تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

يصل إليه (١) ، ولكن يوعد بما توجبه الحكمة ، فدل أن الوعيد لازم واجب.

ونحن نقول : يوعد بما توجبه الحكمة ، وقد أمهلهم بعد الوعيد ، فعلى ذلك يجوز أن يخرجهم من النار بعد ما أدخلهم النار ؛ بما ارتكبوا من الكبائر.

ثم في قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ...) الآية ـ دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : ليس لله أن يهلك قوما قد علم منهم الإيمان في وقت ، أو يكون في أصلابهم من يؤمن ؛ إذ قد كان ممن أوعد ذلك الوعيد من بعضهم الإيمان أو في أصلابهم من قد كان آمن ، فدل الوعيد لهم أنه قد يهلك من يعلم أنه يؤمن في آخر عمره ؛ إذ لا يوعد إلا بما له أن يفعل لكنه بفضله أخره إلى وقت [وفيه](٢) دلالة أن له أن يفعل بما ليس ذلك بأصلح لهم في الدين.

ثم اختلف في قوله : (بِظُلْمِهِمْ) : قال بعضهم : هذا للكفرة خاصة.

وقال بعضهم : لهم وللمؤمنين كل مرتكب زلة ؛ إذ ما من أحد ارتكب زلّة إلا وقد استوجب العقوبة بذلك والمؤاخذة به ، لكنه بفضله عفا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ).

قال بعضهم : أراد بالدابة : الدابة التي خلقها لهم ، إذا أهلك الناس فقد أهلك الدواب ؛ إذ خلقه إياها لهم.

وقال بعضهم : [قوله](٣) : ما ترك [عليها من دابة](٤) : أي : على ظهر الأرض من دابة ؛ لأن الدواب إنما تتعيش بالذي [يتعيش](٥) الناس ؛ فإذا هلكوا هم هلكت الدواب أيضا ؛ لما ذهب سبب عيشها. وجائز أن يكون أراد بالدابة البشر ؛ أي : ما تركهم بظلمهم ولكن يهلكهم ، وسماهم دابة لأنه إذا ذكرهم في موضع الظلم وإن كان سماهم في غير موضع بالأسماء الحسنة ، وهو كما سماهم في موضع آخر دابة ؛ حيث قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] ولا شك أن البشر دخلوا في هذه التسمية ، فعلى ذلك جائز دخولهم في الأخرى ، وإن كان المراد مما (٦) ذكر من الدابة البشر فالأنبياء والرسل إنما يكون هلاكهم بقطع نسلهم ؛ لأن الأنبياء أكثرهم ولدوا من الآباء الظلمة ؛ فإذا أهلك

__________________

(١) في أ : عليه.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : على ظهرها.

(٥) في أ : إنما تعيش بالذي يعيش.

(٦) في ب : ما.

٥٢١

آباؤهم لم يولد الرسل والأنبياء ، فيكون هلاكهم لا بظلم هؤلاء ولكن بقطع النسل.

وإن كان المراد بتلك الدابة الدواب أنفسها فلأن الدواب إنما أنشئت للبشر ولمنافعهم ، فإذا أهلكت الدواب أهلك (١) المنشأ لهم ، والله أعلم.

وفي قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) دلالة [نقض](٢) قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : يجعل الله للخلق آجالا ، ثم يجيء كافر فيقتله دون بلوغ الأجل الذي جعله الله ؛ حيث أخبر أنهم لا يستأخرون [ساعة](٣) ـ بعد الأجل المضروب لهم ـ ولا يستقدمون قبل ذلك ، وهم يقولون : بل يستقدمه كافر فيقتله ، فذلك سرف في القول.

وهذا يخرج على وجهين :

أحدهما : لا يتأخر الأجل الذي جعل لهم ساعة ولا يتقدم عن ذلك.

والثاني : لا يجاب في التأخير ولا في التقديم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ).

كانوا يجعلون لله أشياء يكرهون ذلك لأنفسهم من نحو البنات ، يقولون : لله البنات ؛ ويكرهون لأنفسهم البنات ، ويجعلون له الشركاء من عبيده ؛ وهم كانوا يكرهون لأنفسهم الشركاء من عبيدهم ، وأمثاله ؛ كقوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية [الروم : ٢٨] يخبر ـ عزوجل ـ عن سفههم وسرفهم في القول ، ويخبر عن حلمه ؛ حيث لم يستأصلهم ولم يهلكهم مما قالوا في الله من عظيم القول من الولد والشريك ؛ لنعلم أنه لم يمهلهم لغفلة ولا سهو ولكن لحلم (٤) ؛ لأن يحلم الخلق في ذات الله ولا يعجلوا بالعقوبة ؛ إذ لو أراد إهلاكهم (٥) لأهلكهم ساعة قالوا ذلك ؛ ولا يمهلهم (٦) يعيشون ، لكن أخر ذلك ليوم ، وهو ما قال : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً ...) [إبراهيم : ٤٢] الآية.

وجائز أن يكون قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي : يجعلون لأولياء الله مما يكرهون لأنفسهم ؛ لأنهم يقولون : إن لهم الحسنى في الآخرة ؛ وهي الجنة ، وإن للمؤمنين النار ؛ بقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ).

__________________

(١) في ب : أهلكت.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بحلم.

(٥) في ب : هلاكهم.

(٦) في ب : يهملون.

٥٢٢

قال أبو بكر الأصم : يقولون : إنا على دين الله وعلى الحق لعبادتنا ، ويقولون : إن لهم الحسنى يعنون أنهم محسنون في أعمالهم ، وبما هم عليه من دين.

وقال بعضهم (١) : قوله : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) يعنون البنين ، لأنهم كانوا يضيفون البنات إلى الله وينسبون البنين إلى أنفسهم ، فذلك الحسنى الذي ذكروا.

وقال بعضهم (٢) : بأن لهم الحسنى : أي : الجنة ؛ كقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ...) الآية [فصلت : ٥٠].

ثم كذبهم في قولهم فقال : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) ليس لهم الحسنى على ما زعموا ؛ ولكن النار ، وقد ذكرنا قوله : (لا جَرَمَ) فيما تقدم ، كان أهل الكفر فرقا ، منهم من ادعى الاشتراك في نعيم الآخرة كما كان لهم اشتراك في نعيم الدنيا ؛ كقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية : ٢١] ومنهم من ادعى الآخرة لأنفسهم كما كانت لهم الدنيا ، فجائز أن يكون قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) هم الذين ادعوا الحسنى ـ وهي الجنة ـ لأنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ).

