تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

سورة الرعد ذكر أنها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١)

قوله ـ عزوجل ـ : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ).

يحتمل أن يكون قوله : (المر) كناية عن الأحرف المقطعة المعجمة ؛ فيكون قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) تفسير (المر).

هذا هو الظاهر : أن يقال في كل الحروف (١) المعجمة والمقطعة : أن يكون ما ذكر من بعدها على أثرها كان تفسيرا لها.

والثاني : يشبه أن يكون قوله : (المر) كناية عن الحجج والبراهين وسائر الكتب ؛ كأنه قال : تلك الحجج والبراهين وسائر الكتب ـ جعلناها آيات القرآن وحججه ، وقد ذكرنا القول في الحروف المقطعة فيما تقدم.

ثم اختلف في قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [هو القرآن الذي أنزل](٢).

قال بعضهم (٣) : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) : التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة ، وقوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو الحق : القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٤) : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) هو القرآن [والذي أنزل إليك من ربك ـ أيضا ـ هو القرآن ،](٥) لكنه أخبر أنه منزل من ربك الحق.

وقوله : (الْحَقُ) يحتمل : هو الحق ؛ أي : منزل من الله ؛ ليس كما قال أولئك إنه ليس من الله ؛ إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه.

ويحتمل : (الْحَقُ) أي : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أنه من الله ، أو أكثر الناس لا يؤمنون أنه آيات الله وحججه والله أعلم.

__________________

(١) في أ : حروف.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله قتادة ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٠٤٨) و (٢٠٠٤٩) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٠ ، ٨١).

(٤) قاله مجاهد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٠٥٠ ، ٢٠٠٥١) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨١).

(٥) سقط في أ.

٣٠١

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ).

قوله : (رَفَعَ) أى : أنشأها مرفوعة ؛ لا أنها كانت موضوعة فرفعها ؛ ولكن جعلها في الابتداء مرفوعة ، وكذلك قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ١٠] (مَدَّ الْأَرْضَ) [الرعد : ٣] (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] ونحو ذلك ؛ أي : أنشأها مرفوعة ممدودة ؛ لا أنها كانت مرفوعها فوضعها ، أو كانت منقبضة فبسطها ؛ ولكن أنشأها (١) كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها).

قال بعضهم (٢) : هي بعمد لكن لا ترونها ؛ أي : ترونها بغير عمد وهي بعمد.

وقال بعضهم (٣) : هي بغير عمد على ما أخبر ؛ ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى ؛ كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد ؛ لأن في الشاهد لم يعرف ؛ ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى ، لكن ما يرفع إنما [يرفع بعمد](٤) ترى ؛ فاللطف في هذا كاللطف في الآخر.

وفيه دلالة قدرته على البعث ؛ لأنه (٥) ذكر هذا ثم قال : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي : من : قدر على رفع السماء ـ مع سعتها وبعدها ـ بلا عمد ؛ لقادر على إعادة الخلق ؛ وبعثهم ؛ وإحيائهم بعد الموت ، بل رفع السماء مع سعتها وبعدها ، بلا عمد ، أكبر من

__________________

(١) في ب : أنشأ.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٥٢ ، ٢٠٠٥٣ ، ٢٠٠٥٨ ، ٢٠٠٥٩) وعن مجاهد (٢٠٠٥٤ ، ٢٠٠٥٧) وانظر الدر المنثور (٤ / ٨١).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٠٠٦١) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٨١).

(٤) في ب : يرفع بغير عمد.

(٥) في أ : لأن.

٣٠٢

إعادة الشيء بعد فنائه ؛ إذ في الشاهد من قد يقدر على إعادة أشياء بعد فنائها ؛ ولا يقدر على رفع سقف ؛ ذي سعة وبعد ؛ بغير عمد. من ذا الوجه أمكن أن يحتج. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

لما لم يفهم من قوله : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٨١] مدبر المكان ؛ وإن كان في الشاهد يفهم منه المكان ؛ إذا أضيف إلى المخلوق ـ لم يجز أن يفهم من استوائه [ما يفهم من استواء](١) الخلق.

وبعد فإن في الشاهد ؛ إذا قيل : فلان استولى أمر بلدة كذا ؛ أو استوى أمره ؛ لم يفهم منه [المكان ، بل فهم منه](٢) نفاذ الأمر والسلطان والمشيئة ؛ فعلى ذلك لم يجز أن يفهم من الله إذا أضيف إليه المكان.

وأصله : ما ذكرنا فيما تقدم أنه أخبر أنه ليس كمثله شيء ؛ فهو في كل شيء ؛ وكل وجه ؛ لا يشبه الخلق ؛ إذ الخلق ـ في الشاهد ـ لا يشبه بعضه بعضا من جميع الجهات ؛ إنما يشبه بعضهم بعضا بجهة ، ثم صاروا جميعا أشكالا وأشباها ؛ بتلك الجهة التي وقعت بينهم تشابه ؛ فإذا الله سبحانه وتعالى لما أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] دل أنه إنما نفى عنه الجهات التي [يقع بها](٣) التشابه والمثل ؛ فهو يخالف الخلق من جميع الوجوه.

وهذه مسألة مذكورة فيما تقدم : اختلف في العرش : قال بعضهم : العرش : هو الممتحنون بهم ، استوى تدبير إنشاء غيرهم من العالم ؛ لأنهم هم المقصودون في إنشاء ذلك كله.

وقال بعضهم : العرش : البعث به ؛ استوى وتم تدبير إنشاء الخلائق ؛ ما لو لا البعث يكون إنشاؤهم عبثا باطلا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] جعل عدم الرجوع إليه إنشاء الخلق عبثا.

وقال بعضهم : العرش : هو الملك ؛ وبه تم ما ذكر ، وقيل : هو سرير الملك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) على ما في العقل أنه عن تدبير مدبر خرج ؛ وعن علم وحكمة وضع ؛ ليس على الجزاف بلا تدبير ولا علم (٤).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : بها يقع.

