تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

بينهما ، وما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [ص : ٢٧] لم يكن ظنهم أنه خلقهما باطلا ؛ ولكن لما أنكروا البعث صار في ظنهم خلقهما باطلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).

قال بعضهم (١) : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) : [أي : أعرض عنهم](٢) ، ولا تكافئهم بما آذوك بألسنتهم وفعلهم (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فإني (٣) أكافئهم عنك على أذاهم إياك وصنيعهم يومئذ.

والصفح الجميل : هو ما لا نقض (٤) فيه ولا منّة في العرف ؛ أي : اصفح الصفح ما يوصف فيه بتمام الأخلاق ، وما لا نقض فيه ولا منّة يحتمل الصفح الجميل : هو أن يصفح ولا يمنّ عليهم ، كأنه أمره أن يصفح صفحا لا منّة فيه.

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فتجزى أنت على صفحك الجميل ؛ وهم على أذاك. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه على علم بما يكون منهم من المعصية والخلاف خلقهم ، لا خلقهم عن غفلة وجهل بذلك ؛ ليعلم أنه لم يخلق الخلق لحاجة نفسه ولا لمنفعة نفسه ، ولكن خلقهم ليمتحنهم بما أمرهم به ونهاهم ، ولما يرجع إلى منافعهم وحوائجهم.

والثاني : إن ربك هو الخلاق لخلقه ؛ العليم بمصالحهم بأن الصفح الجميل لهم ، ذلك أصلح في دينهم من المكافأة. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).

اختلف في قوله : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : قال بعضهم (٥) : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : المثاني : هو القرآن كله ؛ كقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣]. وقيل : سمي مثانيا لترديد الأمثال فيه والعبر والأنباء ؛ فإن كان على هذا فيكون قوله : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : أي : سبعا من القرآن العظيم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٧ / ٥٣٢) ، والبغوى (٣ / ٥٦).

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : فإذا.

(٤) في أ : نقص.

(٥) قاله أبو مالك ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير (٢١٣٤٥ ، ٢١٣٤٧) وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٩٧).

٤٦١

ثم يحتمل السبع الطوال ؛ على ما ذكر بعض أهل التأويل ؛ كأنه قال : آتيناك سبعا من القرآن العظيم. ويحتمل : (سَبْعاً) يعني فاتحة الكتاب من القرآن ؛ أي : آتيناك فاتحة الكتاب من القرآن. وقال قوم : يقولون : سبع المثاني : فاتحة الكتاب ، ويروون على ذلك حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [«الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب ، والسبع المثاني» (١) وعن أبيّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) : «ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن ؛ وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ؛ ولعبدي ما سأل» (٣).

ومنهم من يقول : المثاني : القرآن كله ؛ يذهب إلى ما ذكرنا من الآية ؛ وبما يروى (٤) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور والقرآن مثلها (٥) ـ يعني أمّ القرآن ـ وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» ذكروا أنها سبع من المثاني ؛ فإن كان سبع المثاني فاتحة الكتاب ، يصير كأنه قال : ولقد آتيناك سبعا ؛ وهي المثانى ، وإن كان سبعا من المثاني [هي السبع](٦) الطوال يكون هكذا : أي : آتيناك سبعا ؛ وهو المثاني. وروي أيضا عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «آتاني السبع الطوال مكان التوراة والمثاني مكان الإنجيل ، وفضّلني ربي بالمفصل» (٧) ثم إن ثبت ما روي في الخبر أن سبع المثاني فاتحة الكتاب (٨) وإلا الكفّ والإمساك عن ذلك أولى ؛ لأنه لا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، وليس يكون تسميتنا إياها سوى الشهادة ، وما خرج مخرج الشهادة ـ من غير حصول النفع لنا ـ فالكف عنه والإمساك أولى.

ومنهم من يقول : هنّ المفصّل.

ومن قال : المثاني فاتحة الكتاب ـ قال : لأنها تثنى في كل ركعة أو ما جعل فيها مكررة معادة ؛ لأن كل حرف منها يؤدي معنى حرف آخر ؛ فسمي مثاني بذلك.

ومن قال : المثاني : هو القرآن ؛ قال : لما ذكرنا ؛ لأن أمثاله ، وأنباءه ، وغيره معادة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢١٣٥١ ، ٢١٣٦٠) من طرق عنه ، وفي بعض الطرق عن أبي ذر.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر ما سبق.

(٤) في أ : روى.

(٥) تقدم.

(٦) في أ : هو.

(٧) أخرجه الطبراني في الكبير (٨ / ٣٠٨) (٨٠٠٣ ، ٨٠٠٤) ، وقال الهيثمي في المجمع (٧ / ١٦١) :

وفيه ليث بن أبي سليم وقد ضعفه جماعة ويعتبر بحديثه وبقية رجاله رجال الصحيح.

(٨) تقدم.

٤٦٢

مردّدة.

ومن قال : المثاني السبع الطوال ـ فقال : لأنه يثنى فيها حدود القرآن ، وفرائضه ، وعامة أحكامه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).

سماه عظيما ، وسماه مجيدا ، وحكيما ؛ وهو اسم الفاعلين ، ولا عمل له ولا فعل في الحقيقة ؛ لكنه يخرج ـ والله أعلم ـ على وجوه :

يحتمل : سمّاه عظيما مجيدا ؛ لما عظمه وشرفه ومجده ، فهو عظيم مجيد حكيم : أي : محكم ، الفعيل بمعنى المفعول (١) ، وذلك جائز في اللغة.

أو سماه بذلك لأن من تمسك به ؛ وعمل به ؛ يصير عظيما مجيدا ، حكيما ، أو سماه عظيما مجيدا حكيما : أي : جاء من عند عظيم هو مجيد حكيم ، وأصل الحكيم : هو المصيب ، الواضع (٢) كلّ شيء موضعه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ).

يحتمل المراد بقوله : (عَيْنَيْكَ) نفس العين.