هو من الفرط ؛ وهو : السبق والتقدم ، كأن الآية في الرؤساء [منهم](٣) ، أخبر أنهم سابقون أتباعهم إلى النار ، وهو كقوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٩] الأولى هم المتبوعون ، وأخراهم الأتباع.

وقال بعضهم : معجلون إليها بين يدي أتباعهم.

وقال بعضهم (٤) : (مُفْرَطُونَ) أي : متروكون ، منسيون في النار.

وقال بعضهم (٥) : (مُفْرَطُونَ) مبعدون عن رحمة الله لكن هذين ليسا بتأويل البتة (٦) ، إذ كل من في النار [فهو](٧) منسي ، متروك فيها ، مبعد عن رحمة الله (٨).

وقال بعضهم : وأنهم مدخلون فيها.

والوجه فيه ما ذكرنا.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير ، عنه (٢١٦٧٣) و (٢١٦٧٤) ، وعن قتادة (٢١٦٧٥) و (٢١٦٧٦).

(٢) ذكره البغوي (٣ / ٧٤) ونسبه ليمان.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٦٧٨) ، و (٢١٦٨٣) ، وعن مجاهد (٢١٦٨٤) ، و (٢١٦٨٥) ، والضحاك (٢١٦٨٦) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٢٨).

(٥) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير عنه (٢١٦٩٢).

(٦) في ب : الآية.

(٧) سقط في ب.

(٨) ثبت في حاشية ب : هذا التقليل لا يدفع كونهما ليسا بتأويل الآية ، فتأمل. كاتبه.

٥٢٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ).

هذا لا يحتمل أن يكون هذا القسم منه ابتداء ؛ [و](١) لكن كأنه عن إنكار كان منهم للرسالة ، فعند ذلك أقسم بقوله : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) وأكد بما أنكروا الرسالة بالقسم الذي ذكر ، فقال : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد.

قوله : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما أرسلناك (٢) إلى أمتك (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) كما زين لأمتك فهو كان وليهم يومئذ كما هو ولى لأمتك اليوم ، يصبّره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) يقول ليس هؤلاء بأول من زيّن لهم الشيطان أعمالهم ، ولكن كان في الأمم الماضية من زين لهم الشيطان أعمالهم فيكذبون رسلهم ، فلست أنت بأول مكذّب ، بل كان لك شركاء في التكذيب (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) [قال بعضهم : هو وليهم اليوم](٣) في الدنيا ؛ لأن الدنيا هي دار الولاية بينهم ، كقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الجاثية : ١٩] وقوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] ، وأمّا في الآخرة فيصيرون أعداء ، كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] وقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ...) الآية [العنكبوت : ٢٥] ، [وقوله : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) [ق : ٢٧] ونحوه ، ولا يحتمل أن يكونوا أولياء في الآخرة ثم يلعن بعضهم بعضا](٤) ويتبرأ بعضهم من بعض ، فذلك علامة العداوة.

وقال بعضهم : قوله : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) في الآخرة ، أي : أولى بهم فيقرن بهم ، كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] فهو وليهم : أي : صاحبهم ، كقوله : (احْشُرُوا ...) الآية ، وكقوله : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) [ق : ٢٧] وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ).

قال بعضهم : قوله : (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) : الكتب التي كانت من قبلهم ؛ لأنهم اختلفوا في كتبهم ، فمنهم من بدّل ، ومنهم من غير وحرّف ، فيقول ـ والله أعلم ـ : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : في كتبهم ؛ لأن هذا الكتاب أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، يبين هذا الكتاب ما اختلفوا في كتابهم ، الحق من الباطل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أرسلنا.

(٣) سقط في أ.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

٥٢٤

وقال بعضهم : (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : في الرسل والأديان وفي الكتاب المنزل عليه ، اختلفوا عنه في ذلك كله ، يبين لهم الحق من الباطل في جميع ما اختلفوا فيه بالكتاب الذي أنزله عليك ؛ إذ فيه أنباء الأمم الماضية ، وهو لم يشهدها ، ولم يختلف إلى من يخبره عنها ثم أنبأهم (١) على ما كانت ، فدل أنه إنما عرف [ذلك](٢) بالله ، ومنه نزل ذلك ، وفيه دلالة أن الحوادث التي علم الله أنهم يبتلون بها إلى يوم القيامة أنه جعل لهم سبيل الوصول إلى بيانها في الكتاب ، إمّا بيان كناية وإما بيان تصريح ، حيث قال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) الآية ، حيث لم يدعهم في الاختلاف على غير بيان ، فعلى ذلك علم أنهم يبتلون بالحوادث التي ليس لها نصوص (٣) في الكتاب لا يحتمل ألا يبين لهم ذلك ويدعهم حيارى ، لكن البيان على وجهين :

بيان تصريح يعقل بديهة العقل.

وبيان كناية يدرك بالنظر والتأمّل والاستدلال.

وأصله في قوله : (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : إلا لتبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه ؛ لأنهم اختلفوا في المحق في ذلك ؛ لأن كل فريق منهم ادّعى أنه هو المحق ، وأن الذي هو عليه الحق ، وأن غيره على باطل ، فأخبر أنه أنزل الكتاب عليه ليبين لهم الحق فيما (٤) اختلفوا فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) جعل الله تعالى رسوله وكتابه هدى ورحمة للمؤمنين ؛ لأنهم آمنوا بهما ، وصدقوهما ، وقبلوهما ، فصار ذلك [لهم](٥) هدى ورحمة ونورا ، وأمّا من كذبهما ولم يقبلهما فهو عذاب عليهم وعمى ، وهو كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥] وهو ما ذكر (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).

قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يذكر ـ عزوجل ـ

__________________

(١) في أ : منهما.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : منصوص.

(٤) في ب : الذي.

(٥) سقط في أ.

