تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وبالله يوصل بقصد السبيل ؛ وهي السبل التي ذكرنا ، (وَمِنْها جائِرٌ) كقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام : ١٥٣].

وقال بعضهم (١) : طريق الحق والعدل لله ، وقد يستعمل حرف (على) مكان (له) كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] أي : للنصب وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٢٩] أي : لربهم ، كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] [(وَمِنْها جائِرٌ) : وهي السبل المتفرقة عن سبيله](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

قد ذكرنا تأويله ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : لو شاء أكرم الخلق كله اللطف الذي أكرم أولياءه ؛ فاهتدوا به ؛ فيهتدون.

والثاني : لو شاء أعطاهم جميعا الحال التي يكون بها الاهتداء ؛ وهو ما قال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف : ٣٣] إلى آخر ما ذكر ؛ لما لا يحتمل أنه إذا كان ذلك مع الكفار لكفروا جميعا ، وإذا كان تلك الحال للمسلمين لا يسلمون.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) موصول بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ، وقوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ).

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢١٤٩٣ ، ٢١٤٩٤) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٩).

(٢) سقط في ب.

٤٨١

يقول : الذي خلق لكم ما ذكر من الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء لكم ؛ منه شراب ، ومنه شجر هذا يحتمل ما ذكرنا : أنه أنزل من السماء ماء [لنا](١) ؛ ثم أخبر أنه منه شراب ، ومنه شجر.

ويحتمل : هو الذي أنزل من السماء ماء ، ثم أخبر : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ).

ثم يحتمل قوله : (مِنْهُ شَرابٌ) جميع ما يشرب من الأشربة ؛ إذ منه تكون الأشربة جميعا ؛ وجميع الأشياء.

ويحتمل (مِنْهُ شَرابٌ) الماء خاصة.

(وَمِنْهُ شَجَرٌ) : الشجر : معروف ؛ هو الذي يعلو ويرتفع في الأرض ؛ لا يسمى الحشيش وما ينبسط (٢) على وجه الأرض شجرا ، فظاهر هذا أن يرجع إلى ذلك المعروف ؛ إلا أنه ذكر شجرا (فِيهِ تُسِيمُونَ) : أي : تزرعون ، دل هذا أنه إنما أراد بالشجر المنبسط على وجه الأرض والمرتفع عليها.

وقال القتبي (٣) : السائمة : الراعية ، وكذلك قال أبو عوسجة ، وقال أبو عبيدة (٤) : أسمت سائمتى : أي : رعيتها ؛ وكذلك قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤] أي : الراعية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ).

أي : ينبت لكم بالماء الذي ذكر أنه أنزل من السماء الزرع ، والزيتون ، وجميع ما ذكر ، جعل الله ـ بلطفه ـ الماء لقاح كل الأشياء المختلفة والمتفقه ، ليس كغيره من الدوابّ ؛ حيث لم يجعل لقاح شيء من جنس آخر ، إنما جعل لقاح كل نوع من نوعه ، وجعل في الماء بلطفه سرية توافق جميع الأشياء المختلفة ، لو اجتمع الخلائق على إدراك ذلك ـ وإن اجتهدوا ـ لم يقدروا عليه ، يعرفون الماء ظاهرا ؛ ولكن لا يدركون ما فيه من اللطف والسرية ؛ التى (٥) يكون بها حياة كل أحد وموافقته.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ذكر أن فيه آية لقوم يتفكرون ، ولم يذكر أنه لما ذا؟ لكنه ذكر أنه آية لقوم يتفكرون ؛

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يبسط.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٢).

(٤) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٥٧).

(٥) في أ : الذي.

٤٨٢

بالتفكر يعرف أنه آية لما ذا ، وهذا يدلّ على أن الأشياء التي غابت عنا ظواهرها بالتفكر والنظر تدرك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) وما ذكر.

ووجه تسخير هذه الأشياء لنا : هو أن الله خلق هذه الأشياء ، وجعل فيها منافع للخلق ؛ تتصل تلك المنافع إلى الخلق شئن ؛ أو أبين أحببن (١) أو كرهن ؛ جعل في النهار معاشا للخلق ؛ وتقلبا فيه يتعيشون ويتقلبون ، وجعل الليل راحة لهم وسكنا ، ينتفعون بهما شاءا أو أبيا ، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع : من إنضاج الفواكه والثمرات ، وإدراك الزروع وبلوغها ، ومعرفة الحساب والسنين والأشهر (٢) ، ومعرفة الطرق والسلوك بها ، وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه ، ينتفع الخلائق بما جعل فيها من المنافع شاءت هذه الأشياء أو أبت ، فذلك وجه تسخيرها لنا.

ويحتمل ما ذكر من تسخير هذه الأشياء لنا : ما جعل في وسعنا استعمال هذه الأشياء ؛ والانتفاع بها ، والخيل التي بها نقدر على استعمالها في حوائجنا.

ويحتمل تسخيرها لنا : ما ينتفع بهن شئن أو أبين بالطباع. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ).

يحتمل وجهين : يحتمل : أي : بأمره تنفع الخلائق ويحتمل (بِأَمْرِهِ) : أي : كونها في الأصل هكذا ؛ بأن تنفع الخلق. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

قال في الآية الأولى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) جعل الله تعالى التفكر سبيلا للعقول إلى إدراك الأشياء المغيبة بالحواس الظاهرة ؛ إذ لا سبيل للعقل إلى إدراك ما غاب عنه إلا بالحواس الظاهرة ، [والتفكر فيها ؛ لأن ما غاب عن الحواس الظاهرة](٣) لا يدركه العقل ؛ فجعل الحواس الظاهرة سبيلا للعقول إلى إدراك (٤) المغيب عنها.

