخذ ، وهو ما ذكر.

(وَمِنْ أَصْوافِها) : وهو صوف الغنم.

(وَأَوْبارِها) : وهو صوف الإبل.

(وَأَشْعارِها) : ما يخرج من المعز.

(يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) : قيل (٢) : ليوم سفركم وسيركم.

(وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) : قال بعضهم : في المصر. وقال بعضهم : في السفر حين النزول.

والجعل في هذا يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا في قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) : أحدهما : على التسخير لهم ، والثاني : على التعليم.

ذكر ـ عزوجل ـ في البيوت المتخذة من المدر (٣) السكنى ؛ حيث قال : (مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) ، ولم يذكر في البيوت المتخذة من الجلود والأوبار والأشعار ؛ فكأنه ترك ذكره في هذه ، الذكر في الأول ذكر تصريح ، وذكر في الثاني ذكر دلالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَثاثاً) قيل (٤) : الأثاث والرياش : واحد ، وهو المال.

وقيل (٥) : ما يتخذ من الثياب والأمتعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

[يحتمل إلى حين](٦) إلى وقت بلى ذلك الأثاث ، أو إلى حين وقت فنائهم.

__________________

(١) زاد في ب : له.

(٢) قاله ابن جرير (٧ / ٦٢٦) ، والبغوي (٣ / ٧٨).

(٣) في ب : الوبر.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٨٢٠) ، وعن قتادة (٢١٨٢٣).

(٥) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٨٢١) و (٢١٨٢٢) ، وعن حميد بن عبد الرحمن (٢١٨٢٤).

(٦) سقط في أ.

٥٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً).

يحتمل قوله : (ظِلالاً) البيوت التي ذكر وهي تظلهم ، ويحتمل الأشجار.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً).

وهى الغيران والبيوت التي تتخذ في الجبال ؛ تقيهم من الحرّ والبرد (١).

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ).

قيل : القميص والدروع ، ثم ذكر أن ما ذكر من البيوت والأكنان والسرابيل تقيكم الحرّ ، وتقيكم (٢) أيضا بأس العدو.

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).

[على](٣) ما ذكر من أنواع النعم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).

ذكر أنها تقى من الحر ، وهي تقى الحرّ والبرد جميعا ؛ فكان في ذكر أحدهما ذكر الآخر ذكر كفاية (٤).

__________________

(١) وأكنانا : جمع (كن) ؛ وهو ما حفظ من الريح والمطر ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كل شيء وقى شيئا ، ويقال : استكن وأكن ، إذا صار في كن.

واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر ، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة ؛ فلهذا ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) ؛ لأنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال ـ عزوجل ـ : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)[النور : ٤٣] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثلج.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٣٤).

(٢) زاد في ب : بأسكم.

(٣) سقط في أ.

(٤) قال الزجاج ـ رحمه‌الله ـ : (كل ما لبسته فهو سربال ، من قميص أو درع أو جوشن أو غيره) وذلك لأن الله ـ تعالى ـ جعل السرابيل قسمين :

أحدهما : ما يقي الحر والبرد. والثاني : ما يتقى به من البأس والحروب.

فإن قيل : لم ذكر الحر ولم يذكر البرد؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارة يابسة ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر أشد من حاجتهم إلى ما يدفع البرد ، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه ـ تعالى ـ ذكر هذا النوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر.

والثاني : قال المبرد : ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر ، كقوله : [الطويل]

كأن الحصى من خلفها وأمامها

إذا نجلته رجلها خذف أعسرا

٥٤٨

وقوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).

أي : كذلك يتم [ذكر](١) نعمته عليكم ؛ ليلزمهم الإسلام أو حجته ، ثم يحتمل النعمة على ما تقدم ذكره ، ويحتمل : الرسول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).