(٤) وحمل كل واحد من المفسرين التدبير على نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل ، فهو يدبرهم بالإيجاد ، والإعدام والإحياء ، والإماتة ، والاعتماد ، والانقياد ، ويدخل فيه إنزال ـ

٣٠٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يحتمل : يبين الحجج والبراهين.

ويحتمل : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : آيات القرآن أنزلها بالتفاريق ؛ لا مجموعة.

(لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).

هو ما ذكرنا أن فيما ذكر من الآيات والتدبير ؛ ورفع السماء بلا عمد ؛ دلالة البعث والإحياء بعد الموت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) هو كما ذكرنا في قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٣] ومصيرهم وبروزهم ؛ وأمثاله. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) وقال في آية أخرى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] وقال في موضع آخر : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية : ٢٠] وكله (١) واحد ، وقال : (الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] و (مِهاداً) [النبأ : ٦].

يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم.

(مَدَّ الْأَرْضَ) أي : بسطها وجعل فيها رواسي ؛ ذكر أنها بسطت على الماء ؛ فكانت تكفو بأهلها وتضطرب ؛ كما تكفو السفينة ؛ فأرساها بالجبال الثّقال ؛ فاستقرت وثبتت. وذكر أنها مدت وبسطت على الهواء ؛ ثم أثبتها بما ذكر من الجبال ، ولكن لو [كان أنها](٢) ما ذكر ؛ لكان يجيء ألا يكون بالجبال ثباتها واستقرارها ؛ لأن الأرض والجبال من طبعها التسفل والانحدار في الماء والهواء ؛ وكلما زيد من ذلك النوع كان في التسفل والانحدار أكثر وأزيد ، فلا يكون بها الثبات والاستقرار ؛ بل إنما يكون الثبات والاستقرار بشيء من طبعه العلو والارتفاع ؛ فيمنع ذلك الشيء الذي من طبعه العلو عن التسفل والانحدار ؛ إلا أن يقال : إنها كانت لا تتسفل ولا تتسرب ؛ ولكن تضطرب وتميد بأهلها ؛ على ما ذكره ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١] فإن كان

__________________

ـ الوحي ، وبعث الرسل وتكليف العباد ، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة ؛ لأن هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثرى يحتوي على أجناس ، وأنواع لا يحيط بها إلا الله تعالى.

والدليل المذكور على تدبير كل واحد بوصفه في موضعه وطبيعته ، ومن المعلوم أن من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأن عن شأن ، وإذا تأمل العاقل في هذه الآية علم أنه ـ تعالى ـ يدبر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات.

ينظر : اللباب (١١ / ٢٣٩ ، ٢٤٠).

(١) في ب : والكل.

(٢) سقط في ب.

٣٠٤

على هذا ؛ فيكون بالجبال ثباتها واستقرارها ؛ ومنعها عن الاضطراب والميلان.

أو ذكر هذا ليعلم لطفه وقدرته ؛ حيث أمسكها بشيء من طبعه التسفل والانحدار ، وهي في نفسها كذلك ؛ ليعلم قدرة الله ولطفه في كل شيء. والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَدَّ الْأَرْضَ).

أي : أنشأها ممدودة ؛ لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها ؛ على ما ذكر من رفع السماء ونحوه.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً).

جعل الله ـ عزوجل ـ الأشياء أكثرها بأسباب ؛ تعليما منه الخلق ؛ ليكون ذلك عليهم أهون ، وإن كان جعل الأشياء عليه بأسباب [وبغير أسباب سواء](١) ؛ إذ هو قادر بذاته ، يذكر هذا : إما بحق النعم التي أنعمها عليهم ؛ من مد الأرض وبسطها ؛ وإثباتها بالرواسي التي ذكر ؛ وجعل الأنهار فيها ليصلوا إلى الانتفاع بها ؛ ليتأدى بذلك شكره ، أو يذكر بحق الإخبار عن قدرته وسلطانه ؛ لأنه جعل الأرض بحيث لا يدخل فيها شيء ؛ فأخبر أنه أدخل فيها الجبال مع كثافتها وعظمتها ليعرفوا قدرته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْهاراً) أي : وجعل فيها أنهارا ؛ أخبر أنه (٢) مد الأرض وبسطها ؛ وجعلها مستقرة ثابتة ؛ ليستقروا (٣) عليها ، ثم أخبر أنه جعل فيها أنهارا ؛ لينتفعوا بها من جميع أنواع المنافع ، ثم أخبر أنه جعل فيها من كل الثمرات زوجين.

قال بعض أهل التأويل : (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : لونين.

وقال بعضهم (٤) : ذو طعمين ؛ لكن يكون منها ألوان أكثر من لونين (٥) : أحمر ، وأبيض ، وأسود ، وأصفر ، ونحوه ، وكذلك الطعم : يكون حامضا وحلوا ومرّا ومزّا ، إلا أن يقال : (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : الطيب والخبيث ؛ فلا يكون ثالث ؛ وأما اللون ؛ فإنه يكون ذا ألوان وذا طعوم.

وقال بعضهم الذكر والأنثى ؛ فهذا يصح إذا أراد به الشجر ؛ فمنه ما يثمر ومنه ما لا يثمر ؛ فالذى يثمر : هو أنثى ، والذي لا يثمر : هو ذكر. وأما على غير هذا فإنه لا يصح.

وأصل الزوجين : هو اسم أشكال وأمثال واسم أضداد ؛ ففيه دليل نفي ذلك كله عن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : أنها.

(٣) في أ : ليقروهم.

(٤) قاله البغوى بنحوه (٣ / ٦).

(٥) في أ : اثنين.

٣٠٥

الله ، وأصل الزوج : هو من له المقابل من الأشكال والأضداد ؛ أخبر أنه جعل الخلق كله ذا أشكال وأضداد ؛ من نحو الليل والنهار ؛ والذكر والأنثى ؛ فهو (١) في حق المنافع كشيء واحد في حق أنفسهم ؛ كالأشياء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ).

