تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠] أي : عدد الأسماء لا يوجب عدد الذات ؛ إذ (١) يكون لشيء واحد في الشاهد أسماء مختلفة ؛ فاختلاف الأسماء لا يوجب اختلاف الذات ؛ فعلى ذلك في الله تعالى.

وقال بعضهم : (الرَّحْمنَ) اسم من أسماء الله في الكتب الأول ، قالوا : كتبها رسول الله ؛ أبوا أن يقرءوا به (٢) ، قالوا : وما الرحمن ، إنا لا نعرفه؟ فنزل : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ). والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) إلى آخر ما ذكر.

قال بعض أهل التأويل : تأويله (٣) : لو أن قرآنا [ما](٤) غير قرآنك ؛ سيرت به الجبال ؛ من أماكنها ؛ أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى ، لفعلناه بقرآنك أيضا ، ذلك ولكن لم نفعل بكتاب من الكتب التي أنزلتها على الرسل الذين من قبلك ، ولكن شيء أعطيته أنبيائي ورسلي.

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً).

يقول : بل جميع ذلك الأمر كان من الله ؛ وليس من قبل القرآن ؛ أي : لو فعل بالقرآن ذلك كان جميع ذلك من الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) إن شاء فعل ما سألتم ، وإن شاء لم يفعل ويشبه أن يكون غير هذا أقرب ؛ أن يكون صلة ما تقدم من سؤالهم الآيات ؛ وهو قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٧] فيقول : لو أن قرآنك الذي تقرؤه عليهم : لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى لما آمنوا بك ؛ ولما صدقوك على رسالتك على ما لا يؤمنون بالرحمن ، وكل الخلائق له آية لوحدانيته

__________________

(١) في أ : أو.

(٢) ثبت في حاشية ب : كقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ...) الآية كاتبه.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٤٠٣ ، ٢٠٤٠٤) وعن الضحاك (٢٠٤٠٥) وابن زيد (٢٠٤٠٦) وانظر : الدر المنثور (٤ / ١١٧ ، ١١٨).

(٤) سقط في ب.

٣٤١

وألوهيته ، يخبر عن شدة تعنتهم وتمردهم في تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ [ليعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) أن سؤالهم الآية سؤال تعنت وتمرد ؛ ليس سؤال استرشاد واستهداء.

وقال بعضهم : قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ).

أي : لو أن قرآنا ما عمل [ما](٢) ذكر لكان هذا القرآن ؛ تعظيما لهذا القرآن.

والتأويل الذي ذكرنا قبل هذا كأنه أقرب. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا).

قال بعضهم : هو صلة ما تقدم ؛ من قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ...) الآية ، يقول ـ والله أعلم ـ : أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمان من كان على ما وصف الله ، وتمام هذا كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات (٣) ، ليؤمنوا ؛ لما سألوا هم آيات من رسول الله ؛ فيقول : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمان هؤلاء ؛ وهو كما قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات ليؤمنوا ؛ فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها) يا أيها المؤمنون (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] أي : يؤمنون على طرح (لا) على هذا التأويل.

وقال بعضهم (٤) : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يتبين (٥) للذين آمنوا أنهم لا يؤمنون ؛ لكثرة ما رأوا منهم (٦) من العناد والمكابرة.

فسروا الإياس بالعلم والأيس ؛ لأن الإياس إذا غلب يعمل عمل العلم ؛ كالخوف والظن ونحوه جعلوه يقينا ، وعلما للغلبة ؛ لأنه إذا غلب يعمل عمل اليقين والعلم.

وقال بعضهم (٧) : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ) : أي : أفلم يعلم (٨) الذين آمنوا أن الله يفعل [ذلك](٩) ، لو شاء لهدى الناس جميعا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : آيات.

(٤) قاله على بن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٤٠٧) وعن ابن عباس (٢٠٤٠٨ ، ٢٠٤٠٩ ، ٢٠٤١١) وابن جريج (٢٠٤١٠) ومجاهد (٢٠٤١٣) وغيرهم.

(٥) في أ : تبين.

(٦) في أ : أنهم.

(٧) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٤١٢) وعن قتادة (٢٠٤١٥) وابن زيد (٢٠٤١٦) وانظر : الدر المنثور (٤ / ١١٨).

(٨) في أ : يعمل.

(٩) سقط في أ.

٣٤٢

وقوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) خطأ من الكاتب ، إنما هو (أفلم يتبين للذين آمنوا أن لو يشاء الله) فمعناه : أي : قد تبين للذين آمنوا (١).

وقال بعضهم : [قوله](٢) : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أي : أفلم يعلم الذين آمنوا ، أي : قد علم الذين آمنوا ، لو شاء الله إيمان الناس واهتداءهم لآمنوا واهتدوا.

وقال صاحب هذا التأويل : إن [هذا](٣) جائز في اللغة : ييئس : يعلم ، وذكر أنها لغة «نخع» وغيرها. والله أعلم.