٥٢٥

قدرته وسلطانه ، حيث أخبر أنه ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وهي ميتة ، ويخرج منها نباتا وزروعا وأشجارا ، فمن قدر على هذا لقادر على إحياء الأنفس (١) بعد موتها لأنه (٢) لا فرق بين الإحياءين [إحياء الأرض وإحياء الأنفس](٣) ، إذ من (٤) قدر على أحدهما قدر على الآخر (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر (٥)(لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) قال بعضهم : لآية لقوم يسمعون المواعظ.

وقال بعضهم : لآية لقوم يسمعون الآيات والحجج ، وأما من لم يسمع فلا يكون له آية ، وأصله : إن في ذلك لآية لقوم ينتفعون بسماعهم ، ولآية لقوم يعقلون ، أي : ينتفعون بعقولهم ، وأصله أن هذا كله يصير آية للمؤمنين على ما ذكر كله ؛ لأنهم هم العاقلون عن الله ما أمرهم به ونهاهم عنه ، وهم يسمعون آياته ومواعظه ، وكله كناية عن المؤمنين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) والعبرة الآية ، أي : أنشأ لكم أنعاما فيه الآية ، هو صلة قوله : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : أنزل من السماء ماء ، وأنشأ الأنعام لكم فيه الآية أنشأ ـ عزوجل ـ في الأنعام لبنا غذاء الأولاد ، في الوقت الذي لا يحتمل الغذاء بالعلف ، وجعل لأربابها الانتفاع بذلك اللبن وفي الأشياء التي لا يؤكل لحمها لم يجعل لأربابها الانتفاع بما يفضل من اللبن ، ولم يجعل لها فضل لبن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ذكر بالتذكير ، فظاهره أن يذكر بالتأنيث ؛ لأنه إما أن يريد به الأمهات التي يدر منها اللبن أو جماعة من الذكران (٦) منها ، فكيفما كان فهو يذكر بالتأنيث ، لكن بعضهم يقول : ذكر باسم التذكير على إرادة الأصل الذي به كان اللبن ، وهو الفحل ، وهذا يدل لأبي (٧) حنيفة وأصحابه ـ رحمهم‌الله ـ لقولهم في لبن الفحل أنه يحرم.

وقال بعضهم : ذكر باسم التذكير على إرادة الجنس والجوهر من بين الأجناس

__________________

(١) في أ : الأرض.

(٢) في ب : إذ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : فمن.

(٥) في ب : ذكرنا.

(٦) في أ : المذكر أن.

(٧) في أ : إلى أبي.

٥٢٦

والجواهر دون العدد والجماعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنه : يعني (١) استخراج اللبن من بين فرث ودم (٢) ، وذلك أن العلف إذا وقع في الكرش [طبخه الكرش](٣) فيجعل الفرث أسفله والدم أعلاه واللبن بين ذلك ، ثم يسلط الكبد عليهم فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقي الفرث في الكرش كما هو.

وقال بعض الفلاسفة : إن العلف إذا وقع فيه يصير منه فرثا ، ثم يصير منه دما ، ثم يصير لبنا خالصا ، فهو كالنطفة التي وقعت في الرحم ، تصير علقة ، ثم تصير مضغة مأكولة ، فعلى ذلك اللبن [الذي](٤) ذكر والله أعلم.

ويحتمل ما قاله بعض الفلاسفة أن العلف يصير فرثا ، ثم دما ، ثم لبنا.

ويحتمل أن يكون مجرى اللبن بين ما ذكر من الفرث والدم ، فأى الوجهين كان ، كان فيه اللطف الذي ذكرنا (٥). ووجه ذكر هذا ـ والله أعلم ـ على الامتنان وكذلك ما ذكر من الثمرات والأعناب أنه بلطفه أخرج اللبن الصافي أصفى الأشياء وألطفها من بين أخبث الأشياء وأكدرها في رأي العين ، فمن قدر على حفظ هذا مما ذكر بلا حجاب يدرك أو حاجز يعرف لقادر على إنشاء الأشياء من لا شيء لأن الخلائق لو اجتمعوا على أن يدركوا السبب الذي به كان حفظ هذا من هذا وامتناعه عن الخلط بالخبيث ما أدركوا ذلك ، وكذلك ما يخرج من النخيل والكروم الثمرات الطيبة والأعناب الحلوة من غير أن يرى أثر ذلك فيها ، ومن غير أن يدركوا السبب الذي كان به الأعناب والثمرات ، دل أنه قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء إذ هي خشبة يابسة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً).

قال بعضهم (٦) : السكر ما يحرم منه ، والرزق الحسن : ما [يحل من ثمرها. وقال بعضهم (٧) : السكر : ما يتخذ من الشراب ، والرزق الحسن : ما](٨) يؤكل تمرا وزبيبا ،

__________________

(١) في ب : معنى.

(٢) أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢٨).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : اللباب (١٢ / ١٠٣ ، ١٠٤).

(٦) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٦٩٤) و (٢١٧٠٥) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه والحاكم وصححه عنه كما ، في الدر المنثور (٤ / ٢٢٨) ، وهو قول سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وغيرهم.

(٧) قاله الشعبي أخرجه ابن جرير عنه (٢١٧٣٥) و (٢١٧٣٦) ، وعن مجاهد (٢١٧٣٧) و (٢١٧٣٨).

(٨) سقط في أ.

٥٢٧

ونحوه.

وقال بعضهم (١) : السكر خمر الأعاجم ، والرزق الحسن ما ينبذون ويخللون ويأكلون.

وروي في بعض الأخبار أنه حرم السكر (٢) ، ولم يفسر الآية.

وفي بعض الأخبار أنه بعث معاذا إلى اليمن ، وأمره أن ينهاهم عن نبيذ السكر.

وعن عبد الله [قال](٣) : إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تسقوهم السكر ، فإن الله تعالى لم يجعل في حرام شفاء (٤).

وليس بين (٥) فقهاء الأمصار في تحريم السكر وفضيخ البسر ونقيع الزبيب إذا أسكر كثيرها ولم يطبخ ـ اختلاف أنها حرام ، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (إِنَّ فِي ذلِكَ) لما ذكر (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) : يعقلون.

وقال القتبي (٦) : الفرث ما في الكرش ؛ لأن اللبن كان طعاما ، فخلص من ذلك الطعام دم ، وبقي منه فرث في الكرش ، وخلص من الدم لبنا سائغا أي : سهلا في الشرب ، لا (٧) يشجى به شاربه ولا يغص.

