تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

الدلائل والحجج على استحقاق العبادة؟!

(قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) : أخبر أن الله هو الذي يهدي للحق. ثم يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا : هو يملك الدعاء إلى الحق ويقيموا الدلائل والحجج على ما دعا إليه ، وهو يستحق العبادة له والربوبية.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : الذي يبين البراهين والحجج ، (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أي : لا يبين ، (إِلَّا أَنْ يُهْدى) ، فإن قيل : ما معنى الاستثناء وهو وإن هدي لا يهتدي؟ قيل : يشبه أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [يونس : ٢٨] ينطقهم الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة ، فيشهدون عليهم أنهم لم يأمروهم بالعبادة لهم ولا دعوهم لإشراكهم في العبادة ، فيكون قوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) لما أن يجعلهم الله بحيث يهتدون إذا هدوا ويجيبون إذا دعوا.

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) : بالجور وصرف العبادة والشكر إلى من لا يملك ذلك (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) قال بعضهم : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) لا يحتمل الصنم والوثن الاهتداء وإن هدي ، ولكن المراد منه الإنسان. وقال بعضهم : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) إلا أن يحمل الصنم ويوضع ، فأما أن يهتدي هو بنفسه فلا ، لكن يحتمل ما ذكرنا أنه إذا صيره بحيث يتكلم ومن جنس ما ينطق وأذن له في النطق احتمل الإجابة والاهتداء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) قال بعضهم : هذا في الأئمة والرؤساء منهم حيث عبدوا الأصنام والأوثان وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ونحو ذلك من القول ؛ يقول : ما يتبع أكثرهم في عبادتهم الأصنام بأنهم يكونون لهم شفعاء عند الله إلا ظنا ظنوه.

وقال بعضهم : هذا في الأتباع والعوام ليس في الأئمة ؛ ذلك أن الأئمة قد عرفوا البراهين والحجج التي قامت عليهم والآيات التي جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن ما قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ونحو ذلك من الكلام ، أرادوا أن يلبسوا على العوام ويشبهوا عليهم ، فاتبع العوام الأئمة فيما قالوا وأنه كذا وصدقوهم ؛ يقول : وما يتبع

__________________

(١) في أ : ذكر.

٤١

أكثرهم الأئمة في ذلك إلا ظنّا ظنوا.

ويشبه أن يكون قوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) يعني : أهل مكة [أي ما يتبع أكثر أهل مكة](١) الأوائل والأسلاف في عبادة الأصنام والأوثان. (إِلَّا ظَنًّا) لأنهم عبدوا الأصنام ويقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٢٣] وآباؤنا كذلك يفعلون ، ثم أخبر أن الظن لا يغني من الحق شيئا ، أي : الظن لا يدرك به الحق إنما يدرك الحق باليقين ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) وهو حرف وعيد ليكونوا أبدا على حذر.

قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)(٤٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) قال بعضهم : هو صلة قوله : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] فيقول : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ كقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ) [يونس : ١٥] أي ما أتبع إلا ما يوحى إلى.

وقال بعضهم : إن كفار قريش قالوا : إن محمدا افترى هذا القرآن من عند نفسه ويقوله من نفسه ، فقال : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أن يضاف إلى غيره أو يختلق.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : يصدق هذا القرآن الكتب التي كانت من قبل ، ولو كان محمد هو الذي افتراه واختلقه من عند نفسه لكان خرج هو وسائر الكتب المتقدمة مختلفا ، إذ لم يعرف محمد سائر الكتب المتقدمة إذ كانت بغير لسانه ، ولم يكن له اختلاف إلى من يعرفها ليتعلم ، ثم خرج هو أعني القرآن مصدقا وموافقا لتلك الكتب ؛ دل أنه من عند الله جاء ؛ كقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ...) الآية [العنكبوت : ٤٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) يخرج على وجهين ؛

__________________

(١) سقط في أ.

٤٢

أحدهما : ما كان هذا القرآن بالذي يحتمل الافتراء من دون الله ؛ لخروجه عن طوق البشر ووسعهم ، فذلك بالذي يحيله كونه مفترى بجوهره.

والثاني : لما أودع فيه من الحكمة والصدق يدل على كونه من عند الله ؛ إذ كلام غيره يحتمل السفه والكذب ويحتمل الاختلاف.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) قيل فيه بيان الكتب التي نزلت قبله ، وتمامه أن هذا وإن كان في اللفظ مختلفا فهو في الحكمة والصدق مبين موافق للأول. وقيل : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) [أي : تفصيل](١) ما كتب لهم وما عليهم. أو أن يقال؟ إلى الله تفصيل الكتب ليس إلى غير (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه من عند رب العالمين.

أو يقول : مفصل من اللوح المحفوظ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يقول : إن كان محمد افتراه من عند نفسه ، فأتوا أنتم بمثله (٢) ؛ إذ لسانه ولسانكم واحد ، فأنتم قد عرفتم بالفرية والكذب ، ومحمد لم يعرف به قط ، ولا أخذ عليه بكذب قط ، فأنتم أولى أن تأتوا بسورة مثله.

(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) اختلف فيه :

قال بعضهم : ادعوا بآلهتكم التي تعبدونها ؛ ليعينوكم على إتيان (٣) مثله.

وقال بعضهم (٤) : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) أي : بمن لسانه مثل لسانكم ؛ ليعينوكم على ذلك.

أو يقول : استعينوا بدراسة الكتب ؛ ليعينوكم على مثله إن كنتم صادقين أن محمدا افتراه من نفسه ؛ فدل ترك اشتغالهم بذلك على أنهم قد عرفوا أنه ليس بمفترى ، وأنه سماوي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).

قال بعضهم : ما لم يحفظوا نظمه ، ولا لفظه ، ولا نظروا فيه ، ولا تدبروا ؛ ليعلموا معناه ، بل كذبوه بالبديهة ، والشيء إنما يعرف كذبه وصدقه بالنظر فيه والتفكر والتدبر ، لا بالبديهة ، فذلك ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).