ثم هو يحتمل وجهين :

أحدهما : نهى رسوله أن ينظر إلى ما متع أولئك مثل نظرهم ؛ لأنهم ظنوا أنهم إنما متعوا هذه الأموال في الدنيا لخطرهم وقدرهم عند الله ، وعلى ذلك قالوا : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦] وقال : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي ...) الآية [فصلت : ٥٠] ونحوه ، ظنوا أنهم إنما متعوا في هذه الدنيا ؛ لخطرهم وقدرهم عند الله ؛ لذلك قالوا ما قالوا ؛ فنهاه أن ينظر إلى ذلك بعين الذين نظروا هم إليه ؛ ولكن بالاعتبار.

والثاني : نهاه أن ينظر إلى ذلك نظر الاستكبار والتجبر على المؤمنين ، والاستهزاء بهم على ما نظروا هم ؛ لأنهم بما متعوا من أنواع المال استكبروا على الناس ، واستهزءوا بهم ؛ إذ البصر قد يقع [على ما ذكر](٣) من غير تكلف ؛ فيصير كأنه نهاه عن الرغبة والاختيار فيما متعوا فيه ؛ لأن ما متعوا به هو ما ذكر ، (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) [التوبة : ٨٥] وقال في آية أخرى (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه : ١٣١].

وقوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) فيما متعوا فإنهم إنما متعوا لما ذكر ، ويحتمل النهي عن مدّ

__________________

(١) في ب : مفعول.

(٢) في ب : واضع.

(٣) سقط في أ.

٤٦٣

العين لا العين نفسه ولكن نفسه ؛ كأنه قال : لا تمنّين نفسك فيما متعوا هم ولا ترغبنها في ذلك ؛ فإنه ليس يوسع ذلك عليهم لخطرهم وقدرهم ؛ ولكن ليعلم أن ليس لذلك (١) خطر عند الله وقدر ؛ حيث أعطى من افترى [على الله](٢) وجحد نعمه وفضله.

وفي الآية تفضيل (٣) الفقر على الغنى ؛ لأنه نهى رسوله أن يمد عينيه إلى ما متعوا ، ومعلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا (٤) مدّ إلى ذلك ليس يمد للدنيا ولا لشهواته ؛ ولكن يستعين به في أمر جهاد عدوه ، ويعين (٥) به أصحابه في سبيل الخيرات ، ثم نهاه مع ذلك عنه ؛ دلّ أن الأخير والأفضل ما اختاره من الفقر ، وقصور ذات يده. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَزْواجاً مِنْهُمْ).

أي : أصنافا من الأموال ، وألوانا من النعم. وقال بعضهم (٦) : (أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي : الأغنياء منهم وأشباهه ؛ فإن كان قوله : (أَزْواجاً مِنْهُمْ) هو أصناف الأموال ـ فهو (٧) على التقديم والتأخير ، كأنه قال : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا منهم أزواجا.

وإن كان أزواجا منهم هو أصناف الناس فهو على النظم الذي جرى به التنزيل ؛ أي : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به قوما منهم.

وفي قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) إلى (ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يعطى أحدا شيئا إلا ما هو أصلح له في الدين ، ولو كان ما متع هؤلاء أصلح لهم في الدين ـ لم ينه رسوله عن مدّ عينيه إليه ، دلّ أنه قد يعطي ما ليس بأصلح في الدين ، وكذلك قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] أخبر أنه إنما يملى لهم ليزدادوا إثما ، وهم يقولون : يملي لهم ليزدادوا خيرا. وكذلك قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٨٠] هذه الآيات كلها تنقض عليهم قولهم ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ).

__________________

(١) في ب : ذلك.

(٢) في ب : عليه.

(٣) في أ : تفضل.

(٤) في أ : إن.

(٥) في أ : ويعني.

(٦) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢١٣٦٤ ، ٢١٣٦٥) وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٩٧).

(٧) في أ : فهي.

٤٦٤

يحتمل النهى نفسه نهاه أن يحزن عليهم ؛ إشفاقا عليهم ؛ بل أمره أن يغلظ عليهم ؛ كقوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] ، وعلى هذا يخرج قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] أي : ارفق بهم ، ولن عليهم ، واشدد على أولئك ، واغلظ عليهم ؛ وهو ما وصفهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] أخبر أنهم أهل شدة على الكفار وأهل غلظة ، رحماء بينهم ، وأهل ذلّة على المؤمنين ، وأهل شدة عليهم ؛ أي : على الكفار ، فعلى ذلك هذا.

ويحتمل أن ليس على النهي ؛ ولكن على التخفيف والتسلي ، ودفع الحزن عن نفسه ؛ لأنه كان يحزن لكفرهم بالله وتركهم الإيمان ؛ حتى كادت نفسه تتلف لذلك ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) الآية [الشعراء : ٣] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) الآية [فاطر : ٨] وأمثاله.

ويحتمل أيضا وجها آخر : وهو أنه كان يحزن عليهم ، ويضيق صدره ؛ لما مكروا به وكادوه ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] فإني أكافئهم. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).

يحتمل : أنا النذير على معاصيه ، المبين على طاعاته ، أو النذير على العصاة من عذاب الله ، المبين لأموره ونواهيه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ).

قال الحسن : الكتب كلها قرآن ؛ يعني كتب الله اقتسموها وجعلوها عضين ؛ أي : فرقوها بالتحريف والتبديل ؛ فما وافقهم أخذوه ، وما لم يوافقهم غيّروه وبدلوه ؛ كقوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة : ٤١] ونحوه ، فذلك اقتسامهم وتعضيتهم على قوله ، وكقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] وقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) [المؤمنون : ٥٣] ونحوه.

وقال بعضهم (١) : اقتسامهم : وهو أن نفرا من قريش كانوا اقتسموا عقار مكة ؛ ليصدّوا الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيقول طائفة منهم ـ إذا سئلوا عنه ـ : هو كاهن ، وطائفة أخرى : هو شاعر ، ساحر ، مجنون ، ونحوه. وعضين : قولهم : هو : سحر ، شعر ، كهانة ، أساطير الأولين ، افترى على الله كذبا ، وأمثال ما قالوا. فذلك اقتسامهم

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٥٨).

٤٦٥

وعضتهم.

وقال بعضهم : هو على التقديم : أي : آتيناك المثاني والقرآن العظيم ؛ أنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة والإنجيل على اليهود والنصارى ؛ فهم المقتسمون كتاب الله ؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.