جميع ما ذكر من النعم والآيات في هذه السّورة من أوّلها إلى آخرها ؛ إنما ذكر لهذا الحرف ، وهو قوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). وما ذكر (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) و (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : يحتمل أن يكون هذه الأحرف كلها واحدا ، ويحتمل أن يكون لكل حرف من ذلك معنى غير الآخر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا).

عن الإجابة لك وعما تدعوهم إليه.

(فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

أي : ليس عليك إجابتهم ، إنما عليك التبليغ إليهم والبيان لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها).

يحتمل النعمة ـ هاهنا ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يعرفونه [لكنهم أنكروه ؛ كقوله](٢) : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، وما ذكر : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].

ويحتمل : (نِعْمَتَ اللهِ) : يعرفون نعمة الله ، وهو ما ذكر عرفوها أنها من الله (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) ؛ بعبادتهم الأصنام ، وصرفهم شكرها إلى غيره ، كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، مع ما يعرفون : أن الله هو خالقهم ، وأن ما لهم كله من عند الله يعبدون الأصنام ؛ فتكون عبادتهم دون الله كفران نعمة الله.

__________________

ـ لما ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر ، فإن الإنسان إذا خطر بباله الحر ، خطر بباله البرد أيضا ، وكذا القول في النور والظلمة ، والسواد والبياض.

الثالث : قال الزجاج : (وما وقى من الحر وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنيا عن الآخر).

فإن قيل : هذا بالضد أولى ؛ لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص دون تكلف زيادة ، أما البرد فإنه لا يندفع إلا بزيادة تكلف.

فالجواب : أن القميص الواحد لما كان دافعا للحر ، كانت السرابيل ـ التي هي الجمع ـ دافعة للبرد.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٣٤ ، ١٣٥).

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٥٤٩

وقال أبو عوسجة : (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) : يوم سيركم (١) ؛ ظعن يظعن : سار ، والسراويل : القميص. يقول : (تَقِيكُمُ) ، أي : تستركم.

وقال القتبي (٢) : (ظِلالاً) ، أي : ظلال الشجر والجبال.

وقوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).

هذا ـ والله أعلم ـ في قوم علم الله أنهم يؤمنون بما ذكر لهم من أنواع النعم والأفضال ؛ ليعلم أن الإسلام من أعظم نعم الله ، لا يناله أحد إلا بنعمته.

وقال بعض أهل التأويل : سميت سورة (النحل) سورة النعم ؛ لما فيها من ذكر النعم وأنواع منافع الخلق من أولها إلى آخرها.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٨٩)

وقوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً).

قال بعضهم : شهيدها : أن يشهد عليهم من نحو ما ذكر من شهادة جوارحهم عليهم ، وهو قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ...) الآية [النور : ٢٤] ، وقوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ...) الآية [فصلت : ٢٠] ، وقوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الشهادة عليهم ؛ عند إنكارهم أعمالهم التي عملوها.

وقال بعضهم (٣) : شهيدها : رسولها الذي بعث إليهم يشهد عليهم أنه قد بلغ إليهم رسالات ربهم ، وهو كقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ، والنذير : هو الرسول المبعوث إليهم ، وهو ما ذكر ـ أيضا ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)

__________________

(١) في ب : يقول يوم سيركم.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٨).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢١٨٤٣) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٣٩).

٥٥٠

[النساء : ٤١] ، وكقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وقال : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩].

أخبر أنه يجيء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على أولئك : أن الرسل قد بلغوا الرسالة إليهم ، وهو ما ذكر : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] ، وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ...) الآية [المائدة : ١٠٩] ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) [القصص : ٦٥] : يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم ، ويسأل قومهم عما أجابوا الرسل. إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل ، والله أعلم.

جميع ما ذكر في القرآن من مجيئه وإنبائه ونحوه جائز أن يكون ذلك البعث تفسير ذلك كله.

قوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) : كذا من ذلك ، وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) [الفجر : ٢٢] ، و (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة : ٢١٠] ، وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] فهو البعث ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

قال الحسن (١) : لا يؤذن لهم بالاعتذار ؛ لأنه لا عذر لهم ، وهو ما قال : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦] ؛ لأنه لا عذر لهم ، واعتذارهم لا ينفع لهم شيئا ؛ إذ اعتذارهم من نحو قولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ، وقولهم : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ونحو هذا مما لا ينفعهم ذلك ؛ فلا يؤذن لهم لذلك.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).

قال الحسن : ولا هم يقالون ، وكذلك قال في قوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ، أي : من المقالين ، أي : لا يقالون مما كان منهم.

وقال بعضهم : لا يؤذن لهم ولا يمكن لهم من التوبة والرجوع عما كانوا ؛ لأن ذلك الوقت ليس هو وقت التوبة والرجوع ، كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ) [غافر : ٨٤] ، وهذه الآية ، وقال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] ، ونحوه. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) العتاب في الخلق : هو تذكير ما كان من الفرط ؛ ليرجع عما كان منه ، وذلك في الآخرة لا يحتمل.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٧ / ٦٣٠) ، ولم ينسبه لأحد.

٥٥١

ويحتمل قوله : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : لا يؤذن لهم بالكلام ، كقوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ، أو : لا يؤذن للشفعاء أن يشفعوا للذين كفروا ، ويؤذن للشفعاء أن يشفعوا للمؤمنين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ).

أي : وقعوا فيه ؛ دليله ما ذكر.

(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ).

دل هذا أنه لم يرد به رؤية العذاب ؛ ولكن الوقوع فيه ؛ فلا يخفف عنهم ؛ لأنه يدوم ، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

أي : يمهلون من العذاب.

والثاني : لا يخفف عنهم عما استحقوا واستوجبوا ، أو ما ذكرنا : أنه لا يكون لعذابهم انقطاع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ).

قال الحسن : قوله : (شُرَكاءَهُمْ) ، أي : قرناءهم وأولياءهم من الشياطين ، كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ...) الآية [الصافات : ٢٢] ، وكقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ...) الآية [فصلت : ٢٥] ، وقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ، وقوله : (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ...) الآية [الأنعام : ٢٢].

وقوله : (شُرَكاءَهُمْ)(١) : أولياءهم ، [الذين](٢) كانوا لهم في الدنيا فهم شركاؤهم الذي ذكر.

وقولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) ؛ على هذا التأويل : كنا ندعوك وإياهم من دونك.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ).

أي : يقولون لهم :

(إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ).

__________________

(١) زاد في ب : قرناؤهم.

(٢) سقط في أ.

٥٥٢

وقال بعضهم (١) قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) : الأصنام التي عبدوها.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) : أي : يكذبونهم ، وهو ما ذكر : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) [يونس : ٢٩] ؛ يكذبونهم فيما قالوا ، ويخبرون أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم.

وقال بعضهم : شركاؤهم الملائكة الذين عبدوهم ، كقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١] : أخبر أنهم إنما عبدوا الجن بأمرهم ولم يعبدوهم ، أو يكون شركاؤهم رؤساءهم الذين انقاد الأتباع لهم ويحتمل الأصنام وما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ).

هو ما ذكرنا : يقولون لهم : إنكم لكاذبون ، أو يكذبونهم فيما يزعمون ويدعون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ).

أي : يخضعون كلهم لله يومئذ ، ويخلصون له الدين ، ويسلمون له الأمر والألوهية.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

أي : بطل عنهم ما طمعوا بعبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها من الشفاعة وغيرها ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] : بطل عنهم ما طمعوا ورجوا من عبادة أولئك من الشفاعة لهم ، والقربة إلى الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ).

قال بعضهم : هؤلاء كانوا رؤساء الكفرة وقادتهم ضلوا هم بأنفسهم وأضلوا أتباعهم ؛ فلهم العذاب الدائم بكفرهم بأنفسهم ، وزيادة العذاب بإضلال غيرهم ، وهو كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] ، وكقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ...) الآية [العنكبوت : ١٣] : [أخبر أنهم يحملون أوزارهم](٢) وأوزار الذين أضلوهم ومنعوهم عن الإسلام ؛ فعلى ذلك قوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) ؛ بما أضلوا أتباعهم ، وسعوا في الأرض بالإفساد ، وهو قول

__________________

(١) قاله ابن جرير (٧ / ٦٣١) ، والبغوي (٣ / ٨١).

