تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

يحتمل أنهم سألوه أن يبدل أحكامه على ترك رسمه ونظمه.

ويحتمل قوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي : ارفع رسمه ونظمه وأحكامه ، كأنهم ادعوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختراع هذا القرآن من نفسه واختلاقه من عنده ، فقال : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) تأويله ـ والله أعلم ـ : لو شاء الله ألا يظهر دينه فيكم ولا [ألزمكم حجته](١) ولا بعثني إليكم رسولا ، (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) و (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم به.

ويحتمل قوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) : ولا أعلمكم ما فيه من الأحكام ، أو يقول : لو شاء الله لم يوح إلي ، ولا أمرني بتبليغ ما أوحي إلي إليكم ، ولا بالدعاء إلى ما أمرني أن أدعوكم إليه.

وفي قوله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) [دلالة أن الله إن شاء شيئا كان وما لم يشأ لم يكن لأنه أخبر أنه لو شاء ما تلوته عليكم](٢) فلو لم يشأ أن يتلوه ما تلاه ؛ دل أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وذلك يرد على المعتزلة قولهم : شاء الله أن يؤمن الخلائق كلهم لكنهم لم يؤمنوا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله فلم أدع ما أدعى للحال ، ولا تلوت ما أتلو ، أفلا تعقلون أنى لم أخترع هذا من نفسي ، ولكن وحي أوحي إلى؟! إذ لو كان اختراعا مني لكان ذلك مني فيما مضى من الوقت وكنت لا بسا فيكم ، فإذ لم يكن مني ذلك أفلا تعقلون أني لم أخترع من نفسي؟!

يحتمل هذا الكلام وجوها :

أحدها : أنهم لما ادعوا عليه الاختراع من عنده قال : إني قد لبثت فيكم من قبله ، أي : [من](٣) قبل أن يوحى هذا إلي ، فلم تروني خططت بيميني ، ولا اختلفت إلى أحد في التعلم والدراسة ، فكيف أخترع من عندي ؛ إذ التأليف (٤) لا يلتئم ولا يتم إلا بأسباب تتقدم؟!

والثاني : فقد لبثت عمرا سنين لم تعرفوني ولا رأيتموني كذبت قط ، فكيف أفتري على الله تعالى وأخترع القرآن من عند نفسي؟! ألا ترى أنه قال على إثر هذه : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ

__________________

(١) في أ : ألزمه حجة.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : والتأليف.

٢١

افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا.

والثالث : يحتمل قوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) فلم أسمع أحدا ادعى البعث ، ولا أقام حجة عليه ، وأنا قد ادعيت البعث وأقمت على ذلك حجة ، أفلا تعقلون هذا أني لم أخترع من عند نفسي؟!

وقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) : يشبه أن هذا صلة (١) قوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي كيف تطلبون مني إتيان غيره وتبديل أحكامه وقد تعرفون قبح الكذب وفحشه فكيف تسألونني الافتراء على الله وتكذيب آياته؟

ويحتمل أن يكون صلة ما ادعوا عليه (٢) أنه افتراه من [عند](٣) نفسه ؛ يقول : إنكم لم تأخذوني بكذب قط ، وقد لبثت فيكم عمرا فكيف تنسبوني إلى الكذب على الله ، وقد عرفتم قبح الكذب على الله وفحشه؟!

ويحتمل على الابتداء ثم قد ذكرنا أن قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) استفهام ، فجوابه ما قاله أهل التأويل : لا أحد أبين ظلما ولا أفحاش ممن افترى على الله كذبا ؛ لا أن تفسيره ما قالوه ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) : الافتراء على الله تكذيب بآياته ، وتكذيب آياته افتراء على الله.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) يحتمل وجهين :

__________________

(١) قال القرطبي : هذا استفهام بمعنى الجحد ، أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، وبدل وأضاف شيئا إليه مما لم ينزل ، والمعنى : أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ، لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني ، حيث افتريته على الله ، ولما أقمت الدليل على أنه ليس الأمر كذلك ، بل هو وحي من الله ـ تعالى ـ وجب أن يقال : إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم. والمقصود : نفي الكذب عن نفسه.

ينظر تفسير القرطبي (٨ / ٢٠٥).

(٢) في أ : إليه.

(٣) سقط في ب.

٢٢

ما لا يضرهم لو تركوا عبادته ولا ينفعهم إن عبدوه.

والثاني : (ما لا يَضُرُّهُمْ) أي : ما لا يملكون الضرر بهم ، (وَلا يَنْفَعُهُمْ)(١) أي : ولا يملكون جر النفع إليهم يسفههم في عبادتهم من لا يملك بهم دفع الضرر ، ولا يملك جر النفع ، وتركهم عبادة من به يكون جميع منافعهم وعذابهم ، ومنه يكون كل خوف وضرّ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) : يحتمل هذا القول منهم تقليدا لآبائهم ؛ كقولهم : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ظنوا أن آباءهم لما تركوا وما هم عليه لم يعذبوا ـ أنهم على الحق ، وأن الله قد رضي بذلك ، أو قالوا ذلك لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة الله والقيام بخدمته ، وقد يكون مثل هذا في ملوك الأرض أن كل أحد لا يرى نفسه يصلح لخدمة الملك ، فيخدم من دونه المتصلين به رجاء أن يكون من خدمه شفيعا له عند الملك ؛ فعلى ذلك هؤلاء طمعوا أن عبادتهم هؤلاء تقربهم إلى الله زلفى ، ويكونون لهم شفعاء عند الله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) يقول : أتنبئون الله [أي أتخبرون الله](٢) بما لا يعلم ، أي : تعلمون أنه عالم ، أي : أتعلمون من تعلمون (٣) أنه يعلم ما ذكر وأنتم لا تعلمون ذلك ، وقد تعلمون أنه لو كان كذلك لكان هو أعلم به منكم.