أي : يذهب ظلمة الليل بضوء النهار ؛ وضوء النهار بظلمة الليل ، أو يلبس أحدهما الآخر ، أو يغطي الليل ما هو بالنهار باد ظاهر للخلق ، وبالنهار ما هو مستور خفي على الخلق والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

فيما ذكر ؛ دلالة البعث والإحياء ، ودلالة التدبير والعلم والحكمة ، ودلالة الوحدانية.

(لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في آياته وحججه لا لقوم يعاندون آياته ويكابرونها.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ذكر أن الآيات تكون آيات (٢) لهم ؛ بالتفكر والنظر فيها ؛ والله أعلم ؛ لا أن تصير آيات مجانا بالبديهة.

أو يقول : إن منفعة الآيات تكون لمن تفكر فيها ؛ لا لمن ترك التفكر والنظر. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ).

دل قوله : (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أن التجاور إنما يذكر ويثبت إذا كانت الأرض [قطعا ، وأما إذا كانت الأرض](٣) أرضا واحدة ؛ فإنه لا يقال فيها التجاور ؛ فهذا يبطل قول من يقول : إن التجاور إنما يذكر فيما فيه الشركة ؛ فتجب الشفعة فيما فيه الشركة ؛ وأما في غيره فلا تجب وأمّا عندنا : هو ما ذكر ـ عزوجل ـ : أنه إنما أثبت التجاور في الأرض التي صارت قطعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ).

القطع المتجاورات : هي الأرضون الضواحي التي تصلح للزرع.

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي : جنات متجاورات أيضا ، والجنات هي البساتين المحفوفة بالأشجار ؛ فيها ألوان الثمار.

(وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ).

__________________

(١) في ب : فهي.

(٢) في ب : الآيات.

(٣) سقط في أ.

٣٠٦

قيل (١) : (صِنْوانٌ) هو النخلتان في أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) : النخل المتفرق وقيل : الصنوان : ما كان أصله واحدا ؛ وهو متفرق ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) التي تنبت (٢) وحدها : وقيل : (صِنْوانٌ) : هي النخلة تخرج ؛ فإذا خرجت انشعبت بعد خروج الأصل ؛ فهو الصنوان ، ولهذا (٣) قيل (٤) : «عمّ الرجل صنو أبيه».

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ).

أي : يسقي ما ذكر ؛ من الزروع والنخيل والثمار والجنان بماء واحد.

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ أن جوهر الأرض كلها واحد ؛ وهي قطع متجاورة ؛ بعضها ببعض ، ثم هي مختلفة في حق الثمار والفواكه ، وكذلك الأشجار والنخيل ؛ كلها من جوهر واحد من جنس واحد ، والأرض في جوهرها واحد وتسقى كلها بماء واحد ؛ ثم يخرج مختلفا في ألوانها وطعومها وطيبها وخبيثها ومناظرها ؛ ليعلم أنها لم تكن بنفسها ؛ ولا بالأسباب التي جعل لها ؛ ولكن بلطف واحد مدبّر عليم حكيم ؛ لأنها لو كانت بأنفسها وطباعها أو بالأسباب ، لكانت كلها واحدة متفقة في طيبها وخبيثها وألوانها وطعومها ؛ فلما لم يكن ما ذكرنا على لون واحد ولا طعم واحد ولا منظر واحد ؛ دل أنه كان بتدبير مدبر واحد ؛ عليم لطيف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

قيل (٥) : في الحمل ؛ بعضها أكثر حملا من بعض ، وبعضها يحمل ؛ وبعضها لا ، ولكن ما ذكرنا في الطيب والخبيث والطعم واللون والمنظر ـ مفضل بعضه على بعض.

وأصله : أن الأرض واحدة متجاورة ؛ متصلة بعضها ببعض ، والماء واحد أيضا ؛ ثم خرجت الثمار والفواكه والزروع والأعناب مختلفة متفرقة ؛ ليعلم أن ذلك ليس هو عمل الأرض ؛ ولا عمل الماء ، ولا عمل الأسباب والطباع ؛ ولكن باللطف من الله ؛ لأنه لو

__________________

(١) قاله البراء ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٨٧ ، ٢٠٠٩٣) وعن ابن عباس (٢٠٠٦٩ ، ٢٠٠٩٤ ، ٢٠٠٩٥) وسعيد بن جبير (٢٠٠٩٧) وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٤).

(٢) في ب : نبتت.

(٣) في ب : ولذا.

(٤) هذا القول ورد في حديث مرفوع أخرجه ابن جرير (٢٠١٠٧ ، ٢٠١٠٨) وعبد الرزاق كما في الدر (٤ / ٨٤) عن عمر بن الخطاب أنه كان بينه وبين العباس قول فأسرع إليه العباس ، فجاء عمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ألم تر عباسا فعل بي وفعل؟ فأردت أن أجيبه ، فذكرت مكانه منك ؛ فكففت ، فقال : (يرحمك الله إن عم الرجل صنو أبيه).

(٥) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٢٣) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٤).

٣٠٧

كان بالماء أو الأرض ؛ أو بالأسباب أو الطباع ؛ لكانت متفقة مستوية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لما ذكرنا من وحدانيته ؛ وتدبيره ؛ وعلمه ؛ وحكمته.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لقوم همتهم العقل والفهم ؛ والنظر والتفكر في الآيات ، لا لقوم همتهم العناد والمكابرة ، أو لقوم ينتفعون بعقلهم وعلمهم.