وقال بعضهم قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع من قوله (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ ...) الآية ، وهو موصول بما تقدم من قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٧] ثم قال جوابا لما قالوا ؛ كأنه قال : لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ، أي : علم منه أنه يختار [الضلال](٤) ويؤثره ؛ يشاء ذلك له ، ومن علم منه أنه يختار الهدى يشاء ذلك له ، ويكون قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع لا جواب له ، كأنه قال : أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمانهم لكثرة ما رأوا منهم من العناد والتعنت بعد رؤيتهم الآيات والحجج ، كأن أهل الإيمان والإسلام سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآيات التي سألوا هم ؛ رغبة في إسلامهم ؛ وإشفاقا عليهم ؛ فيقول ـ والله أعلم ـ : ألم يأن للذين آمنوا الإياس من إيمانهم ؛ أي : قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من [إيمانهم ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ...) الآية [الأنعام : ١١١] فعلى ذلك هذا يقول : قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من إيمانهم](٥) ، ولو شاء (٦) الله لهدى الناس جميعا ؛ وقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) صلته قوله : (وهم يكفرون بالرحمن أن لو يشاء الله

__________________

(١) ثبت في حاشية ب : أقر المصنف ـ رحمه‌الله ـ ما نقله عن عائشة على ما هو عليه ، وقد قال في سورة النساء في تأويل قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ...) الآية بعد ما ذكر عن عائشة أنها قالت : (ثلاث آيات وقع فيها الخطأ من الكاتب إحداها : الآية المذكورة : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ...) الآية إلى قوله : (وَالْمُقِيمِينَ) والصحيح المقيمون. والثانية : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) والثالثة في المائدة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) : الحديث لا يصح عن عائشة ؛ لأنه لا يظن من الصحابة أن يقفوا على لحن في المصحف من الكاتب ويتركوه مع أنهم كانوا موصوفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، انتهى المقصود منه فينبغي أن يذكر ذلك هاهنا ، والله أعلم. كاتبه.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يشاء.

٣٤٣

لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) كقوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

قال بعضهم : الذين حاربوا رسول الله.

(تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ).

القارعة : هي ما يقرع القلوب ويكسرها ، ثم قرعهم يكون بعذاب ، وقتل ، وغيره ؛ من الهزيمة ونحوه وبسبي ذراريهم ويغنم المسلمين أموالهم.

(أَوْ تَحُلُ) أنت (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ).

قال بعضهم : أو تكون القارعة بجيرانهم الذين قرب (١) منكم دارهم.

وقال بعضهم (٢) : لا تزال سرية من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحل ببعضهم ؛ أو ينزل هو قريبا منهم ؛ حتى يأتي وعد الله ، وعد الله يكون بوجهين :

أحدهما : أن يظفره بهم جميعا ، وأن يورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم. والثاني : يكون وعد الله فتح مكة ؛ كقوله : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها ...) [الفتح : ٢١] الآية.

(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ما وعد رسوله ؛ من الفتح والنصر وغيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ).

يحتمل ما ذكر ؛ من إصابة القارعة ؛ الجوع والشدائد التي أصابتهم ، ويحتمل القتال والحرب ؛ التي كانت (٣) بينهم وبينهم.

وقوله : (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) نزول السرايا بقرب من دارهم.

(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) يحتمل فتح مكة ، أي : تحل قريبا من دارهم حتى يأتي ما وعد الله ؛ من فتح مكة عليك ، أو أن يكون وعد الله هو البعث والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ).

يقول : ولقد (٤) استهزأ برسل من قبلك قومهم ؛ كما استهزأ بك قومك ، يعزّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصبر على تكذيبهم.

__________________

(١) في ب : أقرب.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٤١٧ ، ٢٠٤١٩) وعن عكرمة (٢٠٤٢٠ ، ٢٠٤٢١) ومجاهد (٢٠٤٢٣ ، ٢٠٤٢٥) وسعيد بن جبير (٢٠٤٢٩) وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١١٩).

(٣) في ب : كان.

(٤) في ب : وقد.

٣٤٤

وقال أبو بكر الأصم : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) من تقدم من الرسل سألهم قومهم الآيات والعذاب بالهزء ، ثم بين بهذا أن ما سألوه من الآية أرادوا الهزء ، وهو صلة ما تقدم من قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) [الرعد : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول : أمهلتهم [في كفرهم وهزئهم.

هذا يدل أن تأخر العذاب عنهم لا يؤمنهم.

وقوله : (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) يقول : أحللت](١) بهم جزاء ما كانوا يهزءون منه.

وقال بعضهم : فكيف كان عقاب الله؟ أي : شديد عقابه ؛ وهو كقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ...) الآية [الحج : ٤٨] وقيل : كيف رأيت عذابي لهم أي : أليس وجدوه شديدا.

والثالث : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) : أي : أليس ما أوعدهم الرسل من العذاب كان حقا وصدقا.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ).

قال أبو بكر الأصم : يقول : من الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت الله أم شركاؤكم فالقائم هو المدبر الحافظ بكل ما فيه الخلق ويشبه أن يكون تأويله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) أي : حافظ وعالم على كل نفس بما كسبت ؛ أو بالرزق لهم والدفع عنهم ، كمن هو أعمى عن ذلك ، ليسا بسواء كقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ...) الآية [الرعد : ١٩].

أو يقول : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ؛ كمن هو غير قائم عليه؟ ليسا بسواء.

وقال مقاتل : أفمن هو قائم على رزقهم وطعامهم.

ثم قال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ).

أي : وصفوا لله شركاء وعبدوها ؛ والله أحق أن يعبد من غيره.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٣٤٥

يقول الله : أنا القائم على كل نفس ؛ أرزقهم وأطعمهم ؛ أفأكون أنا وشركائي الذين لا يفعلون ذلك سواء؟

والوجه فيه ما وصفنا : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ؛ أي : يرزق ويبصر (١) و [يعلم ما تعمل وتكسب ويحفظ](٢) عن أنواع البلايا ؛ كمن هو أعمى جاهل عاجز عن ذلك كله؟ أي : ليس هذا كذلك. ويسفههم في إشراكهم الأصنام التي عبدوها في الألوهية والعبادة ، وهي بالوصف الذي ذكر ؛ كمن هو أعمى عاجز عن ذلك؟ أي : ليسا بسواء.

وقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يحتمل قائم على كل نفس بما كسبت ؛ فيما قدر لها وقواها أو في الجزاء يجزي على ما تكسب.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) في العبادة ؛ أو في تسميتهم آلهة ، لا يعلمون ما (٣) كسب لها ، ولا يملكون جزاء ما كسبوا لها أيضا.

يبين سفههم في جعلهم هذه الأصنام والأوثان شركاء لله في العبادة ؛ وتسميتهم آلهة ؛ مع علمهم أنهم لا يقدرون ولا يملكون شيئا من ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ سَمُّوهُمْ).

قال بعض أهل التأويل (٤) : قوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) بذلك الاسم ؛ ولو سموهم ، [سموهم](٥) بكذب وباطل وزور.

وعندنا قوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي : لو سميتموها آلهة واتخذتموها معبودا ؛ فسموهم أيضا بأسماء سميتم الله ؛ من نحو : الخالق والرازق والرحمن والرحيم ؛ ونحوه.

يقول ـ والله أعلم ـ إذ (٦) سميتم هذه الأصنام آلهة ومعبودا (٧) ، سموهم أيضا : خالقا ورازقا ورحمانا ورحيما ، وهم يعلمون أنها ليست كذلك. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ).

أي : أم تنبئون الله ؛ وهو عالم بما في السموات وما في الأرض ؛ وعالم بكل شيء ، وهو لا يعلم في الأرض ما تقولون من الآلهة وما تصفونه بالشركاء؟! وكذلك يخرج قوله :

__________________

(١) في أ : ويصبر.

(٢) في أ : ويعمل ما نعمل ونكسب.

(٣) في أ : مما.

(٤) قاله الضحاك بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٠٤٤٤) وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٢٠).

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : أو.

(٧) في أ : وسواء.

٣٤٦

(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أم تنبئونه بما ليس في الأرض شيء مما تقولون وتصفون شيء ؛ أي : يقول : أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات والأرض ، وهو عالم بكل شىء؟ أي : تقرون بأنه عالم بكل شيء ؛ وهو لا يعلم ما تقولون وتسمونه من الشركاء وغيره.

والثاني : أم تنبئونه بما لا يعلم ؛ أي : ليس في الأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ).

قال أهل التأويل (١) : (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي : بل بباطل من القول وزور.

ويشبه أن يكون بظاهر من القول ؛ أي : بضعيف من القول وخفيف ، يسمون الشىء الذي لا حقيقة له ولا ثبات (٢) ظاهرا باديا ؛ كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] أي : ضعيف الرأى : وخفيفه ؛ لا حقيقة له ولا قرار.

ويحتمل قوله : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) في الخلق والأسلاف ؛ أي : لم يظهر ما يقولون ؛ ويصفون (٣) ؛ إشراك هذه الأصنام ؛ وتسميتها آلهة ومعبودا ؛ فيكون (أم) في موضع حقيقة ويقين ؛ على هذا التأويل والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ).

قال بعض أهل التأويل (٤) : (مَكْرُهُمْ) : قولهم الذي قالوه من الكذب والزور ؛ أنها آلهة وأنها شركاء الله.

لكن يشبه أن يكون قوله : (مَكْرُهُمْ) أي : مكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث احتالوا حيلا ؛ ليقتلوه لئلا يظهر هذا الدين في الأرض ، ويطفئون هذا النور ؛ ليدوم عزهم وشرفهم في هذه الدنيا ؛ وهو كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] والمكر : هو الاحتيال ؛ والأخذ من حيث الأمن. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ).

صدوا ؛ لما علموا من مكرهم واختيارهم ما اختاروا والسبيل ، المطلق هو سبيل الله ؛ وإلا كان جميع الأديان والمذاهب يسمى سبيلا ؛ كقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)

__________________

(١) قاله قتادة والضحاك ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٤٤٩ ، ٢٠٤٥٠) وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٢٠).

(٢) في أ : ثابت.

(٣) في أ : ويضيفون.

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٠٤٥١ ، ٢٠٤٥٢) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٢٠).

٣٤٧

[الأنعام : ١٥٣] لكن ما ذكرنا أن السبيل المطلق [هو](١) سبيل الله ، والكتاب المطلق كتاب الله ، والدين المطلق دين الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

من أضله الله فلا يملك أحد هدايته ، ومن هداه فلا يملك أحد إضلاله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

العذاب لهم في الحياة الدنيا يحتمل : القتل والقتال ؛ والخوف والجواع ؛ وأنواع البلايا ؛ كقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ...) الآية [النحل : ١١٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي : أشد.

(وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي : ما لهم من عذاب الله من واق يقيهم من عذابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ).

يحتمل : وصف الجنة التي وعد المتقون ؛ أو صفة الجنة التي وعد المتقون. ويحتمل : [أي : شبه](٢) الجنة التي وعد المتقون.

كشبه النار التي وعد الكافرون ؛ أي : ليسا بشبيهين ولا مثلين ، لا تكون هذه مثل هذه ولا تشبهها ؛ كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ...) الآية [محمد : ١٥] ، يقول ـ والله أعلم ـ يقول : الذي وصفه كذا من النعم الدائمة ـ كالذي يكون عذابه ووصفه كذا ؛ أي : لا يكون ؛ فعلى ذلك الأوّل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ).