ذكر ـ عزوجل ـ في الآية الأولى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وذكر في الآية الثانية : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وفي الآية الثالثة : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ، وفي الرابعة : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : فهو ـ والله أعلم ـ كرره على مراتب ؛ لأنه بالتفكر فيها يعقل ويعلم ، ثم بعد العلم والعقل والفهم

__________________

(١) في أ : أجبن.

(٢) في ب : الشهور.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : درك.

٤٨٣

يتذكر ، وإذا تذكر عند ذلك شكر نعمه ، ثم قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) و (يَتَفَكَّرُونَ) وما ذكر فيه : دلالة وحدانية الله تعالى ، ودلالة تدبيره وعلمه وحكمته ، ودلالة بعث الخلائق ، ودلالة قدرته وسلطانه ؛ لأن الليل والنهار يأتيان الجبابرة والفراعنة ، ويذهبان بعمرهم ويفنيانه ؛ شاءوا أو أبوا ، فذلك آية سلطانه وقدرته ؛ ليعلم أن له [السلطان والقدرة](١) لا لهم ، وفيهما دلالة البعث ؛ لأنه إذا أتى هذا ذهب الآخر حتى لا يبقى له أثر ، ثم ينشئ مثله بعد أن لم يبق من الأوّل شيء ولا أثر ، فالذي قدر على إنشاء النهار أو الليل بعد ما ذهب أثره وتلاشى ـ لقادر على إنشاء الخلق بعد ما ذهب أثرهم.

وكذلك الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وما ذكر : لما اتسق هذا كله على سنن واحد ؛ وتقدير واحد ؛ على غير تفاوت فيها ولا تفاضل ، وعلى غير تقديم ولا تأخير بل جرى كله على سنن واحد ، وتقدير واحد ، وميزان واحد ؛ من غير تفاوت [ولا تفاضل](٢) ولا اختلاف. دلّ أنه على تدبير واحد خرج ذلك ، لا على الجزاف ، وأن مدبر ذلك كله واحد ؛ إذ لو كان تدبير عدد لخرج مختلفا متفاوتا ، فدل أنه تدبير واحد لا عدد ، وأنه على تدبير غير خرج وجرى كذلك ، لا بنفسه ، وأنه على حكمة ، وعلم جرى كذلك ، فدل على لزوم الرسالة والعبادة له ؛ فهذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي : مختلفا أصنافه وجواهره.

يخبر ـ عزوجل ـ [عن](٣) قدرته ، وسلطانه ، ونعمه التي أنعم عليهم بها (٤). أما سلطانه وقدرته : ما خلق في الأرض وأنبت فيها بالماء لم يرجع إلى جوهر الأرض وجنسها ، ولا إلى جوهر الماء وجنسه ، وهما كالوالدين : الماء كالأب ، والأرض كالأم ، فلم يرجع ما خرج منهما من جنسهما ، ولا من جوهرهما ؛ كما كان في سائر الأشياء رجع التوالد منها إلى جنس الوالدين وجوهرهما ؛ بل رجع التوالد والنشوء من الأرض والماء إلى جنس البذر (٥) وجوهره ؛ ليعلم قدرته وسلطانه على (٦) إنشاء الأشياء ؛ بأسباب وبغير

__________________

(١) في ب : القدرة والسلطان.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : أنعمها عليهم.

(٥) في أ : البدء.

(٦) في أ : إلى.

٤٨٤

أسباب ، ومن شيء ومن لا شيء. ويذكر نعمه : حيث أخبر أنه خلق في الأرض من الأصناف المختلفة ، والجواهر المتفرقة ؛ لينتفعوا بها.

ويحتمل قوله : (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من جنس واحد ؛ من شيء واحد ؛ لأنه يكون من جنس واحد ألوان مختلفة ، ومن قدر على إنشاء ألوان مختلفة من شيء واحد لا يعجزه شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ، وفي آية : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وفي آية (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وفي آية : (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان : ٣١] ، و (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ، وفي آية : (لِلْمُؤْمِنِينَ).

فيحتمل أن يكون كله كناية عن المؤمنين ؛ كأنه قال : إن في ذلك لآية للمؤمنين ؛ إذ يجمع الإيمان جميع ما ذكر : من التفكر ، والتذكر ، والعقل ، والاعتبار ، والصبر ، والشكر ، وغيره.

ويحتمل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، و (يَعْقِلُونَ) ، و (يَذَّكَّرُونَ) : أي : لقوم همتهم الفكر والنظر في الآيات ، ولقوم همتهم التفهم والاعتبار فيها ، لا لقوم همتهم العناد ، والمكابرة ، والإعراض عن النظر في الآيات والفكر فيها.

وفي ذكر الآية للمتفكرين ، والعاقلين ، والمتذكرين : لما منفعة الآية تكون لهؤلاء ، وإن كانت الآيات لهم ولغيرهم ، فمنفعتها لمن ذكر. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا).

وتسخيره إياه لنا : هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق الله فيه : من الحلى والجوهر واللؤلؤ ، وبذل ما فيه من الدوابّ : السمك وغيره ، فلولا تسخير الله إياه للخلق ؛ وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة ؛ وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه والوصول إليه ؛ لشدة أهواله وأفزاعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا).

يحتمل السمك خاصة. ويحتمل السمك وما فيه من الدوابّ ؛ من نوع ما لو كان بريّا أكل ؛ من نحو الجواميس وغيرها.

وقوله تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).