الثانى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) كذبوا على علم منهم أنهم كذبة فيما يقولون ، ويتقولون : إنه مفترى ليس بمنزل (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ، أي : ولما يأتهم العلم بتأويله ، أي : بتأويل القرآن.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : بسورة مثله.

(٣) في ب : إثبات.

(٤) قاله البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥٤).

٤٣

ومعناه ـ والله أعلم ـ : أنهم كذبوه من غير أن حفظوا نظمه ، ووعوا لفظه ، ولا أتاهم العلم بعاقبته وآخره.

وقيل : التأويل : هو رد كل شيء إلى أولية الأمر.

وقالت الحكماء : التأويل : آخر كل فعل هو قصد في أوله وقصد كل شيء في أوله هو آخر في فعله ، أو نحوه.

وقال بعضهم (١) : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) قال : ما وعد الله أن يكون قبل أن يكون.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : تأويل القرآن بما يكون منه في الدنيا ، وبما يكون منه يوم القيامة ، وهو العذاب الذي وعد.

وقال بعضهم : (تَأْوِيلُهُ) : ثوابه.

وقيل (٢) : عاقبته.

وقال الواقدي : لم يأتهم عاقبة بيان ما وعد الله في القرآن في الآخرة من الوعيد.

وأصل التأويل : هو النظر إلى ما تئول عاقبة الأمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي : كذلك كذب الأمم السالفة رسلهم ، كما كذب كفار مكة رسولهم ، أي : لست أنت بأول مكذب ، بل كذب من كان قبلك من إخوانك ؛ ليكون له التسلي عما هو فيه من تكذيبهم إياه ، وردهم عليه أنه ينزل بهم ما نزل بأولئك إن هم أقاموا على ما هم عليه.

والثاني : أن يكون الخطاب وإن كان خارجا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو راجع إلى قومه يأمرهم بالنظر فيما نزل بالأمم السالفة ، وأن يتأملوا أحوالهم ؛ ليكون ذلك سببا لزجرهم عما هم فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) بالتكذيب ، أي : كيف يعاقبون ويعذبون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) قيل (٣) : من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن ، ومنهم من لا يؤمن به ، وهم كذلك كانوا ، منهم من قد آمن به ، ومنهم من لا يؤمن به ، أي : من لم يؤمن به.

ويحتمل على الوعيد فيما يستقبل ، أي : منهم : من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن ، ومنهم من لا يؤمن به ، وهم كذلك كانوا : منهم من قد آمن ، ومنهم من لم يؤمن به.

قال بعضهم : هي في اليهود ، ليست في أهل مكة ، وظاهره أن يكون في كفار مكة ،

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٥٦٢) والبغوي (٢ / ٣٥٤).

(٢) انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص / ١٩٧).

(٣) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٥٦٣) والبغوي (٢ / ٣٥٤).

٤٤

وعلى ذلك قول عامة أهل التأويل ، كأن هذا يخرج على البشارة : أن منهم من يؤمن به ؛ لئلا يقطع ويمنع دعاءهم ، وأخبر أن منهم من لا يؤمن به ، يؤيسه حتى لا يشتد حزنه على كفرهم.

وجائز أن يكون هذا [: أي : منهم من](١) قد يولد من بعد ، ويؤمن به ، ومنهم من يولد فلا يؤمن.

وقوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) يشبه أن يكون معناه : أي : على علم بما يكون منهم من الفساد خلقهم وأنشأهم ، وليس عن غفلة وجهل بالفساد ، ولكن عن علم بذلك ؛ لما لا يضره فساد مفسد ، ولا ينفعه صلاح [من يصلح](٢) ، إنما عليهم ضرر فسادهم ، ولهم منفعة صلاحهم.

ويحتمل أن يكون على الوعيد ، أي : عالم بفسادهم ، فيجزيهم جزاء فسادهم (٣) ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ، تأويله ـ والله أعلم ـ أي : إن كذبت فيما أخبرتكم : أنه جاء من عند الله ، ف (لِي عَمَلِي) ، أي : جزاء عملي (٤) فيما أبلغكم ، أي : فعلي وزر عملي ، (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ، أي : فعليكم جرم ما رددتم علي فيما بلغتكم عن الله ، وهو كقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [هود : ٣٥] ، أي : علي جرم ما افتريت إن افتريت ، وعليكم جرم ما رددتم علي فيما بلغتكم عن الله.

ويحتمل : ما قاله أهل التأويل : (لِي عَمَلِي) أي : لي ديني (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي : لكم دينكم.

(أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

تأويله ـ والله أعلم ـ أي : أنا لا أؤاخذ بما دنتم أنتم ، ولا أنتم تؤاخذون بما دنت أنا وعملت ، وهو كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢] ، وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ ...) الآية [النور : ٥٤] ، وقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ...) الآية [النور : ٥٤] ، وكقوله : (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ...) الآية [سبأ : ٢٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أخبر أن منهم من يستمع إليه ، يعني :

__________________

(١) في ب : فيمن.

(٢) في أ : نصلح.

(٣) في أ : الفساد.

(٤) في أ : فعلي.

٤٥

إلى رسول الله ، وإلى ما يتلو من القرآن ، [لكنه لا يؤمن ، أخبر أنه](١) لا كل مستمع إلى شيء ينتفع بما يستمع أو يعقل ما يستمع ويفهم ، إنما ينتفع بالاستماع ويعقل على قدر المقصود والحاجة إليه.

[ومنهم من كانوا ينهون من يستمعون لقبول القول منهم](٢).

ومنهم من كان يستمع إليه ؛ ليسمع غيره ، كقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) [المائدة : ٤١].

ومنهم من كان يسمعه ، ويطيعه في ذلك ، فإذا خرج من عنده غيره وبدله كقوله : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) [النساء : ٨١].