وقال أبو عوسجة : يقال : عضيت الجزور : أي : قسمتها عضوا عضوا (١).

وقال غيره (٢) : هو من العضة : وهو السحر ؛ بلسان قريش ؛ يقال للساحر عاض.

وقال القتبي (٣) : المقتسمون : قوم تحالفوا على عضة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وأن يذيعوا ذلك بكل طريق ، ويخبروا به النزاع إليهم. وعضين : أي : فرقوه [وعضوه](٤). وقيل (٥) : فرقوا القول فيه ، وهو ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

قوله : (فَوَ رَبِّكَ) : قيل : قسم أقسم به تعالى.

(لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) : قال بعضهم : الخلائق كلها ؛ كقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] أخبر أنه يسألهم جميعا : الرسل عن تبليغ الرسالة ، والذين أرسل إليهم عن الإجابة لهم.

وقال بعضهم : قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) : هؤلاء الذين سبق ذكرهم ؛ المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ، والذين استهزءوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ؛ يسألهم عن حجج ما فعلوا ، والمعنى الذي حملهم على سوء معاملة رسوله وكتابه ، لأي : شيء نسبتم رسولي وكتابي إلى السحر ، والكذب ، والكهانة ، والافتراء على الله؟ لا يسألون ما فعلتم؟ وأي شيء عملتم ؛ لأن ذلك يكون مكتوبا في كتبهم ؛ يقرءونه (٦) ؛ كقوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] وهو وعيد شديد في نهاية الوعيد والشدة ؛ لأنه وعيد مقرون بالقسم ، وكل وعيد قرن بالقسم فهو في غاية الشدة ؛ إذ لو جاءنا ذلك الوعيد من ملك من ملوك البشر يجب أن يخاف ؛ فكيف من ربنا؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣٧٤ ، ٢١٣٨٥ ، ٢١٣٨٦).

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن جرير (٢١٣٩٤) عنه كما في الدر المنثور (٤ / ١٩٨).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٣٩).

(٤) سقط في أ.

(٥) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣٨٤).

(٦) في أ : يقرءون.

٤٦٦

قال بعضهم : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : أي : استقم كما تؤمر ؛ كقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢].

فهو في كل ما أمر به.

وقال بعضهم : اصدع : أي : امض بما تؤمر من تبليغ الرسالة.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

أي : أعرض عن مكافأتهم ؛ ومعناه ـ والله أعلم ـ امض على ما تؤمر ؛ من تبليغ الرسالة إليهم ولا تخفهم ، ولا تهبهم ، ولا يمنعنك شيء عن تبليغ الرسالة ؛ الخوف ، ولا القرابة ، ولا شيء من ذلك ، ولكن امض على ما تؤمر ؛ وهو كما قال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) [المائدة : ٨] وقال : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النساء : ١٣٥] أي : لا يمنعكم عن القول بالحق والعدل بغضكم إياهم ، ولا قرابتكم التي فيما بينكم ، فعلى ذلك قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : أي : امض على ما أمرت من تبليغ الرسالة ، ولا يمنعنك (١) عن ذلك : الخوف ، والوعيد ، والقرابة التي فيما بينك وبينهم.

وقال القتبي (٢) : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : أي : أظهر ذلك ، وأصله : الفرق والفتح ؛ يريد : اصدع الباطل بحقك ؛ حتى يأتيك الموقن به ؛ وهو الموت.

وقال أبو عوسجة : اصدع : أي : امض على ما تؤمر (٣) ، وصدعت : أي : مضيت ؛ وذلك من المضى ، وأصل هذا كله : الشق ، ويقال : تصدعوا : أي : تفرقوا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي : أعرض عن مكافأتهم ؛ فأنا أكافئهم عنك على ما آذوك.

وقال بعض أهل التأويل (٤) : قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) هو منسوخ بآية السيف ؛ لكن على الوجه الذي ذكرنا ليس بمنسوخ ، ويحتمل : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ؛ إن كان أراد به القتال والدعاء إلى التوحيد فهو في وقت دون وقت أو في قوم خاص علم (٥) الله أنهم لا يجيبونه ولا يؤمنون به أيئس رسوله عن إيمانهم فقال : أعرض عن هؤلاء ولا

__________________

(١) في أ : يمنعك.

(٢) تفسير غريب القرآن (٢٤٠).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٤٠٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما فى الدر المنثور (٤ / ١٩٩).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٤١٥).

(٥) في أ : على.

٤٦٧

تشتغل بهم ولا تدعهم فإنهم لا يؤمنون ولكن ادع قوما آخرين والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ).

قال بعضهم : قوله : (كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) : الكفرة جميعا ؛ فمنعناهم عن أن يصلوا إليك ؛ على ما [قصدوا إليك](١) من إهلاكك ، وغيره ؛ كقوله : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين».

وقال بعضهم : قوله : (كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين كانوا على الطرق والمراصد ؛ ليصدوا الناس عن سبيل (٢) الله ؛ على ما ذكر في القصّة ؛ العدد الذي ذكر سبعة أو خمسة ؛ كفاه الله بأن أهلكهم بما ذكر أهل التأويل (٣) : أن الذين استهزءوا به هلكوا جميعا بعقوبات مختلفة.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

قوله : (يَجْعَلُونَ) ليس على الجعل ؛ لأنهم لو جعلوا لكان ؛ لأن كل مجعول كائن موجود ؛ ولكن قوله : (يَجْعَلُونَ) : أي : يزعمون أن مع الله إلها آخر ؛ إما في التسمية أو في العبادة ، وكذلك قوله : (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هم لا يقدرون على أن يجعلوه عضين ، ولكن زعموا أنه كذا ؛ لأن الله وكل حفظه إلى نفسه ؛ بقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] أخبر أنه يحفظه حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ فلو قدروا على جعله عضين ـ لكان قد أتى الباطل من بين يديه ، دلّ أنه على القول الذي قالوا ؛ وهو على المجاز [كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ، وقوله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ، فهو على المجاز](٤) على ما عندهم ، إما بحق التسمية لها أنها آلهة ، وإما بصرف (٥) العبادة إليها ، ظاهر هذا أن المستهزئين الذين ذكرهم أنه كفاه عنهم هم الكفرة جميعا ؛ لكن يحتمل في الذين ذكرهم أهل التأويل كانوا على مراصد مكة ، أضاف ذلك إليهم ونسب ؛ لأنهم هم الذين أمروا غيرهم أن يجعلوا دونه إلها ؛ فكأنهم فعلوا ذلك ، وهم قالوا.