يحتمل الحلية : اللؤلؤ والمرجان ؛ الذي ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢].

ثم يحتمل قوله : (حِلْيَةً) : أي : ما يتخذ منه حلية. وهذا جائز ؛ أن يسمّى الشيء باسم ما يتخذ منه ؛ وباسم ما يصير به في المتعقب. أو يسمى حلية ؛ لأنه زينة.

٤٨٥

ولا شك أن اللؤلؤ والمرجان هما زينة ؛ ألا ترى أنه ذكر في الأنعام زينة وجمالا ، وفي الخيل والبغال كذلك ، فالزينة في اللؤلؤ والمرجان أكثر ، والجمال فيه أظهر أخبر أنه جعل لنا الوصول إلى [ما في](١) قعر البحر وهو ما ذكر من اللؤلؤ وأنواع الحلي ، وما في بطن البحر : وهو ما ذكر من اللحم الطري ، وما هو على وجه الماء : وهو السفن التي ذكر.

ووجه تسخيره إيانا الخيل والأسباب التي علمنا ؛ حتى نصل إلى ما فيه ؛ فكأنه قال : سخرت لكم البحر من أسفله إلى أعلاه.

وفي ذلك دلالات :

إحداها : إباحة التجارة بركوب الأخطار ؛ لأن الغائص [في البحر](٢) يخاطر بنفسه ؛ وروحه ، وكذلك راكب السفن ؛ فلولا أنه مباح له طلب ذلك ؛ وإلا ما ذكر هذا في منته ؛ إذ هو يخرج مخرج ذكر الامتنان. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) قال الحسن ، والأصم : المواخر : السفن المحشوات (٣) ؛ الوافرة أحمالها وأثقالها ، يذكر منّته التي منّ بها عليهم ؛ حيث جعل لهم السفن والفلك ؛ التي يحمل بها الأحمال الثقال العظام في البحار ما سبيلها التسفّل والانحدار في البحر ؛ فأمسكها فيه بالسفن العظام الثقيلة.

وقال بعضهم (٤) : مواخر : أي : جارية مقبلة مدبرة بريح واحدة في البحر ؛ لأن ماء البحر راكدة ؛ فأجرى السفن فيه بالرياح ؛ حيثما (٥) أرادوا وقصدوا ؛ إذ الأشياء قد تجري [على الماء](٦) إذا كان له جرية ، وأما إذا كان راكدا ساكنا فلا سبيل إلى ذلك ؛ فيذكر عظيم منته وقدرته على إجراء السفن في الماء الراكد بالريح.

وقال [بعضهم](٧) : (مَواخِرَ) أي : جواري تشق الماء شقّا وتخرقه ، يقال : مخرت السفينة ؛ ومنه : مخر الأرض : إنما هو شق الماء لها ؛ وهو قول القتبي (٨).

وكذلك قال أبو عبيدة (٩) : إنه من شق السفن الماء. وقال أبو عوسجة : المواخر :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢١٥٢٥) وذكره البغوي (٣ / ٦٤).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٥٣٣ ، ٢١٥٣٤) وعن الحسن (٢١٥٣٥).

(٥) في أ : حيث.

(٦) في ب : على جرية ماء.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٢).

(٩) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٥٧).

٤٨٦

المستقبلة ، يقال : استمخر الإنسان الريح : إذا استقبلها. وقال أبو عبيدة : مواخر من الاستدبار ؛ يقال : إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح : أي : يستدبرها. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

يحتمل بالتجارة التي جعل فيها ؛ حيث جعل سبيل قطع البحار إلى بلاد نائية بعيدة بالسفن ؛ ليبتغوا ما به قوام أبدانهم وأنفسهم ؛ إذ جعل بنيتهم بنية لا تقوم إلا بالأغذية ، ولعلهم لا يظفرون ما به قوام أبدانهم وبنيتهم في بلادهم ؛ فيحتاجون إلى البلاد النائية البعيدة عنهم ، فمنّ عليهم بذلك ؛ كما من بقطع المفاوز والبراري بالدوابّ ؛ بقوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل : ٧].

أو قال : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بما يستخرج منه ، ولعلكم تشكرون جميع ما ذكر : من ألوان النعم والمنافع ؛ من أوّل السورة إلى آخرها ؛ يستأدي به شكره.

وفي قوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) دلالة إباحة التجارة ، وطلب الفضل بركوب الأخطار واحتمال الشدائد ؛ حيث أخبر أنه سخر البحر ؛ حتى أمكنهم ركوبه بالحيل والأسباب التي علمها لهم ؛ لأن الغواص يخاطر بروحه ونفسه ، وكذلك راكب السفينة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).

أي : ألقى في الأرض الجبال ؛ لئلا تميد بكم [؛ قال بعض أهل التأويل (١) : قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) لئلا تميد بكم](٢) لأنها بسطت على الماء ؛ فكانت تكفو بأهلها ؛ كما تكفو السفينة في الماء ؛ فأثبتها بالجبال ؛ لتقرّ بأهلها ، لكن لو كان على ما ذكروا أنها بسطت على الماء لكانت لا تكفو ولا تضطرب ، ولكنها (٣) تتسرب في الماء وتنهار فيه ؛ لأن من طبعها التسفّل والتسرب في الماء ؛ إلا أن يقال : [إن](٤) الله ـ عزوجل ـ جعل ـ بلطفه ـ طبعها طبع ما يضطرب ؛ وتكفو ؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا. والله أعلم.