وقال الحسن (١) : هذا مثل [ضربه الله](٢) لقلوب بني آدم كانت الأرض في الأصل طينة واحدة ؛ فسطحها الرحمن ثم بطحها ؛ فصارت الأرض قطعا متجاورات ؛ فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ؛ وتخرج نباتها ويحيا مواتها (٣) ، وتخرج هذه سبختها وملحها ؛ وخبثها ؛ وكلتاهما تسقى بماء واحد ؛ فلو كان الماء مالحا ؛ قيل : استسبخت هذه من قبل الماء كذلك الناس : خلقوا من آدم ـ عليه‌السلام ـ فينزل عليهم من السماء تذكرة واحدة ؛ فترقّ قلوب ؛ فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب ؛ فتسهو وتلهو وتجفو ؛ أو كلام نحوه.

ثم قال الحسن : والله ؛ ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان ؛ ثم تلا قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ).

قال الحسن (٤) : إن تعجب ـ يا محمد ـ من تكذيبهم إياك في الرسالة ؛ فعجب قولهم ؛ حيث قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

وقال بعضهم : وإن تعجب ـ يا محمد ـ مما أوحينا إليك من القرآن ؛ كقوله ـ في الصافات ـ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢].

(فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي : أعجب أيضا قولهم ، يقول : لكن قولهم أعجب عندك ؛ حين قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) تكذيبا للبعث.

وأصله ـ والله أعلم ـ : يقول : إنك إن عجبت ، من قولهم (٥) في تكذيبهم إياك في الرسالة ؛ ولم [تكن](٦) رسولا من قبل ؛ فقولهم وإنكارهم قدرة الله على البعث والإحياء

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٠١١٣) وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٨٤).

(٢) في أ : ضرب.

(٣) في ب : نباتها.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٤ / ٨٥).

(٥) في أ : وقولهم.

(٦) سقط في ب.

٣٠٨

بعد الموت أعجب ؛ إذ قد رأوا وشاهدوا من قدرة الله وآياته ؛ ما لو تفكروا وتأملوا ولم يعاندوا ، عرفوا أنه قادر على ذلك كله ؛ فوصفهم الله تعالى بالعجز ؛ وأنه لا يقدر على البعث والإحياء بعد الهلاك ـ أعجب من تكذيبهم إياك في الرسالة ، ولم يكن سبق منك إليهم ما يوجب رسالتك وتصديقك ، وقد سبق من الله إليهم ـ ما يعرفهم قدرته على ذلك ؛ وعلى أكثر منه.

وأصله ـ والله أعلم ـ وإن تعجب لإنكارهم رسالتك وتكذيبهم إياك ؛ ولم يكن منك إليهم حقيقة الهداية والنعم والآيات والحجج ، وإنما كان منك البيان والدعاء ؛ فأعجب : قولهم في إنكارهم قدرة الله على البعث ؛ وقولهم في الله سبحانه ما قالوا فيه ؛ بعد معرفتهم حقيقة ذلك كله ؛ بالله إليهم. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ).

يشبه أن يكونوا لما كفروا بالبعث ؛ كان كفرهم بالبعث كفرا بالله ؛ لأنهم عرفوه عاجزا ، حيث قالوا : لا يقدر على بعث الخلق ، ومن عرف ربه عاجزا ـ فهو لم يعرف الرب الحقيقة ؛ والإله الحقيقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ).

قال بعضهم : صار الكفر في أعناقهم أغلالا ؛ حيث أنكروا الرسالة في البشر ، ثم جعلوا الأصنام والأوثان معبودهم ؛ يعكفون عليها (١) ويخضعون ؛ فذلك هو الأغلال في أعناقهم.

وقال بعضهم : قوله : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ).

في الآخرة كقوله : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ...) الآية [الحاقة : ٣٠] (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

الاستفعال يكون على وجهين : يكون طلب الفعل ويكون الفعل نفسه ؛ كقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قيل : أجيب لكم ، وقوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)

__________________

(١) في أ : لها.

٣٠٩

[البقرة : ١٨٦] أي : ليجيبوا لى ، وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) فإن كان على طلب الفعل ؛ فهو ما سألوا [رسول الله العذاب](١) كقوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] وكقوله : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] وقولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) الآية [الأنفال : ٣٢] فبدءوا بسؤالهم [الهلاك قبل سؤالهم](٢) تأخير العذاب (٣) وإمهاله ، [وتأخير العذاب عندهم وإمهاله](٤) من الحسنة ؛ فاستعجلوا بهذا قبل هذا.

وإن كان الفعل نفسه.

فقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي : عجلوك ـ يا محمد ـ بالسيئة إليك ، قبل أن تكون منهم إليك حسنة ؛ حيث كذبوك في الرسالة ، وآذوك في نفسك ، ولم يكن منهم إليك إحسان من قبل والله أعلم بذلك.

وقيل : (بِالسَّيِّئَةِ) : العذاب ؛ على ما ذكرنا.

(قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

أي : قبل العفو ، وسؤالهم السيئة والعذاب بجهل (٥) منهم أنه رسول وأنه صادق ؛ [لأنهم لو علموا أنه رسول ، وأنه صادق](٦) فيما يخبر ويوعد من العذاب ، كانوا لا يسألون ؛ لأنهم يعلمون أن الله يقدر على أن ينزل عليهم العذاب ، لكن سألوا ذلك ؛ بجهلهم بأنه رسول سؤال استهزاء وسخرية.

فإن كان على هذا سؤالهم ـ كان فيه دلالة أن العقوبة والعذاب ؛ قد يلزم من جهل الأمر ؛ إذا كان بسبيل العلم به والنظر والتفكر فيه ، وهؤلاء جهلوا أنه رسول الله ؛ لتركهم النظر والتفكر. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ).

قال بعضهم (٧) : العقوبات ؛ أي : قد كان في الأمم الخالية العقوبات ؛ بسؤالهم العذاب

__________________

(١) في ب : العذاب رسوله.

(٢) في أ : بتأخيره وإمهاله.

(٣) زاد في أ : عندهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : يجعل.

(٦) سقط في أ.

(٧) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٠١٣٠ ، ٢٠١٣١) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٨٦).