والثاني : أن تقولوا ما لا يعلم ، أي : يعلم أنه ليس كما تقولون كقول الناس : ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون ، أي : ما شاء ألا يكون لا يكون (٤).

وقوله : (سُبْحانَكَ) : كلمة جعلت لإجلال الله عما يحتمله غيره من الأشكال والأضداد ، ومن العيوب والآفات ، وهو في هذا الموضع يتوجه إلى وجهين إذ كانوا يعبدون ما ذكر ويقولون : هم شفعاؤنا عند الله ، فيقول : سبحانه أن يجعل لأمثال أولئك

__________________

(١) زاد في ب : لو تركوا عبادته.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : يعلمون.

(٤) والمعنى : أتعلمون الله بالأصنام ، التي لا تعلم شيئا في السموات ولا في الأرض. وإذا ثبت أنها لا تعلم ، فكيف تشفع؟! والشافع لا بد وأن يعرف المشفوع عنده ، والمشفوع له ؛ هكذا أعربه أبو حيان ، فجعل «ما» عبارة عن الأصنام ، لا عن الشفاعة ، و «ما» في (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل أن تكون بمعنى : «الذي» أي : عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة ، أو مصدرية ، أى : عن إشراكهم به غيرهم. وقرأ الأخوان ـ حمزة والكسائي ـ هنا : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وفي النحل موضعان.

ينظر اللباب (١٠ / ٢٨٦).

٢٣

شفاعة عنده ؛ إذ الشفيع يكون من له منزلة وقدر عند من يشفع (١) له ، والمنزلة تكون [للعبيد بما يتعبدهم](٢) ، فيقومون بتوفير ما يحتمل وسعهم من العبادة ، فأما من لا يحتمل التعبد فهو بعيد عما ذكر يعني سبحانه أن يجعل الشفاعة لمن ذكر دون الأنبياء والرسل ، وهم قد أخبروا أنها لا تملك ضرا ولا نفعا ، وفي الشفاعة ذلك.

والثاني : أن يكون عما أشركوا في العبادة ، فسبحانه عن أن يكون معه معبود أو يأذن لأحد بعبادة غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) اختلف فيه :

قال بعضهم (٣) : قوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي : أهل مكة كانوا كلهم أهل شرك عبّاد الأصنام والأوثان ، لم يكن فيهم اليهودية ولا النصرانية ولا شيء من اختلاف المذاهب ، فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا : فمنهم من آمن به وصدقه وأخلص دينه لله ، ومنهم من عاند وكابر في تكذيبه بعد أن عرف أنه رسول الله ومنهم من شك فيه ، ومنهم من لم ينظر في أمره قط ولا تفكر فيه ؛ فصاروا أربع فرق.

وقال بعضهم : قوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) ، بالفطرة ، أي : كانوا جميعا على الفطرة ، وفي فطرة كل [أحد](٤) الشهادة على وحدانية الله تعالى وألوهيته ؛ كقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣] ، وقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] في خلقة كل أحد الشهادة لله بالوحدانية له والألوهية فاختلفوا : فمنهم من كان على تلك الفطرة ، ومنهم من كذب واختار الكفر ، وهو ما روي : «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه» (٥).

أخبر أنهم على الفطرة لو تركوا على ذلك ، لكن أبويه يمنعانه عن الكون عليها.

وقيل : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي : كان الخلائق جملة أمم ؛ كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] كأنه يعاتب هذه الأمة يقول : إن الأمم مع اختلاف جواهرها وأجناسها كانوا خاضعين لله مخلصين له ،

__________________

(١) في أ : ينتفع.

(٢) في أ : للعبد بما يتبعه هم.

(٣) ينظر : اللباب (١٠ / ٢٨٨).

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ٦١٦) كتاب الجنائز ، باب ما قيل في أولاد المشركين (١٣٨٥) ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب القدر ، باب معنى «كل مولود يولد على الفطرة» وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (٢٢ / ٢٦٥٨) عن أبي هريرة.

٢٤

فأنتم أيها الناس أمة من تلك الأمم ، فكيف اختلفتم وأشركتم غيره في ألوهيته وربوبيته ، مع ما ركب فيكم من العقول (١) والتمييز بين ما هو حكمة وما (٢) هو سفه ، وقد فضلكم على غيرها من الأمم في خلق ما خلق في السموات وما في الأرض لكم ، وسخر لكم ذلك كله ما لم يفعل ذلك بغيرنا من الأمم؟!

ومنهم من قال من أهل التأويل في قوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) : زمن نوح : نوح ومن دخل معه في السفينة كانوا على دين واحد ، فاختلفوا بعد ما خرجوا (٣).

ومنهم من قال : آدم فاختلف أولاده (٤).

ومنهم من قال : زمن إبراهيم (٥). لكنا لا نشهد كيف كان الأمر ، فلا نعلم إلا بخبر عن الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قيل : لو لا أن من حكمه ألا يعذب هذه الأمة عند تكذيبهم الآيات إذا سألوها وإلا لأهلكها كما أهلك الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال ، ولكن أخر تعذيب هذه الأمة إلى يوم القيامة.

والثاني : سبقت من ربك ألا يستأصل هذه الأمة عند تكذيبهم الرسل والعناد لهم أحد التأويلين في ترك استئصالهم ، والآخر في تأخير العذاب عنهم إلى وقت.

وقوله : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ببيان يضطرهم إلى القبول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) : جوابه ـ والله أعلم ـ ما ذكر : لو لا كلمة سبقت من ربك ألا يعذب هذه الأمة بتكذيبهم الآيات عند سؤالها ، وإلا لعذبتم أنتم كما عذبت الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) : أي : إنكم تعلمون أن علم الغيب لله ، وقد أنزل من الآيات ما يبين ويدل على رسالتي.

__________________

(١) في أ : القول.

(٢) في ب : وبين ما.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٣٩) ونسبه للضحاك ، وكذا ابن عادل في اللباب (١٠ / ٢٨٧).

