تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وقال في سورة الأنعام (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨] وقال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) [الأنعام : ١٤٨] وقال هاهنا : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

و (هل) : هو حرف استفهام في الظاهر ، لكن المراد منه : ما على الرسول إلا البلاغ المبين ؛ [على ما قاله أهل التأويل ، ما قد كان من الله من البيان أن ليس على الرسل إلا البلاغ المبين](١). وكذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النحل : ٣٣] أي : ما ينظرون إلا أن تأتيهم كذا. وكذلك قوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [النجم : ٢٤] (أم) : هو حرف شك ، ومراده : [ما](٢) للإنسان ما تمنى ، وأمثاله لما سبق من الله ما يبين لهم أن ليس للإنسان ما تمنى ، وقد ذكر [تأويل](٣) قوله : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) في سورة الأنعام.

ويحتمل قولهم هذا وجوها :

أحدها : قالوا ذلك على الاستهزاء [به](٤) ؛ كقوله : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦].

والثاني : قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ) أي : لو أمر الله أن نعبده ولا نعبد غيره لفعلنا ؛ كقوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها ...) الآية [الأعراف : ٢٨].

والثالث : قالوا : لو لم يرض الله منا ذلك ما تركنا فعلنا ذلك ؛ ولكن أهلكنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً).

يخبر رسوله أنك لست بأول [رسول](٥) مبعوث إلى أمتك ؛ ولكن قد بعث إلى كل أمّة

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٥٠١

رسول ، وهو كقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] يصبّره على ما يصيبه منهم من المكروه والأذى ؛ أي : لست أنت بأول من يصيبه ذلك ، بل كان لك (١) قبلك [إخوان](٢) أصابهم من أممهم ما يصيبك من أمتك.

وقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ).

هو على الإضمار ؛ كأنه قال : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا وقلنا لهم : قولوا : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ...) الآية ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) على ذلك كان بعث الرسل جميعا إلى قومهم بالدعاء إلى توحيد الله ؛ وجعل العبادة له ، والنهى عن عبادة الأوثان دونه ؛ كقوله : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [هود : ٥٠].

ويكون قوله : (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) : [كقوله :](٣)(ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون : ٢٣] هما واحد.

والطاغوت : قال بعضهم : كل من عبد دون الله فهو طاغوت.

وقال الحسن : الطاغوت هو الشيطان ، أضيف العبادة إليه بقوله : (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] لأن من يعبد دونه يعبد بأمره ، فأضيف لذلك إليه ، وقد ذكرنا هذا أيضا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ).

هذا يدل أنه لم يرد بالهدى البيان ؛ على ما قاله بعض الناس ؛ إذ قد سبق منه البيان لكل واحد (٤) ، وما ذكر أيضا : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) وهذا يرد على المعتزلة قولهم ؛ حيث قالوا : الهدى : البيان من الله ، لكن الهدى منه في هذا الموضع ليس هو البيان ، هو ما يكرم الله به عبده ؛ ويوفقه لدينه.

وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) لاختياره الهدى (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : لزمت للزومه الضلالة واختياره إياه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الآية.

قال الحسن : قوله : (فَسِيرُوا) ليس على الأمر ؛ ولكن كأنه قال : لو سرتم في الأرض لرأيتم كيف كان عاقبة المكذبين ؛ بالتكذيب.

وقال بعضهم : سيروا ؛ كأنه على الحجاج عليهم أن سيروا في الأرض ؛ فإنكم ترون

__________________

(١) في أ : ذلك.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : أحد.

٥٠٢

آثار من [كان](١) قبلكم الذين أهلكوا بالتكذيب ، كان النبي يخبرهم من أنباء الأمم الخالية ؛ وما نزل بهم ، فينكرون ذلك ؛ فقال عند ذلك : فسيروا (٢) في الأرض فانظروا إلى آثار من كان قبلكم.

ويشبه أن يكون ليس على السير نفسه ؛ ولكن على التأمل (٣) والنظر في آثار أولئك وأمورهم أنه بم نزل بهم ما نزل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ).

قال أبو بكر الأصم : [قوله : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) :](٤) كان يحب ويحرص على هدى قراباته ؛ كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] فقال : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) ؛ أي : لا يهديهم بضلالهم وقت ضلالهم أو لا يهديهم وقت اختيارهم الضلال ، أو لا يهدي من علم أنه يختار الضلال [ويهلك على الضلال](٥) ، أو لا ينجي من يهلك على (٦) الضلال.

وفيه لغات ثلاث : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي : لا يهدى من أضله الله ؛ أي : إذا أضله الله فليس أحد يهديه ، و (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) ؛ ما ذكرنا ، ولا (يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) ؛ أي : لا يهتدي (٧) من أضله الله ، والله أعلم بذلك. أو لا يهتدي في الآخرة طريق الجنة من أضله الله في الدنيا لاختياره الضلال ، وهو كقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٦٤] (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الصف : ٧] وقت اختيارهم الكفر والظلم ، أو لا يهدي من علم منه أن يختار الضلال والظلم ، أو لا يهدي من يلزم الضلال وقت لزومه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

ظاهر تأويله.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : سيروا.

(٣) في أ : التأويل.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : عن.

(٧) في أ : لا يهدي.