٣١٠

والمعاندة في الآيات إذا جاءت ؛ كأنه ـ والله أعلم ـ يصبر رسوله على سفه قومه (١) ؛ لسؤالهم العذاب والآيات ثم المعاندة فيها ، يقول : كان في الأمم الماضية من سؤال العذاب والآيات ثم المعاندة من بعد نزولها ؛ فنزلت (٢) لهم العقوبات ؛ فعلى ذلك هؤلاء.

وقال بعضهم (٣) : المثلات : الأمثال والأشباه. وكذلك ذكر في حرف حفصة (وقد خلت من قبلهم الأمثال) وتأويله ـ والله أعلم ـ أي : فقد خلت من [قبلهم الأمثال](٤) ؛ ما لو اعتبروا بها كان مثلا لهم ، ولكن لا يعتبرون ؛ فيمنعهم عن أمثال ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ).

قال بعضهم : (لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي : لذو ستر على ظلمهم ؛ وتأخير العذاب إلى وقت ؛ كقوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) [إبراهيم : ٤٢] ، وقوله : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود : ١٠٤].

وقال بعضهم : لذو مغفرة [للناس على ظلمهم إذا تابوا ، وماتوا عليها ، أو يكون قوله (لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمؤمنين على ظلمهم ، وإن ربك لشديد العقاب](٥) لمن لم يتب ، ومات على الظلم والشرك. وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للكفار ؛ وعلى التأويل الأول : وإن ربك لشديد العقاب ؛ إذا عاقب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقال في موضع آخر : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] وقال في آية أخرى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى آخر ما ذكر ؛ فيحتمل سؤالهم الآية (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] عين تلك الآيات التي أتت بها الرسل الأولون ، وليس عليه أن يأتي بعين (٦) تلك الآية ؛ إنما عليه أن يأتي بآية تخرج عن عرفهم وطباعهم ، والرسل جميعا لم يأتوا بآية واحدة ؛ إنما جاءوا بآيات مختلفات ، كلّ جاء بآية سوى ما جاء بها الآخر ؛ فقال له : ليس عليك ذلك إنما أنت منذر. أو سألوا آيات سؤال الاعتناد

__________________

(١) في أ : قومهم.

(٢) في ب : فنزل.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور ، وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٠١٣٢ ، ٢٠١٣٤) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٤ / ٨٦).

(٤) في ب : قبلهم المثلات الأمثال.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : بعض.

٣١١

لدى هلاكهم ، [على ما فعل الأولون ؛ فقال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) قد عفا هذه الأمة إحضار آيات وإنزالها لدى هلاكهم](١) وإن كانوا هم في سؤالهم الآيات معاندين ؛ لأنهم قد جاءهم من الآيات ؛ على إثبات رسالته وإظهارها ؛ ما كفتهم ، لكنهم يعاندون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) : لا تملك إتيان الآيات ، (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [العنكبوت : ٥٠] وقال : (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية [الأنعام : ٥٨]. أو يقول : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) : ليس إليك إنشاء الآيات واختراعها ؛ (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [العنكبوت : ٥٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).

أي : داع يدعو إلى توحيد الله ودينه ؛ كقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤].

وقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) يحتمل : لكل وقت هاد.

ثم اختلفوا أنه : من ذلك الداعى؟

قال بعضهم (٢) : الله ، وقال بعضهم (٣) : نبي من الأنبياء (٤) ، وقال بعضهم (٥) : داع ؛ دليل سوى النبي.

وقالت الباطنية : هو إمام يكون معصوما مثل النبي لئلا يزيغ عن الحق ؛ ولكن عندنا معصوما [أو لم يكن معصوما](٦) فإن في القرآن ما يمنع عن الزيغ ؛ ويعرف ذلك منه إذا زاغ ؛ وضل عن الحق.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٤٦) وعن سعيد بن جبير (٢٠١٤٢ ، ٢٠١٤٤) ومجاهد (٢٠١٤٥) والضحاك (٢٠١٤٧) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٦).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٤٨ ، ٢٠١٥٤) وعن قتادة (٢٠١٥٥) وابن زيد (٢٠١٥٦) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٦).

(٤) إذا جعلنا (ولكل قوم هاد) كلاما مستأنفا ، فالمعنى : أن الله ـ تعالى ـ خص كل قوم بنبي ، ومعجزة تلائمهم ، فلما كان الغالب في زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ السحر ، جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقهم ، ولما كان الغالب في زمن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ الطب ، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، ولما كان الغالب في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفصاحة ، والبلاغة ، جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلما لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنها أليق بطبائعهم ، فبألّا يؤمنوا بباقي المعجزات أولى ، هذا تقرير القاضي ، وبه ينتظم الكلام.

ينظر : اللباب (١١ / ٢٥٧).

(٥) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٣٨) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٦).

(٦) سقط في أ.

٣١٢

(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : داع وهو كما قال : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤].

قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى).

قيل : يعلم أنها حملت ذكرا أو أنثى مستويا أو غير مستو مؤفّا ؛ يخبر ـ عزوجل ـ عن علمه وقدرته أنه لا يخفى عليه شىء ولا يعجزه شىء ، فإن قيل : هذا دعوى : ما الذي يعلمنا أنه يعلم ذلك؟ قيل : اتساق تدبيره ولطفه يدل على علم ذلك فيه ؛ حيث رباه فيه وأنشأه مستويا غير مؤفّ سليما عن الآفات ، ونماء الجوارح كلها على الاستواء ؛ لا يكون بعضها [أكبر وأعظم وبعضها](١) أنقص وبعضها أتم ؛ نحو العينين ؛ تراهما مستويتين ؛ لا زيادة في إحداهما دون الأخرى ؛ بل تنموان على الاستواء ، وكذلك اليدان والرجلان والأذنان ؛ وأمثاله ؛ فدلّ ذلك على العلم له به والتدبير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ).

أي : يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد.

قال عامة أهل التأويل (٢) : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) : ما تنقص عن التسعة الأشهر ، (وَما تَزْدادُ) : على التسعة الأشهر ، فكان الحسن يقول (٣) : غيضوضة الرحم : أن تضع لستة أشهر أو لسبعة أشهر أو ثمانية ، وأما الزيادة : فما زاد على تسعة أشهر.