أي : ثمار الجنة دائمة لا تزول ولا تنقطع ؛ ليس كثمار الدنيا ، ونعيمها ليس من ثمرة من ثمار الدنيا إلا وهي تزول وتنقطع

في وقت ؛ فأخبر أن ثمار الآخرة ـ وما فيها من النعيم ـ غير زائلة ولا منقطعة ، وكذلك عذابها [دائم](٣) لا يزول.

(وَظِلُّها) أيضا.

أخبر أن ظل الجنة لا يزول ولا ينقطع ، لا يكون فيها شمس يزول ظلها بزوالها.

وصف جميع ما فيها بالدوام والمنفعة : الظل شيء لا أذى فيه ؛ وفيه منافع ، والشمس فيها أذى ومنافع ، وكذلك جميع ما يكون من الأشياء في الدنيا ؛ يكون فيها منافع ومضار ؛ وأنها تزول وتنقطع ؛ فأخبر أن ظل الآخرة وما فيها من النعم دائمة باقية ؛ غير زائلة ولا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

٣٤٨

منقطعة ، ولا مضرة فيها ؛ ليس كنعيم الدنيا وظلها. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).

[أي : جزاء الكافرين النار](١) ، ظاهر هذا أن يكون : الذين اتقوا تقى الشرك ؛ لأنه ذكر عقبى الكافرين النار ؛ أي : جزاء وعقبى ما ذكرنا ؛ أي : تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك ، وعقبى الكافرين النار ؛ أي : جزاء [الكافرين](٢) النار. أو عقبى هذه للذين اتقوا الجنة ، وعقبى أولئك النار.

وقال بعضهم : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : عاقبة أعمالهم وحسناتهم الجنة ؛ وعاقبة أعمال الذين كفروا بتوحيد الله النار.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

يشبه أن تكون الآية صلة قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ؛ بذكر الرحمن.

ثم اختلف في قوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : قال بعضهم (٣) : أصحاب محمد ؛ فرحوا بما أنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أهل التوراة يفرحون بما أنزل إليك يذكر هاهنا أنهم يفرحون بما أنزل إليك ، ويذكر في موضع : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٠٥].

وقال في موضع آخر : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] فمن تلا منهم الكتاب حق تلاوته ولم يبدله ولم يغيره ـ فهو يؤمن به ؛ ويفرح بما أنزل على محمد ، ومن غيّره وبدّله ـ فهو لم يفرح [بما أنزل](٤) عليه.

وقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) تأويله ـ والله أعلم ـ كأنه قال : والذين آتيناهم منافع الكتاب أولئك يفرحون [بما أنزل](٥) إليك ، وهو ما قال في آية

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٠٤٥٣) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٢١).

(٤) في ب : بما لم ينزل.

(٥) سقط في أ.

٣٤٩

أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] لأن أكثرهم [لا يؤمنون](١) بما أنزل على محمد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ).

يحتمل : أهل الكتاب كانوا ينكرون بعض ما أنزل إليه ؛ لا ينكرون كل ما أنزل إليه ؛ وإنما ينكرون نعته وصفته ؛ لأنهم كتموا نعته وصفته التي في كتبهم.

ويحتمل قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) مشركي العرب ؛ وهم أيضا أنكروا بعض ما أنزل إليه ؛ وهو ما ذكر : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] في قوله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ونحوه ، لم ينكروا كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا).

كأن هذا قاله على إثر قول كان منهم ؛ [كأنهم دعوه](٢) إلى أن يشاركهم في عبادة الأصنام ، أو دعوه أن يكون على ما كان آباؤهم ؛ فقال : قل إنما أمرت أن أعبد الله وأمرت ألا أشرك به.

ويحتمل قوله : (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) قال ذلك من نفسه.

(إِلَيْهِ أَدْعُوا) يقول : إلى توحيد الله أدعو غيري ثم أخالف وأعبد غيره؟

(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي : إليه المرجع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي : كما علمناك آدابا وأعطيناك النبوة ـ كذلك أنزلنا عليك.

(حُكْماً عَرَبِيًّا) قيل حكمة عربية ، وكانت العرب لا تفهم الحكمة ؛ أو أنزلنا ما فيه حكم. وتفسير قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ما ذكر [في آية](٣) أخرى ؛ وهو قوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ١ ، ٢] سمى القرآن حكما ؛ لأنه للحكم أنزل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

هذا يدل أنهم كانوا يدعونه إلى أن يشاركهم في بعض ما هم فيه.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ينصرك ويمنعك من عذاب الله.

(وَلا واقٍ) يعني العذاب.

__________________

(١) في أ : يفرحون.

(٢) في ب : كأن دعوهم.

(٣) في ب : في قوله آية.

٣٥٠

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً).

قال بعض أهل التأويل (١) : نزل هذا وذلك : أن اليهود عيروا رسول الله ، وطعنوا في كثرة النساء والأولاد ؛ [وقالوا : لو كان نبيّا على ما يزعم لكان لا يمتع بالنساء ؛ ولا يطلب الأولاد](٢) كما يفعله غيره ؛ وكانت النبوة تشغله عن ذلك. فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ...) الآية ، أي : الاستمتاع بالنساء واستكثاره [منهن](٣) ـ لم يمنع عن الاختصاص بالنبوة والرسالة ، على ما لم يمنع غيره من الرسل الذين كانوا من قبله. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

أي : لا يملكون إنزال الآيات من أنفسهم ؛ إنما يتولى الله إنزالها إذا شاء ذلك ؛ وهو كقول عيسى ؛ حيث قال : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ...) الآية [آل عمران : ٤٩] أخبر أن ما يأتي من الآيات إنما يأتيها بإذن الله وبأمره ؛ لا من نفسه.