__________________

(١) في ب : قصدوك.

(٢) في أ : رسول.

(٣) انظر قول سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٤٢٠ ، ٢١٤٢١) ، وعن عكرمة (٢١٤٢٢ ، ٢١٤٢٣) ، والشعبي (٢١٤٢٥ ، ٢١٤٢٧) ، وقتادة (٢١٤٢٨ ، ٢١٤٣٠) ، وغيرهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : بعون.

٤٦٨

وقوله : (كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين فعلوا به ما فعلوا ممن تقدم ذكرهم ؛ فيكون قوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ) على إضمار (كان) ؛ أي : الذين كانوا يجعلون مع الله إلها آخر.

وإن كان في الذين يكونون من بعد ـ فهو على ظاهر ما ذكر ؛ يجعلون على المستقبل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

أي : سوف يعلمون ما عملوا من الاقتسام ، والعضة ، والاستهزاء برسول الله وأصحابه ، إذا نزل العذاب بهم. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ).

وما قالوا ؛ من الاقتسام ، والعضة ، والاستهزاء به ، وأنواع الأذى الذي كان منهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أي : نعلم ذلك ، وهو محفوظ عندنا ، نجزيهم على ذلك فلا يضيقن صدرك ؛ لذلك فهو على التصبير على الأذى ، والتسلى عن ذلك ، وترك المكافأة لهم ، والله أعلم. وكان يضيق صدره ؛ مرة لتركهم الإجابة له ، ومرة للأذى باللسان.

والثاني : على علم منا بما يكون منهم ، ومن ضيق صدرك بذلك ، لكن أنشأناهم ومكناهم على علم منا بذلك ؛ امتحانا منا إياك بذلك وإياهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

قال بعض أهل التأويل (١) : أي : صل بأمر ربك وكن من الساجدين ؛ أي : من المصلين.

وقوله : (فَسَبِّحْ) : هو أمر ؛ فإذا فعل ذلك كان بأمر ربه ؛ فلا معنى لذكر الأمر (٢) من بعد قوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) إن كان الحمد هو الأمر ؛ على ما قال بعض أهل التأويل.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن قوله : (فَسَبِّحْ) أي : نزّه الله عن جميع ما قالت الملحدة فيه ؛ إذ التسبيح هو التنزيه في اللغة (بِحَمْدِ رَبِّكَ) ؛ أي : بثناء ربك ؛ أي : نزهه عن ذلك كله بثناء تثنيه عليه ، وكن من الساجدين ؛ أي : من الخاضعين ؛ إذ السجود هو الخضوع.

أو أن يكون أمره إياه بالتسبيح على التسلي ، وتوسيع صدره بالذي يكون منهم ؛ أي : فسبح ربك مكان ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ).

يحتمل التوحيد ؛ أي : وحّد ربك ، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : كل عبادة ذكرت في القرآن ـ فهو توحيد يأمره باعتقاد الإخلاص له في كل أمر ، ويحتمل العبادة

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٦٠).

(٢) في أ : الأمرين.

٤٦٩

نفسها ؛ يأمره بالعبادة له ؛ شكرا له ؛ على ما روي في الخبر عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه صلى حتى تورمت ساقاه ؛ فقيل له : ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال : «بلى ، أفلا أكون عبدا شكورا؟!» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) : أي : ما تيقنت به ؛ وهو الموقن به. وكذلك قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] أي : من يكفر بالمؤمن به فقد حبط عمله ؛ لأن الإيمان لا يكفر به ، فعلى ذلك اليقين لا يأتيه ؛ ولكن يأتيه الموقن به. وكذلك ما ذكر : الصلاة أمر الله ؛ أي : بأمر الله ، وهو المأمور به ؛ لأن الصلاة لا تكون أمر الله ، لكن بأمر الله ، وكذلك ما يجيء من هذا النحو.

ويحتمل قوله : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فيهم ؛ وهو ما وعد من العذاب فيهم ؛ أي : يتيقنون بذلك والله أعلم.

* * *

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥٨٤) في التفسير باب : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك (٤٨٣٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٧١) في صفات المنافقين وأحكامهم باب : إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (٧٩ / ٢٨١٩).

٤٧٠

[سورة النحل كلها مكية إلا ثلاث آيات](١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ)(٢)

قال بعض أهل التأويل (٢) : سورة النحل كلها مكية إلا ثلاث آيات ؛ فإنها (٣) نزلت بالمدينة والله سبحانه أعلم بالصواب.

قوله ـ عزوجل ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وجهان :

أحدهما : أن يعرف قوله : أمر الله ، [ما أراد به وما](٤) الذي استعجلوه ، وإنما استعجلوه الساعة والقيامة ؛ بقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ...) الآية [الشورى : ١٨] ونحوه من الآيات.

وقال بعضهم : أمر الله هو عذابه ، وكذلك [جميع](٥) ما ذكر في جميع القرآن من أمر الله ؛ المعنى منه عذابه ؛ كقوله : (جاءَ أَمْرُ اللهِ) [الحديد : ١٤] أي : عذابه ، ونحوه.

ويحتمل قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) : رسوله الذي كان يستنصر به أهل الكتاب على المشركين ؛ كقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [البقرة : ٨٩] وكان يتمنى مشركوا العرب أن يكون لهم رسول كسائر الكفرة ؛ كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) الآية [الأنعام : ١٠٩] (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ذهاب ما كنتم تتمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شيء آخر. والله أعلم.

ثم إنه لم يرد بقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) وقوعه ؛ ولكن قربه ؛ أي : قرب آثار [أمر](٦) الله ؛ كما يقال : أتاك الخبر ، وأتاك أمر كذا ؛ على إرادة القرب ؛ لا على الوقوع. وجائز أن يكون قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي : ظهر أعلام أمر الله وآثاره ، ليس على إتيان أمره من مكان إلى مكان ؛ كقوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] وآثاره : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان به يختم النبوة ؛ فهو كان أعلام الساعة على ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال : «بعثت أنا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه النحاس من طريق مجاهد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٤).