٥٠٣

فإن قيل : لنا : ما الحكمة والفائدة في ذكر قسمهم الذي أقسموا في القرآن ؛ وجعل ذلك آية تتلى؟ وذلك القسم الذي أقسموا كان بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وهم علموا ذلك ليس كالأنباء والقصص التي كانت من قبل ، إذ كان ذلك شيئا غاب عنه لم يشهدها ؛ فأخبرهم (١) على ما كان ، ففي ذلك إثبات رسالته ونبوّته؟

فالحكمة والفائدة من (٢) ذكرها في القرآن ؛ وجعلها آيات تتلى ؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.

وأمّا القسم الذي أقسموا ليس فيه ما ذكرنا من إثبات الرسالة ؛ وهم قد علموا ذلك ؛ فما الفائدة في ذكره؟

قيل : يشبه أن يكون ذكره لنا ـ عزوجل ـ لنعلم نحن عظيم سفه أولئك ؛ وقلة عقولهم (٣) ، وحلم الرسول واحتمال ما احتمل منهم من الأذى والمكروه ؛ لنعلم نحن أن كيف يعامل السفهاء ؛ وأهل الفساد ؛ والعصاة من الناس ؛ على ما عامل رسل الله أقوامهم ؛ مع عظيم سفههم وقلة عقلهم ، فذلك فائدة ذكر قسمهم في القرآن قد تكلف أولئك الكفرة الكبراء منهم في تلبيس [الآيات والحجج](٤) التي أتت بها الرسل : مرة بالقسم الذي ذكر ؛ حيث أقسموا بالله جهد أيمانهم أنه لا يبعثون ، ومرة بالنسبة إلى السحر ، ومرة بالافتراء ، ومرة بالنسبة إلى الجنون ، وفي الإنباء بأنه إنما يعلمه بشر منا ، يريدون بذلك التلبيس على الأتباع.

ثم البعث واجب بالعقل ، والحكمة ، وأخبار الرسل ؛ إذ ليس خبر أصدق من أخبار الرسل وآثارهم ، وهم ممن يقبلون الأخبار ، فأخبار الرسل أولى بالقبول والتصديق من غيرهم ؛ لأن معهم آيات صدقهم ودلالات تحقيقهم.

وأما العقل فهو أن كون (٥) هذا العالم وإنشاءه للفناء خاصة خارج عن الحكمة ، إذ كل عمل لا يكون له عاقبة [حميدة](٦) عبث ، وهو كما قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) الآية [المؤمنون : ١١٥] أخبر أنه إذا لم يكن رجوع إليه يكون خلقه إياهم عبثا.

__________________

(١) في ب : فأشهدهم.

(٢) في أ : في.

(٣) في ب : عقلهم.

(٤) في ب : الحجج والآيات.

(٥) في أ : يكون.

(٦) سقط في أ.

٥٠٤

وأما الحكمة فهى أن الانتقام لأوليائه من الظلمة واجب لظلمهم ، والإحسان لأهل الإحسان ، فلو لم يكن بعث والحياة بعد الموت ؛ لينتقم من الظالم لظلمه ، ويجزى المحسن لإحسانه يذهب فائدة الترغيب على الطاعة والإحسان ، ووعيد الظالم بالانتقام ، فالبعث واجب ؛ للوجوه التي ذكرنا ، والتفريق بين الأولياء والأعداء ؛ وقد جمعهم في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما.

وقوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

ذكر أن مشركي العرب كانوا [لا](١) يقسمون بالله إلا فيما يعظم من الأمر ، ويشتد (٢) عليهم ؛ تعظيما له وإجلالا ؛ إنما كانوا يقسمون بالأصنام والأوثان التي عبدوها ، فإذا حلفوا بالله فذلك جهد أيمانهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا).

قوله : (بَلى) ردّ على قولهم : (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [فقال](٣) : بلى يبعث.

وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا).

يحتمل (وَعْداً) : أي : وعد أنه يبعثهم ، فحق عليه أن ينجز ما وعد ، أو حقّا عليه أن يعد (٤) البعث والإنجاز له ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه نفى عنهم العلم لما لم ينتفعوا بعلمهم ، فهو كما نفى عنهم السمع والبصر وغيرهما من الحواس ؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع ما لذلك كان خلقها ، فنفى ذلك عنهم.

والثاني : نفى عنهم ذلك على حقيقة النفي ؛ لأنهم لم ينظروا ؛ ولم يتأملوا في الآيات والأسباب التي [بها](٥) جعل لهم الوصول إلى العلم ، فلم يعلموا ، ثم لم يعذرهم بجهلهم ذلك ؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالنظر والتأمل في الآيات والحجج ، لكنهم شغلوا أنفسهم في غيرها ، ولم ينظروا في الأسباب التي جعلها لهم سبيل الوصول إليه ، فهذا يدل أن من جهل أمر الله ونهيه يكون مؤاخذا به ؛ بعد أن جعل له سبيل الوصول إليه بالدلائل والإشارات ، فلا يخرج مؤاخذته إياه ؛ وعقوبته بترك أمره عن الحكمة ، وأما

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ويشبه.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بعد.

(٥) سقط في أ.