ومنهم من كان يستمع إليه ؛ استهزاء منه ، وطلب الطعن فيه والعيب ، كانوا مختلفين في الاستماع ، ثم نفى عنهم السمع والعقل والبصر ؛ لوجهين :

أحدهما : ما ذكرنا أنهم لما لم ينتفعوا بأسماعهم وعقولهم وأبصارهم وهذه الحواس انتفاع من ليست له هذه الحواس ، [نفى عنهم ذلك ؛ إذ هذه الحواس](٣) إنما جعلت ، لينتفع بها لا لتترك سدى (٤) لا ينتفع بها.

والثاني : كان العقل والسمع والبصر ، وهذه يكون منها مكتسب بالاكتساب ، ومنها ما يكون غريزة ، فهم تركوا اكتساب الفعل الذي جعل مكتسبا فنفى عنهم ؛ لما تركوا اكتساب ذلك.

ويحتمل نفي هذه الحواس لهذين الوجهين اللذين ذكرتهما ، والله أعلم.

ثم نفى عمن لا يستمع العقل ، حيث قال : (لا يَعْقِلُونَ) ، ونفى عنهم الاهتداء والإبصار بترك النظر ، فقال : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ؛ لأن بالبصر يوصل إلى اهتداء الطرق والسلوك فيها ، ألا ترى أن البهائم قد تبصر الطرق ، وتسلك بها ، وتتقي بها المهالك ، ولا تعقل ، لما ليس لها العقل (٥) ، فلا تعقل لما يسمع القلب بعقل ، وبظاهر البصر تبصر الأشياء.

__________________

(١) في أ : لكنه يخبر أنه.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : ومنهم كانوا يستمعون لمعاني مرة ، يستمعون بقبول القول منهم والمنزلة.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : هدى.

(٥) في أ : سمع العقل.

٤٦

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(٤٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يخبر أن ما حل بأولئك من عذاب استئصال (١) ، إنما حل بظلمهم ، [لا بظلم](٢) من الله تعالى وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ). لم يلبسوا إلا ساعة من النهار ، قال : في قبورهم يتعارفون بينهم إذا خرجوا من قبورهم. وقال بعضهم من أهل التأويل : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) : في الدنيا (٣) ، وأصله كأنهم استقلوا طول مقامهم في الدنيا وما أنعموا فيها ؛ لما عاينوا من أهوال ذلك اليوم وشدائده ، أو استقلوا لبثهم [في الدنيا](٤) ومقامهم ؛ لطول مقامهم في الآخرة في العذاب.

وفيه وجه ثان : وهو أنه يذكر من شدة سفههم وغاية جهلهم أن ما يعدهم من الحشر والعذاب الأبد كأنهم لا يلبثون فيها إلا ساعة من النهار ، حتى لا يبالوا ما يلحقهم من ذلك وما يستوجبون عليه من العذاب باكتسابهم [من](٥) تلك الأسباب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي : يعرف بعضهم بعضا على قدر ما يلعن (٦) بعضهم بعضا ؛ كقوله : (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥]. وعلى قدر ما يتبرأ بعضهم من بعض ثم يفرق بينهم كقوله : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] ، أي : فرقنا بينهم.

__________________

(١) في أ : استئصال وعقوبة.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥٥) ونسبه للضحاك وأبي حيان في البحر المحيط (٥ / ١٦٢).

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في هذا التعارف وجوه :

الأول : يعرف بعضهم بعضا كما كانوا في الدنيا.

الثاني : يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب ، وتبرّأ بعضهم من بعض.

فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)[المعارج : ١٠]؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضا ؛ فيقول كل فريق للآخر : أنت أضللتني يوم كذا ، وزينت لي الفعل القبيح الفلاني ، فهو تعارف توبيخ وتباعد وتقاطع ، لا تعارف عطف وشفقة.

وأما قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) فهو سؤال رحمة وعطف.

والثاني : أن هاتين الآيتين على حالين ، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة ؛ فلذلك لا يسأل حميم حميما.

ينظر اللباب (١٠ / ٣٤٣).

٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي : خسروا بما وعدوا في الآخرة من النعم الدائمة بترك اكتسابهم إياها ؛ إذ قد أعطوا ما يكتسبون به نعم الآخرة ، فاكتسبوا ما به خسروا ذلك ؛ فهو كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] أي : ما أصبرهم على اكتساب ما به يستوجبون النار.

والثاني : [قد](١) خسروا [...](٢).

قوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : «إما» حرف شك ، وكذلك حرف أو ، لكن يكون تأويله ـ والله أعلم ـ على حذف إما وإضمار حرف «إن» كأنه يقول : إن أريناك إنما نرينك بعض ما نعدهم لا كل ما نعدهم ، أو نتوفينك ولا نرينك شيئا (٣). أو أن يكون قوله : إن نرينك بعض ما نعدهم أي : لقد نريك بعض ما نعدهم ؛ وهو كقوله : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨] ، فعلى هذا التأويل يريه بعض ما يعدهم ، ولا يريه (٤) كل ما وعدهم.

وعلى التأويل الأول إن أراه إنما يريه بعض ذلك ولا يريه شيئا.

فإن قيل : حرف «إما» حرف شك وكذلك حرف أو كيف يستقيم إضافته إلى الله ، وهو عالم بما كان ويكون وإنما يستقيم إضافته إلى من يجهل العواقب؟!

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) بياض في الأصول.