(٣) في أ : لأنها.

(٤) في أ : وأراد ما.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٤٧١

والساعة كهاتين» (١) أشار إلى إصبعين لقربها منه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

لأنه لا منفعة لكم فيها فلما ذا تستعجلونه؟ كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) [يونس : ٥٠] إذ لا منفعة لهم فيه ، بل فيه ضرر عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

سبحان : هو كلمة إجلال الله يجريها على ألسن أوليائه على تنزيه (٢) ما قالت الملحدة فيه ، وتعاليه (٣) عن جميع ما نسبوا إليه من الولد ، والصاحبة ، والشريك ، وغيره من الأشباه والأضداد ، تعالى عن ذلك.

سبحان الله : حرف يذكر على أثر شيء مستبعد ، أو مستعجب ، أو مستعظم ؛ جوابا لذلك ، وهو ما ذكره على أثر وصف أو قول لا يليق بالله من الولد ، والشريك ، ونحوه ؛ فقال : (سبحان الله) على التنزيه مما وصفوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) قال بعضهم (٤) : قوله : (بِالرُّوحِ) أي : بالوحي الذي أنزله على رسله ، والرحمة ، أو الروح : الرحمة ؛ وهو الذي به نجاة كل من رحمه‌الله ، وهداه (٥) لدينه ؛ وهو ما ذكر ؛ حيث قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. وقيل : الرسالة [هي القرآن والرسالة](٦) ، وما ذكر روحا ؛ لأنه به حياة الدين ؛ كما سمي الذي به حياة الأبدان أرواحا.

وقال الحسن : قوله : (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) : أي : بالحياة من أمره ؛ وهو ما ذكرنا من حياة الدين.

وقوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٣٥٥) كتاب الرقاق : باب قول النبي «بعثت أنا والساعة كهاتين» رقم (٦٥٠٤) ، ومسلم (٤ / ٢٢٦٨) كتاب الفتن وأشراط الساعة : باب (قرب الساعة) رقم (١٣٣ ، ١٣٤ / ٢٩٥١) ، والترمذي (٤ / ٤٩٦) كتاب الفتن : باب ما جاء في قول النبي «بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني السبابة والوسطى رقم (٢٢١٤) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٦ / ٢٨١) وأحمد (٣ / ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٩٣ ، ٢١٨ ، ٢٢٣ ، ٢٣٧ ، ٢٧٤) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

أما طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه :

أخرجه مسلم (٣ / ٤١٨ ـ النووي) كتاب الجمعة : باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم (٤٣ / ٨٦٧) ، والنسائي (٣ / ١٨٨) كتاب الخطبة : باب : كيف الخطبة رقم (١٥٧٨) ، وابن ماجه (١ / ١٧) المقدمة : باب (٧) رقم (٤٥).

(٢) في أ : تبرئة.

(٣) في أ : وتواليه.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٤٥١) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٥).

(٥) في أ : وهذه.

(٦) سقط في أ.

٤٧٢

أي : على من يشاء أن يختص من عباده ويختاره ، وهو مشيئة الاختيار ؛ وإن كان غيره يصلح لذلك ، وفيه دلالة اختصاص الله بعضهم على بعض ؛ وإن كان غيره يصلح لذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

على هذا جاءت (١) الرسل والأنبياء عليهم‌السلام جميعا بالإنذار والدعاء إلى وحدانية الله ، وتوجيه العبادة إليه.

وقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا) [هو](٢) صلة ما تقدم من قوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أن أنذروا ، ولا يوصل بما تأخر ، ثم يخرج على الإضمار ؛ أي : أنذروا وقولوا : إنه لا إله إلا أنا فاتقون.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

قد ذكرنا قوله : (بِالْحَقِ) في غير موضع أنه لم يخلقهما وما فيهما عبثا ، إنما خلقهم لأمر كائن ، أو للمحنة ، والجزاء ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

من [لا يخلق ، ولا ينفع](٣) ، ولا يضر ، ولا يدفع في الذي يخلق ، وينفع ، ويضرّ ، ويدفع تعالى عن ذلك وتبرأ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ).

يذكرهم ـ عزوجل ـ نعمه عليهم ، وقدرته ، وسلطانه ، وعلمه ؛ لأنه لو اجتمع الخلائق كلهم ؛ على أن يدركوا المعنى الذي به تصير النطفة نسمة وإنسانا ـ ما قدروا عليه حيث خلق من النطفة إنسانا على أحسن تقويم ؛ وأحسن صورة.

وفيه نقض قول الدهرية ؛ حيث أنكروا خلق الشيء من لا شيء ؛ لأنهم لم يدركوا المعنى الذي به خلق الإنسان من النطفة ؛ فيلزمهم أن يقروا بخلق الشيء من لا شيء ، وإن لم يشاهدوا ذلك ولم يدركوا ، وفيه دلالة البعث ؛ لأن من قدر على إنشاء الإنسان من النطفة ؛ وليس فيها من آثار الإنسان شيء يقدر على البعث وإنشاء الأشياء ؛ لا من شيء.

__________________

(١) في أ : أجاب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : لا ينفع ولا يخلق.

٤٧٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

قال بعضهم (١) : (خَصِيمٌ) : هو الذي يجادل بالباطل (مُبِينٌ) : أي : ظاهر مجادلته بالباطل ومخاصمته.

وقال بعضهم : الخصيم : هو الجدل الذي يجادل فيما كان.

قال أبو عوسجة : الخصيم : هو المخاصم ، والمخاصم كلاهما خصيم ، ويقال : فلان [خصيمي أي :](٢) خصمي.

مبين : ظاهر خصومته ، والخصيم : هو الفعيل ، والفعيل : قد يستعمل في موضع الفاعل والمفعول جميعا ؛ فكأنه قال : فإذا هو خصيم (٣) مبين : أي : منقطع عن الخصومة ؛ بيّن انقطاعه ، وهو ما ذكر من خصومته في آية أخرى ؛ وانقطاع حجته ؛ حيث قال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٧ ، ٧٨] فهذا احتجاج عليه ؛ فانقطعت (٤) حجته ، وبهت الذي أنكر قدرته على البعث ؛ حيث لم يتهيأ له جواب ما احتج عليه.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٦٢).