٥٠٥

في الشاهد من أمر عبده (١) شيئا ؛ ولم يعلمه ما أمره ، ثم عاقبه بذلك ؛ فهو خارج عن الحكمة ؛ إذ لا سبيل [إلى](٢) الوصول بما أمر به إلا بالتصريح ، ولم يكن منه تصريح إعلام ، لذلك كان ما ذكر ؛ ألا ترى أنه أوعد لهم [الوعيد](٣) الشديد في الآخرة بقوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ).

يحتمل قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ليعلم أتباعهم أن الرؤساء كانوا كاذبين ، وإلا كان الرؤساء منهم كانوا كاذبين عند أنفسهم. أو أن يكون قال ذلك لما ادعى أولئك الكفرة أن الآخرة لهم ؛ كقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ...) الآية [فصلت : ٥٠] فقال جوابا له : ليعلم الذين كفروا منهم أنهم كانوا كاذبين ؛ لادعائهم الآخرة لأنفسهم (٤).

ثم قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ).

قال بعضهم : إنما اختلفوا في البعث : منهم من صدقه ، ومنهم من كذبه يقول (٥) : يبين لهم ذلك.

ويحتمل قوله : (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي : في الدين والمذهب ؛ لأنهم اختلفوا في الدين والمذهب ، وكل من ادعى دينا ومذهبا ؛ حتى دعا غيره إلى دينه ومذهبه يتبين لهم المحق منهم من غيره ؛ والصادق منهم من الكاذب.

وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ).

يحتمل كفرهم بالبعث ؛ وإنكارهم إياه ، أو كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو وحدانية الله (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ).

في إنكار ما أنكروا ، يتبين لهم ذلك في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

يخبر عن سرعة نفاذ أمره ، وسهولة الأمر عليه ، أنه يكون أسرع من لحظة بصر ولمحة عين وفيه دلالة أن خلق الشىء ليس هو ذلك الشيء ؛ لأنه عبّر ب (كن) عن تكوينه ، ويكون عن المكون ، وكذا كنى عنه بالشيء ؛ لقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) فكنى عنه بوقوع القول

__________________

(١) في أ : وعيده.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : لنفسهم.

(٥) في أ : بقوله.

٥٠٦

عليه ، والتكوين ثبت أن التكوين غير المكون ، ثم لا يخلو من أن يكون التكوين بتكوين آخر إلى ما لا نهاية له ، أو لا بتكوين ، وقد بينا فسادهما جميعا ، وهما وجها الحديث ، ثبت أن الله تعالى به موصوف في الأزل ، وبالله التوفيق.

والثاني : من فعله كسب سمي كاسبا ، ومن فعله باسم سمي به ، فلو كان فعل الله كلية الخلق يسمى به ، فيسمى ميتا ، متحركا ساكنا ، خبيثا طيبا ، صغيرا كبيرا ، ونحو ذلك ، فإذا كان يتعالى عن ذلك (١) وقد سمي فاعلا ، مميتا محييا ، محركا مسكنا ، جامعا مفرقا ؛ ثبت أن فعله غير مفعوله ، وأنه بذاته يفعل الأشياء ؛ لا بغيره ، وفي ذلك لزوم الوصف له به في الأزل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).

كان ظلمهم إياهم على وجوه :

منهم من ظلم بالإخراج من الدّيار والطرد من البلد ؛ كقوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ...) الآية [الممتحنة : ٩] ومنهم من ظلم بالمنع عن (٢) الهجرة ، ومنهم ظلم بالمنع عن إظهار الإسلام ؛ والعمل له ، وأنواع ما أوذوا وظلموا بإظهارهم الإسلام ، وإجابتهم رسول الله ، واتباعهم إياه.

ثم وعد لهم في الدنيا حسنة ؛ فقال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : قيل : لنعطينهم ، وقيل (٣) : لنرزقنهم ، وهو واحد.

(فِي الدُّنْيا حَسَنَةً).

تحتمل الحسنة في الدنيا العزّ بعد الذل ، والسعة بعد الضيق ، والشدة والنصر والغلبة لهم بعد ما كانوا مقهورين مغلوبين في أيدي الأعداء ، والذكر والشرف بعد الهوان ، هذه الحسنة التي بوّأهم في الدنيا.

__________________

(١) في أ : هذا.

(٢) في أ : من.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير (٢١٥٩٣) ، (٢١٥٩٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢١).

٥٠٧

والمهاجرة : المقاطعة ؛ كأنه قال : والذين قاطعوا أرحامهم ، وأقاربهم ، وأموالهم ، ومكاسبهم ، وديارهم ، فأبدل الله لهم مكان الأرحام والأقارب أخلاء وإخوانا ، ومكان أموالهم أموالا أخرى ، وكذلك الدور وكل شيء تركوا هنالك ؛ فأبدلهم مكان ذلك كله.

وأما قوله : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

يشبه أن يكون ذكر هذا عن حسد كان من الكفرة للمهاجرين ؛ لما أنزلهم في المدينة ، وبوأهم فيها ، وأعزهم ، ورفع ذكرهم ، وأمرهم ، ونصرهم حسدهم أهل الكفر بذلك ، فعند ذلك قال : ولأجر الآخرة لهم أكبر وأعظم في الآخرة ، لو كانوا يعلمون ما وعد لهم في الآخرة.