(٣) وقال ابن عطية : (ولأجلها ، أي : لأجل زيادة «ما» ، جاز دخول النون الثقيلة ، ولو كانت «إن» وحدها لم يجز) أي : إن توكيد الفعل بالنون مشروط بزيادة «ما» بعد «إن» ، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه ، وقد جاء التوكيد في الشرط بغير «إن» كقوله :

من تثقفن منهم فليس بآئب

أبدا وقتل بنى قتيبة شاف

قال ابن خروف : أجاز سيبويه : الإتيان ب (ما) ، وألا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع «ما» ، وألا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصرية ؛ ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين بالهمزة ، أي : نجعلك رائيا بعض الموعودين ، أو بمعنى : الذي نعدهم من العذاب ، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك ، فإنك ستراه في الآخرة.

قال مجاهد : فكان البعض الذي رآه قتلهم ببدر ، وسائر أنواع العذاب بعد موته.

ينظر : المحرر الوجيز (٣ / ١٢٣) ، واللباب (١٠ / ٣٤٤).

(٤) في أ : يريهم.

٤٨

قيل : جميع حروف الشك الذي أضيف إلى الله هو على اليقين والوجوب نحو حرف «عسى» و «لعل» ونحو ذلك ، فعلى ذلك حرف «إما» [و] ، «أو» فهو لم يزل عالما بما كان ويكون في أوقاته.

وأما حرف الاستفهام والشك يخرج على مخرج الإيجاب والإلزام على ما ذكرنا في حرف التشبيه ، أو أن يكون رسول الله وعد لهم أن يريهم شيئا ، فقال عند ذلك : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) لا نرينك شيئا يقول : ليس إليك ما وعدتهم ، إنما ذلك إلينا ؛ كقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران : ١٢٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) : هذا يحتمل ثم الله شهيد لك يوم القيامة على ما فعلوا من التكذيب بالآيات وردها ؛ وهو كقوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ ...) الآية [الأنعام : ١٩]. ويحتمل أنه عالم بما يفعلون لا يغيب عنه شيء وهو وعيد ؛ كقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٦] (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي : لكل أمة فيما خلا رسول الله بعث إليهم لست أنا أول رسول بعثت إليكم ؛ كقوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩].

(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) يحتمل هذا وجهين : يحتمل فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط ؛ أي : يقضى بين الرسل وبين الأمم بالعدل بما كان من الرسل من تبليغ الرسالة إليهم والدعاء إلى دين الله ، ومن الأمم من التكذيب للرسل والرد للآيات ، قضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون لا يزاد على ما كان ولا ينقص.

ويحتمل قوله : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : يهلك المكذبون منهم وينجى الرسل ومن صدقهم (١) ، كقوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [يونس : ١٠٣] ويجوز أن يقضى بين المعرضين وبين المجيبين والمطيعين يوم القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : وذلك أنه (٢) لما أوعدهم العذاب حين قال : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قالوا : متى هذا العذاب (٣) الذي توعدنا هذا يا محمد إن كنت صادقا بأن العذاب نازل بنا في الدنيا ، وهو

__________________

(١) في ب : صدق منهم.

(٢) في أ : أنهم.

(٣) في أ : الوعد.

٤٩

على التأويل الثاني الذي ذكرنا لقد نرينك بعض ما وعدناهم.

فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا أملك أيضا جرّ منفعة إليها يقول : لا أقدر على أن أدفع عن نفسي سوءا حين ينزل بي ، ولا أملك على أن أسوق إليها خيرا البتة ، فإذا لم أملك هذا كيف أملك إنزال العذاب عليكم (١) إنما ذلك إلى الله هو المالك عليه والقادر على ذلك ، لا يملك (٢) أحد ذلك سواه ؛ وذلك كقوله (٣) : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : إذا جاء أجلهم لا يقدرون على تأخيره ولا يستقدمون ، أي : لا يقدرون على تقديمه ، ليس على أنهم لا يطلبون (٤) تأخيره ولا تقديمه فيسألون ذلك ، ولكن لا يؤخر إذا جاء ولا يقدم قبل أجله.

وفيه دلالة ألا يهلك أحد قبل انقضاء أجله ، فهو رد على المعتزلة حيث قالوا : من قتل آخر فإنما قتله قبل أجله ، والله يقول : (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] ، وهم يقولون : يستقدمون ، والله الموفق.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٥٤)

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) يقول ـ والله أعلم ـ : أي منفعة لكم إن أتاكم عذابه؟! لا منفعة لكم في ذلك بل فيه ضرر لكم ، فاستعجال ما لا منفعة فيه سفه وجهل ، يسفههم في سؤالهم العذاب ، ويخبر في قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] أن عذاب الله إذا نزل وجاء وقته لا يملك أحد تقديمه ولا تأخيره ، ولا يملك أحد استقدامه (٥) ولا استئخاره بالقدر والمنزلة ،

__________________

(١) في ب : عليهم.

(٢) في ب : يقدر.

(٣) في أ : وهو كقوله.

(٤) في أ : لا يبطلون.

(٥) في أ : ولا يحتمل استقدامه.

٥٠

كما يحتمل (١) ذلك في الدنيا التقديم والتأخير بالشفاعة والفداء ويذكر عجزه في إنزال العذاب عليهم في قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) : قيل : أي العذاب إذا نزل بكم أمنتم به الآن؟! يخبر عنه أنهم إذا نزل بهم العذاب يؤمنون.

ثم يحتمل قوله : (آمَنْتُمْ بِهِ) أي : بالله وبرسوله ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر : ٨٤] ، ثم أخبر أن إيمانهم لا ينفعهم عند معاينتهم العذاب ؛ وهو كقوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] ، وقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٨٥].

ويحتمل قوله : (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) أي : بالعذاب ؛ لأنهم يكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يوعدهم العذاب ، وهم يستعجلون به استهزاء وتكذيبا ، فإذا نزل بهم آمنوا أي صدقوا بذلك العذاب ، يقول : (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) استهزاء وتكذيبا أنه غير نازل [بكم ذلك](٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) قيل (٣) : أشركوا في ألوهيته وربوبيته وعبادته غيره.

(ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) لأنهم يخلدون فيه ، يقال ذلك بعد ما أدخلوا النار.