(٢) سقط في ب.

٥٥٣

أبي بكر الأصم.

وقال بعضهم : إن عذابهم كلما أراد أن يفتر بنضج الجلود ، زيدت لهم ـ بتبديل الجلود ـ نارها كلما أرادت أن تخمد زيد لهم سعيرا ؛ كقوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦] ، وقوله : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] ؛ فذلك هو الزيادة في العذاب.

ويحتمل غير ذلك (١) ، وهو أن عذاب الكفر دائم أبدا ؛ فيزداد لهم عذابا بما كان لهم في الكفر ـ سوى الكفر ـ أعمال ومساو ، كما يعفى ويتجاوز عن المؤمنين ما كان منهم من المساوي ؛ كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) [الأحقاف : ١٦] ؛ مقابل ما كان يعفى عن المؤمنين المساوي ، زيد لأهل الكفر ، على عذاب الكفر ؛ لمساويهم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : زدناهم عذابا ضعفا بما كانوا يفسدون ، وأصله أن جزاء الآخرة من الثواب والعذاب على المضاعفة ؛ لأنه دائم لا انقطاع له. وما ذكر من الزيادة والفوق وغيره ـ فهو على المضاعفة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

يحتمل قوله : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : من البشر ، ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

هو ما ذكرنا : يشهد الرسول عليهم بالتبليغ ، ويشهد لمن أجابه وأطاعه ، وعلى من ردّ كذبه بالرد والتكذيب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

يحتمل قوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) : ما ذكر في هذه السورة ؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها ، ووجوه الأسباب التي بها يوصل إليها ، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر ، وفيه ذكر ما وعد وأوعد ، وأمر ونهى ، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه بهم. وفيه ذكر سلطانه وقدرته ، وذكر سفه الكفرة وعنادهم ، وذكر ما يؤتى ويتقى (٢) ؛ فذلك تبيان لكل شيء.

أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء ، وفي القرآن ما ذكرنا : من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم ، وجميع ما يؤتى ويتقى (٣) ؛ ففيه تبيان

__________________

(١) في ب : هذا.

(٢) في أ : ويبقى.

(٣) في أ : ويبقى.

٥٥٤

كل شيء من الوجه الذي ذكرنا.

أو أن يكون أنزل عليه الكتاب [تبيانا](١) لكل ما دعا به الرسل وجاءت به الرسل والكتب جميعا. في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب من الأمر والنهي والوعد والوعيد ، كقوله : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

ثم اختلف في ذلك البيان :

قال بعضهم : تحتمل الآية وجهين :

أحدهما : الخصوص على الأصول دون الفروع ؛ كذكر الكمال للدين ، لكن ذلك وصف الدين ، وقد يقع له الكمال بالكتاب والسنة ، وهذا للكتاب ؛ فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة.

وذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدين : من الإيمان ، وأنواع العبادات ، والأحكام مع الحدود والحقوق ، ومكارم الأخلاق (٢) : تنتظم صلة الرحم ، وعشرة الإخوان ، وصحبة الجيران ، ونحو ذلك ؛ فتشتمل هذه الجملة على أصول الدين ، وما وراءها يكون موكولا إلى بيان الرسول ؛ ليفي الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة الوجه.

والوجه الثاني : أن يكون تبيانا لكل شيء منتظما لما فيه ، مجمله ومبهمه ومشكله ، ولبيان الرسول مجمله وتفسيره مبهمه ، وإيضاحه ، ودلالته على مشكله.