ويحتمل أيضا قوله : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) هؤلاء المهاجرون فيخفّ عليهم احتمال ما أوذوا وظلموا ، ويهون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

قال الحسن (١) : أي : على ربهم يثقون (٢) في إنجاز ما وعد لهم في الآخرة أنه ينجز ذلك. ويحتمل قوله : (صَبَرُوا) على أمره ، أو صبروا على الهجرة ، وانقطاع ما ذهب عنهم ، وفراق ما كان لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ).

هذا ـ والله أعلم ـ يكون على إثر أمر كان من الكفرة ، نحو ما قال أهل التأويل : أنهم قالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١] ، ونحوه ؛ من كلامهم ، فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : [إلا بشرا ، أي : لم نرسل من غير البشر ، فيكون قوله : (إِلَّا رِجالاً) كناية عن البشر ، أو أن يكون قوله : (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي :](٣) لم يبعث من النساء رسولا إنما بعث الرسل من الرجال إلى الرجال والنساء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

قال بعضهم : ليس على الأمر بالسؤال ، ولكن لو سألتم أهل الذكر لأخبروكم أنه لم يبعث الرسول من قبل إلا من البشر.

وقال بعضهم : هو على الأمر بالسؤال ؛ أي : اسألوا أهل الذكر فتقلدوهم ؛ أي : إن كان

__________________

(١) قاله ابن جرير بنحوه (٧ / ٥٨٦) ، دون أن ينسبه لأحد.

(٢) في أ : يتقون.

(٣) سقط في أ.

٥٠٨

لا بد لكم من التقليد فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم ؛ ولا تقلدوا آباءكم ومن لا يعرف الكتاب ، ولكن قلدوا أهل الذكر ، [وقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)](١).

قال بعضهم : فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم ؛ إن كنتم لا تعلمون بالبينات والحجج ؛ لأنهم كانوا أهل تقليد ، لم يكونوا أهل نظر وتفكر في الحجج والبينات.

ويحتمل أن يكون قوله : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) والحجج (٢) التي أتت بها الرسل [فيكون تأويله : أي اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون البينات والزبر التي أتت بها الرسل ليخبروكم](٣) أن الرسل إنما بعثوا من البشر بالبينات والكتب ، فيكون على التقديم الذي ذكره بعض أهل التأويل : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر.

ويحتمل قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي : أهل الشرف من أهل الكتاب ؛ ليبينوا لكم البينات والزبر ؛ لأنهم يأنفون الكتمان والكذب ، وإن كان أهل الذكر جميع أهل الكتاب ، فالسؤال عن الرسل أنهم كانوا من البشر والرجال ؛ لأنهم يعلمون ذلك.

وقوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ).

قيل : أنزل إليك القرآن ؛ لتبين للناس ما نزل إليهم.

يحتمل قوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) من أنباء الغيب ؛ وما غاب عنهم ، وما لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض ، ولتبين (٤) لهم جميع ما يأتون وما يتقون ، وما يحل وما يحرم.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك.

ويحتمل قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ) لهم ما حرفوا من كتبهم وبدلوه وغيروه ، فيكون فيه آية لرسالتك ، أو يكون الذي أنزل إليه كالمنزل إليهم ، حيث ذكر أنه يبين ما أنزل (٥) إليه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : الزبر.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : وتبين.

(٥) في أ : لهم نزل.

٥٠٩

قوله : (أَفَأَمِنَ).

قد ذكرنا أنه حرف استفهام ؛ إلا أنه من الله غير محتمل ذلك ، وهو على الإيجاب (١).

ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : على الخبر أنهم قد أمنوا مكره.

والثاني : على النهي ؛ أي : لا تأمنوا ؛ كقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩].

هذا يشبه أن يكون على هذا الذي ذكرنا أنه إخبار عن أمنهم مكر الله ، وعلى النهي ألا يأمنوا ، ثم أخبر أنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون الكافرون ؛ لأنهم كذبوا الرسل فيما أوعدوا لهم من العذاب ، فأمنوا لذلك ، أو لما لم يعرفوا الله ، ولم يعرفوا حقوقه ، ونعمته ، ونقمته ، فأمنوا لذلك وأمّا من عرف الله ؛ وعرف حقه ، ونعمته ، وعرف نقمته ؛ فإنه لا يأمن مكره ، والله أعلم.

ثم قوله : (مَكَرُوا السَّيِّئاتِ).

قال بعضهم : مكرهم السيئات : هو ما مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما لو أصابهم ذلك لساءهم ، وما ظاهروا عليهم عدوهم.

وقال بعضهم (٢) : مكرهم السيئات : هو أعمالهم التي عملوها ، وكل ذلك قد كان منهم ، كانوا مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وكانوا ظاهروا عليهم عدوهم ، وقد عملوا أعمالهم الخبيثة السيئة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ).

أي : أمنوا حين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ، أو يأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون في الحال التي لا يكون لهم أمن ولا خوف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ).

قيل (٣) : في أسفارهم وفي تجاراتهم ؛ لأن الناس إنما يسافرون ويتجرون في البلدان في حال أمنهم.

__________________

(١) في ب : الإيجاب ذلك.

(٢) قاله الضحاك بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢٣).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٦١٤) ، وعن قتادة (٢١٦١٥) ، و (٢١٦١٦) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٢٣).