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي : لا تجزون إلا بما كنتم كسبتم في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) أي : يستخبرونك.

(أَحَقٌّ هُوَ) يحتمل هذا وجوها.

يحتمل قوله : (أَحَقٌّ هُوَ) العذاب الذي كان يوعدهم أنه ينزل بهم ، على ما قاله عامة أهل التأويل.

ثم قال : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) أي : قل : نعم وربي إنه لحق إنه نازل بكم.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : بفائتين عنه ولا سابقين له.

ويحتمل قوله : (أَحَقٌّ هُوَ) ما يدعوهم إليه من التوحيد ؛ كقولهم لإبراهيم : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ...) الآية [الأنبياء : ٥٥ ، ٥٦] ؛ فعلى ذلك قولهم : (أَحَقٌّ هُوَ) ثم ، أخبر أنه لحق بقوله : (قُلْ إِي

__________________

(١) في أ : لا يحتمل.

(٢) في ب : ذلك بكم.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥٧).

٥١

وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : غائبين فائتين عنه.

ويحتمل الآيات أو محمد أو القرآن أحق هو؟ قل : إي وربي ، قل : نعم إنه لحق ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧] أخبر أن ما يأمرهم به ويدعوهم إليه ليس هو هزوا ولا لعبا ، ولكنه حق أمر من الله تعالى ؛ فعلى ذلك قوله : (أَحَقٌّ هُوَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) : هذا الحرف يحتمل أن يكون من الشاكين [منهم](١) في ذلك طلبوا منه أنه حق ذلك أو لا ، ومن المعاندين استعجال العذاب الذي كان يوعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء به وتكذيبا له ، ومن المتبعين له والمطيعين التصديق له والإيمان به ؛ كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] كانوا فرقا ثلاثة : فرقة قد آمنوا به ، وفرقة قد شكوا فيه ، وفرقة قد كذبوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) : يخبر عنهم أنهم يفدون ويبذلون جميع ما في الأرض لو قدروا عليه عند نزول العذاب بهم لشدة العذاب ، وإن كان الذي منعهم عن الإيمان هو حبهم الدنيا وبخلهم عليها وما فيها بقوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) : الندامة لا تكون إلا سرا بالقلب ، فكأنه قال : حققوا الندامة في قلوبهم على ما كان منهم من التكذيب بالآيات والعناد في ردها. وقال بعضهم : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي : أظهروا الندامة وهو مما يستعمل في الإظهار والإخفاء (٢) ؛ كقوله : شعب : جمع ، وشعب : فرق ونحوه ، وبعد فإنه إذا أسر

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) إذا فسرنا الإسرار بالإخفاء ففيه وجوه :

الأول : أنهم لما رأوا العذاب الشديد ، صاروا مبهوتين ، لم يطيقوا بكاء ولا صراخا سوى إسرار الندامة ، كمن يذهب به ليصلب ، فإنه يبقى مبهوتا لا ينطق بكلمة.

الثاني : أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم ؛ حياء منهم ، وخوفا من توبيخهم.

فإن قيل : إن مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التدبير ، فكيف أقدموا عليه؟

فالجواب : أن هذا الكتمان قبل الاحتراق ، فإذا احترقوا ، تركوا هذا الإخفاء وأظهروه ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا)[المؤمنون : ١٠٦].

الثالث : أنهم أسروا الندامة ؛ لأنهم أخلصوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم ، أي : أنهم إنما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته.

ومن فسر الإسرار بالإظهار ، فإنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا ؛ لأجل حفظ الرئاسة ، وفي القيامة يبطل هذا الغرض ؛ فوجب الإظهار.

ينظر اللباب (١٠ / ٢٥٤ ، ٢٥٥).

٥٢

في نفسه لا بد من أن يضع ذلك في آخر ويخبره بذلك ، فذلك منه إظهار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) يحتمل قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ما توجبه الحكمة ؛ لأن الحكمة توجب تعذيب كل كافر نعمة ، وكل قائل في الله ما لا يليق به ، أو أن يكون تفسير قوله : (بِالْقِسْطِ) ما ذكر ، وهم لا يظلمون.

ويحتمل قوله : (بِالْقِسْطِ) ما ذكر : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ ...) الآية [الإسراء : ١٤] ، والقسط : هو العدل ، وهم يومئذ عرفوا أنه كان يقضي بالعدل في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : إن ما في السموات والأرض كلهم عبيده [وإماؤه وملكه](١) ، لا لمن [تعبدون دونه](٢) من الأصنام والأوثان ، فمن عند من يملك الدنيا والآخرة اطلبوا ذلك منه ؛ لا من عند من لا يملك يبين سفههم في طلبهم الدنيا من عند من يعلمون أنه لا يملك ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : في كل وعد ووعيد أنه كائن لا محالة عذابا أو رحمة.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا ينتفعون بعلمهم ، فنفى عنهم العلم وإن علموا ؛ لما لم ينتفعوا به.

ويحتمل قوله : (لا يَعْلَمُونَ) أي : لم يكتسبوا سبب العلم ، [وهو التأويل والنظر في آياته وحججه.

ويحتمل نفي العلم عنهم لما أعطوا أسباب العلم](٣) فلم يعلموا ، فإن كان على هذا فيكونون معذورين ، وإن كان على الوجهين الأولين فلا عذر لهم في ذلك.

__________________

(١) في ب : وملكه وإماؤه.

(٢) في ب : تعبدونه.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في ب.

٥٣

وفي قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دلالة إثبات البعث من وجهين :

أحدهما : فيما يذكر من قدرته من خلق السموات والأرض وما بينهما [بغلظهما وكثافتهما وشدتهما وعظم خلقتهما](١) ، وأن تلك القدرة خارجة عن وسع البشر وتوهمهم ، فمن قدر على ذلك فهو قادر على إحياء الخلق بعد فنائهم.

