تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وجلين خائفين على سلب ما هم عليه ، وهكذا الواجب أن يكون الخوف على من نعمه عليه أكثر ؛ فخوفه أشد.

وقال أبو عوسجة : (وَاجْنُبْنِي) أي : باعدني ، وجنبني أيضا. وقال القتبي (١) : أي : جنبني وإياهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ).

نسب الإضلال إلى الأصنام ـ وإن لم يكن لها صنع في الإضلال لأنهم بها ضلوا ، وكانت الأصنام سبب إضلالهم ، وقد تنسب الأشياء إلى الأسباب ، وإن لم يكن للأسباب صنع فيها نحو ما ذكرنا من قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ...) [التوبة : ١٢٥] والسورة لا تزيدهم رجسا ، لكن نسب الرجس إليها لما كانت هي سبب زيادة رجسهم ، وهو أنها لما نزلت يزداد لهم بها تكذيبا وكفرا بها ، فنسب ذلك إليها ، فعلى ذلك الأول.

والثاني : ينسب إلى الأحوال التي كانت بها؟ ما لو كانت تلك بذوات الأرواح ، لكانت تضل وتغوي [كذي الروح] ممن يكون منه الإضلال ، لأنها تزين وتحلى بالأشياء ؛ نحو ما نسب الغرور إلى الدنيا ؛ وإن كانت الدنيا لا تغر ؛ لأنها تكون بحال لو كانت تلك الأحوال من ذي الروح لكان ذلك تغريرا ، فعلى ذلك نسبة الإضلال إلى الأصنام. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي).

يشبه أن يكون (مِنِّي) : أي : موافقي في الدين ، أو في الولاية ، وحاصله ـ والله أعلم ـ : معي في الدين وفي أمر الدين ، وكذلك [معنى ما روي :](٢) «من غش فليس منا» أي : ليس بموافق لنا ، أو ليس معنا ، أو ليس من ملتنا ، وكذلك قوله : (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : من ملتى.

وحاصله : فمن تبعني وأجابني فيما دعوته إليه وأمرته به فإنه مني ؛ أي : مما أنا عليه ، وكذلك قوله : «من غش فليس منا» (٣) أي : ليس مما نحن عليه.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٣٣).

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٣٤٨ ـ الأبي) كتاب الإيمان : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من غش فليس منا» حديث (١٦٤ / ١٠٢) ، وأبو داود (٢ / ٢٩٤) كتاب البيوع : باب في النهي عن الغش حديث (٣٤٥٢) ، والترمذي (٣ / ٥٧٩) كتاب البيوع : باب ما جاء في كراهية الغش في البيع حديث (١٣١٥) ، وابن ماجه (٢ / ٧٤٩) كتاب التجارات : باب النهي عن الغش حديث (٢٢٢٤) ، وأبو عوانة (١ / ٥٧) ، وأحمد (٢ / ٢٤٢) ، والحميدي (٢ / ٤٤٧) رقم (١٠٣٣) ، وابن الجارود في (المنتقى) رقم (٥٦٤) ، وابن حبان (٤٩٠٥ ـ الإحسان) ، وابن مندة في (الإيمان) رقم (٥٥٠ ، ٥٥١ ، ٥٥٢) والطحاوي في مشكل الآثار (٢ / ١٣٤) ، والحاكم (٢ / ٨ ـ ٩) ، والبيهقي (٥ / ٣٢٠) كتاب البيوع ، كلهم من طريق ـ

٤٠١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يشبه قوله : (وَمَنْ عَصانِي) ليس عصيان شرك ، ولكن عصيان ما دون الشرك ؛ فإنه غفور رحيم. أو من عصاني فإنك غفور ؛ أي : ساتر عليه الكفر إلى وقت معلوم ؛ إذ الغفران : هو الستر ؛ فستر عليه إلى أجل ؛ كقوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) أو يقول : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي : تمكن له من التوبة والإسلام ؛ فيسلم ويتوب ؛ فتغفر له ما كان منه من العصيان ؛ وترحم عليه.

وقوله : (وَمَنْ عَصانِي) فيما دعوته إليه وأمرته به (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تمكن له من التوبة ، والرجوع عما كان ؛ فتغفر له وترحمه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ).

لا يحتمل أن يكون قال هذا أول ما قدم تلك البقعة ؛ لأنه قال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولا بيت هنالك ، دل أنه إنما دعا بهذه الدعوات : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) وما ذكر (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ...) [البقرة : ١٢٨] إلى آخر ما ذكر ؛ بعد ما رفع البيت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) دل أنه إنما أسكن بعض ذريته ؛ لم يسكن ذريته كلها ؛ حيث قال : (مِنْ ذُرِّيَّتِي).

قد امتحنه الله بمحن ثلاثة ؛ لم يمتحن بمثلها أحدا من الأنبياء :

أحدها : امتحنه بإسكان ولده بواد غير ذي زرع ؛ وغير ذي ماء ، مما لا يحتمل قلب بشر تركه في مثل ذلك المكان مثله ، دل أنه إنما فعل بأمر من الله تعالى.

والثاني : امتحنه بذبح ولده حتى إذا أشرف على الهلاك ـ فداه الله تعالى بكبش.

[والثالث](١) : امتحنه بإلقائه في النار ؛ فألقى حتى إذا أشرف على الهلاك ـ جعلها الله

__________________

ـ العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم.

قلت : وقد وهم رحمه‌الله في ذلك فالحديث في صحيح مسلم كما تقدم في التخريج.

وللحديث شواهد من حديث ابن عمر وأبي بردة بن يسار وابن مسعود والحارث بن سويد وقيس ابن أبي غرزة وأبي الحمراء وعائشة.

حديث ابن عمر :

أخرجه أحمد (٢ / ٥٠) والبزار (٢ / ٨٢) رقم (١٢٥٥) من طريق ابن معشر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من غشنا فليس منا».