ولو قالوا : إنها بسطت على الريح لكان يحتمل ما قالوا ؛ ويكون أشبه بقولهم ؛ ألا ترى أن السراج في الآبار والسروب لا يضيء بل ينطفئ كما أسرج ؛ فيشبه أن يكون انطفاؤه لريح تكون في الأرض ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ، والله أعلم بذلك.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٦٤).

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ولكن.

(٤) سقط في أ.

٤٨٧

وقال بعضهم : بسطت على ظهر الثور فكانت تضطرب بتحركه فأرساها بما ذكر ، والله أعلم.

ثم قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) يخرج ذكر ذلك منه ذكر الامتنان والنعمة ؛ لأن له أن يترك الأرض على ما خلقها ؛ ولا يثبتها بالجبال ؛ لتميد (١) بأهلها وتميل (٢) ؛ فلا يقدروا على القرار عليها والانتفاع بها ، لكنه ـ بفضله ومنته ـ أثبتها بالجبال ؛ ليقروا عليها ، ويقدروا على الانتفاع بها. وكذلك له ألا يجعل لهم فيها أنهارا جارية ؛ فيكون مياههم من آبارها (٣) ، وكذلك له أن يحوجهم بأنواع الحوائج ؛ ثم لا يبين لهم الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم ، [ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم ، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها تقضى حوائجهم بأنواع الحوائج ، ثم لا يبين لهم الطرق والسبل](٤) ، لكنه بفضله ومنّه بيّن لهم الطرق والسبل التي تفضي إلى البلدان والأمكنة التي فيها تقضى حوائجهم ، وكذلك بفضله جعل لهم في الأرض أنهارا جارية ، وأثبت الأرض بالرواسي ؛ ليقروا عليها ، وذلك كله بمنّه وفضله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

يحتمل تهتدون الطرق والسبل التي تفضيهم إلى الحوائج.

ويحتمل : تهتدون الهدى المعروف ؛ بما ذكر من نعمه ومننه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) هذا أيضا يخرج مخرج ذكر المنن والنعم عليهم ؛ لأنهم لو لا ما جعل الله أعلاما في البحار (٥) والبرارى يعرفون بها السلوك فيها ؛ وإلا لم يقدر أحد معرفة الطرق في البحار والبراري.

ثم يحتمل الأعلام : مرة بطعم الماء والجبال التي جعل فيها وبالرياح ، ومرة تكون بالنجم ؛ [يعرفون بطعم الماء أن هذا الطريق يفضي إلى موضع كذا ، وكذلك يعرفون بالجبال وبالرياح](٦) يعرفون السبل إلى حوائجهم ومقصودهم. وكذلك بالنجم يعرفون الطرق ؛ فالأعلام مختلفة بها يهتدون الطرق والسبل.

__________________

(١) في أ : ليمتد.

(٢) في أ : وتميلها.

(٣) في أ : آثارها.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٥) في أ : البحر.

(٦) ما بين المعقوفين سقط في ب.

٤٨٨

ويحتمل : يهتدون بما ذكر من الأعلام والنجم سبب اهتدائهم إلى توحيد الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : على الاحتجاج عليهم ؛ أي : لا تجعلوا من لا يخلق ولا ينفع ولا ينعم كمن هو خالق الأشياء كلها ؛ منعم النعم عليكم (١) ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : [أي](٢) : إن صرف العبادة والشكر إلى غير خالقكم وغير منعمكم جور وظلم.

والثاني : يخرج مخرج تسفيه أحلامهم ؛ أنهم يعبدون من يعلمون أنه ليس بخالق ، ويتركون عبادة من يعلمون أنه خالق الأشياء كلها ، أفلا تذكرون والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : وإن تعدوا أنفس نعمة الله التي أنعمها عليكم وأعينها لا تقدروا على عدّها لكثرتها.

والثاني : (وَإِنْ تَعُدُّوا) : وإن تكلفتم واجتهدتم كلّ جهدكم أن تقوموا لشكر ما أنعم الله عليكم [ومنّ](٣) وما قدرتم على القيام لشكر (٤) واحدة منها ؛ فضلا أن تقوموا للكل.

والثالث : يخرج على العتاب والتوبيخ ؛ أي : كيف فرغتم لعبادة من لا يخلق ولا ينعم عن عبادة من خلق وأنعم ، وكنتم لا تقدرون على إحصاء ما أنعم عليكم ؛ فضلا أن تقوموا لشكره.

وقال الحسن في قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) : لا تعرفوا كل النعم ؛ لأنه كم من النعم ما لا يعرفه الخلق ؛ كقوله : (نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [لقمان : ٢٠] فإذا لم يعلموا لم يقدروا إحصاءها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : إنكم وإن افتريتم على الله ، وعاندتم حججه وآياته ، وكذبتم رسله فإذا استغفرتم ؛ وتبتم عما كان منكم ؛ يغفر لكم ذلك كله ؛ كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

__________________

(١) في ب : عليهم.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : يشكر.

٤٨٩

والثاني : (لَغَفُورٌ) : أي : يستر عليكم ما كان منكم ؛ ما لو أظهر ذلك لافتضحتم ؛ لكنّه برحمته ستر ذلك عليكم ، رحيم بالستر عليكم. أو ذكر (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) على أثر ذكر النعم وأنواع المنافع ؛ ليكونوا رحماء على ما ذكر مما سخر لنا وأذلّ. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(٢٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : ذكر هذا ليكونوا أيقظ وأحذر ؛ لأن في الشاهد من يعلم أن عليه رقيبا حافظا بما يفعل ، كان هو أرقب وأحفظ لأعماله ، ويكون أحذر ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب.

