تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقال أبو عبيد (١) : الإزجاء في كلام العرب : الدفع والسّوق ؛ وهو كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] أي يسوق ويدفع. وقال بعضهم : ناقصة (٢). وقال بعضهم : جاءوا بسمن وصوف. وقيل : جاءوا بصنوبر وحبة الخضراء (٣) ، وأمثال هذا.

قالوا : ويشبه أن يكون (مُزْجاةٍ) من التزجية : كما يقال : نزجي يوما بيوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ).

قال بعضهم : أوف لنا الكيل بسعر الجياد ؛ وتأخذ النّفاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد (٤).

لكن قوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي سلم لنا الكيل تامّا ؛ لأن الإيفاء هو التسليم على الوفاء ؛ كقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) [الأنعام : ١٥٢] ، وتصدق علينا بفضل ما بين الثمنين في الوزن. وقيل : ما بين الكيلين (٥).

وقال بعضهم : وتصدق علينا : أي زد لنا شيئا يكون ذلك صدقة لنا منك.

لكن يشبه على ما قالوا : وطلبوا منه الصدقة ؛ حط الثمن ؛ لأن الصدقة لا تحل للأنبياء ، ويجوز الحط لهم ، ويجوز حطّ من لا يجوز صدقته ؛ نحو العبد المأذون له في التجارة ؛ يجوز حطه ولا يجوز صدقته ، وكذلك نبي الله كان يجوز [له الشراء](٦) بدون

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣١٧).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٨٦ ، ٢٨٨) (١٩٧٥٦ ، ١٩٧٧٩) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن سعيد بن جبير.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٢٨٦ ، ٢٨٧) (١٩٧٥٧ ، ١٩٧٥٨ ، ١٩٧٦٤ ، ١٩٧٦٩) عن عبد الله بن الحارث ، (١٩٧٥٩) عن أبي صالح. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٢) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عبد الله بن الحارث ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي صالح.

(٤) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢٨٩) (١٩٧٨٨ ، ١٩٧٨٩) عن السدي ، وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٤٦).

(٥) قال القرطبي : (استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على أن أجرة الكيال على البائع ؛ لقولهم ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فكان يوسف هو الذي يكيل ، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم ؛ لأن الرجل إذا باع عدة من طعامه معلومة ، وأوجب العقد عليه ، وجب عليه أن يبرزها ، ويميز حق المشتري من حقه ، إلا إن كان المبيع فيه معينا صبرة ، أو ما ليس فيه حق موفيه ؛ فيخلى ما بينه وبينه ، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع ، وليس كذلك ما يتعلق به حق موفيه من كيل أو وزن ؛ ألا ترى : أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية؟! وكذلك أجرة النقد على البائع أيضا ؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول : إنها طيبة ، فأنت الذي تدعي الرداءة ، فانظر لنفسك ؛ ليقع له ؛ فكان الأجر عليه. وكذلك لا يجب أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص ؛ لئلا يجب عليه أن يقطع يد نفسه ، ولا أن يمكن من ذلك طائعا ؛ ألا ترى أن فرضا عليه أن يفدي يده ، ويصالح عليه ، إذا طلب المقتص ذلك؟!

ينظر : اللباب (١١ / ١٩٩).

(٦) في ب : الشراء له.

٢٨١

ثمنه ؛ ولا تحل له الصدقة.

ويحتمل أن يكون قوله : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) بذهاب بصر أبيهم ؛ مسهم بذلك وأهلهم الضر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).

أى ردّ علينا بنيامين ؛ لعل الله يرد بصره عليه.

(إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).

قال أهل التأويل : إن الله يجزي المتصدقين إن كانوا على دين الإسلام ؛ كأنهم ظنوا أنه ليس على دين الإسلام ؛ ولو أنهم ظنوا أنه مسلم ؛ لقالوا : إن الله يجزيك بالصدقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ).

هو ظاهر لا يحتاج إلى ذكره وأما ما فعلوه بأخيه : قال أهل التأويل : هو ما قالوا إنه سرق ؛ لكنهم لم يقولوا إلا قدر ما ظهر عندهم ؛ فلم يلحقهم بذلك القول فضل تعيير ؛ لكن يشبه أن يكونوا آذوه بأنواع الأذى ، ولا شك أنهم كانوا يبغضون يوسف وأخاه ؛ حيث قالوا : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) [يوسف : ٨].

وقوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ).