والحديث ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) (٢ / ٢٨٨) وقال : رواه أحمد والبزار والطبراني في (الأوسط) وفيه أبو معشر وهو صدوق وضعفه جماعة.

(١) سقط في أ.

٤٠٢

تعالى عليه بردا وسلاما.

ففي ذلك كله دلالة رسالته.

وكانت له هجرتان : إحداهما إلى مكة ؛ حيث أسكن فيها ولده ، والهجرة الثانية إلى بيت المقدس ؛ وهو ما ذكر : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ...) الآية [الأنبياء : ٧١].

ثم قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) هو دعاء بتعريض لا بتصريح ، والدعاء بالتعريض ؛ والسؤال بالكناية أبلغ وأكثر من السؤال بالتصريح ، وهو كدعاء آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣] فهذا أبلغ في السؤال من قوله : اغفر لنا وارحمنا ؛ لأن مثل هذا قد سئل من دونه ؛ ولا يكون فيه ما ذكر فيه من الخسران.

وقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون كلمة (من) صلة ؛ أي : أسكنت ذريتي ، ويحتمل على التبعيض ؛ أي : أسكنت بعض ذريتي ، على ما ذكر في بعض التأويلات : إسماعيل وإسحاق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ).

يحتمل قوله : (الْمُحَرَّمِ) وجهين :

أحدهما : حرمه أن يستحل فيه ما لا يحل ولا يصلح ؛ لكنه خص تلك البقعة بالذكر ؛ وإن كان ذلك لا يحل في غيرها من البقاع ؛ لفضل الحرمة التي جعلها الله لها ، كما خص المساجد بأشياء ؛ لفضلها على غيرها من الأمكنة والبقاع.

والثاني : قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) : أي : الممنوع ؛ يقال : حرم : أي : منع ؛ كقوله :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [القصص : ١٢] ليس ذلك على التحريم ألا يحل له المراضع ؛ ولكن على المنع ؛ أي : منعنا عنه ؛ لنرده إلى أمه ، فعلى ذلك قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي : الممنوع عن الخلق لله ؛ حتى لم يقدر واحد (١) من الفراعنة والملوك الغلبة عليها وإدخالها في منافع أنفسهم ، بل هي ممنوعة عنهم ؛ على ما كان ، وفيه آية الوحدانية له والألوهية. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ).

قال بعض أهل التأويل : فيه تقديم يقول : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ليقيموا الصلاة لك عند بيتك.

__________________

(١) في ب : أحد.

٤٠٣

ويحتمل أيضا غير هذا ؛ وهو أن يقال : (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي : ليس فيه ما يشغلهم عن الصلاة ؛ لأن الزرع وغيره من النعيم يمنع الناس عن إقامة الصلاة ، [والعبادة لهم ، أي : أسكنت من ذريتي بواد ليس فيه زرع يشغلهم عن إقامة الصلاة](١) ثم يحتمل الصلاة : الصلاة المعروفة ، ويحتمل الصلاة : الدعاء والأذكار ؛ وغيرها من الدعوات ، ويحتمل قوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) : [الصلاة](٢) نفسها ؛ وغيرها من الطاعات ، وكذلك قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ).

يحتمل سؤاله ربه ـ أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ـ وجهين :

أحدهما : لما أسكن ذريته في مكان لا ماء (٣) فيه ولا نبات ولا زرع ؛ ففى مثل هذا المكان يستوحش المقام فيه ؛ فسأل ربه أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ؛ ليأتوا ذلك المكان ؛ فتذهب عنهم تلك الوحشة ؛ فيستأنس بهم ، أو سأله أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ؛ ليتعيشوا بما ينقل إليهم من الزاد والأطعمة إذ أسكنهم في مكان لا زرع فيه ، ولا ماء يعيشون فيه به ، وقد جعل الله بنية هذا البشر ؛ أن لا قوام لهم إلا بالأغذية والأطعمة ، فسأل ربه ؛ ليتعيشوا بما يحمل إليهم.

وقال أهل التأويل (٤) : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) للحج ، وقالوا : لو قال :

فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ؛ ولم يقل (من) لحجه الخلق جميعا : الكافر والمؤمن ، لكن لا يحتمل عندنا أن يكون سؤاله للخلق جميعا أو يكون قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] للخلائق جميعا : للكافر والمؤمن ، بل يرجع ذلك إلى خصوص. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

يحتمل : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك الثمرات ، ويحتمل : لعلهم يشكرون بما جعل لهم من التعيش بما يحمل (٥) إليهم من الأغذية والأطعمة.

وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ليس على تخصيص الثمرات ، ولكن سأل الثمرات وما

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بناء.

(٤) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٥٠) وعن مجاهد (٢٠٨٥١ ، ٢٠٨٥٢ ، ٢٠٨٥٣) وعكرمة (٢٠٨٥٤) ، وغيرهم وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٦١).

(٥) في ب : يحل.

٤٠٤

به غذاؤهم وقوامهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ).

لا يحتمل أن يكون مثل هذا الدعاء [منه](١) مبتدأ ، بل كأنه ـ والله أعلم ـ عن نازلة دعاه ؛ إذ يعلم صلوات الله عليه أنه كان يعلم ما يخفون وما يعلنون ، لكن لم يبين : ما تلك النازلة؟ وأهل التأويل يقولون : قال هذا ؛ أي : (تَعْلَمُ ما نُخْفِي) من الحزن والوجد على إسماعيل وأمه حين تركهما بواد لا ماء فيه ولا زرع ، ويقولون : (وَما نُعْلِنُ) وهو قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) ، لكن لا نعلم ذلك. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

كان هذا جوابا عن الله وإخبارا منه إياه ؛ أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ أي : لا يخفى عليه ما لا أمر فيه ولا نهي ولا جزاء ؛ فكيف يخفى عليه الأعمال التي عليها الجزاء والأمر؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ).