يحتمل أن يكون جواب ما ذكر أهل التأويل ، وجواب غير ذلك أيضا ؛ وهو طعنهم الرسل بالأكل والشرب والمشي في الأسواق ، وسؤالهم الآيات التي سألوهم ، وجواب إنكارهم الرسل من البشر يقول : لست أنت بأول رسول طعنت بما طعنك (٤) به قومك ؛ ولكن كان قبلك رسل طعن قومهم بما طعن به قومك ؛ وسألوهم من الآيات ما سأل به قومك ؛ فلم يكن ذلك لهم عذرا في رد ما ردّوا وترك ما تركوا ؛ بل نزل بهم العذاب ، فعلى ذلك قومك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ).

اختلف فيه : قال قائلون : لكل كتاب أجل ؛ وهى : الكتب التي أنزلت على الرسل ؛ يعمل بها إلى وقت ؛ ثم تنسخ أو يترك العمل بها.

وقال قائلون : هو ما قال : لكل أجل كتاب ؛ أي : لكل ذي أجل أجله ؛ إلى وقت انقضائه ؛ ليس يراد به الكتابة باليد ؛ ولكن الإثبات ؛ كقوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٢٢).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : طعن.

٣٥١

الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] أي : أثبت ؛ ليس أن كتب هنالك باليد ، فعلى ذلك قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي : إثبات إلى وقت.

ويحتمل قوله : لكل كتاب أجل ؛ أي : لكل ما كتب له الأجل ؛ وجعل له الوقت ؛ من العذاب ينزل بالمعاندين والنصر للرسل ؛ فإنه لا يكون قبل ذلك الوقت ، ولا يتأخر أيضا عن ذلك الوقت ؛ وهو كقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ...) الآية [الأعراف : ٣٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ).

قال قائلون : قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) المحو ـ هاهنا ـ : أن أنشأه (١) في الابتداء بمحو ؛ ليس على أن كان مثبتا فمحاه ، ولكن أنشأه هكذا ممحوّا (٢) ؛ وهو كقوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) [الإسراء : ١٢] ليس أنه كان منشأ كذا ثم محي ؛ ولكن أنشأه في [الابتداء ممحوّا](٣) ، وكقوله : (رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] ليس أنها كانت موضوعة [ثم رفعها](٤) ؛ ولكن أنشأها مرتفعة كما هى ، فعلى ذلك هذا.

ثم يحتمل ذلك الأعمال التي كانت معفوّة (٥) في الأصل ؛ من [نحو](٦) أعمال الصبيان ؛ والأعمال التي لا جزاء عليها.

وقال قائلون : على إحداث محو ؛ ثم هو يحتمل وجوها : [يحتمل :](٧) ما ينسخ من الأحكام ـ فهو على محو الحكم به ؛ والعمل ليس على محو نفسه ؛ (وَيُثْبِتُ) : وهو ما لا ينسخ ؛ ولا يترك العمل به والحكم.

ويحتمل المحو : محو الأحوال ؛ وهو ما ينقل ويحول من حال إلى حال ؛ من حال النطفة إلى حال العلقة ، ومن حال العلقة إلى حال المضغة ، يحوله وينقله من حال إلى حال أخرى ؛ فذلك هو المحو.

ويحتمل المحو ـ أيضا ـ : هو ما يختم به العمر ؛ السعادة أو الشقاء : إذا كان كافرا ثم أسلم في آخر عمره ـ محيت الأعمال التي [كانت له](٨) في حال كفره ؛ فأبدلت حسنات ،

__________________

(١) في أ : إنشاءه.

(٢) في أ : بمحو.

(٣) في أ : الآية يمحو.

(٤) في ب : فرفعها.

(٥) في أ : عفوه.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٣٥٢

وإذا كان مسلما ثم ختم بالكفر ـ محيت أعماله التي كانت له من الصالحات ، فلم ينتفعوا بها.

أو أن يكون ما ذكر من المحو والإثبات : هو ما يكتب الحفظة من الأعمال والأفعال يمحي عنها ما لا جزاء لها ولا ثواب ؛ ويبقي ما له الجزاء والثواب ويترك مكتوبا كما هو.

أو يكون للخلق مقاصد في أفعالهم ؛ والحفظة لا يطّلعون على مقاصدهم ؛ فيكتبون هم ما هو في الحقيقة حسنة ؛ لقصده سيئة ؛ على ظاهر ما عمل (١) ، أو حسنة في الظاهر ؛ وهو في الحقيقة سيئة ؛ فيغير (٢) ذلك ؛ فيجعل ما هو في الحقيقة شر وفي الظاهر خير ـ شرّا بالقصد ، وما هو في الحقيقة خير وفي الظاهر شر ـ خيرا.

أو [أن](٣) يكون في كتابة الحفظة لكنه من وجه آخر ؛ وهو أن الحفظة يكتبون الأعمال ؛ ثم يعارض ذلك بما في اللوح المحفوظ ؛ فمحى من كتابة الحفظة من الزيادة ؛ ويثبت فيها ما كان فيه من النقصان. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

هذا يحتمل : عنده الذي يعارض به كتب الملائكة.

ويحتمل : وعنده أمّ الكتاب الذي يستنسخ منه الكتب التي أنزلت على الأنبياء والرسل ؛ وهو [في](٤) اللوح المحفوظ.