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٥٤٣) (١٧٦٠٤ و ١٧٦٠٥ و ١٧٦٠٦) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم عن السدى.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٣٩) ونسبه لابن عباس ، وكذا ابن عادل في اللباب (١٠ / ٢٨٧).

٢٥

وقوله : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قيل : انتظروا هلاكي إني منتظر هلاككم ؛ لأنهم كانوا يوعدونه الهلاك.

وقيل : انتظروا مواعيد الشيطان إني منتظر مواعيد الله ، وهو حرف وعيد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) : قال أهل التأويل : (أَذَقْنَا النَّاسَ) يعني : أهل مكة إذا أصابهم سعة وفرح ونجاة مما يخافون عادوا إلى ما كانوا من التكذيب وعبادة الأصنام ، ولكن أهل مكة وغيرهم أنهم إذا أيسوا عما يعبدون من الأصنام والأوثان ، فزعوا إلى الله ويخلصون له الدين ؛ كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآية [العنكبوت : ٦٥] ، وقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ...) الآية [يونس : ١٢] ، وقوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) الآية [الروم : ٣٣] ، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها ، كانت عادتهم الفزع إلى الله عند إصابتهم الشدائد والبلايا ؛ لعلمهم أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لا يدفعون عنهم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) : المكر في الآيات تكذيبها وردها ، فيشبه أن تكون الآية هاهنا محمدا ، كان هو من أول أمره (١) إلى آخره آية ، فمكروا به لما هموا بقتله غير مرة ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [الأنفال : ٣٠] ، ويحتمل سائر الآيات والحجج مكروا فيها ، أي : كذبوها وردوها.

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) : المكر الأخذ من غير أن يعلم هو به ، يقول : الله أسرع أخذا يأخذكم وأنتم لا تعلمون به ، ولا تقدرون أن تأخذوا رسول الله وتمكروا به إلا وهو يعلم بذلك ، فهو أسرع أخذا منكم.

(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) : فهم الحفظة.

__________________

(١) في ب : الأمر.

٢٦

ويحتمل قوله : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي : أسرع لجزاء المكر منكم ، أو أسرع أخذا من حيث لا تعلمون أنتم.

وقال بعض أهل اللغة : المكر بالآيات هو الرد والجحود لها.

وقال بعضهم : استهزاء بها ؛ فهو واحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : اختلف فيه :

قال : بعضهم : قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) أي : هو الذي سخر لكم ما به تسيرون في البر (١) والبحر ، وهو الدواب والسفن التي يقطع بها البراري والبحار ، وهو كقوله : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٣].

وقيل : قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : سخر لكم البر والبحر وهما مكانا الخوف والهلاك ، أي : حفظكم فيهما حتى قضيتم فيهما حوائجكم ، وليس في وسع الخلق حفظ البرارى والبحار عما فيهما من الأهوال ، فتولى الله بفضله حفظ السائرين فيهما ، حتى قضوا فيهما حوائجهم ؛ وهو كقوله : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ...) [النحل : ١٤] إلى آخر ما ذكر من أنواع المنافع ، فلولا أن الله سخر لهم ذلك وحفظهم فيه ، وإلا لم يكن في وسعهم القيام بذلك وحفظ أنفسهم فيه من الأهوال التي فيه ، يذكرهم نعمه ومننه التي أنعمها عليهم ليوجهوا شكر نعمه إليه.

ثم قوله : (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يحتمل يخلق وينشئ سيركم في البر والبحر ؛ وهو كقوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ ...) الآية [سبأ : ١٨] ، والتقدير هو التخليق والمقدر المخلوق ، ففيه دلالة خلق أفعال الخلق ؛ لأن السير هو فعل الخلق أضافه إلى نفسه ؛ دل أنه منشئ فعلهم ، والله أعلم.

ويشبه أن يكون قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لم [يرد](٢) به البر والبحر نفسه ، ولكنه أراد تذكير نعمه عليهم في كل حال وكل وقت ليشكروا له في كل حال ؛ وهو كقوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٤١] لم يرد به البر والبحر أنفسهما ، ولكن أراد المكان الذي فيه المياه والمكان الذي لا مياه فيه ، أي : ظهر الفساد في الأماكن كلها ؛ فعلى ذلك الأول يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم في الأماكن كلها والأحوال جميعا ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : البحر.

(٢) سقط في ب.

٢٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي : ركبتم الفلك ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي : تجري بهم السفن بريح طيبة.

يخبر أن السفن ليست تجري في البحار بجريان الماء ؛ لأن ماءها [راكد](١) في الظاهر ، ولكن الريح هي التي تجريها وتسيرها ؛ وكذلك الأمواج التي تكون فيها ليست لشدة جريان الماء ، ولكن الريح هي التي تهيج [الأمواج وتزعجها لا بنفس الماء (وَفَرِحُوا بِها) قيل : فرحوا بها : سروا بها. ويحتمل فرحوا بها ، أي : بطروا بها وأشروا.

وقوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ)](٢) ، أخبر أن من الريح ما هي طيبة تجرى بها السفن ، ومنها ما هي عاصفة قاصفة تكسر وتفرق السفن وتهلك أهلها ؛ ليعلم أن الأشياء تصلح تارة وتفسد تارة لا لأنفسها ، ولكن لحفظ الحدود فيها ، وكذلك النار تحرق مرة وتفسد ومرة تصلح وذلك لحفظ الحدود فيها ، وكذلك الماء مرة يصلح ومرة يفسد ، وذلك إذا حفظ فيه الحد أصلح ، وإن لم يحفظ أفسده ، وإلا لا يحتمل الشيء الواحد لنفسه يصلح مرة ويفسد تارة ، ولكن لحفظ الحدود فيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) قيل : أيقنوا أنهم مهلكون ، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا يدرى لعل الله يصرف ذلك عنهم ، فلا يقع به الإيقان ، ولكن جعل غالب الظن فيه في كثير من الأشياء كالإيقان به ألا ترى أن الله أباح الميتة في حال الضرورة لغالب الظن ؛ إذ قد يجوز ألا يهلك بذلك ، وكذلك ما أبيح للمكره بالقتل أن يجري كلمة الكفر على لسانه لغالب الظن ، وإلا ليس يعلم بالإحاطة أنه يقتله لا محالة ، لكن جعل لغالب الظن في بعض المواضع حكم اليقين والإحاطة فعلى ذلك قولهم أيقنوا أنهم أحيط بهم لغالب الظن.