والثاني : يخبر عن حكمته من تعليق منافع الأرض بالسماء على بعد ما بينهما ، والإفضال على الخلق بأنواع النعم التي تكبر الإحصاء ، وأن كل شيء منها قد وضع مواضعها ، فلا يحتمل من هذا وصفه في الحكمة يخلق شيئا عبثا باطلا ولو كانوا للفناء لا حياة بعده كان يكون خارجا عن الحكمة ، فظهر أنه خلقهم لأمر أراد بهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : تعلمون أنه هو أحيا الأحياء ، وهو الأموات أيضا وهو كقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨] ، فإذا عرفتم أنه هو يحيي الأحياء وهو يميت الأموات لا غير ، فاعلموا أنه هو يبعثكم وإليه ترجعون ؛ ألزمهم الحجة أولا بالكائن ، ثم أخبرهم عما يكون بالحجة التي ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : وهو هذا القرآن (٢) قال بعضهم : الموعظة : النهي كقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) [النور : ١٧] قيل : ينهاكم أن تعودوا لمثله أبدا. وقال آخرون : الموعظة هي التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب وقال بعضهم [العظة](٣) هي [التي](٤) تلين كل قلب قاس وتجلى كل قلب مظلم وفي القرآن جميع ما ذكرنا فيه النهي ، وفيه الدعاء إلى كل مرغوب ، والزجر عن كل مرهوب ، وهو يلين القلوب القاسية ويجلي القلوب المظلمة إذا تأملوا فيه ، ونظروا ، وتفكروا تفكر المستشهد وطالب الحق.

وقيل : الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون اليابسة ، وتجلي الصدور

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : بغلظها وكثافتها وشدتها وعظم خلقها.

(٢) أما كون القرآن موعظة ؛ فلاشتماله على المواعظ والقصص ، وكونه شفاء ، أي : دواء لجهل ما في الصدور ، أي : شفاء لعمى القلوب ، والصدور موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان ؛ لجوار القلب ، قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وكونه هدى ، أي : من الضلالة ، ورحمة للمؤمنين ، والرحمة : هي النعمة على المحتاج ؛ فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا ، فإنه لا يقال : رحمة ، وإن كان ذلك نعمة ؛ فإنه لم يصنعها إلى المحتاج.

ينظر : اللباب : (١٠ / ٣٥٦).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

٥٤

المظلمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) : إن للدين آفات وداء تضر به وتتلفه كما لهذه الأبدان آفات وأمراض تعمل في إتلافها وإهلاكها ، ثم جعلت لآفات الأبدان وأمراضها أدوية يشفى بها الأبدان [المؤرقة](١) المريضة ؛ فعلى ذلك جعل هذا القرآن شفاء لهذا الدين ودواء يداوى به ، فيذهب بآفات الدين وأمراضه ؛ كما تعمل الأدوية في دفع آفات الأبدان وأمراضها ؛ لذلك سماه موعظة وشفاء لما في الصدور ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) قيل : هدى من الضلالة ، ورحمة من عذابه. أو يقول : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) هدى أي : يدعوا إلى كل خير ويهدي [إليه](٢) ، ورحمة : لمن اتبعه ، هو هدى ورحمة لمن اتبعه وتمسك به ، وعمى وضلال لمن خالفه وترك اتباعه وهو ما ذكر (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤] ، وقال : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] أي : زاد للمؤمنين إيمانا إلى إيمانهم ، و (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) [التوبة : ١٢٥] أي : زاد للكافرين رجسا إلى رجسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) : قال بعضهم : فضل الله ورحمته القرآن (٣).

وقال قائلون : فضل الله القرآن ، ورحمته الإيمان (٤) ، وفيه أنه بإنزال القرآن متفضل إذ له ألا ينزل ، وفيه أن أهل الفترة يؤاخذون في حال فترتهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : فرحكم بما ذكر [هو](٥) خير مما تجمعون من الدنيا.

وقال بعضهم : قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) : إنما خاطب المؤمنين بقول : قل للمؤمنين بفضل الله : الإسلام ، وبرحمته : يعني القرآن (٦) فبذلك يعني فبهذا الفضل والرحمة فليفرحوا يعني المؤمنين ، هو خير مما يجمعون يعني مما يجمع الكفار من الأموال من الذهب والفضة وغيره.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٦٩) (١٧٦٩٢ ، ١٧٦٩٣) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٥٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة عن مجاهد.

(٤) ذكره بمعناه البغوي (٢ / ٣٥٨) ونسبه لقتادة ومجاهد وابن عادل في اللباب (١٠ / ٣٥٩).

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩) عن كل من : هلال بن يساف (١٧٦٨٤ ، ١٧٦٨٥ ، ١٧٦٨٦ ، ١٧٦٨٧ ، ١٧٦٨٨ ، ١٧٦٩٦).

٥٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ).

[يحتمل (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ)](١) أضاف إنزاله إلى السماء ، وإن كانت الأرزاق إنما تخرج من الأرض لما كانت أسبابها متعلقة بالسماء ، يكون نضج الأنزال وينع الأعناب وإصلاح الأشياء كلها أعني أسباب الأرزاق من نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات وبه يخرج جميع أنواع الخارج مما يكون فيه غذاء البشر والدواب ، ومن نحو الشمس التي [ينضج بها](٢) الأنزال وبها تينع الأعناب وجميع الفواكه ونحوه أضاف ذلك إلى السماء لما ذكرنا.

وكذلك قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] أي : أسباب ذلك في السماء ؛ لا أن عين ذلك في السماء.

ويحتمل قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : ما خلق الله لكم ؛ وكذلك جميع ما يضاف إلى الله إنما يضاف إليه بحق الخلق أي خلقه منزلا ؛ كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] ونحو ذلك ، أي : خلق لكم مما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) : قال بعضهم : ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة وما ذكر في سورة الأنعام والمائدة (٣).