وكذلك قال أبو عوسجة : أسغته : أي : أدخلته في حلقي سهلا (٨).

وقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) أي : تتخذون منه ما يحرم أكله ، ورزقا حسنا : ما يحل منه ، [وهو](٩) كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) الآية

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢١٧٢٣) ، (٢١٧٢٥) ، وعبد الرزاق وابن الأنباري في المصاحف والنحاس عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢٩).

(٢) في الباب عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام».

أخرجه مسلم (٣ / ١٥٨٧) ، كتاب الأشربة باب : بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (٧٤ / ٢٠٠٣).

(٣) سقط في أ.

(٤) علق طرفه الأخير البخاري في صحيحه (١١ / ٢٠٨) ، في كتاب الأشربة : باب شراب الحلواء والعسل ، وقال الحافظ في الفتح (١١ / ٢١٠) :

وروينا في «نسخة داود بن نصير الطائي» بسند صحيح عن مسروق قال : قال عبد الله هو ابن مسعود ... فذكره بتمامه.

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٥ / ٣٨) ، والبيهقي (١٠ / ٥) ، من طريق آخر عنه موصولا.

(٥) في ب : من.

(٦) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٥).

(٧) في أ : لما.

(٨) في أ : حملا.

(٩) سقط في أ.

٥٢٨

[يونس : ٥٩] ، أو يخرج على تذكير النعم في الوقت الذي كان السكر حلالا ، أي : تتخذون منه سكرا ما تشربون ، ورزقا حسنا سوى الشراب.

قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٦٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ...) إلى آخر ما ذكر.

قال بعضهم (١) : (وَأَوْحى) أي : قذف في قلوبها أن افعلي ما ذكر ، والوحي هو القذف ؛ سمي بذلك لسرعة وقوعه ، ونفاذه في القلوب من غير أن يشعر الملقى فيه والمقذوف في قلبه أن أحدا فعل ذلك أو ألقاه فيه ، وهو ما مكن الله للشيطان من الوسوسة في القلوب من غير أن يعلم الموسوس إليه والمقذوف في قلبه أن أحدا دعاه إلى ذلك أو زين له ذلك ، وكذلك ما يلهم الملائكة بني آدم من أشياء من غير أن يعلموا أن أحدا دعا إلى ذلك أو زين ذلك له ، أو ألقاه في قلوبهم فهذا كله يرد على من ينكر الشيطان والملائكة ، وهم طائفة من الملحدة يقولون : إن الشهوات والأماني التي جعلت في أنفسهم هي التي تبعثهم وتهيجهم على ذلك لا الشيطان.

فيقال لهم : إن الإنسان قد يناله أشياء من غير أن كان منه تفكر في ذلك ، أو أماني أو سابق تدبير ، فذلك يدل أن غيرا ألقى ذلك في قلبه وقذف ، لا عمل الأماني والشهوات ، وهذا أيضا يدل على لطف الله في البشر أنه يوفقهم على الطاعات ويحثهم عليها من غير أن علموا أن لغير في ذلك صنعا ، وكذلك الخذلان في المعاصي وأنواع الأجرام (٢) التي يكتسبونها.

ثم يحتمل قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي : النحل وغيرها من البهائم ـ وجهين :

أحدهما : يحتمل أنه أنشأ هذه البهائم على طبائع تعرف بالطبع مصالحها ، ومهالكها ، ومعاشها ، وما به قوام أبدانها وأنفسها ، وما به فسادها وصلاحها من غير أن يعلم أن أحدا يدعوهم إلى ذلك ، أو يشير إليها ، أو يأمر وينهى ، ولكنه بالطبع يعرف ذلك ويعلم من نحو أشياء يعلمهن (٣) أشياء بالطباع من غير أن يعلم أن أحدا علمهن ذلك من نحو الوزّ يسبح

__________________

(١) قاله معمر عن أصحابه أخرجه ابن جرير عنه (٢١٧٤١) و (٢١٧٤٢).

(٢) في أ : الإحرام.

(٣) في ب : يعلمن.

٥٢٩

في الماء بالطبع من غير أن يعلم أنها تسبح (١) ، وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران ، فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعرفانها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن يعلم أنها تعرف ذلك ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أن يكون الله ـ عزوجل ـ جعل خلقة هذه الأشياء بالذى يقفون على المخاطبات والأمر والنهي ، ويعرفون ذلك ما لا يعرف مثله البشر ألا ترى أن البشر لا يعرفون (٢) المهالك والمصالح إلا بالتعلم ، والبهائم وإن صغر ذلك تعرف حتى تتوقى المهالك وترغب في المصالح ، ومما يدل أن هذه الأشياء مما يفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢٠ ، ٢١] ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حيث ردوا عليهم الجواب بقوله : (أَنْطَقَنَا) فذلك ما ذكرنا ، والله أعلم.

فذلك الوحي والقذف لكل البهائم لا للنحل خاصّة لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح ، وما به معاشها وغذاؤها مما به فسادها وهلاكها حتى عرفت (٣) ذلك من غير أن تعلم ، والبشر لا يعرفون إلا بالتعلم ، فهو ـ والله أعلم ـ لوجهين :

أحدهما : للمحنة أن البشر امتحنوا بالتعليم ، فذلك من الله امتحان لهم ، والبهائم لا محنة عليهم ، [فعرفوا ذلك](٤) على غير تعلم ، أو كان ذلك للبشر بالتعلم ؛ لفضل بعض على بعض في العلم بالتعليم ؛ إذ البهائم يستوى صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك ، وفي بنى آدم [تتفاضل وتتفاوت](٥) بالتعلم ، والله أعلم.

فإن قيل : فإذا كانت (٦) البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي فما معنى تخصيص النحل بالذكر من غيرها من البهائم؟

قيل : يحتمل تخصيص النحل بالذكر ـ والله أعلم ـ لما أن هذه الأشياء غير النحل لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها ، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة [والتعلم](٧) ، والنحل تعطي ذلك لهم وتبذل من غير تعلم ولا رياضة ، والله أعلم.

ثم قوله : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) وقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وقوله : (فَاسْلُكِي

__________________

(١) في أ : سباحة.