قال أهل التأويل (٢) : إنه وهب له الولد ؛ وهو ابن كذا وامرأته ابنة كذا ؛ لكن لا نعلم ذلك سوى ما ذكر أنه وهب له الولد على الكبر في وقت الإياس عن الولد ؛ حيث بشر بالولد ؛ فقال : (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) [الحجر : ٥٤] وحيث قالت امرأته لما بشرت بالولد (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] يعلم أنه وهب له الولد ؛ وهما كانا كبيرين في وقت الإياس عن الولد.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) يكون حمده على الأمرين جميعا : على الهبة ؛ وعلى الولادة في حال الكبر ؛ وهو حال الإياس ؛ إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) قيل : لمجيب الدعاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).

قد سبق من الله الأمر بإقامة الصلاة ؛ وهو المقيم لها ؛ فدل الدعاء منه والسؤال ؛ على أن يجعله مقيم الصلاة ـ أن عند الله لطفا سوى الأمر لم يعطه ؛ فسأله ذلك ؛ هو التوفيق.

وعلى قول المعتزلة ؛ لقولهم : إنه قد أعطى كل شيء حتى لم يبق عنده ما يعطيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٦٥).

٤٠٥

قال بعضهم : تقبل دعائي في إقامة الصلاة لنفسه وذريته ؛ لكن لا يجب أن يخص دعاء من الدعوات التي سأل ربه ؛ وقد دعا ربه بدعوات كثيرة ؛ نحو ما قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ، وقال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ، وغير ذلك من الدعوات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ).

طلب من ربه المغفرة لوالديه.

قال الحسن : إن أمّه كانت مسلمة ، وأما أبوه : فكان (١) كافرا ؛ لأنه قال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦] فخص (٢) والده بالضلال ؛ دل أن أمه كانت مسلمة ؛ لكنا لا نعلم ما حال الأم : أمه كانت مسلمة أو كافرة ، وأما أبوه فهو لا شك أنه كان كافرا.

ثم [لا](٣) يحتمل دعاؤه لوالديه ؛ وهما كافران ؛ إن كانت (٤) أمّه كافرة ؛ إلا على إضمار الإسلام ؛ أي : اغفر لهما إن أسلما ، أو أن يكون سؤاله المغفرة لهما سؤال الإسلام نفسه ، أو أن يكون طلب منه الستر عليهما في الدنيا ، وألّا يفضحهما ولا يخزيهما ، لكنه سأل المغفرة يوم يقوم الحساب. ولا يحتمل طلب الستر إلا أن يفصل بين قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وبين قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يبتدئ بالمؤمنين يوم يقوم الحساب ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ودعاء إبراهيم وسؤاله المغفرة لوالديه يكون سؤال السبب ؛ الذي يستحقان به المغفرة من ربها ، ويكونان أهلا لها ؛ وهو التوحيد ومعرفة المولى ؛ وهو ما ذكرنا في أمر نوح قومه الاستغفار له ، وكذلك قول هود ؛ حيث قال : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ...) الآية [هود : ٥٢] وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).

يحتمل قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) : بالعدل ؛ يقول الرجل لآخر : أقم حسابي أي : اعدل فيه. وإقامة الحساب : العدل فيه ؛ على ما توجبه (٥) الحكمة ، لا يزاد ولا ينقص ؛ كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) [الأنبياء : ٤٦] قال بعضهم (٦) : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) : يوم يحاسبون ، قيام الحساب : هو المحاسبة نفسها والله أعلم.

__________________

(١) في ب : كان.

(٢) في ب : خص.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : كان.

(٥) في أ : يوجب.

(٦) قاله البغوي (٣ / ٣٩).

٤٠٦

ويحتمل قوله : (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) كانت له حاجات أخفاها ، طلب قضاءها ؛ فقال : تعلم حاجاتي ؛ أخفيتها ، أو أعلنتها فاقضها لي ، أو أن يكون قومه طعنوا في شيء ؛ فقال ذلك على التبري من ذلك ؛ إنه يعلم ما نخفي وما نعلن ، ولم يعلم ذلك الذين يطعنون في (مِنِّي) والله أعلم ؛ كقول عيسى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] أو أن يكون قال ذلك ؛ لأن أهل الأديان جميعا كانوا يوالون إبراهيم ويدعون أنه على دينهم ؛ ولذلك قال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ...) [آل عمران : ٦٧] الآية.

برأه الله مما ادعى كل فريق.

ثم منهم ؛ من كان من هذه الفرق ؛ يدعون الأسرار عن الله والإخفاء عنه ؛ فقال هذا ليعلم الناس توحيده ؛ أنه لا يخفى عليه شيء ؛ أخفي أو أعلن ؛ ليعرفوا توحيده أنه ليس شيء يخفى عليه. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

قال بعضهم : المخاطب بهذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ؛ على علم منه أن رسول الله كان لا يظن أن الله يغفل عما يعمل الظالمون ؛ لكنه خاطب به كما خاطب به في قوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [القصص : ٨٨] وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص : ٨٧] وأمثاله ، نهاه مع العلم أنه لا يفعل (١) ذلك ، وأصله في هذا أن العصمة لا ترفع المحنة ، وليس المحنة إلا الأمر والنهي ؛ إذ لو رفعت العصمة المحنة ؛ والأمر والنهي ؛

__________________

(١) في أ : يغفل.

٤٠٧

لذهبت فائدة العصمة ، ولا حاجة تقع إليها ، فدل أن العصمة تزيد في المحنة ، ومع المحنة يحتاج إليها وينتفع بها.