وقال : والسنن كلها بيان للكتاب ؛ لارتباط بعض ببعض. ثم قد يحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوها غير الوجهين اللّذين ذكرتهما :

أحدها : أنه تبيان كل شيء ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان ، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان ؛ فجعل الله الكتاب تبيانا ألزمهم بالتدبر (٣) العلم بأنه من عند الله ؛ بخروجه عما عليه وسع القوم عن نوع ما ذكر فيه من الحجج والأدلّة ، وبما أعجزهم عن الطمع في تأليف مثله ونظمه ؛ ليعرفوا أن الله قد أعانهم فيما مستهم الحاجة ، وألجأتهم الضرورة إلى من يطلعهم على الحق فيما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد ؛ فأنعم الله عليهم به ، وبين فيه جميع ما بين إليه من الحاجة لدوام الأخوة.

والثاني : أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده ، وبالبحث فيه الظفر بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد ؛ فيكون هو أصل ذلك. لكن باختلاف الأسباب يوصل إلى حقيقة العلم به ، وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ووصف أن في السماء رزق

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في ب : التي.

(٣) في أ : بالتدبير.

٥٥٥

جميع الخلق ؛ [فأخبر أنه](١) أنزل من السماء اللّباس والرياش [لكل شيء](٢) ، وأخبر أنه خلقنا من تراب ، ثم أخبر أنه خلقنا جميعا من نفس واحدة ؛ على رجوع كل ما ذكر باختلاف الأسباب والتوالد إليه ، والله أعلم.

وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب : جعلها الله أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر فيكون المحسوس مبينا من ذلك ، وإلا على اختلاف الدرجات في حد (٣) البيان مع ما قد جعله الله كذلك ، حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي. وما على ذلك مدار ما عليه من هذا المحسوس ؛ فمثله أمر القرآن ، والله الموفق.

والثالث : أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة ، وعلى الكشف ثانيا ؛ فما كان منه على الرمز فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور المختلفة (٤) :

منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي من إرسال على لسان ملك ، أو رؤيا ، أو إلهام.

والتأمل في ذلك ، أو الاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق الله للحق في ذلك وعصمته عن الزيغ.

أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في حق التفاهم لغوامض الأمور ، أو غير ذلك مما يريد الله أن يطلع عليه نبيّه ؛ فإن لطف ربّ العالمين بما عامل به الأخيار يجل عن احتمال العبارة عنه أو تصويره في الأوهام ، نحو كتابة الحفظة ، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض ، ونحو ذلك ، وذلك كله حدّ اللّطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة ؛ فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء مع ما يحتمل الرجوع بتأويل الآية إلى أغلب الأمور وأعمها ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ، وغيره ، ولا قوة إلا بالله.

والأصل عندنا : أن ليس للبيان عدد يجب حفظ العدد ، على ما ذكره قوم : أنه على خمسة أوجه ؛ إنما هو أمران :

أحدهما : ما يبين هو.

والثاني : ما يبين غيره ، لكن الوجه الذي به يقع ما غاب عن الحواس بالبيان أصله

__________________

(١) في أ : فإنه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : هذا.

(٤) في ب : مختلفة.

٥٥٦

الواقع تحت الحواس ؛ إذ البين الذي من جحده حرم أوّل درجات البيان [ومنع](١) عن فهم المجحود عنه ؛ إذ (٢) الجحود يكفى كلّا مئونة خصومته ، ثم غيره مما يصير بالتأمّل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه ، وإن بعد أو قرب بدليله كالمحسوس ؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب ، كاستعمال الحواس فيما يشهد ؛ فمن أراد القطع على حد أو شيء يحتاج إلى دليل فيه.

وأصل البيان ـ حقيقة ـ هو الظهور ، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة ، وعلى ذلك مقاديرها من الظهور ، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب ، وتجلى حقائق الأمور لها ؛ على قدر العقول في الإدراك وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُدىً وَرَحْمَةً).