(٢) في ب : يعرف.

(٣) في أ : يعرفن.

(٤) في ب : فذلك عرفوا.

(٥) في أ : يتفاضل ويتفاوت.

(٦) في أ : كان.

(٧) سقط في أ.

٥٣٠

سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ونحوه ، ظاهره أمر ، لكن حقيقته تمكين وتسهيل ، نحو قوله : سيروا في كذا ، هو في الظاهر أمر ، وفي الحقيقة تمكين وتيسير.

ثم في هذه الآية ، وفي قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وفيما سبق من الآيات ، وهو قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وفي قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) دلالة قدرته على إنشاء الأشياء من لا شيء ، ودلالة علمه وتدبيره ؛ لأنه أخرج من هذه الجواهر المختلفة أشياء من غير جوهرها [وجنسها](١) ما لم يكن شيء مما أكل منها هذه البهائم من الجواهر التي أخرج منها ، من نحو العسل الذي أخرج من الفواكه التي أكلت ، واللبن من العلف الذي أكل ، والعصير والسكر والأعناب من الكروم ؛ إذ ليس شيء خرج منها من جنس ما أكل ، ولا من جوهر ما سقى ، دل أنه كان فعل عليم قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء ولا سبب ، وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته ؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت ، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات دل أن علمه وتدبيره غير مقدر بعلم الخلق ، وأن حكمته غير مقدرة بحكمة الخلق ، وكذلك قدرته غير مقدرة بقدرة الخلق ، ثم قوله : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) قيل : طرق ربك ذللا ، وقيل مطيعة ، وقيل من الذل ، أي : الرفق واللين ، كقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٥٤] وقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ ...) [الحجر : ٨٨] الآية من الذل ، ومن الرفق واللين ، وهذا يخرج على وجهين.

أحدهما : ذللت سبل ربها ، وسهل السلوك فيها حتى تسلك كيف شاءت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) قيل : مما يبنون ، ويحتمل (٢) مما يتخذ من العريش ، وهو الذي يتخذ من الخشب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ).

قال الحسن : الشهد والعسل.

وقال بعضهم (٣) : مختلف في الطعم ، وقيل : في الألوان : الأبيض ، والأحمر ، والأصفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [قال بعضهم (٤) : فيه شفاء للناس](٥) من كل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ويتخذ.

(٣) قاله البغوي (٣ / ٧٦).

(٤) قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢١٧٥١) ، (٢١٧٥٤) ، (٢١٧٥٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٣٠).

(٥) سقط في أ.

٥٣١

داء ، حتى القروح ، وكل شيء.

وقال بعضهم : قوله : (فِيهِ شِفاءٌ) من داء دون داء.

وقال بعضهم (١) : (فِيهِ شِفاءٌ) يعني : في القرآن ، فيه شفاء القلوب للدين.

ويحتمل قوله : فيه شفاء للأجساد ، فإن أراد هذا فهو ظاهر ، لا شك أن فيه ذلك الشفاء.

ويحتمل : فيه شفاء للدين ، فإن كان هذا فيكون ذلك من جهة النظر فيه (٢) يدرك ويوصل إلى ذلك الشفاء.

وقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ).

قال بعضهم : من نوع ما تأكل النحل.

وقال بعضهم : من جميع الثمرات التي تكون في الجبال.

عن عبد الله قال (٣) : القرآن والعسل هما الشفاءان ، القرآن شفاء الدين ، والعسل شفاء الأبدان.

وقال بعضهم من أهل اللغة : إن الوحى في كلام العرب على وجوه : منها : وحي النبوة ، وهو إرسال الله الملائكة إلى أنبيائه ورسله ، كقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشورى : ٥١] ومنها : وحي الإشارة كقوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١] ومنها : وحي الإلهام ، وهو كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] ، وقوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] ونحوه.

ومنها : وحي الأسرار ، كقوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ...) [الأنعام : ١١٢] الآية.

وقال بعضهم : إن أصل الوحي عندنا هو أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا للاستتار والإخفاء وقد يكون ذلك بالإيماء والخط (٤).

وأصل الوحي ما ذكرنا أنه سمي به لسرعة وقوعه وقذفه في القلب.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٧٥٠) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٣٠).

(٢) في أ : فيه.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢١٧٥٤) ، وابن أبي شيبة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٣٠) ، وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق آخر بنحوه.

وأخرجه ابن ماجه وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه مرفوعا كما في المصدر السابق.

(٤) في أ : بالإيمان والحظ.

٥٣٢

وقال أبو بكر : تأويل الوحي أن يعلم الذي يوحي إليه ويرشده ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أن الله أرشد كل دابة سوى الإنسان إلى مصلحتها ، والهرب عن مهلكها ومتلفها بما فطرها الله عليه ، كما أرشد الإنسان إلى ما يصلحه في دينه ودنياه بالتعليم ، فمثل الله تعليمه كل دابة ما فيه مصلحتها ومفسدتها بما دبرها عليه ، كما علم الإنسان بالقول والبيان ، فقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي : أرشدها ودلها بفطرتها (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) بيوتا فيها (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يعني : واتخذي مما يبني الإنسان لمسكنه.

وقال : العريش : الحيطان التي لا سماء لها ، بفطرتها تتخذ خلاياها في كل ذلك لمنافع الخلق ، ثم قال : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والثمرات مختلفة الطعم والمنظر والمشم : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) وهو ما سبل الله لها من الرزق والمأوى (ذُلُلاً) قال : يقول : ذلك ذلل لك كل شيء قدره لرزقك ومسلكك ، وذللك في طلب ما سبل لبني آدم وجعلها سببا لمنافعهم وصغر قدرك لديهم فذلك قدرته وسلطانه على ما شاء ؛ ليعلموا أن خالقهم لا يعجزه شيء ، وأنه القدير على ما يعدهم من البعث والثواب والعقاب.

وقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يقول : الجنس واحد ، ثم هو ضروب كألوان التمر والعنب وسائر الثمار في مذاقه ومشامه ومنظره ، وكله عسل فيه شفاء للناس لمنافعهم وملاذهم وفيما أراهم الله من قدرته على ما يشاء من ذلك ، فيه شفاء لهم في الدين والعلم ، يعلمون بما يشاهدون من تدبير الله وقدرته ، على ما بينا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) يقول : لعبرة ودليلا وبرهانا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما يشاهدون من تدبير الله وتقديره وقدرته على ما يشاء ، والله أعلم.