ويحتمل أن يكون الخطاب بالآية غيره ، كل ظانّ يظن بالله الغفلة عن ظلم الظالم ؛ وهو كما خاطب بقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] إنما خاطب به كل غارّ بربه الكريم لا كل إنسان ، فعلى ذلك خاطب بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) كل ظانّ بالله الغفلة عن ظلم الظالمين (١) ، ثم إن الذي حملهم على الظن بالله الغفلة عن ظلم الظالم ـ حلمه (٢) ، وتأخيره العذاب عنهم عن وقت ظلمهم ، وترك أخذهم بذلك : فمنهم من ادعى الغفلة عن ذلك ؛ لما رأوا من عادة ملوك الأرض أن من ظلم [أحدا](٣) منهم انتقم منه في أعجل وقت يقدر على الانتقام منه ؛ فحمل تأخير الله العذاب منهم ؛ والانتقام منهم ـ على القول بالغفلة. ومنهم من ادعى الرضا ؛ بما اختاروا هم من الشرك والكفر بالله ، وادعوا الأمر بذلك ؛ لما لم يأخذهم ولم يستأصلهم بصنيعهم ؛ فاستدلوا بذلك [على] رضاه بفعلهم (٤) ، وأمره إياهم بذلك. فأخبر رسوله أن تأخيره العذاب عنهم وإمهاله إياهم ـ ليس عن غفلة [عنه](٥) ولا عن سهو ، ولا لرضاه به وأمره ولكن إنما يؤخرهم ليوم ، ثم وصف ذلك اليوم ؛ لشدة فزعه وهوله فقال.

(لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).

قال بعضهم : هذا كله يرجع إلى الطرف والبصر ؛ يقول : شاخصة أبصارهم مهطعين : ناظرين إليه ؛ أي : إلى الداعي ، مقنعي رءوسهم : رافعي رءوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم ؛ لهول ذلك اليوم ، هذا كله يصرفون إلى الأبصار دون النفس ؛ لأن الإهطاع والإقناع : هو للنظر ولشخوص الأبصار.

ومنهم من صرف قوله : (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) ، و (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) إلى البصر ، وصرف قوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) إلى الأنفس ؛ وهو ما ذكر في موضع آخر : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] أي : مسرعين إليه الإجابة ؛ رجاء التخلص والنجاة عما حل بهم ؛ بترك الإجابة.

__________________

(١) في أ : الظالم.

(٢) في أ : حمله.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بفعله.

(٥) سقط في أ.

٤٠٨

والإهطاع : قيل (١) : هو النظر الدائم ، والإقناع : هو الرفع ؛ رفع الرءوس ، مهطعين : أي : مديمي النظر ، مقنعي رءوسهم أي : رافعيها ، وعلى تأويل بعضهم (٢) : مسرعين ؛ على ما ذكرنا. وقال بعضهم (٣) : (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : أي : رافعيها ؛ ملتزقة إلى أعناقهم.

وقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). [يخرج على وجهين :

أحدهما : يقول : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)](٤) وقت خلقه الخلق وإنشائهم ؛ عما يكون منهم من الظلم ؛ أي : لا عن غفلة وسهو عن ظلم الظالمين أنشأهم وخلقهم ؛ ولكن على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم ؛ لكن أنشأهم على علم منه ؛ [بذلك ؛ لأن منافع ما يكون منهم وضرره يرجع إليهم ؛ فلم يخرج إنشاؤه إياهم على علم منه ذلك](٥) عن الحكمة.

والثاني : ما ذكرنا أن تأخيره العذاب عنهم ـ ليس لغفلة منه بذلك ؛ ولكن لما في أخذهم بالعذاب وقت صنيعهم زوال المحنة ؛ لأنه يصير العذاب والثواب مشاهدة. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ).

[قيل](٦) : خالية ؛ لهول ذلك اليوم ؛ أي : خالية عن التدبير ؛ لأن في الشاهد أن من بلي ببلايا وشدائد يتدبر ويتفكر في دفع ذلك ؛ فيخبر أن أفئدتهم هواء يومئذ : أي : خالية عن التدبير ؛ إذ أفئدتهم لا تكون معهم ؛ لشدة أهواله.

وقال بعضهم (٧) : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي : لا شيء فيها ؛ ما ينتفعون بها ، وهكذا الهواء ـ هواء كل شيء ـ يوصف بالخلاء عن كل شىء. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٧١) وعن أبي الضحى (٢٠٨٧٢) ، والضحاك (٢٠٨٧٤ ، ٢٠٨٧٦) ومجاهد (٢٠٨٧٧ ، ٢٠٨٧٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٦٣).

(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٦٨) ، وعن قتادة (٢٠٨٦٩ ، ٢٠٨٧٠) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٦٣).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٨٠) وعن مجاهد (٢٠٨٨١ ، ٢٠٨٨٢) والضحاك (٢٠٨٨٥ ، ٢٠٨٨٨) وغيرهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩٠١) ، وعن مجاهد (٢٠٩٠٢) وابن زيد (٢٠٩٠٣) وغيرهم.

٤٠٩

أَجَلٍ قَرِيبٍ).

يحتمل قوله : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) قولهم الذي يقولون يومئذ : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ). ويحتمل : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) الذي يحل بهم.

ثم أخبر عما يقولون ـ إذا حل بهم العذاب ـ : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال بعضهم : إلى الدنيا ؛ والدنيا أجلها قريب ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأن الدنيا أولى ، والآخرة آخرة ، فلو جاز هذا لتكون الآخرة أولى ؛ فذلك بعيد ، لكن طلبوا ـ والله أعلم ـ الردّ إلى حال الأمن ؛ ليجيبوا داعيه ؛ إذ لم تنفعهم إجابتهم في حال الخوف والهول ، وما حل بهم إنما حل بتركهم [الإجابة](١) في حال الأمن ؛ فطلبوا الرد إلى الأمن ؛ ليجيبوا داعيه لتنفعهم إجابتهم ؛ حيث قالوا : (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ).

لم يبين بما أقسموا في هذه الآية ؛ وهو ما بين في آية أخرى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

ثم قوله : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) : قال قائلون : ما لكم من زوال من الدنيا ، أي : كنتم تقولون : أن ليس إلا الدّنيا لا زوال لنا عنها ؛ أحياء وموتى ؛ كقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ...) الآية [المؤمنون : ٣٧] على ما ذكر من قسمهم أنهم لا يبعثون.

وقال قائلون : قوله : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) جواب لسؤالهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) على الاستئناف ؛ قال : ما لكم عما أنتم فيه من العذاب إلى ما تسألون من المدة والتأخير ؛ أي : ما لكم إلى ذلك سبيل.