٥١٠

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ).

قال بعضهم : على تقريع ، وقال : على تنقيص (١) من الأموال وغيره ؛ كقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥] وقال بعضهم : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي (٢) : يأخذ قرية فقرية ؛ وبلدة فبلدة ، حتى يأتي قريبا منهم ، ثم يأخذهم ، كلما أخذ قرية كان لهم من ذلك خوف ، فذلك أخذ بتخوف ، وهو ما قال : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ...) الآية [الرعد : ٣١] وعد الله حلوله قريبا من دارهم ، كان يخوفهم حتى نزل بساحتهم ، فذلك أخذ بالتخوف ، يخبر أن عذابه لا يؤمن حلوله وأخذه إياهم في كل حال ؛ في الحال التي ليس لهم أمن ولا خوف ؛ أي : لم يغلب هذا على هذا ، وفي الحال التي يكونون آمنين في تقلبهم وحوائجهم ، وفي الحال التي يكونون متخوفين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

حيث لم يستأصلكم ، ولم يأخذكم بما كان منكم من الافتراء على الله ، والتكذيب لرسله ، والمكابرة ، والمعاندة لآياته وحججه وقتئذ ، ولكن أمهلكم وأخر ذلك عنكم.

أو رءوف رحيم إذا تبتم ورجعتم عما كان منكم يرحمكم ويغفر لكم ذلك.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ).

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا).

يحتمل وجهين :

أحدهما : أن قال ذلك لقوم قد تقرر عندهم وثبت أن كل شيء يسجد لله ويخضع له ، فقال ذلك لهم على العتاب : إنكم قد علمتم أن كل شيء لم يركب فيه العقل ، ولم يجعل فيه الفهم والسمع يخضع لله ويسبح له ، فأنتم لا تخضعون له مع ما ركب فيكم العقول

__________________

(١) في ب : تنقص.

(٢) في ب : أن.

٥١١

وجعل فيكم الأفهام وغيرها.

والثاني : على الأمر ؛ أي : اعلموا أن كل شيء من خلق الله يسجد له ويخضع ، وقد أقام عليهم (١) من الحجة على ذلك ما لو تأملوا وتفكروا لعلموا أن كل ذلك يخضع ويسبح ، وإلا ظاهر قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) أن يقولوا : لم تر أن كان الخطاب لأهل مكة على ما ذكره أهل التأويل ، لكن يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرتهما ، ويشبه أن يكون ذكر قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ ...) الآية لما استوحش أهل الإسلام مما عبد أولئك الكفرة الأصنام ، وعظيم ما قالوا في الله ما قالوا ، فقال لذلك : أولم يروا إلى كذا.

وقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ).

قال بعضهم : يريد بالظلال شخص ذلك الشيء ، والظلال كناية عن الشخص ، كما يقال : رأيت ظل فلان ؛ أي : شخصه.

وقال بعضهم : أراد بالظل الظلّ نفسه ، لكن خضوعه وسجوده يكون للشمس والقمر.

وعلى تأويل من يجعل الظل كناية من الشخص يجعل كل نفس تفيء خضوعا وسجودا.

ثم معنى سجود : هذه الأشياء الموات وخضوعهن ، من نحو قوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ).

ومن نحو قوله : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) [ص : ١٨] وقوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٥] وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠] وأمثاله.

يحتمل وجوها :

أحدها : أن يجعل الله ـ عزوجل ـ بلطفه في سرية هذه الأشياء معنى تعلم السجود لله والخضوع له ، وهو كما ذكر في الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، أخبر أنها تجرى بأمره ، دل أنها تعلم أمر الله.

وقوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢٠ ، ٢١].

أخبر أنها تشهد وتنطق ، ولو [لا](٢) أنها تفهم وتعلم الخطاب ؛ وإلا ما خوطبت ، وإن

__________________

(١) في أ : لهم.

(٢) سقط في أ.

٥١٢

كانت مواتا فعلى ذلك تسبيحها وخضوعها جائز أن يكون الله يجعل في سرية هذه الأشياء ما تعرف السجود والتسبيح وتفهمه.

والثاني : يكون سجود هذه الأشياء وتسبيحها بالتسخير ، جعلها مسخرات لذلك ، وإن لم تعلم هي ذلك ولم تعرف ، لكن جعلها بالخلقة كذلك.

والثالث : أنه جعل [خلقة](١) هذه الأشياء دالة وشاهدة على وحدانية الله وألوهيته ، فهن مسبحات لله وساجدات وخاضعات له ؛ بالخلقة التي جعلها دالة وشاهدة على وحدانية الله وألوهيته ، هذا ـ والله أعلم ـ معنى سجودهن وخضوعهن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ داخِرُونَ).

قيل : صاغرون ذليلون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ أنه يسجد له أعلى الخلائق وأعلمهم وهم الملائكة ، ويسجد له أشد الخلق وأصلبه وهو الجبال والسموات والأرض ، ويسجد له أيضا ويخضع أسفه (٢) الخلق وأجهله وهو الدواب (٣) وغيرها ، وأنتم أبيتم [السجود له](٤) والخضوع ، واستكبرتم عن عبادته ، فهؤلاء الذين ذكرهم يسجدون ، يخبر عن سفه أولئك في إبائهم السجود له والخضوع ، واستكبارهم عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

قال بعضهم (٥) : خوف الملائكة والرسل خوف هيبة الله وجلاله لا خوف نزول شيء من نقمته عليهم ، وخوف غيرهم من البشر خوف نزول شيء يضر بهم ، وكذلك رجاؤهم وطمعهم رجاء نفع يصل إليهم ، ورجاء الملائكة والرسل ، وطمعهم رجاء رضاء الله عنهم لا رجاء نفع يصل إليهم.