وقال في قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) يقول : ولكم عبرة ودليل أن النخل أجذاع خشب لا طعم فيها والكرم خشب أيضا وما فيهما من سعف وورق لا عسل فيها ولا عنب ، فأخرج الله منهما ثمرات مختلفات ، فيه عسل ، وفيه تمر وزبيب ، وتتخذون منه ما تلذون من الشراب. وقال : هذا قبل تحريم الخمر ، والسكر : كل ما أسكرهم ، وتتخذون منه أيضا رزقا حسنا ، أي : طيبا ، وهو ما تأكلون منها ، سوى ما تشربون ، وتكسبون بها أموالا كثيرة ، منّ الله به عليهم.

وقال بعضهم (١) : السكر : كل شيء حرمه الله من ثمارها من الشراب ، الخمر من العنب ، والسكر من التمر ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرها ، الزبيب ، والتمر ،

__________________

(١) تقدم.

٥٣٣

والنبيذ ، وقال السكر : ما أسكر ، والرزق الحسن : [الخل](١) وأشباهه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ودليلا وبيانا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ما ينبهون (٢) ، فيعلمون أن الذي لم يعجز عما خلق لهم من الثمار من خشب يابس يقدر أن يحيي الموتى ، ويخلق ما يشاء ، وما عرفه الخلق أنه يكون من النطفة الولد ، ومن الماء والأشجار الفواكه ، ومن العلف اللبن ، وغير ذلك من الحوادث التي تحدث من الأشياء ، وتلك أسبابها ما لم يدرك كون تلك الأشياء فيها ولا يرى لا يعرف ذلك إلا بتعليم من هو عالم بذاته لأن علم ذلك لو كان لا بتعليم لو اجتهدوا كل جهدهم لم يدركوا حدوث تلك الأشياء مما ذكرنا ، ولا كونها منها ، دل أن الذي علمهم هو عالم بذاته ؛ فإذا ثبت كونه بعالم بذاته وإن كانوا لم يشاهدوا إلا عالما بغير ، فعلى ذلك هو قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء وإن كانوا لم يعاينوا في الشاهد شيئا إلا من شيء ، وفيه أن ما يحدث ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل ، أو الطعام الذي يتناول ، أو الفواكه والثمار التي تخرج ليس يكون بنفس الماء ، أو بنفس الطعام والعلف ، ولكن باللطف من الله تعالى ؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال ثم لا يكون فيه الثمر ، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)(٧٢)

وقوله ـ عزوجل ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) فإن قيل لنا أي منة له علينا في ذكر خلقنا ثم توفيه إيانا ورده لنا إلى الحال التي ذكر وهو حال الجهل حتى لا نعلم شيئا.

قيل ذكر هذا ـ والله أعلم ـ يحتمل وجوها :

أحدها : يذكرهم أنه هو الذي خلقكم ، ثم هو يتوفاكم ، ثم هو يملك ردكم إلى الحال التي لا تعلمون شيئا ، وفي ملكه وسلطانه تتقلبون ، فكيف عبدتم الأصنام والأوثان التي لا يملكون شيئا من ذلك وأشركتموها في ألوهيته وعبادته ، أو يذكر هذا أنه خلقكم ولم تكونوا شيئا ، ثم يتوفاكم بعد ما أحياكم ، ثم يردكم إلى الحال التي لا تعقلون شيئا بعد ما

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ينبعون.

٥٣٤

جعلكم عقلاء علماء ، فمن يملك هذا ويقدر على هذا ، يقدر على الإحياء بعد الموت والبعث بعد الفناء.

أو يذكر هذا ؛ ليعلموا أنه لم يكن المقصود بخلقهم الفناء خاصة ، لكن لأمر آخر قصد بخلقهم ، وهو ما ذكر فيما تقدم من أنواع النعم وتسخير ما ذكر من الأشياء لهم ليعلموا أن المقصود في خلقهم لم يكن الفناء خاصة ؛ إذ لو كان الفناء خاصة لم يحتج إلى ما خلق لهم من الأغذية والنعم التي أنشأ لهم والاشياء التي سخرها لهم.

وقال أبو بكر الأصم : قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) وكنتم نطفا أمواتا فأحياكم ، ثم يتوفاكم أطفالا وشيوخا ، ومنكم من يعمر إلى أرذل العمر ، يقول : يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف (١) والجهل بعد العلم ليبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بهما ربي وقوي ؛ لأنهما ثابتان ثم يبلى ويفنى بهما ويرجع إلى الجهل ، ولكن بلطف من الله وتدبير منه ، لا بالأغذية ، والله أعلم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما دبر في خلقه مما يدركون به قدرة خالقهم ، وتصريفه الأمور ، وبما يكونون به حكماء وعلماء أن الذي دبرها حكيم قدير على ما شاء ، والحكمة فيما ذكر من تفريق الآجال ليكونوا أبدا خائفين راجين ؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة يأمنون ويتعاطون المعاصي على أمن ، لما يعلمون وقت نزول الموت بهم.

والثاني : ليعلموا أن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم ؛ لأن التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ).

قال بعض أهل التأويل (٢) : [يذكر](٣) هذا مقابل ما أشركوا خلقه وعباده في ألوهيته [وعبادته](٤) ، يقول : فضل الله بعضكم على بعض في الرزق والأموال حتى بلغوا السادة والموالى فلا ترضون أن يكون عبيدكم ومماليككم شركاء في ملككم وأموالكم ، فكيف ترضون لله أن يكون عبيده ومماليكه شركاء ، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل.