والثاني : يعلم ما تسرّون من المكر برسول الله ، والكيد له من القتل ، والإخراج ، وغير ذلك [أي : يعلم ذلك](١) كله منكم ، ما أسررتم وأعلنتم ، وهو يخرج على نهاية الوعيد والتعيير ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يحتمل يدعون : أي : يسمونها (٢) : آلهة ، وربما كانوا يدعونهم عند الحاجة.

ويحتمل (يَدْعُونَ) : يعبدون ؛ أي : الذين يعبدون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ؛ فهذا يرجع إلى الأوّل ؛ أفمن يخلق كمن لا يخلق؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ...) [الآية](٣).

يحتمل المراد بقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) : الذين عبدوا الأصنام والأوثان وجميع من كفر بالله ؛ هم أموات غير أحياء ؛ لأن الله تعالى سمّى الكافر في غير آي من القرآن ميّتا ؛ فيشبه أن يكون قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أيضا (٤).

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

أي : يشعرون حين يبعثون ، أي : لو شعروا هذا في الدنيا ما شعروا في الآخرة ؛ لم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : يسلمونها.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : هم أيضا.

٤٩٠

يعلموا ما عملوا.

ويحتمل قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) : الأصنام التي عبدوها ؛ هن أموات غير أحياء.

قال بعضهم : أموات لأنها لا تتكلم ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تنفع ، ولا تضرّ ؛ كالميت (غَيْرُ أَحْياءٍ) : أي : ليس فيها أرواح ينتفع بها كالبهائم والأنعام ، ويكون قوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) راجعا إلى الذين عبدوا الأصنام ؛ لأنها لا تشعر أيان يبعثون ، وهم يعلمون أنها لا تشعر ذلك ؛ لكن هم يشعرون حين يبعثون.

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يبعث الآلهة والذين عبدوها جميعا ؛ كقوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ) [الصافات : ٢٢ ، ٢٣] قال بعضهم : يحشر أولئك الذين عبدوا الأصنام ، (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي : حين يبعثون ، ولو شعروا ذلك في الدنيا ما فعلوا [ما فعلوا](٢) وإن كان قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) راجعا إلى الملائكة والملوك الذين عبدوا دون الله يكون تأويل قوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي : لا يشعرون وقت يبعثون ، وإن كان راجعا إلى الأصنام ، فقوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي : لا يشعرون أنهم يبعثون ، لا يحتمل أن يكون قوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أن يقال [ذلك](٣) في الأصنام ؛ لأن أولئك يعلمون أنهم لا يخلقون ، وإنما يقال ذلك في الأصنام : لا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تنفع ، فدل أن ذلك راجع إلى الملائكة والذين عبدوهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين إبطال ما كانوا يعبدون ، وما لا يليق بأمثالها العبادة لها ؛ ونصبهم آلهة (٤) ثم ذكر ما يبين جعل الألوهية والربوبية أنه لواحد ، وأنه هو المستحق لذلك دون العدد الذي عبدوها ؛ فقال : إلهكم إله واحد لا العدد الذي عبد أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ).

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٦٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : إلهي.

٤٩١

يحتمل قوله : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) : أي : منكرة للإيمان (١) بالآخرة والبعث بعد الموت.

أو قلوبهم منكرة لجعل الألوهية والربوبية لواحد وصرف العبادة إليه ؛ كقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

ويحتمل قوله : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لما جاء به الرسول ، وهم مستكبرون على ما جاء به من الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يحتمل مستكبرون على رسول الله ، لم يروه أهلا لخضوع أمثالهم (٢) لمثله ، أو مستكبرون إلى ما دعتهم الرسل ؛ لأن الرسل جميعا دعوا الخلق إلى وحدانية الله وجعل العبادة له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

يحتمل قوله : (ما يُسِرُّونَ) : من المكر برسول الله ، والكيد له ، (وَما يُعْلِنُونَ) من المظاهرة عليه. أو يعلم ما يسرّون من أعمالهم الخبيثة التي أسروها و [ما](٣) أعلنوها ، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ؛ أسرّوا أو أعلنوا.

وقوله : (لا جَرَمَ) قال الأصم : (لا جَرَمَ) : كلمة تستعملها العرب في إيجاب تحقيق أو نفي تحقيق ؛ كقولهم : حقّا ، ولعمري ، وايم الله ، ونحوه.

وقال الحسن : هو كلمة وعيد.

وقال بعضهم : لا جرم ، وحقّا ، وبلى ، ولا بدّ ، كلّه في الحاصل : يرجع إلى واحد ، وهو وعيد ؛ لأن قوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وعيد. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

لأنه لا يحبّ الاستكبار ، ولا يليق لأحد من الخلائق أن يتكبر على غيره من الخلق ؛ لأن الخلق كلهم أشكال وأمثال ، ولا يجوز لكل ذي [مثل وشكل](٤) أن يتكبر على شكله [ومثله](٥) ؛ لأن تكبّر بعضهم (٦) على بعض كذب وزور ؛ إذ جعل كلهم أمثالا وأشكالا ، لذلك كان زورا وكذبا ، وقد حرم الله الكذب والزور ، وجعله قبيحا في العقول.

__________________

(١) في أ : الإيمان.

(٢) في أ : الخضوع لأمثالهم.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : شكل ومثل.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : بعض.