وقال بعضهم : يخافون خوف العقوبة والانتقام ؛ لأنهم ممتحنون ، وكل ممتحن يخاف عذاب الله ونقمته ، ألا ترى أنه كيف أوعدهم الوعيد الشديد وقال : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : سفه.

(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٧٣).

(٤) في ب : له السجود.

(٥) قاله ابن عباس أخرجه الخطيب في تاريخه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢٥).

٥١٣

إِلهٌ مِنْ دُونِهِ ...) الآية [الأنبياء : ٢٩] وقال إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] خاف عبادة غير الله ، ومن خاف ذلك يخاف وعيده وعذابه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

الفوق ، والتحت ، والأسفل ، ونحوه في الأمكنة والمجلس ليس فيه فضل عز وشرف ومرتبة ؛ لما يجوز أن يكون الذي كان فوق هذا في المكان والمجلس تحته وأسفل منه ؛ فلا يزداد لهذا بما صار فوقه عز وشرف ومرتبة ، ولا لهذا بما كان تحته ذل ، وهوان ؛ لأنه لا يفهم من فوقه : فوق المكان ولا تحته ؛ لأن من صعد الجبال والأمكنة المرتفعة لا يوصف بالعلو والعظمة ، وإذا قيل : فلان أمير على العراق أو على خراسان كان في ذلك تعظيم ؛ لأنه ذكر بالقدرة والسلطان ونفاذ أمره ومشيئته وقدرته وسلطانه فيهم ، أو اطلاعه على جميع ما يسرّون [ويضمرون ، ويعلنون](١) ويظهرون ، وعلمه على جميع أفعالهم على هذا يجوز أن يتناول الفوق ، والله أعلم.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

وصفهم الله ـ عزوجل ـ بفضل خضوعهم له وطاعتهم إياه ، وهو ما قال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] وهو ما قال : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، ومثله.

قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)(٥٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).

لا نعلم الخطاب بهذا أنه [لمن كان](٢) الخطاب بهذا ألأهل مكة ؛ فهم [قد](٣) اتخذوا آلهة بقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ...) الآية [ص : ٥] إلا أن يخاطب به الثنوية والزنادقة ، فإنهم يقولون باثنين ، ويشبه أن يكون (٤) أهل مكة وإن اتخذوا آلهة فإنهم في

__________________

(١) في ب : ويعلنون ويضمرون.

(٢) في ب : لمن أن كان.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : يكونوا.

٥١٤

الحقيقة عباد إلهين ؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون تلك الأصنام بأمر الشيطان وطاعتهم إياه ، فنسب العبادة إليه ؛ لما بأمره يعبدون هذه الأصنام والله أعلم ؛ ألا ترى أن إبراهيم قال لأبيه : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] وإن كان في الظاهر لا يعبد الشيطان ، لكن لما بأمره يعبد الأصنام أضاف العبادة إليه ، أو أن يكون المراد من ذكر اثنين : إنما هو على الزيادة على الواحد ، كأنه قال : لا تتخذوا ولا تعبدوا أكثر من إله واحد (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

لا تخافون الأصنام التي تعبدونها ؛ فإنكم إن تركتم عبادتها لا تضركم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أي : وله يخضع ما في السموات والأرض وأنتم لا تخضعون ، أو ما في السموات والأرض كلهم عبيده وإماؤه ؛ فكيف أشركتم عبيده في ألوهية الله تعالى وربوبيته؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً).

قال بعضهم (٢) : دائما ؛ لأن غيره من الأديان كلها يبطل ويضمحل ، ويبقى دينه في الدارين جميعا.

وقال بعضهم (٣) : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي : مخلصا ، من الوصب [والنصب](٤) والتعب ، وتأويله ـ والله أعلم ـ : أي : وله دين لا يوصل إليه إلا بتعب وجهد ؛ فاجتهدوا واتعبوا ؛ لتخلصوا له الدين ؛ هذا معنى قوله : (مخلصا).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ).

أي : أمخالفة غير الله تتقون ؛ أي : لا تخافوا ولكن اتقوا مخالفة [الله لا تتقوا مخالفة](٥) غيره.

أو يقول : لا تخافوا غير الله ولا تتقوا سواه ، ولكن اتقوا الله واتقوا نقمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).

أي : تتضرعون ؛ يخبر عن سفههم وقلة عقلهم أنهم يعلمون أن (٦) له ما في السموات والأرض ، وأن كل ذلك ملكه ، وأن ما لهم من النعمة منه ، وأن ما يحل بهم من البلاء

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٧٧ ، ٧٨).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢١٦٤٢) ، وعن عكرمة (٢١٦٤٣) ، و (٢١٦٤٤) ، ومجاهد (٢١٦٤٥) ، و (٢١٦٤٦) ، وغيرهم وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٢٥).