(٢) سقط في أ.

(٣) ووجه الاستدلال بكونه خصيما على وجود الإله المدبر الحكيم : أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أن ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضة يميز الصديق والعدو ، ويهرب من الهرة ، ويلتجئ إلى الأم ويميز الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق؟!.

وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله من بطن الأم لا يميز البتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالا ، وأقل فطنة من سائر الحيوانات!.

ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله ـ عزوجل ـ وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله ـ تعالى ـ والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير مدبر مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار ، فهذا هو المراد من قوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

وفي معنى كونه خصيما مبينا وجهان :

الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعا للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجمادا ، لا حس فيه ولا حركة ، والمقصود منه أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم.

والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة.

ينظر اللباب (١٢ / ١٠ ، ١١).

(٤) في أ : فإذا انقطعت.

٤٧٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها).

يحتمل قوله : (خَلَقَها لَكُمْ) على الظاهر ؛ أن خلق هذه الأشياء وخلق لنا فيها دفئا ومنافع ؛ كقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩].

ويحتمل قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) : أي : هو خلقها ، ثم أخبر أنه خلق لنا فيها منافع يذكر أنواع المنافع والنعم التي أنعم علينا ، مفسرة مبينة ، واحدة بعد واحدة ؛ في هذه السورة ، وفي غيرها من السور ، إنما ذكرها مجملة غير مشار إلى كل واحدة منها ؛ على ما أشار في هذه السورة ؛ ليقوموا بشكرها ، وليعلموا قدرته على خلق الأشياء لا من الأشياء.

ثم قوله : (فِيها دِفْءٌ) : قال بعضهم (١) : الدفء نسل كل دابة.

وقال بعضهم (٢) : ما ينتج منه. وقال القتبى (٣) : الدفء ما استدفأت به ، ويشبه أن يكون تفسير الدفء والمنافع الذي ذكر هو ما فسّر في آية أخرى ؛ وهو قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ...) الآية [النحل : ٨٠] جعل الله ـ عزوجل ـ الأنعام وما ذكر وقاية لجميع أنواع الأذى من السماوي وغيره ؛ مما يهيج من الأنفس من الحرّ ، والبرد ، والجوع ، وغير ذلك مما يكثر عدها ، ويطول ذكرها ، وجعل فيها منافع كثيرة : من الركوب ، والشرب ، والأكل ؛ كما قال : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) [يس : ٧٣] وقال : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) [المؤمنون : ٢١] وأخبر أيضا أن فيها جمالا وزينة ؛ بقوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ).

فإن قال قائل : أي جمال يكون لنا فيها حين الإراحة وحين السرح.

وقال بعض أهل التأويل (٤) : وذلك أنه أعجب ما يكون ؛ إذا راحت عظاما ضروعها ، طوالا أسنمتها. (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) إذا سرحت لرعيها.

أو أن يكون الجمال عند الإراحة والسرح : شرب ألبانها ، وقرى الضيف من ألبانها ؛ في الرواح والمساء.

وقال بعضهم قوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) : وذلك أنهم كانوا

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٤٦٤ ، ٢١٤٦٥) وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٦).

(٢) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٤٦٩).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤١).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه (٢١٤٧٠ ، ٢١٤٧١) كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٦).

٤٧٥

يسرّون عند الإراحة والتسريح ، وذلك السرور يظهر في وجوههم ؛ فإذا ظهر ازداد لهم جمالا وحسنا ، وهكذا المعروف في الناس : أنهم إذا سروا يظهر ذلك السرور في وجوههم ؛ فيزداد لهم بذلك جمالا ، وإذا حزنوا وأصابهم غم ـ يؤثر ذلك الغم نقصانا في خلقتهم (١) ؛ فيزداد لهم قبحا وتشويها.

وقال بعضهم : إنهم إذا أراحوها أو سرّحوها رأى الناس أن أربابها أهل غنى ؛ وأهل ثروة ، وأنهم لا يحتاجون [إلى غيرهم ، وأن](٢) يكون لغير إليهم حاجة ؛ فيكون لهم بذلك ذكر عند الناس وشرف ، وذلك جمالهم وشرفهم فيها ، والجمال لهم فيها ظاهر ؛ لأن ما يبسط ويفرش إنما يتخذ منها ومن أصوافها ، وكذلك ما يلبس إنما يكون منها ، وإنما يبسط ، ويفرش ، ويلبس للتجمل والبهاء. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

ذكر أيضا ما جعل [فيها لنا](٣) من النعم ما تحمل من الأثقال ، من مكان إلى مكان ، ومن بلد إلى بلد ؛ ما لو لم يكن أنشأهن أعني : (٤) الأنعام التي أخبر أنها تحمل أثقالنا إلى ذلك بدونه إلا بجهد وشدة ، وذلك ـ والله أعلم ـ أن الله جعل في هذه الأنفس حوائج وقواما ما لا قوام لها إلا بذلك ؛ فلعله لا يظفر بما به قوام النفس إلا في بلد آخر أو مكان آخر ، فلو تحمل ذلك بنفسه ـ لكان في ذلك تلف نفسه ، وذهاب ما به قوامه ، فذكر أنه خلق لنا ما نحمل به من بلد إلى بلد ؛ مما به قوام أنفسنا وحاجاتنا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : من رحمته ورأفته ما جعل لكم من المنافع في الأنعام ؛ وما ذكر ، أو ذكر هذا ليرحموا على هذه الأنعام التي خلقها لهم (٥) ؛ في الإنفاق عليها (٦) ، والإحسان إليها ؛ وذكر فيه : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وذلك لا يوصل إلى أكله إلا بالذبح ؛ ليعلم أن الذبح فيما يؤكل ليس بخارج من الرحمة والرأفة.

وذلك ينقض على الثنوية قولهم ؛ حيث أنكروا ذبح هذه الأشياء ويقولون : إنهم يتألمون [بالضرب ، والقتل ، والذبح](٧) ؛ كما تتألمون أنتم ، فمن قصد أحدكم بالقتل فهو

__________________

(١) في أ : خلقهم.

(٢) في ب : لغيرهم.