وقال بعضهم : ما حرموا الآلهة التي كانوا عبدوها ، أي : جعلوها للأصنام وهو ما ذكر في الأنعام ، وهو قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ...) الآية [١٣٦] نحو ما ذكرنا في الآية ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي : آلله أذن لكم في تحريم ما حرمتم وتحليل ما أحللتم أم على الله تفترون : [بل على الله تفترون](٤) وذلك أن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة وهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل والكتب ، وإنما يوصل إلى معرفة [المحرم والمحلل](٥) بالرسل والكتب والخبر عن الله ، وهم لم يكونوا

__________________

ـ قتادة (١٧٦٩٠) ، والحسن (١٧٦٩١) ، وابن عباس (١٧٦٩٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٥٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله ، وللبيهقي عن زيد بن أسلم وهلال بن يساف.

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : بها ينضج.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٧١) (١٧٧٠٦ ، ١٧٧٠٧) عن مجاهد ، وبمثله عن ابن زيد (١٧٧٠٩) ، والضحاك (١٧٧١٠) ، وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥٨).

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : المحلل والمحرم.

٥٦

مؤمنين بواحد مما ذكرنا ، فكيف جعلتم منه حراما وحلالا وأنتم لا تؤمنون بما به يعرف الحلال من الحرام ، فكيف حرمتم ما أحل لكم أو أحللتم ما حرم عليكم؟! يخبر عن سفههم وعنادهم وافترائهم على الله ، فإذا اجترءوا أن يفتروا على الله فعلى غيره أجرأ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : فإن قيل كيف أوعدوا بيوم القيامة وهم كانوا لا يؤمنون بالبعث؟! قيل : قد ألزمهم الحجة بكون البعث بما أظهر من كذبهم وافترائهم على الله في التحريم والتحليل ، فذلك يظهر كذبهم بتكذيبهم البعث.

وبعد فإنه قد يوعد المرء بما لا يتيقن به ويتخوف عليه ويحذر وإن لم يحط علمه به ، فكذلك هذا.

وبعد فإنه قد جعل في عقولهم ما يلزمهم الإيمان بالبعث والجزاء للأعمال ؛ إذ ليس من الحكمة خلق الخلق للفناء خاصة.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن يقول : وما ظن الذين يفترون على الله الكذب لو خرج الأمر حقّا ، وكان صدقا على ما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاله من البعث والجزاء لما اكتسبوا؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) : هو ذو فضل على جميع الناس من [جهة ما ساق](١) إلى الكل من الرزق كافرهم ومؤمنهم وأنواع النعم ، وما أخر عنهم العذاب إلى وقت ، أو لما بعث إليهم الرسل والكتب من غير أن كان منهم إلى الله سابقة صنع يستوجبون به ذلك ومنه خصوص فضل على المؤمنين ليس ذلك على الكافرين ، ولكن أكثرهم لا يشكرون لفضله وما أنعم عليهم.

قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) قال بعضهم من أهل التأويل : في شأن : في

__________________

(١) في ب : جهة وهو ما ساق.

٥٧

أمرك وحالاتك وما تتلو منه من قرآن تبلغهم به الرسالة وقال بعضهم : قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي : في عبادة.

(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) : تبلغهم به الرسالة.

(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) : يخاطب نبيه تنبيها منه وإيقاظا والمراد منه هو وغيره ، ألا ترى أنه قال : (وَلا تَعْمَلُونَ) من عمل عمهم جميعا في ذلك ، يخبر أنكم في كل أمر يكون بينكم وبين ربكم ، وفي كل أمر بينكم وبين الناس ـ فلله لكم وعليكم شهود ، أو كل عمل تعملون لكم وعليكم شهود ينبههم ويوقظهم ليكونوا على حذر أبدا منتبهين [متيقظين (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) قال بعضهم : (تُفِيضُونَ فِيهِ) تأخذون فيه وتخوضون فيه.

وقيل : تقولون فيه.](١) وقيل : يكثرون فيه ؛ وكله واحد.

ثم يحتمل قوله : (فِيهِ) في الحق ، ويحتمل في الدين ، ويحتمل في القرآن ، ويحتمل في رسول الله ؛ يقول : أنا شاهد فيما تخوضون وفيما تقولون في رسول الله ، أو في دينه ، أو فيما يتلو عليكم.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) : لا يعزب (٢) ، [أي : لا يغيب](٣) عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ، ولا في السماء فيما لا أمر فيه ولا نهي ولا كلفة ، فالذى فيه السؤال والأمر والنهي والكلفة أحرى وأولى ألا يغيب عنه شيء.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) قرأ الكسائي هنا ، وفي سبأ [٣] : (يَعْزُبُ) بكسر الزاى ، والباقون بضمها ، وهما لغتان في مضارع «عزب» ، يقال : عزب يعزب ويعزب ، أي : غاب حتى خفي ، ومنه الروض العازب ؛ قال أبو تمام :

وقلقل نأى من خراسان جأشها

فقلت : اطمئنّى ، أنضر الروض عازبه

وقيل للغائب عن أهله : «عازب» ، حتى قالوا لمن لا زوج له : عازب.

وقال الراغب : (العازب : المتباعد في طلب الكلأ ، ويقال : رجل عزب ، وامرأة عزبة ، وعزب عنه حلمه ، أي : غاب ، وقوم معزبون ، أي : عزبت عنهم إبلهم) ، وفي الحديث : «من قرأ القرآن في أربعين يوما ، فقد عزب» ، أي : فقد بعد عهده بالختمة ، وقال قريبا منه الهروي ، فإنه قال : (أى : بعد عهده بما ابتدأ منه ، وأبطأ في تلاوته) وفي حديث أم معبد : (والشاء عازب حيال).