وقوله ـ عزوجل ـ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أنهم لما أيسوا عن الأصنام التي عبدوها في دفع ما حل بهم عنهم ، فزعوا إلى الله ، وأخلصوا الدعاء له ، وقالوا : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، ثم أخبر عن سفههم بعودهم إلى ما كانوا من قبل ، (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، وهكذا كانت عادتهم كانوا يفزعون إلى الله عند خوف الهلاك والإياس عن آلهتهم التي عبدوها ، ويخلصون الدعاء له ، فإذا كشف ذلك الكرب عنهم ودفع ، عادوا إلى ما كانوا من قبل.

والبغي في الأرض هو الفساد فيها.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٢٨

وقوله : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يحتمل قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : بعضكم على بعض.

ويحتمل : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : حاصل بغيكم يرجع على أنفسكم.

والبغي هو الظلم ؛ فإن كان التأويل : من أنفسكم بعضكم على بعض ؛ فيكون الوعيد في قوله : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) وقوله : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ما قد ذكرنا ، وهو حرف وعيد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ...) الآية قيل : في ضرب مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي ذكر وجوه (١).

قال بعضهم : قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) في سرعة فنائها وانقطاعها ووجوب (٢) زوالها مثل ذلك الزرع الذي ذكر [في سرعة هلاكه وانقطاعه وزواله عن صاحبه. أو أن يقال : إنما مثل الحياة الدنيا فيما يسر به ويبتهج مثل صاحب الزرع الذي ذكر](٣) فيما سر به وابتهج ، ثم كان ما ذكر : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).

وقال بعضهم (٤) : إنما مثل الحياة الدنيا للحياة الدنيا فيما ينفقون فيها ، مثل صاحب الزرع الذي ذكر ينفق عليه لما يأمل من المنافع ويطمع منه ثم كان ما ذكر ولو علم في الابتداء أن أمر زرعه يئول ويصير إلى ما صار لكان لا ينفق ؛ فعلى ذلك صاحب الحياة الدنيا لو علم أن عاقبة أمر نفقته تصير حسرة عليه وندامة ما أنفق ، كما أن صاحب الزرع

__________________

(١) قال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبّهت حال الدنيا في سرعة تقضيها ، وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه ، وذهابه حطاما بعد ما التفّ وتكاثف ، وزين الأرض بخضرته ، ورونقه. والتشبيه المركب في اصطلاح البيانيين : إما أن يكون طرفاه مركبين ، أى : تشبيه مركب بمركب ؛ كقول بشار بن برد :

كأن مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وذلك أنه يشبه الهيئة الحاصلة من هويّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم ، بليل سقطت كواكبه. وإما أن يكون طرفاه مختلفين بالإفراد والتركيب.

ينظر : الكشاف (٢ / ٣٤٠).

(٢) في أ : ووجبة.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٤) ينظر اللباب في علوم الكتاب (١٠ / ٣٠٢).

٢٩

الذي ذكر وبلغ المبلغ الذي ذكر لو علم أن عاقبته كما كان ما أنفق عليه ، أو لو علم أنه لا ينتفع به ما أنفق تلك النفقة ، أي : لو علم أن سروره وابتهاجه به لا يبقى ولا يدوم إلى آخره ما تكلف ذلك ، أو لو علم أنها تزول عنه وتنقطع عن تلك السرعة ما أنفق ذلك وما تكلف الذي تكلف.

ويحتمل ضرب مثل الحياة الدنيا بما ذكر من النبات وجهين :

أحدهما : يخبر عن سرعة زوالها وانقطاعها كالنبات [الذي ذكر أنه يتسارع إلى الزوال والانقطاع لما يصيبه من الآفة فعلى ذلك الدنيا.

والثاني يخبر عن تغيرها وانقلاب أمرها كالنبات](١) الذي يتغير في أدنى مدة ووقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) قيل : حسنها ، وازينت وحسنت فأنبتت من ألوان النبات.

وقال أبو عوسجة : زخرفها : زينتها من النبت ، و (حَصِيداً) أي : محصودا كما يحصد الحصاد ، والحصاد : الزرع ، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي : لم تعش ، [والمغاني هي](٢) المواضع التي يعيش فيها الناس ، قال : وواحد المغاني مغنى.

وقال القتبي (٣) : وأصل الزخرف الذهب ؛ يقال للنقش والذهبة وكل شيء زين : زخرف ، وقال : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) والمغاني : المنازل واحدها مغنى.

وقال بعضهم : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي : لم تنغم.

وقيل : لم تعمر.

وقال بعضهم : هو من الغنى ، أي : كأن لم تكن غنيا بالأمس ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي : ظن أهل الدنيا فيما ينفقون أنهم قادرون على تلك النفقة ، كما ظن صاحب الزرع أنه قادر على ذلك الزرع.

وقوله : (أَتاها أَمْرُنا) قيل : عذابنا سمي أمرا ؛ لأنه بأمره أتاه ، وفيه أنه لم يأته عن غفلة وسهو ، ولكن عن علم وأمر ؛ عظة لهم وتنبيها ؛ ألا ترى أنه قال : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كأن الآيات في هذا الموضع المواعظ ، أي : فيما ذكر من ضرب مثل الحياة الدنيا بالنبات والزرع الذي ذكر عظة وتنبيه لمن تفكر فيه ، والله أعلم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : والثاني هو.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (١٩٥).