(٣) في ب : لنا فيها.

(٤) في أ : غير.

(٥) في ب : لكم.

(٦) في أ : عليه.

(٧) في ب : بالذبح والضرب والقتل.

٤٧٦

سفيه عندكم غير حكيم ولا رحيم ، بل موصوف بالقساوة والسفه ، فالله سبحانه موصوف بالحكمة ، والرحمة ، والرأفة ، لا يجوز أن يأمر بالذبح والقتل لهذه الأشياء ؛ إذ ذلك مما يزيل الرحمة والحكمة.

فيجاب لهم بوجوه :

أحدها : أن الله خلق هذا البشر في هذه الدنيا للمحنة ولعاقبة قصدها ، إمّا ثوابا وإمّا عقابا ، وأخبر أنه خلق هذه الأشياء لنا ، وجعل لنا فيها منافع ، تتأمل وتقصد ، وقد نجد في الشاهد من هو موصوف بالرحمة والرأفة على نفسه ، يجرح نفسه الجراحات ، ويحمل عليها الشدائد والمكروهات ؛ لمنافع تقصد وخير يتأمل في العاقبة ، ثم لم يوصف بالسفه ، ولا بالخروج عن الحكمة والرحمة ، من نحو الحجامة والافتصاد ، وشرب الأدوية الكريهة الشديدة ما لو لم يتأمل ما قصد من النفع والعافية في العاقبة ؛ ما تحمل تلك المكروهات والشدائد ، فدل ما وصفنا أن تحمل الأذى ، والألم ، والمكروه ـ غير خارج عن الحكمة والرحمة ، ولا الفعل بما فعل سفه ؛ إذا كان لمنافع تقصد في العاقبة ، وعاقبة تتأمل.

فيبطل قول الثنوية : أن ذلك مما يزيل الرحمة ؛ على أن هذه الأنعام والبهائم لم تخلق للمحنة وللجزاء في العاقبة ؛ ولكن خلقت لمنافع البشر ؛ فلهم الانتفاع بها ؛ مرة بلحومها ، ومرة بحمل أثقالهم والانتفاع بظهورها ، مع ما ذكرنا أن [تحمل المكروهات وأنواع الشدائد](١) والآلام ـ لا تخرج الفعل عن الحكمة ، ولا تزيل الرحمة والرأفة [إذا قصد به النفع](٢) في العاقبة ، وطمع فيه الخير.

وهذا يدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها ؛ والذبح على غير جعل حقيقتها لنا ؛ حيث لم يبح لنا إتلافها ؛ إذ لو كان أصول الأشياء لنا لكان لا يمنع عن الإتلاف ، فدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها على غير جعل الحقيقة والأصول لنا ، فيبطل قول من يقول : إن الأشياء في الأصل على الحل والإباحة حتى يقوم ما يحظر.

قال أبو عبيد (٣) : (حِينَ تُرِيحُونَ) يقال منه : أرحت الإبل أريحها إراحة ، والإراحة عند العرب : أن يصدر الرعاء مواشيها بالليل إلى مآويها ؛ ولهذا سمي ذلك الموضع : المراح.

وقوله : (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) هو إخراجها إلى المرعى ؛ يقال : سرحتها ، أسرحها سرحا وسروحا. وكذلك قال القتبي (٤) وأبو عوسجة. والدفء : ما ذكرنا أنه من الاستدفاء.

__________________

(١) في ب : تحمل الشدائد وأنواع المكروهات.

(٢) في أ : والقصد بالنفع.

(٣) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٥٦).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤١).

٤٧٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).

قوله : (وَزِينَةً) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الماشي هو دون الراكب ، والمشى يؤثر نقصانا في الوجه والركوب لا ، وذلك زينة ؛ على ما ذكرنا في قوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ).

والثاني : أن الراكب إذا نظر إلى الماشي سرّ بركوبه ، فالسرور يظهر في وجهه ، وذلك يزيد في حسنه وجماله ، وأصله : ما ذكر ـ عزوجل ـ : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ ...) الآية [النحل : ٥] (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) بيّن أنه لما ذا (١) خلق الأنعام وما جعل فيها ؛ وهو ما ذكر : أنه جعل فيها الدفء والمنافع ومنها تأكلون ، وبيّن أنه لما ذا خلق الخيل ؛ وهو ما ذكر : لتركبوها وزينة.

وسئل ابن عباس : عن لحوم الخيل؟ فقرأ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) ولم يقل : لتأكلوها ؛ فكره أكلها لذلك (٢). وتمام هذا أن الله ذكر الأنعام ، وما ذكر من النعم والانتفاع بها ، وبالغ في ذكرها ؛ لأنه قال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وقال : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ...) الآية ، وقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) [النحل : ١٠] وقال : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [النحل : ١١] وقال : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ...) [النحل : ١٤] إلى آخر ما ذكر ، ذكر جميع ما ينتفع به ؛ من أنواع المنافع ذكرا شافيا مبالغا غير مكفيّ ، فدل ما ذكر في الخيل من الركوب ، وكذلك في البغال والحمير ؛ على أنه ليس فيها (٣) منفعة أخرى سوى ما ذكر ؛ وهو الركوب ؛ إذ خرج الذكر لها على المبالغة والاستقصاء ؛ ليس على الاكتفاء ، ولو كان هنالك منفعة أخرى لذكر على ما ذكر في غيره. والله أعلم.

والثاني من الأشياء : أشياء يعرف خبثها ؛ بنفار الطباع ، والصبيان أوّل ما بلغوا يرغبون في ركوبها ، لا أحد يرغب في أكلها إلا من غير طبعه عما كان مجبولا به ؛ فهو يرغب في أكله ، وأما من ترك وطبعه يستخبث وينفر طبعه عن أكله. والله أعلم.

وروي عن جابر قال : لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة ، وأخذوا الحمر الأهلية

__________________

(١) في أ : لما.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير (٢١٤٨٤١ ، ٢١٤٨٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٧).

(٣) في أ : فيه.

٤٧٨

فذبحوها ، فحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم الخيل والبغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، وحرم الخلسة والنهبة (١).

وروي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلاف ذلك قال : أطعمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر (٢).

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : نحرنا فرسا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلنا (٣).