وفي حرف أبي : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ولكن يحتمل قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) وجهين :

أحدهما : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي : ما لا تحمل شيئا ؛ وهي التي تكون عقيما لا تلد ، والغيضوضة تكون ذهاب الشيء ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٦٤) وعن مجاهد (٢٠١٦٥ ، ٢٠١٧٣) ، والضحاك (٢٠١٨٤ ، ٢٠١٨٩) وغيرهم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٠١٩٦).

٣١٣

أي : ذهب.

(وَما تَزْدادُ) أي : ما تحمل وما تغيض الأرحام ، فتلد بدون الوقت الذي تلد النساء ، وما تزداد على الوقت الذي تلد النساء.

أو (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) في زيادة عدد الأولاد ونقصانهم ؛ ما تحمل واحدا أو أكثر من واحد ، أو يكون في زيادة قدر نفس الولد ونقصانه ؛ لأن من الولد ما يصيبه في البطن آفة ؛ فلا يزال يزداد له نقصان في البطن ، ومنه ما ينمو ويزداد ؛ وأمثاله. والله أعلم.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) مقدّر بالتقدير ؛ ليس على الجزاف ؛ على ما يكون عند الخلق ، ولكنه بتقدير وتدبير.

(عالِمُ الْغَيْبِ) قال بعضهم : لا يغيب عنه شيء ، ولكن هو عالم بالذى يغيب عن الخلق ويشهده الخلق ؛ أي : ما يغيب عنهم وما يشهدونه عنده بمحل واحد في العلم به.

وقال بعضهم : (عالِمُ الْغَيْبِ) : ما غاب بنفسه ، وما شهد بنفسه ؛ فالغائب بنفسه : هو ما لم يوجد بعد ؛ ولم يكن ، والشهادة : ما قد وجد وكان ، يعلم ما لم يوجد بعد أنه يوجد أو لا يوجد ، وإذا وجد ، كيف يوجد ؛ ومتى يوجد ؛ وفي أي : وقت يوجد ؛ وما جد وشهد ؛ يعلمه شاهدا موجودا.

على هذين الوجهين يجوز أن تخرج الآية ؛ والله أعلم ؛ ويعلم ما غاب عنهم مما شهدوا من نحو قوة الطعام في الطعام ، والقوة التي في الماء ، وماهية البصر والسمع ، والعقل والروح ، وكيفيتها ، وهذا كله مما غاب عن الخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ).

[المتعال](١) عن جميع ما يحتمله الخلق ؛ يقال : هذا عظيم القوم ؛ وكبيرهم ، وهذا واحد زمانه ؛ لا يعنون عظيم النفس وكبيره أو توحده من حيث العدد ؛ ولكن من حيث نفاذ الأمر له والمشيئة فيهم ؛ والعزة والسلطان ، وذلة الخلق له والخضوع ؛ فعلى ذلك لا [يفهم مما](٢) وصف هو به ؛ ما يفهم من الخلق من عظم الجسم وكبر النفس ، وعلى ذلك ما وصف هو بأسماء ـ لا يحتمل ذلك في الخلق ، يقال : أوّل وآخر ، وظاهر وباطن ، وعظيم ولطيف ؛ ليعلم أنه ليس يفهم مما أضيف إليه ؛ ووصف هو به ؛ ما يفهم مما يضاف إلى الخلق ؛ إذ من قيل في الشاهد : إنه عظيم ـ لم يقل إنه لطيف ، ومن قيل : إنه أوّل ـ لم يقل

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : لا يعزم فيما.

٣١٤

له : (١) آخر ، وكذلك الظاهر والباطن ؛ إذا وصف بأحدهما انتفى عنه الآخر ، وذلك مما وصف به الغائب وأضيف إليه ، ليعلم أنه لا يفهم بما يوصف هو به ؛ ويضاف إليه ما يفهم ؛ مما وصف به الخلق وأضيف إليهم. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في نفسه فى حال انفراده (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) لغيره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) في ظلمة الليل (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ).

قيل (٢) : ظاهر بالنهار ، وقال بعضهم : (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) : من يكون في السرب وهو الغار (٣) بالنهار ، وقال بعضهم : من هو مستخف بالليل : أي : ساكن بالليل في مقره ، وسارب بالنهار : أي : متصرف متقلب بالنهار في حوائجه (٤).

ذكر هذا صلة ما تقدم ؛ وهو قوله : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ويعلم ـ أيضا ـ ما تزداد ، وما ذكر أن عالم الغيب والشهادة ، يقول ـ أيضا ـ : يعلم من أسرّ القول ، ومن جهر به ، ومن كان مستخفيا بالليل أو ساربا بالنهار ، أي : يعلم كل شيء ؛ لا يخفى عليه شيء : من عمل سرّا ؛ من الخلق ؛ أو عمل بظاهر منهم.

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليكونوا على حذر من المعاصي ؛ لأن من علم أن عليه رقيبا حفيظا يكون أحذر وأخوف ؛ ممن يعلم أن ليس عليه ذلك.

وقال مقاتل : سواء منكم ؛ عند الله ؛ من أسر القول ومن جهر به ، وسواء منكم من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ؛ أي : من هو مستخف بالمعصية في ظلمة الليل ، أو هو منتشر بتلك المعصية بالنهار ؛ معلن بها ؛ فعلم ذلك كله عند الله ؛ سواء.

في ذلك تذكير أمرين :

أحدهما : يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم ؛ من أول حالهم إلى آخر ما ينتهون إليه يستأدي بذلك شكره ؛ ليستديموا بذلك تلك النعم أبدا ما كانوا.

والثاني : يذكرهم علمه بجميع أحوالهم وأفعالهم ؛ ليكونوا أبدا على حذر من معاصيه ، والخلاف له.