وقال أبو بكر الأصم : قوله : (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أغنى بعضكم ، وأفقر بعضا ، وجعل منكم أحرارا وعبيدا (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) بالغنى والتمليك (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى

__________________

(١) في أ : الخوف.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢١٧٥٧) و (٢١٧٥٨) ، وعن مجاهد (٢١٧٥٩) وقتادة (٢١٧٦٠) و (٢١٧٦١) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٣٢ ، ٢٣٣).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

٥٣٥

ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من عبيدهم (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) إذ يستوي المولى وعبده فيما ملكت يمينه ، يقول : فليس أحد منكم يرضى أن يكون عبده بمنزلته فيما يملك سواء ، فإذا رأيتم أنتم ذلك نقصا بكم لو فعلتم ، فكيف زعمتم أن الله أشرك بينه وبين أحجار حتى أشركتم ما ملككم الله بينه وبين الأوثان في العبادة وفيما آتاكم من رزق ، فقلتم : هذا لله ، وهذا لشركائنا (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) يقول أنعم الله عليهم بأنفسهم وأرزاقهم وأموالهم وأولادهم ، فأشركوا غير الله فيها ، وجحدوا نعمة الله عليهم [بها عصوا](١) ، وبها كفروا ، ثم ألزمهم النظر في الفضل الذي ذكر أنه فضل بعضهم على بعض إلى عين الفضل الذي كان من الله ، لا إلى الأسباب التي اكتسبوها ، ليعلموا أنهم لم ينالوا تلك الفضائل باستحقاق منهم ، ولكن إنما نالوا (٢) بفضل منه ورحمة ، فيكون ذلك دليلا لهم فيما أنكروا من أفضال الله ، واختصاصه بعضهم بالرسالة والنبوة ، وإن كانوا جميعا من بشر ، ومن جنس واحد على ما فضل بعضهم على بعض في الرزق ، والسعة ، والملك ، والحرية والسلطان ، وإن كانوا جميعا في الجنس واحد ، فإذا لم تنكروا هذا النوع من الفضل والاختصاص لبعض على بعض ، فكيف أنكرتم ذلك الفضل والاختصاص بالرسالة من فضله ورحمته ، فلذلك قال ـ والله أعلم ـ : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف : ٣٢] أخبر أنه برحمته وفضله ينال ما ينال من الرسالة وغيرها ، لا بالاستحقاق والاستيجاب كان منهم ، أو أن يذكر سفههم بأنهم يأنفون أن يشركوا عبيدهم ومماليكهم في ملكهم وأموالهم ولهم بهم (٣) منافع من الخدمة والإعانة في الأمور ، فما بالهم يشركون أحجارا وخشبا ، لا منفعة لأحد منهما (٤) في ألوهية الله وربوبيته وفي عبادته : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) على تأويل النبوة أبفضل الله وبرحمته يجحدون أنه لا يفضل بعضا على بعض بالرسالة ، أو يجحدون ما آتاهم الله من النعم ، فيصرفون نعمه (٥) إلى غيره ، وهي الأصنام التي عبدوها ، فقالوا : هذا لشركائنا ، أو يصرفون شكر نعمه إلى غيره ، وهي الأوثان التي عبدوها ، والله أعلم.

وقوله : ـ عزوجل ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : قالوا.

(٣) في ب : منهم.

(٤) في أ : منها.

(٥) في ب : نعمته.

٥٣٦

وَحَفَدَةً) قال الحسن وغيره (١) : الحفدة : الخدم والمماليك ، فهو على التقديم ، على تأويل هؤلاء ، يقول : جعل لكم من أنفسكم أزواجا وخدما من جنسكم ؛ لأنه ذكر فيما تقدم : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ...) الآية ، يذكرهم نعمه وفضله الذي ذكر أنه جعل لكم من جنسكم أزواجا وخدما تحت أيديهم ، يستمتعون بالأزواج ، ويستخدمون الخدم والمماليك ، وهم من جنسهم وجوهرهم ، يذكرهم فضله ومننه عليهم.

أو يشبه أن يكون هذا صلة قوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ...) [النحل : ٥٨] الآية ، كانوا يأنفون عن البنات ، ويدفنونهن أحياء إذا ولدن أنفا منهن ، يقول ـ والله أعلم ـ : كيف تأنفون منهن وقد جعل لكم من البنات أزواجا تستمتعون بهن حتى لا تصبروا عنهن ، وكذلك جعل لكم من البنات والبنين الذين ترغب أنفسكم فيهم ما لو لا البنات لم تكن لكم الأزواج التي تستمتعون بهن ، ولم يكن لكم البنون الذين ترغبون فيهم ، والأنصار والأعوان والخدم الذين ترغبون فيهم ، يبين ويذكر تناقضهم في الأنفة منهن يأنفون منهن ، ومن البنات يكون ما يرغبون فيهم (٢) ؛ فهذا يدل أن النساء يصرن كالملك للأزواج ، ويصرن تحت أيديهم في حق ملك الاستمتاع ، كالمماليك في حق ملك الرقاب ، ثم جعل ـ عزوجل ـ التناسل في الخلق على التفاريق ، وتقلبهم من حال إلى حال ، وتنقلهم (٣) أبدا كذلك ليكون أذكر لتدبيره ، وانظر في آياته ودلالاته ، ولو شاء لأنشأ الخلق كله بمرة واحدة ، وأفناهم بدفعة واحدة ، وكذلك ما جعل لهم من الأرزاق وأنواع النبات ، لو شاء لأخرج لهم ذلك كله بمرة واحدة في وقت واحد ، لكنه أنشأ لهم بالتفاريق ليذكرهم النظر في آياته وتدبيره ، ليكون ذلك لهم أدعى إلى المرغوب ، وأحذر للمرهوب ، وكذلك ما ردد من الأنباء والقصص ، والمواعيد ، وذكر الجنة والنار في القرآن في غير موضع ليبعثهم ويحثهم على النظر في آياته وتدبيره ، ويرغبهم في كل وقت في المرغوب ، ويحذرهم عن المحذور والمرهوب ، ثم قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وقال في آية أخرى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ) [التحريم : ٦] وقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ونحوه ، ذكر الأنفس في [هذا](٤) كله ، ثم لم يفهم أهل الخطاب من هذا كله معنى واحدا وشيئا واحدا ، وإن كان في حق اللسان واللغة واحدا لكنهم فهموا في كل

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢١٧٨٣) و (٢١٧٨٤) و (٢١٧٩٤).

(٢) في أ : فيهن.

(٣) في أ : ويتقلبهم.

(٤) سقط في ب.