٣٠

قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) اختلف فيه ؛ قيل : الجنة ، والسلام : الله أضافها إلى نفسه (١) ؛ كقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] فأضاف الجنة إلى السلام إن كان دار السلام هي الجنة ، فهو ـ والله أعلم ـ لأن المساجد هي أمكنة يقام فيها القرب ، والجنة هي مكان اللذة وقضاء الشهوة ، فأضافها إلى السلام لما يسلم أهلها عن جميع الآفات ، والمساجد خصت بالإضافة إلى الله تعالى ؛ لأنها أمكنة يقام فيها القرب.

وقال بعضهم : دار السلام : الإسلام.

ثم يحتمل كل واحد من التأويلين وجهين بما سمى الإسلام دار السلام والجنة ، كذلك سمى الإسلام دار السلام ؛ لأنه يأمن ويسلم كل من دخل فيه عن جميع الأهوال والآفات التي تكون.

والثاني : سمى [الإسلام دار السلام](٢) أضافه إلى نفسه ؛ كقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ...) الآية [الزمر : ٢٢] ، أخبر أنه على نور من ربه ؛ فعلى ذلك إضافة الإسلام إليه (٣).

ومن قال : دار السلام الجنة سمى دار السلام ؛ لأن كل من دخل الجنة سلم وأمن عن الأهوال كلها والآفات جميعا.

والثاني : دار : الجنة ، والسلام : الله أضاف إليه ؛ لأنها دار أوليائه ، وقد تضاف إلى الله على إرادة أوليائه ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٤٨) (١٧٦١٩ ، ١٧٦٢٠) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤٥) وعزاه لأبي نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٢) في ب : السلام الدار الإسلام.

(٣) قال المبرد : (وصف بالسلام ، أى : لا يقدر على السلام إلا هو ، والسلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات ، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين) ، وعلى هذا التقدير : «السلام» مصدر «سلم».

وقيل : سميت الجنة دار السلام ؛ لأن من دخلها سلم من الآفات ، وقيل : المراد بالسلام : التحية ؛ لأنه ـ تعالى ـ يسلم على أهلها ، قال ـ تعالى ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)[يس : ٥٨] ، والملائكة يسلمون عليهم أيضا ، قال ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) ، وهم يحيون بعضهم بعضا بالسلام ، قال ـ تعالى ـ : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). ينظر اللباب (١٠ / ٣٠٣).

٣١

وروى في بعض الأخبار عن أبي قلابة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لي لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ، ثم قيل لي : سيد بنى دارا وجعل مأدبة وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

إن ثبت هذا الخبر ففيه أن الدار الإسلام على ما قاله بعض أهل التأويل وفي خبر آخر عن جابر بن عبد الله قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال : رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي ، قال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ، قال : اسمع سمعت أذنك ، وأعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بنيانا فأتمه ، ثم جعل فيها المأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، ومن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» (٢).

هذا يدل ـ أيضا ـ إن ثبت أن الدار التي ذكر في الآية هو الإسلام ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ...) الآية : ذكر الاستثناء في الهداية ، ولم يذكر في الدعاء ؛ ليعلم [أن](٣) لا كل من يدعو إلى دار السلام يهديه ، وإنما [يهدي به](٤) من يعلم منه أنه يختار الهدى وذلك على القدرية.

ثم الهدى على وجوه ثلاثة.

أحدها : الدعاء كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).

والثاني : هو البيان كقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) يعني القرآن.

والثالث : التوفيق والعصمة إذا وفق اهتدى ، والهدى هاهنا التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : للذين أحسنوا في الدنيا لهم الحسنى في الآخرة جزاء ذلك الإحسان وهي الجنة ، سمى الجنة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٤٨) (١٧٦٢١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤٦) وعزاه لابن مردويه عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٤٩) (١٧٦٢٤) ، والبيهقي في الدلائل (١ / ٣٧٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤٦) وزاد نسبته للحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يهديه.

٣٢

الحسنى ؛ لأنها جزاء الإحسان ، كما سمى النار السوأى ؛ كقوله : (أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠] لأنها جزاء السوء ؛ كقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] (وَزِيادَةٌ) قيل : المحبة في قلوب العباد يحبه كل محسن ، وهيبة له في قلوب الناس يهابه كل أحد على غير سلطان له ولا يد.

وقال قائلون : قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي : مثل تلك الحسنة وزيادة التضعيف ، حتى تكون عشرا وسبعمائة وما شاء الله ، يدل على ذلك قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧].

وقال قائلون : [قوله](١) : (وَزِيادَةٌ) الرؤية (٢) : رؤية الرب والنظر (٣) ؛ كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣].

وقال قائلون : الزيادة قبول (٤) حسناته مع ما فيها من الخلط بالسيئات ، يقبل حسناته بفضله. وإن كانت تشوبها السيئات ورضاه عنه (٥) ، وذلك طريقه الفضل والإحسان ؛ إذ قد سبق من الله تعالى إليه من النعم ما لا يقدر القيام على وفاء نعمة منها طول عمره.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) وقال ابن عباس : للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله ، فأما الحسنى : فهي الجنة ، وأما الزيادة : فقال أبو بكر الصديق ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت : هي النظر إلى وجه الله الكريم. وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي.

أخرجه الطبري في تفسيره (٦ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠) عن أبي بكر الصديق وعامر بن سعد وحذيفة وأبي موسى والحسن وعكرمة ، وذكره البغوى في تفسيره (٢ / ٣٥١) عن هؤلاء ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٨) عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وعامر بن سعد وقتادة والضحاك ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبي الشيخ والدارقطني في «الرؤية» وابن مندة في «الرد على الجهمية» وابن مردويه ، والآجري والبيهقي كلاهما في «الرؤية» عن أبي بكر الصديق. وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والآجري والبيهقي عن حذيفة ، وعزاه إلى هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والبيهقي عن أبي موسى ، وعزاه إلى ابن جرير والدارقطني عن عامر بن سعد.