أما علمه هو ما ذكر الله : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ...) إلى قوله : (سَواءٌ مِنْكُمْ ...) الآية.

__________________

(١) في أ : به.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٢٠٣) وعن خصيف (٢٠٢٠٧) ، وقتادة (٢٠٢٠٨) ومجاهد وعكرمة (٢٠٢٠٩) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٨٨).

(٣) في أ : العدو.

(٤) قاله القتبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٩).

٣١٥

وأما نعمه [فهو] ما ذكر.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ).

وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) قال بعضهم (١) : هم (٢) الأمراء ، والشرط الذي يحفظونه في ظواهر من أمره ؛ يخبر أنه محفوظ عليه الخفيات من أمره ؛ حيث قال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ...) الآية ؛ حيث أخبر أنه يعلم ذلك ومحفوظ عليه الظواهر من أمره.

وقال بعضهم (٣) : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) : الملائكة الذين يحفظونه ، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه» (٤) ، مثل قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] قال : الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه ؛ الذي عن يمينه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) يحتمل قوله : (لَهُ) ، أي : لله معقبات يحفظونه ، ويحتمل : (لَهُ) من كل ذكر وأنثى ؛ يكون مثله قوله : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى).

وقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) يحتمل قوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، أي : يحفظون نفسه من البلايا والنكبات التي تنزل على بني آدم ؛ فإن كان في حفظ نفسه فقوله من أمر الله ؛ أي : من عذاب الله وبلاياه ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٤٠] ، وهو عذابنا.

ويحتمل قوله : يحفظون أعماله ؛ بأمر الله ، ثم يحتمل قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [وجوها : يحتمل : من بين يديه : الخيرات التي يعملها ، ومن خلفه](٥) : الشرور والسيئات ، ويحتمل قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : ما قدّم من الأعمال ، (وَمِنْ خَلْفِهِ) : ما بقي وأخّر ؛ كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ويحتمل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : ما مضى من الوقت ، (وَمِنْ خَلْفِهِ) : ما بقي. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٢٢٨).

(٢) في ب : هو.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٢١٥ ، ٢٠٢١٧) ، وعن الحسن (٢٠٢١٠) ومجاهد (٢٠٢١٢ ، ٢٠٢١٤) وإبراهيم (٢٠٢١٨) وقتادة (٢٠٢٢١ ، ٢٠٢٢٢) وغيرهم.

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٣٣) كتاب المواقيت : باب فضل صلاة العصر (٥٥٥) ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد : باب فضل صلاة الصبح والعصر (٢١٠ / ٦٣٢) ومالك في الموطأ (١ / ١٧٠) كتاب قصر الصلاة في السفر باب : جامع الصلاة (٨٢) والبغوى في شرح السنة (٢ / ٣٨ ، ٣٩).

(٥) سقط في أ.

٣١٦

يشبه أن يكون هذه النعمة ؛ نعمة الدين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو القرآن ، أو ما كان في أمر الدين ؛ لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير يكون منهم ؛ كقوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ؛ وكقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥].

ويحتمل أن يكون ذلك في النعمة الدنياوية ؛ من الصحة والسلامة والمال ، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير ذلك من أنفسهم.

فإن قيل : إن الأنبياء قد كانوا بلوا بشدائد وبلايا ؛ ولا يحتمل أن يكون ذلك منهم البداية في التغيير.

قيل : أبدلت لهم مكان تلك النعمة خيرا منها فليس ذلك بتغيير ؛ ولكن لما ذكرنا أنه أبدلت لهم مكان النعمة نعمة هي خير منها.

ثم ما كان من النعم ؛ والأفضال من الطاعات لها حق التجدد والحدوث ؛ يكون التغيير عليهم حالة اختيارهم ؛ وتغييرهم على أنفسهم ، وأما الأفعال التي لها حق البقاء ؛ يكون التغيير من الله من بعد ؛ وهو من نحو السلامة والصحة والسعة ، والذي له حق التجدد والحدوث الطاعات والمعايى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ).

الآية ترد على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إنه لا يريد إلا ما هو أصلح لهم في الدين ، وقد أخبر أنه إذا أراد بهم سوءا ؛ (فَلا مَرَدَّ لَهُ ...) [الآية].

دل هذا أنه قد يريد بهم السوء إذا غيروا هم ما أنعم الله عليهم ، أراد أن يغير عليهم والمعتزلة يقولون يملك الخلق دفع سوء إرادة الله بهم ، وإذا أراد الخير يملكون رد ذلك ، والله يقول : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ولا مردّ لسوئه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ).

أي : ليس لهم في دفع العذاب الذي أراد بهم ولى يدفع عنهم أو نصير ينصرهم ؛ كقوله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٠٧].

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً).

٣١٧

أي : مخوفا ومطمعا أو ما تخافون وتطمعون.

وقال أهل التأويل (١) : خوفا للمسافر وطمعا للمقيم.

وقيل : خوفا لأهل البنيان ؛ وطمعا لأهل الأنزال.

وعندنا يطمعون ويخافون قوم واحد ؛ يطمعون نفعه في وقت المنفعة ، ويخافون ضرره في غير وقت النفع ، أو يطمعون نفعه ويخافون ضرره ، أو يطمعون مضيه ؛ ويخافون نزوله والضرر به في غير وقت النفع ؛ ونحوه.

ويحتمل وجها آخر في قوله : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : يريكم خوفا موعودا وطمعا موعودا ؛ لأن البرق نور ونار ، فالنور يطمع النور الموعود في الجنة ، والنار تخوف النار الموعودة في الآخرة ؛ لأن فيها نارا ؛ ألا ترى أنه إذا اشتد خيف على من أصابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ).

[قيل : أي : يرفع السحاب الثقال الذي فيه المطر والماء. قال أبو عوسجة : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ)](٢) يقال : نشأت السماء ؛ إذا ارتفع الغيم فيها ، ويسمّى الغيم نشأ ، وقوله إنشاء ؛ أي : أخذ فيه ، ويقال : أنشأ الله الخلق أي : خلقهم ، نشأ : ارتفع ، وأنشأ : رفع ، وهو من هذا. والله أعلم.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).