قال : والعازب : البعيد الذهاب في المرعى ، والحائل : التي ضربها الفحل ، فلم تحمل لجدوبة السنة ، وفي الحديث أيضا : «أصبحنا بأرض عزوبة صحراء» أي : بعيدة المرعى. ويقال للمال الغائب : عازب ، وللحاضر : عاهن ، والمعنى في الآية : وما يبعد ، أو : ما يخفى ، أو : ما يغيب عن ربك.

ينظر اللباب (١٠ / ٣٦٣ ، ٣٦٤).

(٣) سقط في أ.

٥٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ) هو تحذير وتخويف بتمثيل لا وعيد بتقرير وتصريح ؛ لأن الوعيد على وجهين :

أحدهما : على التمثيل (١) ، والآخر على التقرير (٢) في عينه وتصريح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قيل : ما قل وما كثر إلا في كتاب ، أي : إلا في اللوح المحفوظ [مبين](٣) ، ويحتمل إلا في كتاب مبين ، أي : في الكتب المنزلة من السماء والله أعلم.

وقال أبو بكر الأصم في قوله : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي تنتشرون ، وتأويله ولا تعملون من عمل تنتشرون فيه إلا كنا عليكم شهودا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن أصحاب الكبائر ليسوا بمؤمنين ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين لكانوا أولياء الله ، وإذا كانوا أولياء الله لكان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فإذا كان لا شك أن على أصحاب الكبائر خوف وحزن [دل أنهم ليسوا بمؤمنين ولا لهم ولاية الإيمان لكن التأويل عندنا ـ والله أعلم ـ :](٤)(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٥)

__________________

(١) في أ : التمثال.

(٢) في أ : التعزير.

(٣) سقط في ب.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في أ : في وقت دون وقت ، ويجوز لأصحاب الكبائر لا خوف عليهم ولا حزن في وقت ، وليس في الآية أن ليس على أولياء الله خوف ولا حزن من أول الأمر إلى آخره. ويحتمل قوله.

(٥) (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ ...) الآية ، اختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم :

فقال بعضهم : هم الذين ذكرهم الله في كتابه ، بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

وقال قوم : هم المتحابون في الله : لما روى أبو مالك الأشعري ، قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة» ، قال : وفي ناحية المسجد أعرابي ، فجثا على ركبتيه ، ورمى بيديه ، ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم ، قال : فرأيت في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البشر ؛ فقال : «هم عباد من عباد الله ، من بلدان شتى ، وقبائل شتى ، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، ولا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا ، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن ، يفزع الناس ولا يفزعون ، ويخاف الناس ولا يخافون».

قال أبو بكر الأصم : أولياء الله : هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان ، وتولوا القيام بحق العبودية ، والدعوة إليه.

واعلم : أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كلّ شيء هو الذي يكون قريبا منه ، والقرب من الله ـ تعالى ـ بالمكان والجهة محال ؛ فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله ـ تعالى ـ فإن رأى ، رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع ، سمع آيات الله ، وإن نطق ، نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك ، تحرك في خدمة الله ، وإن اجتهد ، اجتهد في طاعة الله ، فهناك يكون في غاية القرب من الله ؛ فحينئذ يكون وليّا.

ينظر اللباب (١٠ / ٣٦٦).

٥٩

على ما يكون لأهل الدنيا في الدنيا من الخوف والحزن ، إنما خوفهم وحزنهم لعاقبتهم ، ويشبه ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الجنة ، وهكذا يكون إذا دخلوا الجنة يأمنون عن جميع ما ينقصهم (١).

وقال بعضهم : (أَوْلِياءَ اللهِ) هم أهل التوحيد ، لكن تلك البشارة وذلك الوعد لأهل التوحيد في الاعتقاد والوفاء جميعا ، لا لأهل الاعتقاد خاصة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال بعضهم : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الرؤيا الصالحة ؛ وعلى ذلك رويت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن هذه الآية ففسر بالرؤيا الصالحة ، فإن ثبت فهو الحق (٢).

وقال بعضهم : لا تحتمل الرؤيا الصالحة [؛ لأنه نسق البشرى في الآخرة على البشرى في الحياة الدنيا ، ولا شك أنه لا يكون في الآخرة الرؤيا الصالحة ،](٣) ولكن إن ثبت ما ذكرنا من (٤) الخبر ؛ فهو ذلك.

ويشبه أن يكون البشارة التي ذكر هاهنا ؛ نحو قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ...) الآية [الزمر : ١٧ ، ١٨] ، وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢] ، وقوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الشورى : ٢٣] ، وأمثال ذلك.

وقال بعض أهل التأويل : لهم البشرى في الحياة الدنيا تبشرهم الملائكة عند الموت وفي الآخرة الجنة (٥). والله أعلم.

__________________

(١) في أ : ينفعهم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٧٧ ـ ٥٨٠) عن كل من :

أبي الدرداء (١٧٧٣٢ و ١٧٧٣٨ و ١٧٧٣٩ و ١٧٧٤٨ و ١٧٧٥٠ و ١٧٧٥١ و ١٧٧٥٢ و ١٧٧٥٣) ، وعبادة بن الصامت (١٧٧٣٣ و ١٧٧٣٤ و ١٧٧٣٥ و ١٧٧٣٦ و ١٧٧٣٧ و ١٧٧٤٠ و ١٧٧٤٥ و ١٧٧٤٦ و ١٧٧٥٤ و ١٧٧٥٥ و ١٧٧٥٦ و ١٧٧٥٨ و ١٧٧٧١) ، وأبي هريرة (١٧٧٤١ و ١٧٧٤٢ و ١٧٧٤٣).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٥٩) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء مرفوعا.

وللطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والهيثم بن كليب الشامي والحكيم الترمذي وابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبادة بن الصامت مرفوعا.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٤) في أ : في.

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٨١) (١٧٧٧٢) عن قتادة ، (١٧٧٧٣) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٢) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الزهري وقتادة.

٦٠