٤٩٢

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

أي : قال الأتباع للرؤساء : ما ذا أنزل ربكم؟ قال الرؤساء : أنزل أساطير الأولين ، [أو يخرج على الإضمار ، كأنهم قالوا لهم : ما ذا يقول إنه أنزل ربكم عليه؟ فقالوا عند ذلك : أساطير الأولين ، وإلا لا يحتمل أن يكون ذكروا أساطير الأولين](١) جواب سؤالهم : ما ذا أنزل ربكم؟ مفردا ؛ لأنهم كانوا يقرون بالله بقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ؛ فلا يحتمل أن يكونوا إذا سئلوا ما ذا أنزل ربكم ؛ فيقولون : أساطير الأولين إلا أن يكون في السؤال زيادة قول ، أو في الجواب إضمار ؛ فيكون ـ والله أعلم ـ كأنه قال : وإذا قيل لهم : ما ذا يزعم هذا أنه أنزل عليه ربكم؟ قالوا عند ذلك : إنه يقول : أساطير الأولين ؛ كقوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] أي : قالوا : يا أيها الذي يزعم أنه نزل عليه الذكر.

أو يكون قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) فقالوا : لم ينزل الله شيئا إنما يقول أساطير الأولين ، ومثل هذا يحتمل أن يكون.

وقوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال أبو عوسجة : أحاديث الأولين والواحد أسطور ، وهي الأحاديث المختلقة (٢) ؛ كقوله : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ؛ أي : لا أصل له ؛ وأصله الكذب. وهكذا عادة أولئك الكفرة يقولون للأنباء : أساطير الأولين ، وكانوا ينسبون ما يقرأ عليهم إلى السحر ، ولو كان في الحقيقة سحرا أو أحاديث الأولين كان دليلا له. أو قالوا ذلك على الاستهزاء [له](٣) ، وذلك جائز أن يخرج قولهم ذلك على الاستهزاء. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : المختلفة.

(٣) سقط في أ.

٤٩٣

بِغَيْرِ عِلْمٍ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : [أنه يحتمل :](١) أنهم يحملون أوزارهم كاملة ؛ يعني الذين قالوا للرسل : أساطير الأولين ، ومن أوزار الذين يقلدون رسلهم ، ووفدهم الذين بعثوا عن السؤال عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فحملوا أوزار أنفسهم ؛ وأوزار [الرسل وأوزار](٢) الذين يقلدون الرسل ويقتدون بهم بغير علم ؛ لأنهم لم يعلموا أن أولئك يقتدون بالرسل فيضلون ، وهم وإن لم يعلموا فذلك عليهم ؛ لأنهم هم الذين سنوا ذلك ؛ وهو كما روي : «من سنّ سنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣) ويحتمل : ليحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين طمعوا الإسلام ؛ إذا أسلموا سقط تلك الأوزار عنهم. وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) : هم لم يفعلوا ما فعلوا ليحملوا أوزارهم ، ولكن معناه ـ والله أعلم ـ أي : ليصيروا حاملين (٤) لأوزارهم والذين أضلّوهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يحتمل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : بسفه.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي : ساء ما يحملون.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : لم يعلموا أن تصير أوزارهم عليهم ، أو لم يعلموا ما يلحق بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

لم يزل كانت عادة الكفرة بالمكر برسل الله ؛ والكيد لهم ، وكذلك مكر كفار مكة برسول الله ، يذكر هذا ـ والله أعلم ـ لرسول الله ليصبره على أذاهم إياه ؛ كما صبر أولئك على مكر قومهم وترك مكافأتهم إياهم ؛ كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥].

ثم مكرهم الذي ذكر كان يخرج على وجهين :

أحدهما : فيما جاءت به الرسل ؛ كانوا يتكلفون تلبيس ما جاءت به الرسل على قومهم.

والثاني : يرجع مكرهم إلى أنفس الرسل ؛ من الهم بقتلهم وإخراجهم من بين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٧٠٥) كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (٦٩ / ١٠١٧).

(٤) في أ : خاطين.

٤٩٤

أظهرهم ؛ ونحوه ، فخوف بذلك أهل مكة بصنيعهم لرسول الله ؛ أن ينزل بهم كما نزل بأولئك الذين مكروا برسلهم ؛ لئلا يعاملوه بمثل معاملة أولئك رسلهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ).

قال الحسن : هذا على التمثيل بالبناء الذي بني على غير أساس ؛ ينهدم ولا يعلم من أي : سبب انهدم ، فعلى ذلك مكرهم يبطل ويتلاشى ؛ كالبناء الذي بني على غير أساس ويشبه أن يكون على التمثيل من غير هذا الوجه ؛ وهو أنهم قد مكروا وأحكموا مكرهم بهم ؛ فيتحصنون بذلك ؛ كالبناء الذي يتحصن به ؛ فأبطل الله مكرهم ؛ كقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً ...) الآية [النمل : ٥٠] ، وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ...) الآية [آل عمران : ٥٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).

هو ما ذكرنا من إبطال مكرهم الذي به كانوا يتحصنون ؛ كوقوع السقف الذي به يتحصن من أنواع الأذى والشرور. ويحتمل على التحقيق ؛ وهو ما نزل بقوم لوط ؛ من الخسف ، وتقليب البنيان ، وإمطار الحجر عليها.

وأما ما ذكر بعض أهل التأويل (١) : من الصرح [الذي](٢) بنى نمرود وبنيانه ، ووقوعه عليهم ؛ فإنا لا نعلم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

كذلك كان يأتي العذاب الظلمة الكذبة ؛ من حيث لا علم لهم بذلك ؛ كقوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ...) الآية [الأعراف : ٩٥] وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) [النحل : ٢٦] هو من الإتيان ، ومعلوم أنه لا يفهم من إتيانه الانتقال من مكان إلى مكان ، ولكن إتيان عذابه ، أضيف إليه الإتيان ؛ لما بأمره يأتيهم ، ومنه [...](٣) ، فعلى ذلك لا يفهم من قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ ...) الآية [البقرة : ٢١٠] إتيان الانتقال ومجيئه من مكان إلى مكان ، وقد ذكرنا هذا وأمثاله في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ).