قد كانوا علموا هم ما فعلوا بيوسف لكنه [كأنه](١) قال : هل تذكرون ما فعلتم بيوسف ؛ أو أنتم جاهلون ذلك ؛ ناسون؟ يقول لهم : اذكروا ما فعلتم بيوسف ، وتوبوا إلى الله عن ذلك ، ولا تكونوا جاهلين عن ذلك. أو يقول لهم : هل رجعتم وتبتم عن ذلك؟ ، أو أنتم بعد فيه؟.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

قال بعض أهل التأويل : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي : مذنبون (٢) ؛ ولكن إذ أنتم جاهلون قدر يوسف ومنزلته ، لأنهم لو علموا ما قدر يوسف عند الله ؛ وما منزلته ما قالوا : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) [يوسف : ٨] وما خطئوا أباهم في حبّه إياه حيث قالوا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٨] ، وما فعلوا به ما فعلوا. والله أعلم.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).

كأنهم عرفوا أنه يوسف ؛ بقول يوسف لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) [أو عرفوا بقول أبيهم ؛ حيث قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)](٣) لما ذكر أخاه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٤٧) ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ٣٣٧) ونسبه لمقاتل.

(٣) سقط في ب.

٢٨٢

ورأوه معه عرفوا أنه يوسف ؛ لذلك قالوا. والله أعلم.

(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ).

يحتمل : من يتّق معاصيه ، ويصبر على بلاياه. أو اتقى مناهيه ؛ وصبر على أداء ما أمر به. أو من اتقى وصبر ؛ فقد أحسن. أو يقول : إنه من يتق الجفاء ؛ ويصبر على البلاء ؛ فقد أحسن.

(فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

ويشبه أن يكون قوله : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).

أي ردّ أخانا علينا ، وهو ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا).

(تَاللهِ) قسم قد اعتادوه في فحوى كلامهم ؛ على غير إرادة يمين بذلك ؛ هكذا عادة العرب ؛ وإلا كان يعلم يوسف أن الله قد آثره عليهم.

ويشبه أن يكون يخرج القسم هاهنا على تأكيد معرفتهم فضله ومنزلته ؛ أي : لم تزل كنت مؤثرا مفضّلا علينا.

(وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ).

أي : وقد كنا خاطئين ؛ فيما كان منا إليك من الصنيع.

أو أن يكون قوله : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) ؛ فيما قالوا : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) [يوسف : ٨] أي لما كان يؤثرهما عليهم ؛ فقالوا : كنت مؤثرا على ما كان أبونا يؤثرك علينا وقد كنا (لَخاطِئِينَ) ؛ فقال يوسف.

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

قال القتبي (١) : قوله : (لا تَثْرِيبَ) : أي لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ؛ بما (٢) صنعتم.

وقال بعضهم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي : لا تنغيث عليكم. وقيل : أصل التثريب : الإفساد ؛ يقال : ثرب علينا الأمر : أي أفسده.

وقال أبو عوسجة : التثريب : الملامة ؛ يقول : لا لوم عليكم في صنيعكم.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : لا تثريب عليكم : أي لا أعيّركم بعد هذا اليوم أبدا ؛ ولا أعيره عليكم (٣).

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٢٢).

(٢) في ب : مما.

(٣) أخرجه ابن جرير بمثله (٧ / ٢٩٢) (١٩٨٠٢) عن عبد الله بن الزبير ، وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨).

٢٨٣

وهو يحتمل هذين الوجهين :

أحدهما : لا تعيير عليكم ولا ملامة ؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة ؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطإ ، وهكذا كل من أذنب ذنبا أو ارتكب كبيرة ؛ ثم انتزع عنها وتاب منها ؛ لا يعيّر ـ هو ـ عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) [الحجرات : ١١] ذكر أنهم كانوا يعبّرون أهل الكفر في كفرهم ؛ وينابزونهم ؛ ثم أسلموا ؛ فنهوا أن ينابزوهم ؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم ، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزاع عنه والتوبة ؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول الله معيّرين ملامين ؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء ، فهذا مما لا يحل في العقل.

والثاني : قوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) : لا أعيّركم ؛ على ما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أي : لا أذكر ما كان منكم إلينا ؛ أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه ؛ ولذلك قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠].

ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته ؛ وكذلك فعل ؛ حيث قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠] أضاف ذلك إلى الشيطان ، ولم يضف إلى إخوته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).

قطع فيه القول بالمغفرة لهم ؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا ، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه ؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.

وقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة ، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم ، أو قد غفر لهم ، أو يقول : استغفروا الله ؛ الذي كان بين الله وبينكم يغفر لكم (١).