وفي بعض الأخبار : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن لنا في لحوم الخيل (٤).

قلنا : قد يجوز أن يكونوا أكلوه في الحال التي كان يؤكل فيها الحمر ؛ لأن النبي إنما نهى عن أكل لحوم الخيل صحيحا ، فقد يجوز أن يكونوا أكلوا لحم الفرس في حال الإباحة ؛ إذ لم يذكروا الوقت.

وعن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم (٥) ، وكان الحسن لا يرى فيها بأسا على كل حال ، وقول الحسن : إنهم كانوا [يأكلون لحوم الخيل](٦) في مغازيهم يدل على أنهم كانوا يأكلونها (٧) في حال الضرورة.

روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الخيل لثلاثة : فهي لرجل كذا ، ولرجل آخر كذا ، وعلى رجل وزر» (٨). يبيّن أنها لا تصلح لغير ذلك ، ولو صلحت للأكل لقال : الخيل لأربعة ؛

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣٢٣) والترمذي (٣ / ١٤٤ ، ١٤٥) أبواب الصيد ، باب : ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب (١٤٧٨) والدارقطني (٤ / ٢٩٨٩ ، ٢٩٠) من طرق عنه وليس فيه لفظه : (ولحوم الخيل).

(٢) أخرجه الحميدي (١٢٥٤) والترمذي (٣ / ٣٨٩) أبواب الأطعمة باب ما جاء في أكل لحوم الخيل (١٧٩٣) والنسائي (٧ / ٢٠١) كتاب الصيد : باب الإذن في أكل لحوم الخيل ، والدارقطني (٤ / ٢٨٩ ، ٢٩٠).

(٣) أخرجه البخاري (١١ / ٧٠) كتاب الذبائح والصيد باب : النحر والذبح (٥٥١٠) ومسلم (٣ / ١٥٤١) كتاب الصيد والذبائح باب : فى أكل لحوم الخيل (٣٨ / ١٩٤٢).

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٢٦٠) كتاب المغازي باب : غزوة خيبر (٤٢١٩) ومسلم (٣ / ١٥٤١) (٣٦ / ١٩٤١) في المصدر السابق.

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة (٥ / ١٢٠) (٢٤٣١٢).

(٦) في ب : يأكلونها.

(٧) في أ : يأكلون.

(٨) أخرجه البخاري (٥ / ٥٦) في الشرب والمساقاة ، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار (٢٣٧١) (٦ / ٧٥) في الجهاد ، باب الخيل لثلاثة (٢٨٦٠) و (٦ / ٧٣٢) في المناقب (٣٦٤٦) (٨ / ٥٩٨) في التفسير ، باب قوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٤٩٦٢) ، (١٣ / ٣٤١) في الأحكام التي تعرف بالدلائل (٧٣٥٦) ومسلم (٢ / ٦٨٠ ، ٦٨٢) في الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة (٢٤ ـ ٢٦ / ٩٨٧) ، والترمذي (٤ / ١٤٨) في فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل من ارتبط فرسا في ـ

٤٧٩

ولقال : ولرجل طعام.

ومما يبين ما ذكرنا : أن البغل حرام ؛ وهو من الفرسة ؛ فلو كانت أمه حلالا كان هو أيضا حلالا ؛ لأن حكم الولد حكم أمه ؛ لأنه منها أو هو كبعضها ، فمن حرم لحم البغل لزمه أن يحرم لحم الفرسة في حكم النظر والمقاييس ؛ ألا ترى أن حمار وحش لو نزا على حمارة أهلية لم يؤكل ولدها ، ولو أن حمارا أهليّا نزا على حمارة وحشية ؛ فولدت أكل ولدها ، أفلا ترى أنه جعل حكم الولد حكم أمه ؛ ولم يعتبر بالفحل ، فلما كان لحم البغل حراما وجب أن يكون لحم الفرسة كذلك. إلا أن أبا حنيفة ـ رحمه‌الله ـ كان لا يطلق تحريم أكلها ؛ لما فيها من الشبهة ، والاختلاف ، والأحاديث المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لكنه ذكر الكراهة للشبهة التي فيها ؛ وكان أبو يوسف ـ رحمه‌الله ـ يبيح أكلها.

وقد يجوز أن يحتج لأبي يوسف ؛ في الفرق بين المولود من الفرسة وبين ولد الحمارة الوحشية إذا نزا عليها حمار أهلى بأن ولد الحمارة لم يتغير عن جنس أمه ؛ فحكمه حكمها ، والبغل ليس من جنس أمه ؛ هو من جنس ثالث ، فلذلك لم يكن سبيلها بسبيله. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أخبر أنه يخلق ما لا نعلم ؛ فليس لنا أن نتكلف في علم ذلك. أو يخلق من النعم ـ فيما خلق ـ ما لا تعلمون أنتم أنها نعم.

أو قال : يقول قوم : أن ليس لله أن يخلق شيئا لا يطلعه الممتحن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ).

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : أي : على الله بيان قصد السبيل ، وهو الهدى : يبين الهدى من الضلالة ، ويبين من السبل التي تفرقت عن سبيله ؛ كقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْها جائِرٌ) أي : عليه بيان ما يجوز منها ؛ من قصد السبيل يعدل ويجار ، أو يقال : وبالله يوصل إلى قصد السبيل. وقال بعضهم : (وَعَلَى اللهِ) أي :

__________________

ـ سبيل الله (١٦٣٦) والنسائي (٦ / ٢١٥ ـ ٢١٦) في الخيل ، في أوله وابن ماجه (١ / ٩٣٢) في الجهاد ، باب ارتباط الخيل في سبيل الله (٢٧٨٨) ، ومالك (٢ / ٤٤٤ ، ٤٤٥) في الجهاد ، باب الترغيب في الجهاد (٣) ، وأحمد (٢ / ٣٦٢ ، ٣٨٣ ، ٣٨٤) وابن خزيمة (٢٢٥٢) ، والبيهقي (٤ / ٨١) (١٠ / ١٥) والبغوي في شرح السنة (٣ / ٣٣٦) برقم (١٥٦٩) من حديث أبي هريرة.

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٤٩١ ، ٢١٤٩٢) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٠٩).

٤٨٠