وقال بعضهم (٢) : في قوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) : أي : تنزع قلوبهم ؛ حتى صارت في حناجرهم ؛ فلا تخرج من أفواههم ، ولا تعود إلى أماكنها ؛ لشدة هول ذلك اليوم وفزعهم عليه ، وهو على التمثيل والكناية ؛ كقولهم : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ...) الآية [الأحزاب : ١٠] ؛ لشدة خوفهم ، وهو على التمثيل ؛ إذ لا يحتمل بلوغ القلوب الحناجر في الدنيا حقيقة ؛ إذ لو بلغت ذلك لخرجت فماتوا ، إذ الدنيا يحتمل الموت فيها ، فدلّ أن ذلك على التمثيل لشدّة خوفهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم الرسل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله أبو الضحى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩٠٧) ، وعن قتادة (٢٠٩٠٨ ، ٢٠٩٠٩) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٦٤).

٤١٠

[وتأويله ـ والله أعلم ـ : أنهم كانوا يطلبون من ربهم الرد إلى حال الأمن ؛ ليجيبوا بقولهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) ؛ والله أعلم ، فقال : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم الرسل](١) ؛ أي : سكنتم في الدنيا في مثل منازلهم ومساكنهم ؛ فرأيتم ما نزل بأولئك الذين صنعوا مثل صنيعكم.

وذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من التعذيب والاستئصال ثم لم يتعظوا بما حلّ بهم ، فعلى ذلك إذا رددتم إلى حال الأمن لا تتعظون بما حلّ بكم في هذه الحال ، وهو ما قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] فيما يقولون : إنهم يجيبون دعوته ، هذا ـ والله أعلم ـ تأويله.

وقال بعض أهل التأويل : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي : عملتم مثل أعمالهم ، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الاستئصال بالتكذيب ؛ بتكذيبهم الرسل ؛ فلم تتعظوا بذلك ؛ فلا تتعظون بهذا أيضا إذا رددتم. والله أعلم.

وفي قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) إلى آخر ما ذكر : دلالة لزوم النظر والاستدلال ، ولزوم القياس ، ودلالة لزوم العقوبة ؛ وإن كان لم يعلموا به ؛ بعد أن مكنوا من العلم به.

أما دلالة النظر والاستدلال : هو قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : فهلا نظرتم ما حلّ بهم من تكذيبهم الرسل ؛ واتعظتم به.

ودلالة القياس : هو ما خوفهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ؛ لأنهم اشتركوا في المعنى الذي نزل بأولئك ؛ ما نزل وهو تكذيبهم الرسل ، وسوء معاملتهم إياهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) : أي : (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) ؛ ما لو تفكرتم فيها ونظرتم ثم لكان ذلك لكم موعظة وزجرا عن مثل صنيعكم. أو يقول : وضربنا لكم الأمثال : أي : قد بينّا لكم الأمثال والأشباه ما يعرفكم ؛ لو تأملتم أن أولئك لكم أشباه وأمثال ، وصنيعهم لصنيعكم أشباه وأمثال ؛ فينزل بكم ما نزل بهم. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ).

[مكروا](٢) واحتالوا على إهلاك الرسل وقتلهم ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [الأنفال : ٣٠] وكيدهم الذي ذكر ـ في غير آي من القرآن ـ برسل الله ؛ حتى قال الرسل فيكيدوني جميعا ، ومكروا أيضا بدين الله الذي أتت به الرسل ، مكروا

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

٤١١

واحتالوا على إطفاء ذلك النور ؛ فأبى الله ذلك عليهم ، وأظهر دينه ، وأبقى نوره إلى يوم القيامة ، كقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨] ، كأن مكرهم وحيلهم يرجع ـ فى أحد التأويلين ـ إلى أنفس الرسل حين هموا وتعمدوا إهلاكهم.

والثاني : يرجع إلى إطفاء الدّين ؛ [الذي](١) أتى به الرسل ؛ والنور الذي دعوا إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ).

يحتمل : عند الله جزاء مكرهم ؛ الذي مكروا برسل الله وبدينه.

[أو](٢)(وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) : أي : عند الله العلم (٣) بمكرهم ، محفوظ ذلك عنده ، لا يفوت ولا يذهب عنه شيء ؛ فيجزيهم بذلك في الآخرة.

أو (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) : أي : عند الله الأسباب التي بها مكروا ، من عند الله استفادوا ؛ وهو النعم التي أعطاهم ، والأموال التي ملكهم ، والعقول التي ركب فيهم ؛ بما قدروا على المكر والاحتيال عند الله [، ذلك كله ،](٤) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ).

اختلف في تلاوته ، وقراءته ، وتأويله :

قرأ بعضهم (٥) : وإن كاد مكرهم بالدال ؛ وهو حرف عبد الله (٦) بن مسعود ، وأبي ، وابن عباس (٧) رضي الله عنهم. وقرأ بعضهم (٨)(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) بالنون.

ثم اختلف في قوله : (وَإِنْ كانَ).

وقال الحسن (٩) وغيره : و (إن) بمعنى : (ما) ، أى : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، قال : كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال ، و (إن) بمعنى : (ما) كثير في القرآن ، كقوله : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] أي : ما كنا فاعلين ؛ وكقوله : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم : ١١] أي : ما نحن إلا بشر مثلكم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : العمل.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : اللباب (١١ / ٤١٣) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٤٦) ، والبحر المحيط (٥ / ٤٢٥) ، وأخرجه ابن الأنباري ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٦٥) ، ابن جرير (٢٠٩٣٢).

(٦) في الأصول : عمرو. والصواب المثبت.

(٧) أخرجه أبو عبيد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٤ / ١٦٦).

(٨) منهم ابن مسعود أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩٢١) ، وعلي بن أبي طالب ، أخرجه ابن المنذر وابن الأنباري عنه ، وأبى بن كعب أخرجه ابن الأنباري عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٦٥).