وفيه دلالة أن اختلاف الألسن لا يوجب تغيير المعنى ؛ لأنه لا يدري أن تلك الكتب في اللوح بأى لسان هى ، ثم أنزل منه كل كتاب على لسان الرسول الذي نزل عليه ، وكذلك الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم ؛ لا يحتمل أن يكتبوا بلسان الخلق ؛ لأنه يظهر لو كانوا يكتبون بلسان هؤلاء ؛ فدل أنهم إنما يكتبون بلسان أنفسهم ، فهذا كله يدل أن اختلاف اللسان لا يوجب اختلاف المعنى. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ).

كأنه صلوات الله وسلامه عليه طمع أو سأله أن يريه جميع ما وعد [له](٥) ؛ من إنزال

__________________

(١) في أ : علمه.

(٢) في أ : فيغفر.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

٣٥٣

العذاب عليهم ، وأنواع ما وعد ؛ فقال : إن شئنا نريك بعض ما وعدناهم ، وإن شئنا نتوفاك (١) ولم نرك ؛ فإنما عليك البلاغ ؛ أي : ليس لك من الأمر شيء ؛ أي : ليس إليك هذا إنما عليك البلاغ ؛ وهو كقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) الآية [آل عمران : ١٢٨] إنما عليك كذا ؛ فيخرج مخرج العتاب والتوبيخ ؛ ليس مخرج الوعد والعدة ؛ إذ قوله : ذا ، وذا ، بحرف شك [ولا يجوز أن يضاف إليه ذلك. وقوله : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) هذا في الظاهر حرف شك](٢) ، فهو يخرج على الوعد أو على النهي عن سؤال كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن كان على النهي ـ فكأنه نهاه أن يسأل إنزال العذاب عليهم ؛ يقول : إن شئنا أنزلنا وإن شئنا لم ننزل ، وإن كان على الوعد ؛ يقول : نريك بعض ما وعدنا ؛ ولا نريك كله ، وإلا ظاهره حرف شك.

وقوله : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) يحتمل حساب ما وعد وجزاءه ، ويحتمل الحساب المعروف ؛ الذي يحاسبهم يوم القيامة. والله أعلم. [أي : لا يتركهم هملا سدى ، أو قوله : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي : إلينا الحساب ، أو لنا الحساب ، وذلك جائز في اللغة](٣).

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا).

قد ذكرنا فيما تقدم أنه إنما هو حرف تعجب وتنبيه ؛ فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : على الخبر ؛ أي : قد رأوا أنا فعلنا ما ذكر.

والثاني : على الأمر ؛ أي : [روا أنّا](٤) فعلنا ما ذكر ؛ وهو ما ذكر من قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الروم : ٩] أي : قد ساروا في الأرض ؛ أو سيروا.

(أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها).

قال بعضهم (٥) : هو ما جعل من أرض الكفرة للمسلمين ؛ بالفتح لهم (٦) ؛ والنصر على

__________________

(١) في أ : نتوفينك.

(٢) سقط في : أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : رأونا.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٥١٤ ، ٢٠٥١٥) وعن الضحاك (٢٠٥١٦) والحسن (٢٠٥١٧) وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٢٧).

(٦) في ب : عليهم.

٣٥٤

أولئك ؛ والإخراج من سلطان أولئك الكفرة وأيديهم ، وإدخالها في أيدى المسلمين ؛ فذلك النقصان. [وهو](١) والله أعلم لما وعد لرسوله أن يريه بعض ما وعد لهم ؛ فقال الكفرة عند ذلك : أين ما وعد أن يريك؟ فقال عند ذلك : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها) أي : ألم يروا أنه جعل بعض ما كان لهم من الأرضين للمسلمين ؛ فإذا قدر على جعل البعض ـ الذي كان لهم لهؤلاء ؛ لقادر أن يجعل الكل لهم ؛ فهلا يعتبرون.

هذا والله أعلم ما أراد بما ذكر من النقصان.

وقال قائلون (٢) : نقصان الأرض : موت فقهائها وعلمائها وفنائها.

ووجه هذا : وهو أن الفقهاء والعلماء ـ هم عمّار الأرض وأهلها ؛ وبهم صلاح الأرض ؛ فوصف الأرض بالنقصان بذهاب أهلها ، وهو كما وصف الأرض بالفساد ؛ وهو قوله : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] وقوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٤١] فالأرض لا تفسد بنفسها ؛ ولكن وصفت بالفساد ؛ لفساد أهلها ، فعلى ذلك لا تنقص هي بنفسها ؛ ولكن وصفت بالنقصان ؛ لذهاب أهلها ، وعمارها وفقهائها وعلمائها.

ثم يحتمل ذهاب العلماء المتقدمين ، الذين تقدموا رسول الله في الأمم السالفة ؛ وهم علماء أهل الكتاب ؛ فيقول ألا يعتبرون بأولئك الذين قبضوا وتفانوا من علمائهم؟ فلا بدّ من رسول يعلمهم الآداب والعلوم ؛ ويجدد لهم ما درس من الرسوم [وذهب](٣) من الآثار ؛ فكيف أنكروا رسالته؟ وفي بعث الرسول حدوث العلماء ؛ وذلك وقت حدوث العلماء وزمانه ؛ فإن كان أراد العلماء المتأخرين وفقهاءهم ـ فيخرج ذلك مخرج التعزية له ؛ أي : تصير الأرض بحال توصف بالنقصان ، بذهاب العلماء والفقهاء. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

قيل (٤) : لا رادّ لحكمه ، وحكمه : يحتمل : العذاب الذي حكم على الكفرة ؛ يقول : لا رادّ للعذاب الذي حكم عليهم ؛ [وهو كقوله : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] أي :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٠٥٣٣) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في الفتن وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، كما في الدر المنثور.

وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٠٥٣٤) وابن أبي شيبة كما في الدر المنثور (٤ / ١٢٦).

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله ابن جرير (٧ / ٤٠٨).

٣٥٥

احكم بالعذاب الذي حكمت عليهم](١).

ويحتمل قوله : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي : لا يتعقب أحد حكمه ؛ ولا يعقب أحد سلطانه ؛ كما يكون في حكم الخلائق يتعقب بعض عن بعض ، وكما ذكر في الحفظة : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الرعد : ١١] يتعقب بعض عن بعض في الحفظ ؛ وفيما سلطوا. والله أعلم.

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) هذا قد ذكرناه في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

أى : مكر الذين من قبلهم برسلهم ؛ كمكر هؤلاء بك يصبر رسوله على أذاهم به.

ثم يحتمل المكر به وجهين :

أحدهما : مكروا بنفسه ؛ همّوا قتله وإهلاكه.

والثاني : مكروا بدينه الذي دعاهم إليه وأراد إظهاره ؛ هموا هم إطفاء ذلك وإبطاله وكذلك مكر الذين من قبلهم برسلهم يخرج على هذا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً).

هذا أيضا يخرج على وجهين :

أحدهما : يقول : فلله جزاء المكر جميعا ؛ يجزى كلا بمكره.

والثاني : أي : لله حقيقة المكر يأخذهم جميعا بالحق من حيث لا يشعرون ، وأما (٢) هم فإنما يأخذون ما يأخذون لا بالحق ولكن بالباطل ، ولا يقدرون على الأخذ من حيث لا يشعرون إلا قليلا من ذلك ، فحقيقة المكر الذي هو مكر بالحق في الحقيقة لله لا لهم.

ويحتمل قوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي : لله تدبير الأمر جميعا ، إن شاء أمضاه ؛ وإن شاء منعه ، إليه ذلك لا إليهم.

أو لله حقيقة المكر يغلب مكره مكر أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير أو شرّ.

(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).

يشبه أن يكون عقبى الدار معروفا عندهم ؛ وهي الجنة ؛ فيكون صلة قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فيقول ـ والله أعلم ـ سيعلمون هم لمن عقبى الدار ؛ أهي لهم أم هي للمؤمنين؟

أو أن يكون جواب قوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فأما.

٣٥٦

أنهم لما رأوهم مفضلين في أمر الدنيا ووسع عليهم الدنيا ـ ظنوا أن لهم في الآخرة كذلك ؛ فقال ذلك جوابا لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قالوا.

(لَسْتَ مُرْسَلاً) أي : لن يبعثك الله رسولا ، وهم كانوا يقولون كذلك له فأمره أن يقول لهم (١).

(كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إني نبي رسول الله إليكم بالآيات التي آتي بها ، أو كان قال لهم ذلك (٢) ؛ لما بالغ في الحجاج والبراهين في إثبات الرسالة والنبوة ؛ فلم يقبلوا ذلك فأيس من تصديقهم ؛ فعند ذلك قال :

(كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي : يعلم من كان عنده علم الكتاب ؛ يعني التوراة ؛ فيشهد أيضا أني رسول نبي ؛ أي : يعلم من كان عنده علم الكتاب أني على حق ؛ وأني رسول الله ؛ وهو كقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ...) الآية [الشعراء : ١٩٧] وقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣] ومن قرأ بالخفض : ومن عنده علم الكتاب فتأويله ـ والله أعلم ـ : أي : من عند الله جاء علم هذا الكتاب ؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكذلك روي في بعض الأخبار ؛ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقرأ : ومن عنده علم الكتاب بالخفض (٣) ، وأما القراء جميعا فإنهم يختارون النصب (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

قال أبو عبيد : وقرأ بعضهم : ومن عنده علم الكتاب بخفض الميم والدال ورفع العين ؛ وقال : لكن لا أدري عمن هو.

وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال : فيّ نزل : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤) هذا يؤيد أن يثبت قول أهل التأويل ؛ حيث قالوا : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) : عبد الله بن سلام وأصحابه. والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في ب : لهم قل.

(٢) في أ : هنا.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٢٥) أنها قراءة الحسن وسعيد بن جبير وأخرجه أبو يعلى وابن جرير (٢٠٥٥٨) وابن مردويه وابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : من عند الله علم الكتاب. انظر : الدر المنثور (٤ / ١٢٩).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٠٥٣٥ ، ٢٠٥٣٦) عنه ، وعن مجاهد (٢٠٥٣٨ ، ٢٠٥٤٠ ، ٢٠٥٤١) وقتادة (٢٠٥٤٢ ، ٢٠٥٤٤) وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٢٨).

٣٥٧

سورة إبراهيم عليه‌السلام ، قيل : مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (الر كِتابٌ) : الر : كناية عن حروف مقطعة جعلها ـ بالحكمة ـ كتابا.

(أَنْزَلْناهُ) : أي : جمعناها [وأنزلناها](١) وجعلناها كتابا ، أعني تلك الحروف المقطعة كتابا ؛ وأنزلناه إليك بعد ما لم تكن تدري ما الكتاب ؛ وهو كما قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] ؛ وقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨].

(لِتُخْرِجَ النَّاسَ).