وعزاه إلى الدارقطنى عن الضحاك.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٤٩ ـ ٥٥١) عن كل من : أبي بكر الصديق (١٧٦٢٥ ، ١٧٦٢٦ ، ١٧٦٤٢) ، وعامر بن سعد (١٧٦٢٧ ، ١٧٦٢٨) ، وحذيفة (١٧٦٢٩) ، وأبي إسحاق (١٧٦٣٠) ، وأبي موسى الأشعري (١٧٦٣١ و ١٧٦٣٢) موقوفا ، (١٧٦٣٣) مرفوعا ، وعبد الرحمن بن أبي السبيلي (١٧٦٣٤ ، ١٧٦٣٥ ، ١٧٦٣٦ ، ١٧٦٣٧ ، ١٧٦٣٨) ، والحسن البصري (١٧٦٣٩). وصهيب الرومي (١٧٦٤١) مرفوعا ، وقتادة (١٧٦٤٤ ، ١٧٦٤٥) ، وكعب بن عجرة (١٧٦٤٦) مرفوعا ، وعبد الرحمن بن سابط (١٧٦٤٧) ، وأبي بن كعب (١٧٦٤٨) مرفوعا.

(٤) في ب : هو قبول.

(٥) في أ : منه.

٣٣

وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : «الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب» (١).

فلا ندري ما الزيادة التي ذكرها عزوجل في الآية إلا بالخبر عن الله.

وقال قائلون : الحسنى ما تقدره العقول وتدركها وتصورها الأوهام ، وأما الزيادة فهي التي لا تقدرها العقول ولا تدركها ولا تصورها الأوهام ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) قيل : لا يغشى وجوههم الغبار والريح (٣) على ما وصف وجوه أهل النار ، وهو قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٤٠ ـ ٤١] ، ولكن على ما وصف وجوه أهل الجنة بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٣٩] ، وذلك ـ والله أعلم ـ آثار إحسانهم التي أحسنوا في الدنيا ، ولما لم يروا النعم التي كانت لهم من سواه ولم يصرفوا شكرها إلى غيره ، والغبرة والقترة التي ذكر لأهل النار هي آثار السيئات التي عملوها في الدنيا من عبادتهم دون الله وصرفهم شكر النعم إلى غيره ونحو ذلك من صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا ، والله أعلم.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)

وقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) : جزاء سيئة (٤) مما يوجبه الحكمة أن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٥٢) (١٧٦٤٩ و ١٧٦٥٠ و ١٧٦٥١) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤٨) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الروية» من طريق الحكم بن عتيبة عن علي.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٤) وأطرافه في (٤٧٧٩ ـ ٤٧٨٠ ـ ٧٤٩٨) ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة وصفة نعيمها (٢ / ٢٨٢٤).

(٣) ذكره البغوى في تفسيره (٢ / ٣٥١) ، وكذا الرازي (١٧ / ٦٤). وفي أ : لا يغشى وجوههم النار والوهج.

(٤) والفرق بين الحسنات والسيئات : أنه إذا زاد في الحسنات يكون تفضلا ، وذلك حسن ، وفيه ترغيب في الطاعة ، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق على السيئات ، فهو ظلم ، والله منزه عنه ، ثم قال : ـ

٣٤

يجزي بمثلها ، وأما جزاء الإحسان والخير طريق وجوبه [الإفضال والإحسان ليس طريق وجوبه](١) الحكمة ، إذ سبق من الله ، إلى كل أحد من النعم ما ليس في وسعه القيام بمكافأة واحدة منها عمره وإن طال واجتهد كل جهده ، فضلا أن يستوجب قبله جزاء ما كان منه من الخيرات.

وقوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : هو ما ذكرنا من آثار السيئات التي عملوها في الدنيا ذلا وهوانا لهم (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ، وذلك أنهم ـ والله أعلم ـ كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن يكونوا [لهم شفعاء](٢) عند الله ، فأخبر أن ليس لهم من عذاب الله مانع يمنع ذلك عنهم ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) قيل : ألبست (٣) وأغطيت قطعا مثقلا ومخففا قطعا ، قيل : القطع بالتثقيل هو جمع القطعة ، والقطع بالتخفيف جزء من الليل ، يقال : سرنا بقطع من الليل ، أي : بجزء من الليل ، وقوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ٨١] أي : بجزء منه ، والله أعلم.

ثم شبه وجوههم بظلمة الليل ، ولم يشبه بسواد الوجوه على ما يكون من سواد الوجوه في الدنيا ؛ فذلك ـ والله أعلم ـ أن سواد الوجوه على ما يكون في الدنيا لا يبلغ من القبح غايته ؛ إذ قد يرغب من كان جنسه ونوعه في ذلك ويحسن ذلك عنده ، فإذا كانت الرغبة قد تقع لبعضهم في بعض لم يبلغ في القبح نهايته (٤) ، وأما ظلمة الليل : فإن الطباع تنفر عنها ، ولا تقع الرغبة فيها بحال ؛ لذلك شبه وجوه أهل النار بها ، والله أعلم.

__________________

ـ (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أى : هوان وتحقير (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أى : ما لهم عاصم من الله في الدنيا ، ولا في الآخرة ، (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) أى : ألبست وجوههم ، (قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) والمراد : سواد الوجه.

وقال حكماء الإسلام : المراد من هذا السواد : سواد الجهل ، وظلمة الضلالة ؛ فإن العلم طبعه طبع النور ، والجهل طبعه طبع الظلمة.

وقيل : المراد بقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) : الكفار ؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر ؛ قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)[آل عمران : ١٠٦] ، وقال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)[عبس : ٤٠ ـ ٤٢].

وقال القاضي : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عام يتناول الكافر والفاسق. وأجيب : بأن الصيغة وإن كانت عامة ، إلا أن الدلائل التي ذكرناها مخصصة ، ثم قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ينظر اللباب (١٠ / ٣١٣).

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : شفعاء لهم.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥١) ، وكذا ابن عادل في اللباب (١٠ / ٣١٣).