(٩) أخرجه ابن جرير (٢٠٩٣٧ ، ٢٠٩٣٩)

٤١٢

وقد تستعمل (إن) في موضع (قد) ؛ كقوله : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨] أي : قد كان وعد ربنا لمفعولا.

فمن حمله على (ما) فقد استهان بمكرهم ، واستخف به ؛ فقال : إن مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال ، والجبال أوهن وأسرع زوالا من رسالة الرسل ودين الله ، بل رسالة الرسل ؛ ودين الله [أثبت من الجبال ، لأن دين الله](١) ورسله معهما حجج الله وبراهينه ، فإذا لم يعمل مكرهم في إزالة الجبال ـ لا يعمل في إزالة دين الله ورسالة الرسل ، ومعهما الحجج والبراهين.

ومن قال : (وَإِنْ كانَ) : قد حمله على الاستعظام (٢) بمكرهم.

وعلى ذلك : من قرأ [كاد](٣) بالدال على الاستعظام بمكرهم ؛ كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] من عظيم ما قالوا في الله كادت السموات أن تنشق ، فعلى ذلك مكرهم جميعا الوجهين : أن يستهان مرة ويستعظم ؛ إلا أن يقال : إن كلمتهم من حيث الشرك والكفر عظيمة ، ومن حيث احتيالهم ومكرهم ـ فى إزالة ذلك النور وإطفائه ـ ضعيفة. والله سبحانه أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ).

الخطاب به يحتمل ما ذكرنا : أي : لا تحسبن أن ما تأخر ؛ من نزول ما وعد ؛ أنه يخلف وعده الذي وعد رسله ؛ كما لم يكن تأخير العذاب عنهم ؛ من وقت ظلمهم عن غفلة وسهو ، ولكن كان وعده إلى ذلك الوقت ، وخلف الوعد في الشاهد من الخلق ـ إنما يكون لوجهين : أحدهما : لما لا يملك إنجاز ما وعد.

والثاني : لما يضره الإنجاز ، فتعالى الله عن ذلك كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ).

قال بعضهم : عزيز : لا يعجزه شىء. وقيل : عزيز : قاهر يقهر ويذل ؛ فالخلائق كلهم أذلاء دونه.

وقوله : (عَزِيزٌ) : أي : غالب قاهر ذو انتقام لأوليائه من أعدائهم ؛ أي : غالب الأعداء وقاهرهم ، وناصر الأولياء.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : الاستفهام.

(٣) سقط في ب.

٤١٣

وأما ما قال أهل التأويل (١) فى قوله : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). إنه نزل في [شأن نمرود](٢) وإنه اتخذ تابوتا ، وربط ثورا على قوائمه ، وما ذكروا إلى آخره ـ فلا علم لنا إلى ذلك ، وأظنه أنه كله خيال ، فلا نقول إلا القدر الذي ذكر في الآية.

و «لتزول» (٣) بنصب اللام [الأولى](٤) وبرفع الآخرة : على معنى التوكيد ، و (لِتَزُولَ) بكسر [اللام](٥) [الأولى](٦) ونصب الآخرة : على الجحد ؛ أي : ما كانت الجبال لتزول من مكرهم ، وهو ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ).

قال الحسن : تفنى هذه الأرض ، ثم تعاد من ساعته مستوية ، لا شجر فيها ، ولا جبال ، ولا آكام ، قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا.

وقال بعضهم (٧) : تبدل هذه الأرض أرضا غير هذه ؛ بيضاء نقية ، لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها بالمعاصي ، وكذلك السموات.

ومنهم من يقول : لا تبدل عينها ؛ ولكن يتغير صفتها وزينتها ؛ كما يقول الرجل لآخر : تبدلت يا فلان ، لا يريد تبدل أصله وعينه ؛ ولكن تغير الأخلاق والدّين ، فعلى ذلك ما ذكر من تبديل الأرض والسموات.

والأشبه أن يكون على اختلاف الأحوال ؛ لأنه ذكر في آية : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] وقال : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) [الانشقاق : ٣] وقال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) [الفرقان : ٢٥] ، (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] و (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] ، وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] وقال : (فَجَعَلْناهُ

__________________

(١) قاله علي بن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩١٩ ، ٢٠٩٢١) وعن مجاهد (٢٠٩٢٢ ، ٢٠٩٢٣) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٦٦).

(٢) في ب : شأن فلان نمرود.

(٣) ينظر : الحجة (٥ / ٣١) ، وإعراب القراءات السبع (١ / ٣٣٦) ، واللباب (١١ / ٤١٢).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) قاله ابن مسعود وغيره ، أخرجه ابن جرير (٢٠٩٤١ ، ٢٠٩٤٦) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٦٧).

٤١٤

هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ذكر مرة تمد الأرض ، وذكر مرة أنها تخبر وتحدث عما عمل عليها ، وذكر في السماء بالتشقق والانفطار ، وفي الجبال بالسير والمرور مرة ؛ ومرة بالرفع ومرة أخبر أنه جعلها هباء منثورا وأمثاله.

فيشبه أن يكون هذا كله على اختلاف الأحوال والأوقات ؛ إذ يوم القيامة يوم ممتدّ ؛ فيكون كل ما ذكر على ما قال يومئذ ؛ (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) [القصص : ٦٦] ؛ قال في آية : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] وقال : (وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] فهو ـ والله أعلم ـ : على اختلاف الأحوال والأوقات ، فعلى ذلك الأول ، والله أعلم بذلك.

وتبديل الأرض والسموات : يحتمل وجهين :

أحدهما : تبديل أهلها على ما يذكر ؛ الأرض والقرية ، والمراد منها الأهل ؛ كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] وقوله : (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً ...) الآية [النحل : ١١٢] ونحوه كثير.

والثاني : تبديل نفس الأرض.

ثم يحتمل كل واحد من الوجهين وجهين :

إما تبديل أهلها : هو أن يكونوا مستسلمين خاضعين له في ذلك ، ولم يكونوا في الدنيا [كذلك](١).