اختلف في الرعد والبرق : قال بعضهم : هو اسم ملك من الملائكة موكل بالسحاب ؛ صوته تسبيحه.

وعلى ذلك روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : أقبلت يهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقالوا : يا أبا القاسم : أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال : «ملك من الملائكة موكّل بالسحاب ؛ معه مخاريق من نار ؛ يسوق بها السحاب حيث شاء الله» ؛ فقالوا : ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : «زجرة السحاب إذا زجره ؛ حتى ينتهي إلى حيث أمر» ، قالوا : صدقت (٣).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٠٢٥٢ ، ٢٠٢٥٣) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٩٤).

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الترمذي (٣١١٧) وأحمد (١ / ٢٧٤) وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٣٠٤) والنسائي في الكبرى ، كما في التحفة (٥ / ٥٤٤٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والضياء في المختارة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٩٥).

٣١٨

فإن ثبت هذا ؛ فهو هو.

وعن على ـ رضى الله عنه ـ أنه سئل عن [البرق والرعد](١)؟ فقال : الرعد : الملك ، والبرق : ضربة السحاب بمخراق من حديد (٢).

وقيل (٣) : الرعد : ملك على ما ذكرنا ، يزجر السحاب بالتسبيح ويسوقه ؛ فإذا شذت سحابة ضمها ، وإذا اشتد غضبه صار من فيه النار ؛ فهى الصواعق.

وقيل : هي الريح تسوق السحاب ؛ فإذا تراكمت السحاب ؛ فلم تجد منفذا صوتت ؛ فذلك صوتها.

وقال بعض الفلاسفة : الرعد اصطكاك الأجرام ؛ فيحدث هذا الصوت ؛ بمنزلة الحجر يحك الحجر. وقال بعضهم من الفلاسفة : إنما هي ريح تختنق تحت السحاب فتصدعه فذلك الصوت منه.

وأي : شيء كان الرعد : الملك ، أو الريح ، أو ما كان فالتسبيح يحتمل من كل شيء ، على ما أخبر الله ـ عزوجل ـ التسبيح من كل شيء ؛ حيث قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] فيحتمل تسبيح الخلقة ؛ جعل في خلقه كل شيء حصانة (٤) وبراءة [منشئه من](٥) كل ما وصفه الملحدون ، ودلالة ألوهيته وربوبيته.

ويحتمل تسبيحه : قول جعل في سرية كل شيء تسبيحه وتنزيهه ما لا يفهمه الخلق.

وعن أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : الرعد ملك ، وهذا تسبيحه ، والبرق صوته الذي يزجي به السحاب. قيل : أمثال هذا كثير ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ؛ سوى أنه هول هائل يهول الخلق ، ويذكرهم سلطانه وعظمته ، ولو لا أنهم اعتادوا ذلك ؛ وإلا لم تقم أنفسهم لسماع ذلك.

وقوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي : يذكرهم سلطانه وعظمته يكون ذلك تسبيحه ، وما ذكروا من سلطانه وعظمته ، (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي : تسبيح الملائكة من خوفه ، الرعد يسبح ويذكر الخلق عظمة الله وسلطانه ، فذلك (٦) الثناء عليه والملائكة يسبحونه

__________________

(١) في ب : الرعد والبرق.

(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه والخرائطي في مكارم الأخلاق ، كما في الدر المنثور (٤ / ٩٦).

(٣) قاله شهر بن حوشب أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عنه في الدر المنثور (٤ / ٩٧).

(٤) في أ : حمد صانعه.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : فدل.

٣١٩

فيما بينهم وبين ربهم ، فلم [يذكر فيهم](١) التسبيح (٢) ؛ بحمده ، وذكر في الرعد والملائكة من خيفته ، أي : من خوفه ، ثم الخوف يخرج على وجهين :

أحدهما : خوفا من عقوبته ؛ لأنه (٣) قد جاء فيهم الوعيد إذا زلوا كقوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ...) [الأنبياء : ٢٩] الآية.

والثاني : [خوف](٤) رهبة وهيبة لا خوف عقوبة ؛ لأن الله تعالى وصفهم بالطاعة له والاستسلام ، كقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وقوله : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ...) الآية [الأنبياء : ١٩] ونحو ذلك.

ثم خوف الهيبة لا يزول في الآخرة ، وخوف العقوبة يزول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) قيل : الصعقة : الصيحة التي فيها موت البعض ، ويذهب عقل البعض ، كقوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] وقيل : هي (٥) اسم العذاب وقد ذكرنا فيما تقدم ذكره في بعض الأخبار أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن شيء من أمر الرب فجاءت صاعقة فأحرقته فنزل (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي : في توحيد الله ؛ لأن أهل الكفر كلهم كانت مجادلتهم في توحيد الله وألوهيته وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قال بعضهم (٧) : شديد الانتقام والعقوبة وقيل (٨) : شديد القوة وقيل (٩) : شديد الأخذ.

وقال القتبي (١٠) : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) من الكيد والمكر ، وأصل المحال الحيلة ، لكن سمي باسم الأول ؛ لأنه جزاء الحيلة ، فيكون كتسمية جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء

__________________

(١) في ب : يذكرهم.

(٢) زاد في أ : فيهم تسبيح.

(٣) في أ : فإنه.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : هم.

(٦) أخرجه النسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير (٢٠٢٧٠) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبرانى في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن أنس بن مالك ، كما في الدر المنثور (٤ / ٩٩) وقد روى الحديث من أوجه أخرى مرسلة فانظرها في المصدر السابق.

(٧) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٠٠).

(٨) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٠٠) وعن مجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٢٧٤ ، ٢٠٢٧٥).

(٩) قاله على ابن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٢٧٣).

(١٠) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٢٦).

٣٢٠