(٣) قاله مجاهد بنحو أخرجه ابن جرير عنه (٢١٦٥٣) و (٢١٦٥٤).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : أنه.

٥١٥

والشدة هو الكاشف لهم والدافع عنهم ، ثم يكفرونه ويصرفون (١) شكرها منه إلى غيره في حال الرخاء والسعة ، ويؤمنون به في حال الشدة والبلاء ؛ فيقول : أنا المنعم عليكم تلك النعم ، وأنا المالك للكشف (٢) عنكم لا الأصنام التي عبدتموها ، فكيف كفرتم بي في وقت الرخاء والسّعة وآمنتم بي في وقت الضيق والبلاء؟! كانوا يخلصون له الدين في وقت ويشركون غيره في وقت ، فيقول : أديموا لي الدين بقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) ولا تتركوا الإيمان بي في وقت وتؤمنوا بي في وقت ، وكذلك كان عادتهم : كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة ، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة ؛ كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ ...) [العنكبوت : ٦٥] الآية.

ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى ؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف ، ففرض عليهم القتال معهم ؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان ، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجا فوجا ، وكان قبل ذلك يدخل فيه واحدا واحدا.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [حيث](٣) قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند الله ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعلوا ما آتاهم الله وأنعم عليهم سبب كفرهم بالله.

والثاني : يكفرون بنعم الله ـ تعالى ـ بعبادتهم الأصنام ، وصرفهم الشكر عنه.

ويشبه أن يكون إخباره عن سفههم من وجه آخر ؛ وهو أنهم لم يروا في البشر أحدا يطاع ويخضع إلا أحد رجلين : دافع بلاء عنه ، أو جارّ نفع إليه ، فالأصنام التي عبدوها ليس منها دفع بلاء ولا جرّ منفعة ، فلما ذا يعبدونها؟

وقال أبو بكر : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) : [أي](٤) بالقرآن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

هذا وعيد من الله لهم ، يقول : فسوف تعلمون ما ينزل بكم من كفران نعمة وصرف

__________________

(١) في أ : ويعرفونه.

(٢) في أ : عن الكشف.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

٥١٦

الشكر عنه أنه مهلكهم ومنزل بهم (١) عذابه.

وفي قوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).

أي : تتضرعون ، موعظة للمؤمنين أيضا ؛ لأنهم يجعلون يتضرعون إلى الله إذا أصابهم الضر والبلاء ، وإذا انكشف ذلك عنهم تركوا ذلك التضرع ونسوا ربهم ؛ فيعظهم لئلا يصنعوا مثل صنيع أولئك ، يقول والله أعلم ؛ أي : تعلمون أن ما بكم من نعمة فمن الله ؛ فكيف تصرفون شكرها إلى غيره في حال؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَجْعَلُونَ) أي : يقولون (لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ).

[قال بعضهم (٢) : يجعلون للأصنام والأوثان التي يعبدونها نصيبا مما رزقناهم](٣) من الأنعام والحرث وغيره الذي جعل الله لهم.

ولا يعلمون لهم نصيبا في ذلك ؛ وهو كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] حرموا على أنفسهم ما جعل الله لهم وجعلوه لآلهتهم.

ويحتمل قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) وهو الشيطان ؛ أي : ما يجعلون للأوثان ، فذلك للشيطان في الحقيقة ، لأنه هو الذي أمرهم بذلك ، وهو الذي دعاهم إلى ذلك ، وهو كقوله : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ، لكنهم إذا عبدوا الأوثان فكأن (٤) قد عبدوا الشيطان ؛ لأنه هو أمرهم بذلك ، وهو دعاهم إلى ذلك ، فعلى ذلك ما يجعلون للأوثان ذلك للشيطان لما ذكرنا ، لكن لا يعلمون أن ذلك له نصيب.

ويحتمل قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) أي : يعلمون أن ليس لها نصيب في ذلك ، ولكن يجعلون ذلك لها على علم منهم أن لا نصيب للأوثان في ذلك ، وهو كقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أي : أتنبئون الله بما يعلم أنه ليس ونحوه ، أي : يعلم غير الذي تنبئون ، وقد ذكرنا قوله : (يَجْعَلُونَ) على القول ، أي : يقولون : وإلا لا يملكون جعل ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).

__________________

(١) في ب : به.

(٢) قاله مجاهد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢١٦٥٨) و (٢١٦٥٩) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢٢٦).

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : كان.

٥١٧

يحتمل قوله : (تَفْتَرُونَ) : تسميتهم الأصنام آلهة ، ويحتمل افتراؤهم على الله ما قالوا : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] زعموا [أن ما](١) فعل آباؤهم [وفعلوا هم](٢) كان بأمر من الله ورضاه ؛ حيث تركهم على ذلك ، فذلك افتراؤهم.

وقوله : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).

يحتمل السؤال الجزاء ؛ أي : تالله لتجزون عما كنتم تفترون ، ويحتمل السؤال سؤال حجة ، يسألون على ما ادعوا على الله من الأمر الحجة على ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٦٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ).