والثاني : تبدل أهلها : هو أن يكون الأولياء في النعم الدائمة ، واللذة الباقية ، والأعداء في عذاب وألم وشدة ، وكانوا في هذه الدنيا جميعا مشتركين ـ الأولياء والأعداء ـ في اللذات والآلام.

فإن كان تبديل نفس الأرض ـ فهو يخرج على وجهين [أيضا](٢) :

أحدهما : تبديل (٣) زينتها وصفتها.

والثاني : تبديل عينها وجوهرها ؛ وهو ما ذكر : أن أرض الجنة تكون من مسك وزعفران ، ونحو ما روي في الخبر والله أعلم. كأنّ قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) صلة قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ...) الآية فقالوا : متى يكون ذلك؟ فقال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) يخرج جوابا لسؤالهم والله أعلم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : تغيير.

٤١٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

قد ذكرنا تخصيص بروزهم لله يوم القيامة أنه ـ والله أعلم ـ أنشأ هذا العالم الأول للعالم الثاني ، فالعالم الثاني هو المقصود في إنشاء هذا العالم ، فخص بروزهم يومئذ له ؛ لما هو المقصود في إنشائهم.

وقال قائلون : تخصيص البروز له يومئذ ؛ لأنهم يخرجون من قبورهم للحساب لا لغيره ، فهو يحاسبهم ؛ فأضاف البروز إليه ؛ لما لا يخرجون إلا له ، وأما في الدنيا : فإنما يخرجون لحوائج أنفسهم ؛ لذلك خرج التخصيص له والإضافة.

وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : برزوا له مستسلمين خاضعين ، قابلين (١) طائعين ، ولم يكونوا في الدنيا كذلك.

والثاني : يبرزون له ؛ لما وعدوا وأوعدوا ؛ بارزون لوعده ولوعيده ، ولما دعوا إليه ، ورغبوا فيه.

والثالث : يبرزون له ؛ لما لا يملكون إخفاء أنفسهم وسترها ؛ بل ظاهرين له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

[الواحد :](٢) الذي لا شريك له ، والقهار : يقهر الخلائق كلهم ؛ ويغلبهم : الجبابرة ، والفراعنة.

أو يبرزون له ليجزيهم ، على ما ذكر تعالى (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ).

وذكر (مِنْ قَطِرانٍ) : قيل (٣) : (القطر) هو النحاس [و (آن) أي : قد انتهى حره ، كقوله : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤].

وقيل (٤) : الصفر وقال بعضهم (٥)(مِنْ قَطِرانٍ) أي : من نحاس أنى لهم أن يعذبوا به](٦).

وقال بعضهم : هو من القطران المعروف الذي يطلى به الإبل ؛ ذكر هذا لأنه أشدّ إحراقا واشتعالا.

__________________

(١) في أ : قائلين.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩٨٦) ، وعن سعيد بن جبير (٢٠٩٨٩ ، ٢٠٩٩٢) والحسن (٢٠٩٩٣) والربيع بن أنس (٢٠٩٩٤) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٧٠).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٩٩٨ ، ٢١٠٠٠).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٠٩٩٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٧٠).

(٦) سقط في أ.

٤١٦

وقوله : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ...) إلى آخر ما ذكر : جعل الله عذاب الكفرة في الآخرة بالأسباب والأشياء التي كانوا يفتخرون بها في الدنيا ؛ من اللباس والشراب والأصحاب ؛ وغيره ، وهو كان سبب منعهم عن إجابة الرسل فيما دعوهم إليه ؛ فجعل تعذيبهم في الآخرة بذلك النوع من النار ؛ فقال : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) يقرن ويقيض بعضهم ببعض ؛ كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ...) الآية [الزخرف : ٣٦] ؛ لأنه كان يتبعه ويأتمر بأمره ؛ وكقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية [الصافات : ٢٢] ، وكذلك الرؤساء منهم ، والمتبوعون.

وقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) لما كانوا يفتخرون في الدنيا بلباسهم ، وكذلك كل نوع [كانوا](١) يفتخرون به في الدنيا ، ويمنعهم عن الإجابة ؛ إجابة الرسل ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

والأصفاد : قيل : الأغلال ؛ أي : قد قرن بعضه إلى بعض في الأغلال ، واحدها : صفد ؛ وهو قول القتبي (٢) ، وكذلك قول أبي عوسجة في الأصفاد ، إلا أنه قال : واحدها : صفاد ، والصفد العطيّة.

(سَرابِيلُهُمْ) : قمصهم ، واحدها : سربال.

(مِنْ قَطِرانٍ) : القطر ـ ما ذكرنا ـ النحاس ، والآن الذي [قد](٣) اشتد حره ، وهو قول القتبي (٤) وأبي عوسجة.

ذكر هذه المواعيد والشدائد ، وأنواع ما يعذبون به في الآخرة ، ونعيمها على ألسن من قد ظهر صدقهم بالآيات والحجج ؛ ليحذروا ما أوعدوا ، ويرغبوا فيما رغبوا لئلا يكون لهم الاحتجاج يومئذ ؛ كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ...) الآية [الأنفال : ٤٢] ونحوه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

لأن أيديهم مغلولة إلى أعناقهم ؛ فلا يقدرون أن يتّقوا النار بأيديهم ذكر هذا ؛ لأن في الشاهد : من [أصاب وجهه](٥) أذى يتقي عنه بيده ، فيخبر أنهم إنما يتقون ذلك بوجوههم. والله أعلم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٣٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٣٤).

(٥) في ب : أصابه.

٤١٧

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ).

لما ذكرنا ؛ يبرزون لله ؛ ليجزيهم من خير وشر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

قال بعضهم : كان قد جاء حسابه.