أخبر أنه يخزيهم يوم القيامة بعد ما عذبهم في الدنيا ؛ بقوله : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

__________________

(١) قاله ابن عباس وزيد بن أسلم والسدي أخرجه ابن جرير عنهم (٢١٥٦٦) ، (٢١٥٦٧) ، (٢١٥٦٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٢١٨).

(٢) سقط في أ.

(٣) بياض في أ ، ب ، وقد أشير إليه فيهما.

٤٩٥

وقوله : (يُخْزِيهِمْ) : قال أهل التأويل (١) : يعذبهم ، وكأن الإخزاء هو الإذلال ، والإهانة ، والفضح ، يذلهم ، ويهينهم ، ويفضحهم في الآخرة ؛ مكان ما كان منهم من الاستكبار ، والتجبر على النبي وأصحابه ، وكذلك قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [التحريم : ٨] أي : لا يذلهم ، ولا يهينهم ؛ لتواضعه للمؤمنين ، وخفض جناحه لهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي : تعادون أوليائى فيهم ، أو تعادونني فيهم.

وقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) ليس له بشركاء ؛ ولكن أضاف إلى نفسه : شركائي ؛ على زعمهم في الدنيا أنها شركاؤه ، وكذلك قوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] أي : إلى ما في زعمهم ؛ وتسميتهم إياها آلهة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي : كنتم تخالفون فيهم وتعادون ؛ أي :

تخالفون المؤمنين في عبادتهم إياها ؛ لأنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وهم شفعاؤنا عند الله ، ونحوه ، كانوا يخالفون المؤمنين ، وكانوا يشاقّون في ذلك ؛ إلا أنه أضاف ذلك إلى نفسه لأنهم أولياؤه ، وأنصار دين الله ، وأضاف إليه المخالفة والمشاقّة لأنهم خالفوا أمر الله.

وقوله : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ).

قال أهل التأويل : الذين أوتوا العلم الملائكة الكرام الكاتبون ، [لكن](٢) هم وغيرهم من المؤمنين محتمل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي : الذل والهوان والافتضاح وكل سوء على الكافرين هكذا يقابل كل معاند ومكابر في حجج الله وبراهينه مكان استكبارهم وتجبرهم في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ).

قال الحسن : تتوفاهم الملائكة من بين يدي الله يوم الحساب إلى النار.

وقال بعضهم (٣) : تتوفاهم الملائكة ـ وقت قبض أرواحهم ـ ظالمي أنفسهم بالشرك والكفر بالله.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٦٦).

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله ابن جرير (٧ / ٥٧٨) ، والبغوي (٣ / ٦٦).

٤٩٦

وعلى تأويل الحسن : يكون قوله : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا ، ويجوز أن يوصفوا بالظلم في الآخرة أيضا ؛ بكذبهم فيها في قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وأمثاله من الكذب ؛ حيث ينكرون الإشراك في ألوهية الله وعبادته ، كأن هذا الإنكار والكذب منهم في أول حالهم ، ظنّا منهم أن ذلك ينفعهم ، فإذا لم ينفعهم إنكارهم طلبوا الرد إلى الدنيا ، أو إلى حال الأمن ؛ ليعملوا غير الذي عملوا ؛ كقولهم : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] فإذا لم يردّوا وأيسوا عن ذلك ؛ فعند ذلك أنطق الله جوارحهم ؛ حتى تشهد عليهم بما كان منهم فعند ذلك يقرون ، ويعترفون بذنوبهم ؛ كقوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) قال بعضهم (١) : يسلمون ويستسلمون لأمر الله ، ولكن لو كان ما ذكروا لم يكونوا ينكرون عمل السوء ، كقولهم : ما كنا نعمل من سوء.

وقال بعضهم : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : هو الاستخزاء ، والخضوع والتضرع.

ويشبه أن يكون قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) عند الموت يؤمنون عند معاينة ذلك ، أو سلموا عليهم في الآخرة على ما رأوا في الدنيا المؤمنين يسلم بعضهم على بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) في الآخرة ، والله أعلم بذلك ، فأكذبهم الله في قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) ؛ فقال : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا وعيد يخبر ألا يجوز كذبهم في الآخرة ، ولا يحتمل كما جاز في الدنيا ؛ ولم يظهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وقوله : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي : بئس مقام المتكبرين الذين تكبروا على دين الله ، أو تكبروا على ما جاء به الرسل من الله ، وما أنزل الله عليهم.

قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً).

قال أهل التأويل (٢) : هذا قول المؤمنين ؛ مقابل قول المشركين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ

__________________

(١) قاله ابن جرير (٧ / ٥٧٩) ، والبغوي (٣ / ٦٧).

(٢) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢١٥٧٦) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢١٨).

٤٩٧

رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤].

ثم اختلف في قوله : (قالُوا خَيْراً) : قال بعضهم : قوله : (قالُوا خَيْراً) أي : قولهم الذي قالوا أنه أرسل بحق ، وأنه كذا خير.

وقال بعضهم : قوله : (قالُوا خَيْراً) حكاية عما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : و (خَيْراً) : أي : أنزل عليه ربنا خيرا ، أو أن يكون الناس الذين يأتون من الآفاق يسألون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا سألوا المؤمنين : ما ذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيرا ، وإذا سألوا الكفرة قالوا : أساطير الأولين.