(٤) في أ : غايته.

٣٥

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : قال أهل التأويل : يعني العابد والمعبود الذين عبدوا دونه ، ولكن نحشر الخلائق جميعا.

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) هذا الحرف هو حرف وعيد ؛ يقال : مكانك أنت ، كذا وإن كان هذا الحرف يجوز أن يستعمل في الكرامات وبر بعضهم بعضا ، ولكن إنما يعرف ذا من ذا بالمقدمات ، فما تقدم هاهنا يدل أنه لم يرد به الكرامة ، ولكن أراد به الوعيد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) قيل (١) : فرقنا بينهم [وميزنا بينهم](٢) ، أي : بين العابد والمعبود.

ثم يحتمل التفريق بينهم وجوها :

أحدها : فرقنا بينهم في الحساب مما عمل ومما صحب.

والثاني : يحتمل فرقنا بينهم لما طمعوا بعبادتهم إياها والشفاعة أن يكونوا لهم شفعاء عند الله ، ففرق بينهم في الشفاعة. ويحتمل فرقنا بينهم فيما ضل عنهم ما كانوا يفترون ، فصار ما عبدوا ترابا وهم في النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) : يحتمل قوله : شركاؤهم : سماهم شركاء وإن لم يكونوا [شركاء في الحقيقة](٣) لما عندهم أنهم شركاء ؛ كما سمى الأصنام آلهة لما عندهم أنها آلهة.

والثاني : (شُرَكاؤُهُمْ) لما أشركوها في العبادة فهم شركاؤهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) : ينطق الله تعالى [يوم القيامة هذه الأصنام](٤) وإن لم يكن في خلقتها النطق في الدنيا ؛ كقوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] ، وقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ...) الآية [النور : ٢٤] ، أنطقهم ليشهدوا عليهم.

وقوله : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) : يحتمل الملائكة أن يكونوا هم الذين أنكروا ؛ لأن منهم من يعبد الملائكة ، أنكروا أن يكونوا يعبدونهم ؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون عبادة إذا كان من المعبود أمر بها ، وكانت عبادتهم الأصنام عبادة للشيطان لأنه هو الآمر لهم بالعبادة

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٦ / ٥٥٥) ، وكذا البغوي في تفسيره (٢ / ٣٥٢) ، وابن عادل في اللباب (١٠ / ٣١٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : في الحقيقة شركاء.

(٤) في ب : هذه الأصنام يوم القيامة.

٣٦

للأصنام ؛ كقوله : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ، لكنه لما كان الآمر لهم بالعبادة للأصنام صار كأنهم عبدوه ، وإن لم يقصدوه بها ويحتمل ما ذكر من الإنكار من الأصنام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي : كفى الله القاضي والحاكم بيننا وبينكم أنا لم نأمركم بعبادتنا ، وهو العالم بأنا كنا بعبادتكم إيانا غافلين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ) قيل : عند ذلك ، وقيل : يومئذ أي يوم القيامة.

وقوله : (تَبْلُوا) أو (تَتْلُوا) بالباء والتاء (١) ، قيل : تقرأ في الصحف : «ما كتب من أعمالهم» وتبلو بالباء من الابتلاء ، يقال : بلوته وابتليته واحد ، وخبرته واختبرته أيضا ، وقيل : (تَبْلُوا) تجد وتعلم كل نفس ما قدمت من الأعمال [وقيل : تجزى كل نفس بما عملت.

وقيل : (تَتْلُوا) بالتاء أيضا : تتبع ، كل نفس ما قدمت من الأعمال](٢) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) قيل : ملكهم الحق لأن غيره من الآلهة التي عبدوها قد بطل عنهم وضل في الآخرة.

__________________

(١) وقرأ الأخوان ـ حمزة والكسائي ـ : تتلوا بتاءين منقوطتين من فوق ، أى : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها ، ومن هذا قوله :

إن المريب يتبع المريبا

كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

أي : يتبعه ويتطلبه.

ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة ، أى : تقرأ كل نفس ما عملته مسطرا في صحف الحفظة ؛ لقوله تعالى : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)[الكهف : ٤٩] ، وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ)[الإسراء : ١٣ ، ١٤].

وقرأ الباقون : تبلوا من البلاء ، وهو الاختبار ، أي : تعرف عملها : أخير هو أم شر.

وقرأ عاصم في رواية : نبلو بالنون والباء الموحدة ، أي : نختبر نحن ، و (كُلُ) منصوب على المفعول به ، وقوله : (ما أَسْلَفَتْ) على هذه القراءة يحتمل أن يكون في محل نصب ، على إسقاط الخافض ، أى : بما أسلفت ، فلما سقط الخافض انتصب مجروره ؛ كقوله :

تمرّون الديار ولم تعوجوا

كلامكم علىّ إذن حرام

ويحتمل أن يكون منصوبا على البدل من «كل نفس» ويكون من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون «نبلو» من البلاء ، وهو العذاب. أى : نعذبها بسبب ما أسلفت ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف على التقدير الأول. والآخر ، دون الثاني على المشهور.

ينظر : السبعة ص (٣٢٥) ، الحجة (٤ / ٢٧١) ، حجة القراءات ص (٣٣١) ، إعراب القراءات (١ / ٢٦٧) ، إتحاف فضلاء البشر (٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٣٧