والثاني : ذكر هذا ؛ لأن الحساب إنما يبطئ لما لا يتذكر من له الحساب لمن يحاسبه في الشاهد ـ فيما يحاسبه ، فيطول الحساب أو الاشتغال بشيء [يشغله](١) عنه ، أو لجهل بالحساب. فأمّا الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء ، ولا يشغله شيء عن شيء ، كله محفوظ عنده ؛ فهو سريع الحساب. والله أعلم.

أو نقول : إنما يطول الحساب في الشاهد ؛ ويمتد لما يحتاج إلى التفكر [والنظر](٢) والتذكر في ذلك ، فالله سبحانه متعال عن التفكر والنظر ، بل كل شيء محفوظ عنده. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ).

يحتمل قوله : (هذا بَلاغٌ) : القرآن ؛ هو بلاغ للناس ، على ما ذكر في صدر السورة : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ ...) الآية [إبراهيم : ١] هو بلاغ على ما ذكر. والله أعلم.

(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) : أي : بالقرآن أيضا على ما ذكر : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩١] ويحتمل قوله : (هذا بَلاغٌ) ما ذكر من المواعيد ؛ وهو قوله : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) إلى آخر ما ذكر ؛ أي : هذا الذي ذكر بلاغ يبلغهم لا محالة ، ولينذروا بما ذكر.

(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).

لا شريك له ؛ بالآيات التي أقامها على وحدانية الله وألوهيته.

(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [أي : ذوو العقول ، والله أعلم](٣).

* * *

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٤١٨

سورة الحجر ذكر أنها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ).

قد ذكرنا فيما تقدم : أنه يحتمل أن الحروف المقطعة كناية عن كتابه وآياته (١) ، أو آياته ؛ أنه جمعها على ما توجبه الحكمة ؛ فجعلها كتابا أو [آيات كتاب يتلى](٢) ، أو يكون كناية عن الإنباء والإخبار عن الأمم السالفة ؛ التي لم يشهدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تلك الأنباء والأخبار التي جعلناها كتابا أو آيات ؛ ليعلموا أن هذا الكتاب إنما نزل من السماء ، وأنه إنما علم بالوحي من الله ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

(وَقُرْآنٍ مُبِينٍ).

قال : بيّن فيه ما يؤتى ، وما يتقى. أو (مُبِينٍ) : يبين بين الحقّ والباطل. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

قال عامة أهل التأويل (٣) : إنما يودون الإسلام والتوحيد ، بعد ما عذب بالنار قوما من أهل التوحيد بذنوبهم ، ثم أخرجوا منها بالشفاعة أو بالرحمة ، فعند ذلك يتمنى أهل الشرك ؛ ويودّون الإسلام والتوحيد (٤) ؛ لكن هذا بعيد ألا يتمنوا إلا في النار بعد ما أخرج أولئك وقد أصيبوا الشدائد والبلايا ؛ من قبل أن يأتوا النار ، قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : آيات تتلى.

(٣) ورد في معناه أحاديث منها : حديث أبي موسى الأشعري ، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وابن جرير (٢١٠٠٥) وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور ، وعن أبي سعيد الخدري ، أخرجه إسحاق بن راهويه وابن حبان والطبراني وابن مردويه ، وعن جابر ، أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه بإسناد صحيح ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٧٢) وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما ، أخرجه ابن جرير (٢١٠٠٦ ، ٢١٠١٠) وابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عنهما ، كما في الدر المنثور.

(٤) زاد في أ : لو كانوا مسلمين.

٤١٩

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) الآية [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠] أخبر أنه يتمنى عند حلول الموت ـ الإسلام ؛ حيث طلب الرجوع إلى الدنيا ، دلّ أنهم يودون الإسلام ؛ قبل الوقت الذي ذكروا ، أو يتمنون الإسلام إذا حوسبوا ، أو إذا بعث أهل الجنة [إلى الجنة وبعثوا هم](١) إلى النار ، يتمنون الإسلام قبل ذلك بمواضع ، وربما يتمنى الآحاد من الكفرة ، ويودّون لو كانوا (٢) مسلمين في أحوال ؛ وأوقات ؛ يظهر لهم الحق (٣) ، وقد بان لهم الحق ؛ لكن الذي يمنعهم عن الإسلام ـ فوت شيء من الدنيا ، وذهاب شيء قد طمعوا فيه.

وقال الحسن في قوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) : قسم ؛ لما ذكر : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ؛ يقول : أقسم بالحروف المقطعة أنهم يودّون الإسلام. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا).

هذا ليس على الأمر ، ولكن على الوعيد (٤) ، والتهديد ، والإبلاغ في الوعيد ، وتأكيد ؛ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ...) الآية ، [فصلت : ٤٠] هو على الوعيد (٥) ؛ حيث قال : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت : ٤٠] فعلى ذلك قوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) وعيد بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، ويشبه أن يكون : ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) المحقّ من المبطل ، وأن المحقّ والمبطل من أنت أو هم؟ أو سوف يعلمون نصحك إياهم ، وشفقتك لهم ، أنك نصحت لهم ، وأشفقت عليهم لا أن خنتهم أو يعلموا بما سخروا بكم وهزءوا.

وقوله : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ).

الأمل : الطمع ، اختلف فيه : قال بعضهم : [أي](٦) : منعهم طمعهم أنهم وآباءهم قد أصابوا الحق ، ذلك منعهم عن الإجابة ، والنظر في الآيات والحجج.

والثاني : تقديرهم بامتداد حياتهم (٧) ؛ ليبقى لهم الرئاسة ، والشرف ، ذلك الذي كان

__________________

(١) في أ : وبعثوهم.

(٢) في ب : كان.

(٣) زاد في أ : لكن الذي يمنعهم.

(٤) في أ : التوحيد.

(٥) في أ : التوعيد.

(٦) سقط في ب.

(٧) قال القرطبي : أربعة من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا.

فطول الأمل : داء عضال ، ومرض مزمن ، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه ، واشتد علاجه ، ولم يفارقه داء ، ولا نجع فيه دواء ، بل أعيا الأطباء ، ويئس من برئه الحكماء والعلماء. ـ

٤٢٠