وما يضاف الإخراج إلى الله فإنه يكون بإعطاء الأسباب ، وحقيقة ما يكون به الأفعال ، وهي القدرة ، وما يضاف الإخراج إلى الرسل ؛ فإنه لا يكون إلا بإعطاء الأسباب ؛ لأنه لا يملك أحد سواه إعطاء ما به يكون الفعل ، ثم الأسباب تكون بوجهين :

أحدهما : الدعاء إلى ذلك.

والثاني : ما أتي بهم من البيان والحجة على ذلك ؛ فهو الأسباب التي يملك الرسل إتيانها ، وأما ما به حقيقة الفعل ؛ فإنه لا يملكه إلا الله.

وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قيل : من الكفر إلى الإيمان ، سمى الكفر : ظلمات ؛ وهو واحد ؛ لأنه يستر جميع منافذ الجوارح ؛ من البصر والسمع واللسان ؛ يبصر ما لا يصلح ؛ ويسمع ما لا يصلح ، وكذلك القول : يقول ما لا يصلح ، وكذلك جميع الجوارح والإيمان يرفع ويكشف جميع الحجب والستور ؛ ويضيء له كل مستور.

والثاني : قوله : (مِنَ الظُّلُماتِ) أي : من الشبهات إلى النور ؛ أي : إلى الإيمان والهدى.

وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الإخراج المضاف إلى الله والهداية تخرج

__________________

(١) سقط في أ.

٣٥٨

على وجوه أربعة :

أحدها : يأمر ويدعوهم إلى ما ذكر.

والثاني : يكشف ويبين.

والثالث : يرغب ويرهب ، حتى يرغبوا في المرغوب ويحذروا المرهوب.

والرابع : تحقيق ما يكون به الهداية ؛ وذلك لا يكون إلا بالله ؛ وهو التوفيق والعصمة ، وأما الوجوه الثلاثة الأول فإنها تكون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ يأمر ويدعو ؛ ويرغب ويرهّب ؛ ويبين ويكشف. والله أعلم.

وقوله : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) كأنه قال : كتاب أنزلناه إليك ؛ لتأمر الناس بالخروج مما ذكر إلى ما ذكر.

الثاني : أنزلناه لتخرج به الناس مما ذكر.

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).

قيل (١) : بأمر ربهم ؛ أي : تدعوهم بأمر ربهم.

وقال قائلون (٢) : بعلم ربهم ؛ أي : أنزل هذه الحروف المقطعة بعلمه.

والثالث : يحتمل بتوفيق ربهم الإذن من الله ، يحتمل [أحد](٣) هذه الوجوه التي ذكرنا : الأمر والعلم والتوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

[العزيز الحميد](٤) هو الله ؛ أي : يدعوهم إلى طريق الله الذي من سلكه نجا.

(الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) سمى عزيزا ؛ لأن كل عزيز به يعز ، أو يقال : عزيز ؛ لأنه عزيز بذاته ليس بغيره كالخلائق ، أو العزيز : هو الذي لا يغلب (٥) ، والحميد : هو الذي لا يلحقه الذم في فعله ؛ كالحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره.

وقال أهل التأويل : العزيز : المنيع ، والحميد : الذي [هو](٦) يقبل اليسير من العبادة.

وقوله : ـ عزوجل ـ : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

من قرأ بالخفض صيّره موصولا بالأول ، وجعله كلاما واحدا ؛ وأتبع الخفض

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٥).

(٢) قاله البغوي (٣ / ٢٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : يطلب.

(٦) سقط في ب.

٣٥٩

بالخفض. ومن قرأ بالرفع : الله الذى جعله مقطوعا عن الأول [على](١) حق الابتداء ؛ فقال : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

ذكر قوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ؛ ليعلم أنه بما يأمر الخلق ؛ ويدعوهم إلى دينه ؛ ويمتحنهم بأنواع المحن لا يفعل ذلك لمنافع نفسه أو لحاجته (٢) في ذلك ؛ بل لحاجة الممتحنين ولمنافعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ).

قال قائلون : الويل : [هو](٣) الشدة ، وقيل : الويل : هو اسم واد في جهنم.

وقال الأصم : الويل : هو نداء كل مكروب وملهوف من شدة البلاء ، وقول الحسن كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ).

وصف أولئك الذين ذكر أن فيهم الويل من هم ؛ فقال : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي : آثروا واختاروا الحياة الدنيا على الآخرة ؛ أي : رضوا بها واطمأنوا فيها ؛ كقوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] اختاروا الحياة الدنيا للدنيا ؛ لم يختاروا للآخرة ؛ فالدنيا أنشئت لا للدنيا ولكن إنما أنشئت للآخرة ؛ فمن اختارها لها ؛ لا ليسلك بها إلى الآخرة ـ ضلّ وزاغ عن الحق.

وقوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) [وهو ما ذكرنا](٤) : يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ؛ حتى يلهوا عن الآخرة ؛ ويسهوا فيها ويغفلوا ، وإلا أهل الإسلام ربما يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، وهو ما ذكرنا : أنهم يختارون ذلك للآخرة ، وأولئك للدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

يحتمل (وَيَصُدُّونَ) : وجهين :

أحدهما : أعرضوا هم بأنفسهم.

والثاني : صرفوا الناس عن سبيل الله ؛ الذي من سلكه نجا ، [لكن](٥) إنما يتبين ويظهر ذلك بالمصدر صدّ يصدّ صدّا : صرف غيره ، وصدّ يصدّ صدودا : أعرض هو بنفسه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لحاجة.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

٣٦٠