وجائز أن يكون أتباع المؤمنين سألوا كبراءهم : ما ذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيرا ، مقابل ما كان من كبراء الكفرة لأتباعهم أساطير الأولين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) من النصر لهم ، والظفر على عدوهم.

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم مما (١) كان أعطاهم في الدنيا.

وقال بعضهم : للذين أحسنوا العمل في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة ، ولدار الآخرة خير [لهم مما كان أعطاهم في الدّنيا](٢) ؛ أي : الجنة خير وأفضل للمؤمنين مما أوتوا في الدنيا.

(وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) :

قال هذا للمؤمنين مكان ما قال للكافرين : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل : ٢٩] ثم نعت الدار التي وعد المتقين ؛ فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من اللذات والشهوات.

فإن قيل : أرأيت لو شاءوا أن يكون لهم درجات الأنبياء ومنازل الأبرار والصديقين ؛ أيكون لهم ما شاءوا؟

قيل : لا يشاءون هذا ؛ لأن مثل هذا إنما يكون في الدنيا إمّا حسدا ؛ وإمّا تمنيا ، فلا يكون في الجنة حسد ؛ لأن الحسد هو [أن يرى](٣) لأحد شيئا ليس له ؛ فيحسد أو يتمنى مثله ، فأهل الجنة يجدون جميع ما يتمنون ويخطر ببالهم ، فلا معنى لسؤالهم ربهم ما لغيرهم ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : ما.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : أن لا يري.

٤٩٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ).

على تأويل الحسن : تتوفاهم الملائكة وهم طيبون من بين يدي الله يوم الحساب ، يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وقد ذكرنا : أن السلام هو تحية ؛ جعل الله بين الخلق في الدنيا والآخرة ؛ وقد ذكرناه في غير موضع.

وقال بعضهم : الذين تتوفاهم الملائكة بقبضهم الأرواح في الدنيا ، يقبضون أرواحهم وهم طيبون.

وقال بعضهم (١) : طيبون أحياء وأمواتا ، وهم المؤمنون الذين طابت أعمالهم في الدنيا.

يحتمل السلام وجهين :

أحدهما : تحييهم الملائكة بالسلام في الجنة ؛ كما يحيي أهل الإيمان في الدنيا بعضهم بعضا.

والثاني : السلام يكون منهم أمن عن جميع الآفات والمكروهات ، والله سبحانه أعلم.

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ).

هذا الحرف يخرج على الإياس [له](٢) من إيمانهم ؛ أي : ما ينظرون لإيمانهم إلا وقت قبض أرواحهم ، أو وقت نزول العذاب عليهم ؛ أي : لا يؤمنون إلا في هذين الوقتين ، ولا ينفعهم إيمانهم في هذين الوقتين ؛ لأن إيمانهم إيمان اضطرار ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ) [غافر : ٨٤] وكقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] [يؤمنون](٣) عند معاينتهم بأس الله ؛ لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، يخبر أنهم ينظرون ذلك الوقت يؤيس رسوله عن إيمانهم ، لما علم أنهم لا يؤمنون ؛ ليرفع عنه مئونة الدعاء إلى الإيمان والقتال معهم.

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يحتمل العذاب في الدنيا ، ويحتمل عند معاينتهم العذاب

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢١٥٧٧) ، (٢١٥٧٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢١٩).

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٤٩٩

في الآخرة.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : كذلك فعل المعاندون ، والمكابرون ، الذين كانوا من قبل برسلهم ؛ من التكذيب لهم ، والعناد ، وتركهم الإيمان إلى الوقت الذي ذكر ، كما فعل قومك من التكذيب لك يا محمد والعناد.

ويحتمل كذلك فعل الذين من قبلهم ؛ أي : هكذا أنزل (١) العذاب بمن كان قبل قومك بتكذيبهم الرسل والعناد معهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بما عذبهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث وضعوا أنفسهم في غير موضعها الذي وضعها الله ، وحيث صرفوها عن عبادة من نفعهم ، وأنعم عليهم ، واستحق ذلك عليهم إلى من لا يملك نفعا ولا ضرّا ، ولا يستحق العبادة بحال ، فهم ظلموا أنفسهم ؛ حيث صرفوها عن الحكمة إلى غير الحكمة لا الله ؛ إذ (٢) الله وضعها ؛ حيث توجب الحكمة ذلك ، والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، والحكمة : هي وضع الشيء في موضعه ، فهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، فأما الله تعالى فقد (٣) وضعها في المواضع التي توجب الحكمة وضعها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ).

كأنه قال : ما ينتظرون (٤) للإيمان بعد الحجج السمعيات ، وبعد الحجج العقليات ، والحجج الحسيات إلا نزول الملائكة بالعذاب من الله تعالى [عليهم](٥) ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقام عليهم الحجج السمعيات والعقليات والحسيات ، فلم يؤمنوا به ولم يصدقوه ، فيقول : إنهم ما ينتظرون إلا الحجج التي تقهرهم وتضطرهم ، فعند ذلك يؤمنون ؛ وهو ما ذكر من نزول العذاب بهم.

أو يقول : ما ينظرون بإيمانهم إلا الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم ، وهو الوقت الذي تخرج أنفسهم من أيديهم ؛ فأخبر أن إيمانهم لا ينفعهم في ذلك ، وهو ما قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ ...) الآية [غافر : ٨٥].

__________________

(١) في أ : إنزال.

(٢) في أ : إن.

(٣) في أ : قد.

(٤) في أ : ينظرون.

(٥) سقط في أ.

٥٠٠