٥٣٧

غير ما فهموا في آخر ، فهذا يدل أنه لا يفهم الحكمة والمعنى في الخطاب بحق ظاهر اللسان واللغة ، ولكن بدليل الحكمة المجعولة في الخطاب ، ومن اعتقد في الخطاب الظاهر حسم باب طلب الحكمة [فيه](١) والمعنى ؛ لأنه يجعل المراد منه الظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) هو ما ذكرنا ، وحفدة اختلف فيه ، قال بعضهم (٢) : الحفدة : الخدم والمماليك.

وقال بعضهم (٣) : الحفدة : ولد الولد.

وقال ابن مسعود (٤) رضى الله عنه : الحفدة : الأختان وروي عنه أنه قال (٥) : الحفدة : الأصهار فالأصهار والأختان عنده واحد ، وقيل (٦) : الحفدة : الأعوان والأنصار [يذكرهم التناقض فيما يأنفون من البنات أن كيف يأنفون عنهن ومنهن يكون لكم الأعوان والأنصار](٧) والأختان في أمر الدنيا.

وقال أبو عوسجة : الحفدة : بنو البنين ، وقال أيضا : الحفدة : الأعوان ، والحافد : المجتهد في العبادة وفي العمل ، يقول : حفد يحفد ، أي : خدم واجتهد ، وقوله : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نجتهد.

وقال القتبي : الحفدة : الخدم والأعوان ، يقال : هم بنون وخدم. وقال : أصل الحفد : مداركة الخطو والإسراع في المشي ، وإنما يفعل ذلك الخدم ، فقيل لهم : حفدة ، واحدها : حافد. وقال : ومنه يقال في دعاء الوتر : وإليك نسعى ونحفد. وقال أبو عبيد : وأصل الحفد : العمل. وقال : ومنه الحرف في القنوت : نحفد ، أي : نعمل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قال بعضهم (٨) : الطيبات : الحلالات.

وقال بعضهم : الطيبات : أي : كل ما طاب ولان ولطف ، ورزق غيركم من الدواب

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم أنه قول الحسن.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٧٩٦) و (٢١٧٩٩) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٣٣).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢١٧٦٣) و (٢١٧٦٦) ، والفريابي وسعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٣٣).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢١٧٧٥).

(٦) قاله مجاهد وأبو مالك ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢١٧٨٧) و (٢١٧٩١) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٣٤).

(٧) سقط في ب.

(٨) قاله ابن جرير (٧ / ٦٢٠) ، والبغوي (٣ / ٧٧).

٥٣٨

والبهائم كل ما خشن ، وخبث (١) يذكرهم مننه عليهم ونعمه [عليهم](٢) ليستأدي (٣) بذلك شكره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) قال بعضهم : أبا لشيطان يصدّقون ، ويجيبونه إلى ما دعاهم من الأنفة من البنات ، وبنعمة الله هم يكفرون ، أي : هذه البنات لكم نعمة ، فكيف تكفرونها ، وقال : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي : أبالشيطان إلى ما دعاكم وبنعمة الله أي : بمحمد يكفرون ، أو بالإسلام ، أو بالقرآن.

وقال أبو بكر الأصم : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) يقول : تقرون بأنكم عبيد لأحجار وتذلون لها وتعبدونها ، (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) يقول : وبما أنعم الله عليكم في أنفسكم وما خولكم ورزقكم تكفرون به ، وكان الشكر أولى بكم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) فائدة ذكر هذا لنا ـ والله أعلم ـ لئلا نتبع بعض المخلوقين بأهوائنا ، ولا نكل في أمورنا إلى من نعلم أنه لا يملك ضرّا ولا نفعا ، ولا يستطيع شيئا من الرزق ، كما تبع أولئك في عبادة من يعلمون أنه لا يملك شيئا ، ولا نفعا ولا ضرّا فيعبدونه ؛ يذكر سفههم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يملك شيئا من النفع والضر والرزق لئلا نعمل نحن مثل صنيعهم بمن دون الله من المخلوقين.

ثم اختلف في قوله : (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) قال الحسن : هو على التقديم ، أي : يعبدون من دون الله شيئا لا يملك لهم ما ذكر.

__________________

(١) في أ : وحيث.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : يستأدي.

٥٣٩

وقال بعضهم : يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض ، ولا يستطيعون (١) شيئا (٢).

وقال بعضهم : يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض ولا شيئا (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي : لا تتخذوا لله أمثالا من الخلق وأشباها في ألوهيته وعبادته ، أو لا تقولوا لله إن له أشباها وأمثالا.

أو يقول : فلا تجعلوا لله أمثالا في العبادة له ، وأشباها في تسميتها آلهة ، على علم منكم أن ما يكون لكم إنما يكون بالله لا بالأصنام التي تجعلونها أمثالا لله في العبادة والألوهية. وجائز أن يكون قوله : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي : فلا تضربوا لأولياء الله الأمثال ، فإنه قد بين محل أوليائه ومكانهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أن لا مثل له من الخلق ولا شبه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، أو أن الله يعلم بمصالحكم ، وأنتم لا تعلمون ما به صلاحكم وهلاككم.

وقوله : ـ عزوجل ـ : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) ضرب المثل بهذا من وجهين :

أحدهما : أن من لا يقدر ولا يملك أن ينفق في الشاهد عندكم ليس كمن يملك ويقدر أن ينفق ، فهو كقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [الأنعام : ٥٠].

وقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ...) [هود : ٢٤] أي : ليس يستوى البصير والأعمى ، ولا الأصم والسميع ، فعلى ذلك لا يستوي من يملك الإنفاق والإنعام على الخلق ، وهو المعبود الحق ، كمن لا يملك ذلك ، وهو المعبود الباطل.

والثاني : ضرب مثل المؤمن والكافر ، أن الكافر لا ينفق ما أنعم عليه من المال في طاعة الله [وفي خيراته](٣) ، والمؤمن ينفق جميع ما أنعم عليه [وأعطى](٤) في طاعة الله وخيراته فليسا بسواء من أنفق في طاعة الله كمن لا ينفق شيئا أحدهما يكون ضرب مثل الإله الحق والمعبود الحق بالمعبود الباطل ، والثاني مثل المؤمن بالكافر ثم في الآية وجوه من الدلائل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ثبت في حاشية ب : فهو على التأويل ، كما قال على التقديم. كاتبه.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

٥٤٠