أي : يقولون : لله البنات ، يخبر عن شدة سفههم ؛ حيث يأنفون ويستحيون عن البنات ، ثم ينسبون ذلك إلى الله ويضيفونها إليه ، يصبر رسوله على أذى الكفرة ؛ حيث قالوا فيه ما قالوا : إنه ساحر ، وإنه مفتر ، ونحوه ، على علم منهم ويقين أنه ربهم وخالقهم ، فمن أنكر رسالته أولى بالصبر على قوله والحلم منه.

(سُبْحانَهُ).

كلمة تنزيه عمّا قالوا فيه ، وحرف تعجيب ؛ حيث نسبوا إلى الله ما كرهوا (٣) لأنفسهم [(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) : يجعلون لأنفسهم البنين ويجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).

__________________

(١) في أ : أنه.

(٢) في أ : وفعلهم.

(٣) في أ : يكرهون.

(٤) سقط في أ.

٥١٨

قال بعضهم : قول العرب : قبح الله وجهك ، وسوّد الله وجهك ليس على إرادة [السواد والقبح](١) ، ولكن على إرادة ما يكرهه.

وقال الحسن (٢) : قوله : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي : متغيرا من الغم وهو كظيم : أي : حزين ، وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بهم الحزن والغم ، يظهر ذلك في وجوههم قبحا وسوادا (٣).

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ).

يذكر فيه كيف يصنع به : أيمسكه على هون أي : على هوان يضر به ويسيء صحبته أم يدسّه في التراب وهو حي ؛ فيقول : إن ربي اختار البنات فأبعث بها إلى ربى ، فإنه أحق بها ، وهي الموءودة التي قال الله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) [التكوير : ٨] وإنما كانوا يصنعون ذلك خشية إملاق ؛ كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في جعلهم لله ما كرهوا لأنفسهم ، أو في قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ، أو في قولهم : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ).

قال بعضهم : قوله : (مَثَلُ السَّوْءِ) أي : لهم جزاء السوء ؛ وهو النار.

وقال الحسن : مثل السوء : أي : صفة السوء التي وصفوا بها ربهم أنه اختار البنات.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى).

أي : الصفة الأعلى التي ليس لها شبه ؛ فإن تلك الصفة من صفته ، ويشبه أن يكون قوله : (مَثَلُ السَّوْءِ) بما سمّاهم مرة موتى ، ومرة فسقة ، ومرة ظلمة ، ومرة هم في الظلمات ، وأمثاله ، لهم ذلك الوصف بما أنكروا الآخرة ، وذلك مما توجبه (٤) الحكمة والعقل والشريعة ، فلهم ذلك الوصف والمثل السوء ؛ بما أنكروا ما توجبه الحكمة والعقل والشريعة.

ويحتمل (مَثَلُ السَّوْءِ) : شبه السوء.

ويحتمل (مَثَلُ السَّوْءِ) : النعت والصفة ، فإن كان هو على الشبه فهو في الدنيا ؛ لما

__________________

(١) في ب : القبح والسواد.

(٢) قاله البغوي (٣ / ٧٣) ، دون أن ينسبه لأحد.

(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٨٩ ، ٩٠).

(٤) في أ : يوجب.

٥١٩

شبههم في غير [آي من القرآن](١) بالشجرة الخبيثة والكلمة الخبيثة ، وبالرماد وبالزبد والتراب ، ونحوه.

وإن كان على النعت والصفة فهو في الآخرة ، وهو ما ذكر : الذي يحشرون على وجوههم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى). أي : لأولياء الله المثل الأعلى ، وهم المؤمنون ، لا أن الله وصف المؤمنين بالحياة ، والنور ، والعدل ، وغير ذلك من الأسماء الحسنة ، وذلك لله في الحقيقة ، لكنه بفضله ومنه وصفهم وسماهم بذلك ، فأضيف إلى الله ؛ لما بفضله (٢) استوجبوا لا باستحقاق أنفسهم. وكذلك قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] أضيف ذلك إليه ؛ لما بفضله يستوجبون تلك الأسماء التي سماهم. ويحتمل قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) : أي : لأولياء الله المثل الأعلى ، كأنه قال : وللذين يؤمنون بالآخرة مثل الأعلى ، مقابل ما ذكر ؛ حيث قال : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الحسن : العزيز بالغلبة منه في الأشياء كلها على ما أمره ، وكل شيء دونه ذليل ، الحكيم بالعدل منه في كل قضاء قضى وقد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في هذا الموضع كأنه قال : وهو العزيز بنفسه لا بخلقه وأوليائه ؛ كما يكون لملوك الأرض ؛ يكون [عزهم بخدمهم وحشمهم](٣) ، فإذا ذهبوا أو عصوه [يصير](٤) مقهورا مغلوبا ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو عزيز بذاته.

والحكيم : أي : إنشاؤه العصاة منهم على علم منه بذلك ، لم يخرج ذلك على غير الحكمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ).

دل قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أنّ له أن يستأصلهم ويهلكهم بما كان منهم ؛ لكنه ـ بفضله ـ تركهم إلى المدة التي ضرب لهم ؛ لأنه لو لم يكن له ذلك لم يكن للوعيد الذي (٥) أوعد معنى.

وقال أبو زيد البلخى : إن الله بما أوعد من الوعيد ليس يوعد لمضرة نفسه ولا لنفع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يفضله.

(٣) في ب : خدمهم بعزهم وحشمهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : التي.

٥٢٠