ويحتمل : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي : حق ما تجد كل نفس ما قدمت من أعمالها ، أو حق أن تقرأ كل نفس ما عملت وضل عنهم ما كانوا يفترون من العبادة للأصنام وقول الكفر ، وقوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) يحتمل وجهين ؛ أي : ردوا إلى ما أعدّ لهم مولاهم الحق ، والثاني أي : ردوا إلى أمر مولاهم الحق ، لا إلى أمر الأصنام التي كانوا يعبدونها.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...) الآية : يحاجهم يعني : أهل مكة فى التوحيد [والربوبية وكأن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة في التوحيد](١) لأنها مكية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(٢) يحتمل وجهين ؛ أي : من ينزل لكم الرزق من السماء ، ومن يستخرج لكم الرزق من الأرض. والثاني : من يرزقكم من السماء والأرض أي ومن يدبر الرزق في السماء ، ومن يدبر الرزق في الأرض ، لا أحد يملك استنزال الرزق من السماء ، واستخراج الرزق من الأرض ؛ وكذلك لا أحد يملك تدبيره في السماء والأرض سواه ، ولا أحد يملك إنشاء السمع والبصر ، ولا أحد أيضا يملك إخراج الحي من الميت ولا إخراج الميت من الحي ولا تدبير الأمر ، لا يعرفون حقيقة ماهية السمع والبصر ولا كيفيتهما ، فكيف يملكون إنشاء السمع والبصر ونصبهما ، ولا [يملك أحد](٣) سواه إصلاح ما ذكر إذا فسد ذلك ، فأقروا له أنه لا يملك أحد سوى الله ذلك ، وهو قولهم : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [يقول. والله أعلم ـ : إذا عرفتم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في أ : أى : من يدبر الرزق في السماء ، ومن يدبر في الأرض.

(٣) في أ : يملكون.

٣٨

وأقررتم أنه لا يملك ما ذكر سواه وعرفتم أن له السلطان والقدرة على ذلك أفلا تتقون](١) بوائقه ونقمته ، [أو يقول : أفلا تتقون عبادة غيره دونه ، وإشراك غيره في ألوهيته وربوبيته](٢) ، أو يقول : أفلا تتقون صرف شكره إلى غيره وقد أقررتم أنه هو المنعم عليكم بهذه النعم لا من تعبدون دونه.

أو يقول ـ والله أعلم ـ : إذا عرفتم ذلك أفلا تتقون مخالفته وعصيانه ، فإذا أقروا أن الذي يملك تدبير ما بين السماء والأرض هو الذي له السموات والأرض عرفوا الذي يستحق العبادة والقيام بشكره ، فإذا ضيعوا ذلك جمعهم على اسم الضلال ؛ فذلك قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).

وقوله تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي : ذلكم الذي ذكر ربكم بالحجج والبراهين ، فما ذا بعد الحق الذي هو حق بالحجج والبراهين إلا الضلال؟! لأن ما لا حجج له ولا براهين (٣) فهو ضلال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : عن عبادته إلى عبادة غيره ، أو فأنى تصرفون عن شكر المنعم ، إلى شكر غير المنعم. أو يقول : فأنى تعدلون من لا يملك ما ذكر بمن يملك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) حقت : وجبت ، وقيل : كذلك حقت كلمة ربك على الذين ختموا بالفسق أنهم لا يؤمنون ، أي : لا ينتفعون بإيمانهم بعد ذلك.

وقوله : (كَلِمَةُ رَبِّكَ) تحتمل وجهين : تحتمل كلمة ربك [مواعيد ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون فإن كان على هذا فهو في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون. ويحتمل كلمة ربك](٤) حجج ربك وبراهينه على الذين فسقوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : قال عامة أهل التأويل : ثم يعيده : البعث بعد الموت (٥) ، أي : لا أحد من شركائكم الذين تعبدون يملك

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٣) في ب : برهان.

(٤) سقط في أ.

(٥) قال القرطبي : ومعنى الآية : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : ينشئه من غير أصل ولا سبق مثال ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) : يحييه بعد الموت كهيئته ، فإن أجابوك ، وإلا ف (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، ثم قال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أى : تصرفون عن قصد السبيل ، والمراد : التعجب منهم في الدنيا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد إلى مخالفته ؛ لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك ، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق العبادة أيضا إفك.

ينظر اللباب (١٠ / ٣٢٣).

٣٩

بدء الخلق ولا بعثه. وقال بعضهم : قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) لا يحتمل البعث ؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك ، ولكن قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ما سوى البشر ؛ لأنهم إنما ينكرون إعادة البشر ، فأما إعادة غيره من الأشياء لا ينكرونه ؛ نحو إعادة الليل والنهار ، وإعادة الإنزال والنبات ، ونحو الأشياء التي يشاهدونها ، أي : ثم يعيد مثله : الليل ليلا مثله ، والنهار نهارا مثله ؛ وكذلك الخلائق تفنى ثم يعيد مثله ، فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر.

ويحتمل الأمرين جميعا عندنا البعث وأشياء مثله ؛ لأنه تعليم منه لهم ، ألا ترى أنه قال : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) قيل : تكذبون بتوحيد الله ، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق ثم هو يعيده ، لا أحد يملك ذلك ، ألا ترى أنه احتج (١) عليهم ما يلزمهم ذلك بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ...) الآية [البقرة : ٢٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : يحتمل (٢) قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) يدعو إلى الحق فإذا كان هؤلاء الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء ، فلا يملكون الضر والنفع ، ومن الخلائق من لا يملك النفع والضر ، ويملك الدعاء إلى خير أو [إلى](٣) نفع ، فهؤلاء دون الخلائق جميعا ؛ إذ لا يملكون الدعاء ، فكيف يملكون [الضرّ والنفع](٤)؟! يبين عزوجل سفههم بعبادتهم هؤلاء الأصنام ؛ لعلمهم أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرّا.

ويحتمل قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : يبين ويقيم الدلائل والبراهين على [عدم] استحقاق العبادة لهم ، فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم ، فكيف يملكون نصب

__________________

(١) زاد في ب : به.

(٢) اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ، ثم بالهداية ثانيا ، عادة مطردة في القرآن ، قال ـ تعالى ـ حكاية عن الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] ، وحكى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في جوابه لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وأمر محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [الأعلى : ١ ـ ٤].

واعلم أن الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية.

والمقصود من خلق الجسد : حصول الهداية للروح ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل : ٧٨] ، وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وأعطى الحواس ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلم.

ينظر اللباب (١٠ / ٣٢٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : النفع والضر.

٤٠