يجب أن يكون قوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ، وقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً) ـ كله واحد الرحمة والهدى والبيان ، وبرحمته وبهداه (٣) يتبين لهم ويتضح ، لكنهم قالوا : البيان للناس كافة يبين ويتضح إلا من عاند وكابر ، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصّة ؛ على ما ذكر وهدى [ورحمة] وبشرى للمسلمين ؛ ذلك للمسلمين خاصّة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) إلى آخر ما ذكر.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أنه.

(٣) في ب : وهداه.

٥٥٧

قال الحسن : قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فيما بين الناس ، أي : يأمر بالحكم فيها بينهم بالعدل ، (وَالْإِحْسانِ) : هو ما كلفهم بالطاعة له ، أو أن يكون الأمر بالإحسان إلى أنفسهم أو إلى الناس ، وجائز أن يكون الأمر بالعدل فيما بينه وبين الله ، والإحسان فيما بينه وبين الخلق ، أي : يعامل ربه بالعدل ؛ لأن العدل هو وضع الشيء موضعه ، وهو لا يقدر على المجاوزة عن العدل حتى يكون في حد الإحسان فيما بينه وبين ربه ، ويقدر أن يصنع (١) إلى خلقه أكثر مما يصنعون هم إليه ؛ فيكون محسنا إليهم ، وأما إلى الله فلا يكون محسنا.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى).

أي : إعطاء ذي القربى الصدقة من غير الزكاة المفروضة.

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ).

هي المعاصي ، أي : نهى عن المعاصي كلها. وقال أبو بكر الأصم : (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ، أي : بالحق الذي له عليهم ، والإحسان : هو ما تعبدهم (٢) من العبادات والطاعات التي جعل بسبب عطف بعضهم على بعض.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى).

صلة القرابة والأرحام.

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ).

قال (٣) ابن عباس (٤) ومقاتل (٥) وقتادة وهؤلاء : قوله : (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) : بالتوحيد ، (وَالْإِحْسانِ) ، أي : أداء الفرائض ، وهو قول ابن عباس وقتادة.

وقال مقاتل : قوله : (وَالْإِحْسانِ) : هو فيما بينهم ، يحسن بعضهم إلى بعض ، (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) : صلة الأرحام ، (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) ، أي : الزنى ، (وَالْمُنْكَرِ) ، أي : السكر (٦) ، (وَالْبَغْيِ) : مظالم الناس.

__________________

(١) في أ : صنع.

(٢) في ب : تعبدتم.

(٣) في ب : وقال.

(٤) أخرجه ابن جرير (٢١٨٦٢) و (٢١٨٦٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤١).

(٥) نسبه البغوي له كما في تفسيره (٣ / ٨١).

(٦) في ب : الشرك.

٥٥٨

وقال بعضهم : المنكر (١) : ما لا يعرف في الشرائع والسنن. ويقال : المنكر : ما أوعد الله عليه النار ، والبغي (٢) : الاستطالة ، والظلم ، ثم يجب [أن نقرر](٣) حقيقة العدل : ما هو؟ فهو ـ والله أعلم ـ : وضع كل شيء موضعه ؛ فيدخل فيه كل شيء : التوحيد وغيره ؛ بجعل الربوبيّة والألوهية لله لا شريك فيها غيره ، ولا يصرفها إلى غيره ، ولا يضيف ، بل ينسب الرّبوبيّة والألوهية إلى الله ، والعبودية إلى العباد ، ولا يضاف العبودية إلى الله ، ولا الربوبية والألوهية إلى العباد ؛ فذلك العدل ووضع كل شيء موضعه : الربوبية في موضعها ، والعبودية في موضعها ، هذا ـ والله أعلم ـ معنى العدل.

وأمّا الإحسان : فهو ما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن جبريل سأله عن الإحسان حين سأله عن الإيمان والإسلام ؛ فقال ما الإحسان؟ فقال : «أن تعمل لله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» (٤). ومن يعمل لآخر بحيث يراه وينظر إليه يكون أبدا طالب رضاه في ذلك العمل ، وإخلاصه له وطلب مرضاته فيه ؛ فهو يحتمل وجوها ثلاثة ـ أعني الإحسان ـ :

أحدها : ما ذكر أنه يعمل له كأنه يراه ، وذلك فيما بينه وبين ربه.

والثاني : فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يحب لهم كما يحب لنفسه فيما أذن له في ذلك ، أو نقول على الإطلاق يحب لهم كما يحب لنفسه.

فإن عورض بالقتال والحروب التي بيننا وبين أهل الحرب ، وذلك بالذي لا نحب لأنفسنا ونحب لهم ـ قيل : في ذلك طلب نجاتهم وتخليصهم من الهلاك والعذاب الدائم الأبدي ، وذلك ما نحبه (٥) نحن لأنفسنا : أن يسعى أحد في نجاة أحدنا من المهلكة ؛ ألا ترى أنه قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وليس [في القتال](٦) في الظاهر رحمة ، لكن في الحقيقة رحمة ؛ حيث يحملهم القتال على الإسلام ؛ إذ كان قبل نصب القتال والحروب معهم لم يسلم إلا قليل منهم ؛ فلما نصب الحروب معهم والقتال دخلوا في الإسلام أفواجا أفواجا ؛ فصار ذلك في الحقيقة رحمة ، وإن كان في رأي العين في الظاهر ليس برحمة.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٨٢).

(٢) زاد في ب : قيل.

(٣) سقط في أ.

(٤) طرف من حديث عمر بن الخطاب الطويل :

أخرجه مسلم (١ / ٣٦ ، ٣٨) ، كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (١ / ٨).

(٥) في ب : نحب.

(٦) سقط في أ.

٥٥٩

وكذلك هذه المصائب والبلايا التي تحل بالخلق ، هي في الحقيقة نعمة ورحمة ؛ ولذلك عدها وسماها بعض الناس ؛ لما تعقب من الثواب والنعمة إذا صبر عليها ، ورأى ذلك منه حقّا وعدلا ، ورأى حال الضراء والسراء منه ؛ فهو بطيب نفسه في جميع الأحوال تنصرف به من الشدة والضيق ، فإذا رأى نعمة ، لما تعقب من الخير والنفع في العاقبة ـ فمن هذه الجهة يجوز أن يقال : ذلك نعمة ورحمة ، وأمّا في ظاهر الحال فلا ؛ وذلك أن كل بلاء ينزل (١) بأحد ، فصبر عليه كان في ذلك خصال أربعة :

أحدها : تكفير ما كان ارتكب من المعاصي.

والثاني : معرفة العبودة وملك غيره عليه.

والثالث : ما يعقب من الثواب والنعيم الدائم.

والرابع : معرفة النعم من الشدة ؛ [لأنه بالشدة](٢) يعرف النعم.

وأمّا الإحسان إلى نفسه : فهو أن يحفظها عما فيه هلاكها.

وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ).

هو ما يكبر ويفحش (٣) من الشيء.

(وَالْمُنْكَرِ).

هو الشيء الغريب الذي لا يعرف ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم : (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥] ؛ سماهم منكرين لما لم يعرفهم ؛ فالمنكر : ما يفعل من هو معروف بالخير والصلاح من الزلات لما يكون ذلك منهم غريبا ؛ إذ لم يعرفوا بذلك ، فذلك منهم [منكر](٤).

(عَنِ الْفَحْشاءِ).

ما يكون من أهل الفساد والشرور ، وذلك مما يكبر ويفحش ذلك منهم.

(وَالْبَغْيِ).

هو الظلم ، ويحتمل أن يكون هذا كله المنكر والفحشاء والبغي وكله واحد : الفحشاء هو المنكر ، والفحشاء هي البغي ، والمنكر هو الفحشاء والبغي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعِظُكُمْ).

__________________

(١) في ب : ينزله.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : بفحاش.

(٤) سقط في أ.

٥٦٠