(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل من يرحم من الخلائق ؛ إنما يرحم برحمة منه إليه ؛ فهو أرحم الراحمين ؛ بما قلنا ؛ على ما قلنا في قوله : (خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [يوسف : ٨٠] و (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً).

دل هذا من يوسف ؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرا ؛ إنه عن وحي (٢) قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد ؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقى على وجهه يصير بصيرا.

__________________

(١) في ب : لهم.

(٢) في أ : عزوجل.

٢٨٤

وقوله : (يَأْتِ بَصِيراً) هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : يصير بصيرا على ما ذكرنا.

والثاني : يأتيني بصيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).

أراد ـ والله أعلم ـ حيث أمرهم أن يأتوا بأهلهم أجمع ـ أن يبرّهم ويكرمهم ؛ حين تابوا عما فعلوا به ؛ وأقروا له بالخطإ في أمره.

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ).

قيل خرجت (١) ؛ وفصلت ؛ وانفصلت ـ واحد.

(قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ).

قال أهل التأويل : كان بينهما ثمانون فرسخا (٢) ؛ يعني : (٣) بين مصر وبين كنعان مكان يعقوب. وقيل : مسيرة ثمانية أيام ؛ ما بين الكوفة والبصرة (٤).

ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أن كم كان بينهما ؛ سوى أنا نعلم أنه كان بينهما مسيرة أيام ؛ ثم وجد يعقوب ريح يوسف من ذلك المكان ؛ ولم يجد غيره ممن كان معه ؛ فذلك آية من آيات الله ؛ حيث وجد ريحه من مكان بعيد لم يجد ذلك غيره ، وذلك من آثار البشارة والسرور الذي يدخل فيه بقدومه.

قال بعض أهل التأويل (٥) : ذلك القميص هو من كسوة الجنة ؛ كان الله كساه إبراهيم ، وكساه إبراهيم إسحاق ، وكساه إسحاق يعقوب ، وكساه يعقوب يوسف ؛ لذلك وجد

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٢٩٤) (١٩٨٢٢) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٤) (١٩٨١٩) عن الحسن ، و (١٩٨٠) عن ابن جريج ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) في أ : يعبر.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤) (١٩٨١٣ ، ١٩٨١٦) عن ابن عباس.

(٥) ذكره الرازي في تفسيره (١٨ / ١٦٦).

٢٨٥

ريحه ؛ لأنه كان من ثياب الجنة ، فهو ـ وإن ثبت ما قالوا ـ فذلك أيضا حيث وجد هو ذلك ، ولم يجد غيره. وكان أيضا هو لا يجد ذلك الريح قبل فصول العير ، وكان مع يوسف.

احتمل ما قالوا ، أو احتمل أن يكون قميصا من قمصه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ).

قيل تحزنون ، وقيل : تهرمون (١) ، وقيل : تكذبون (٢) ، وقيل : تضعفون (٣) ، وقيل : تعجزون (٤) ، وقيل : تجهلون (٥) ، وقيل : تسفهون (٦) ، وقيل : تحمقون ، وقيل : لو لا أن تقولوا ذهب عقلك (٧).

والمفند : معروف عند الناس : هو الذي يبلغ من (٨) الكبر غايته ؛ كقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥].

وقوله : (لَوْ لا) إذا كان على الابتداء ؛ فهو على النهي ؛ أي لا تفندون ، وإذا كان على الخبر ؛ فهو على النفي ؛ كقوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) [يونس : ٩٨] أي : لم ينفع.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) (١٩٨٤٩ ، ١٩٨٥٠) عن مجاهد ، (١٩٨٥١ ، ١٩٨٥٣) عن الحسن.

وذكره أبو حيان في البحر المحيط (٥ / ٣٣٩) ونسبه للحسن البصري ، والسيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٦) عن كل من : سعيد بن جبير (١٩٨٤٢) ، السدي (١٩٨٤٣) ، مجاهد (١٩٨٤٤) ، الضحاك (١٩٨٤٥ ، ١٩٨٤٦) ، ابن عباس (١٩٨٤٨).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي الشيخ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٦) (١٩٨٤٠) عن ابن إسحاق ، وذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٣٣٩) والبغوي في تفسيره (٢ / ٤٤٨).

(٤) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٩٤) ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ٣٣٩).

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٥) (١٩٨٢٧) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٥) عن كل من : ابن عباس (١٩٨٢٤ ، ١٩٨٢٥ ، ١٩٨٢٨ ، ١٩٨٣٠ ، ١٩٨٣٥) ، ومجاهد (١٩٨٢٦ ، ١٩٨٢٩) ، وعطاء (١٩٨٣١ ، ١٩٨٣٢) ، وقتادة (١٩٨٣٣ و ١٩٨٣٤).

وذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٣٣٩) ونسبه لابن عباس وقتادة ومجاهد.

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٥) عن كل من : مجاهد (١٩٨٣٦ ، ١٩٨٣٧ ، ١٩٨٣٨ ، ١٩٨٣٩) ، وابن زيد (١٩٨٤١).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن زيد ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ٣٣٩) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٤٤٨).

(٨) في ب : في.

٢٨٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا تَاللهِ) هو ما ذكرنا أنه يمين اعتادوه في كلامهم ؛ على غير إرادة القسم به.

(إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ).

قيل في حبّ يوسف ، وذكره القديم كان عندهم ؛ بأنه هالك ؛ لذلك أنكروا عليه وخطئوه ؛ فيما يجد من ريحه ، وعنده أنه في الأحياء (١) ؛ لذلك كان ما ذكروا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً).

أي رجع بصيرا على ما كان : قال أهل التأويل : البشير كان يهوذا (٢) ، وقيل : البريد (٣) ، ولا ندري من كان ؛ وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة ـ سوى أن المدفوع إليه الثواب كان واحدا ؛ وإن قال في الابتداء : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال بعض أهل التأويل : وذلك أن يعقوب قال لهم قبل ذلك : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [يوسف : ٨٦] أنتم ؛ من تصديق رؤيا يوسف ؛ وأنه حي ، وكان يعلم هو من الله أشياء ما لا يعلمون هم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) قال يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي.

طلبوا من أبيهم الاستغفار ؛ فأخرهم ذلك إلى وقت ، وطلبوا من يوسف العفو وأقروا له بالخطإ والذنب ؛ فعفا عنهم وقت سؤالهم العفو ، فمن الناس من يقول : إنما أخر يعقوب الاستغفار ؛ وعفا عنهم يوسف ؛ لأن قلب الشاب يكون ألين وأرقّ من قلب الشيخ ؛ لذلك كان ما كان (٤) ، لكن هذا ليس بشيء ؛ إنما يكون هذا في عوامّ من الناس ؛ فأمّا الأنبياء

__________________

(١) في أ : الإخبار.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩) عن كل من : مجاهد (١٩٨٦٥ ، ١٩٨٦٨ ، ١٩٨٧٠ ، ١٩٨٧١) ، وابن جريج (١٩٨٦٩) ، الضحاك (١٩٨٧١ ، ١٩٨٧٣) ، والسدي (١٩٨٧٢).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم عن سفيان.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٩٨) (١٩٨٦٢) عن ابن عباس ، (١٩٨٦٣ ، ١٩٨٦٤) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولأبى الشيخ عن الضحاك مثله.

(٤) في أ : ذكر.

٢٨٧

كلما مضى وقت فتزداد قلوبهم لينا ورقّة وخشوعا. ومنهم من يقول : إنما كان كذلك ؛ لأن وجد يعقوب كان أكثر من وجد يوسف ؛ لذلك كان أجابهم يوسف وقت سؤالهم العفو ؛ وأخر يعقوب إلى وقت.

قال الشيخ أبو منصور ـ رحمه‌الله ـ : والوجه فيه عندنا ـ والله أعلم ـ : أنهم إنما سألوا يعقوب ؛ وطلبوا منه الاستغفار من ربهم ؛ ليكون لهم شفيعا ؛ فأخر ذلك إلى وقت الاستغفار والشفاعة ؛ إذ ليس كل الأوقات يكون وقتا للاستغفار ، وطلبوا من يوسف العفو منه ؛ فعفا عنهم وقت طلبهم منه العفو ؛ لهذا الوجه ، يحتمل أن يخرج معناه. والله أعلم.

أو أن يكون يعقوب أخّر الاستغفار ؛ لأن الذنب في ذلك كان بينهم وبين ربهم ؛ فأخر (١) إلى أن يجيء الإذن من ربه ، وأما الذنب في (٢) يوسف ؛ ففيما بينهم وبين يوسف ؛ فعفا عنهم في ساعته.

ويحتمل قوله : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

إن استغفرتم [أنتم](٣) ، أو قال : سوف أستغفر لكم ربي ؛ إذا جاء وقته ؛ وهو ما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : إنه [أخر وقت الاستغفار](٤) إلى وقت السحر ، أو أن يكون أخره إلى أن يقدم شيئا بين [يدي](٥) الاستغفار والشفاعة ؛ ليكون أسرع إلى الإجابة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١٠٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

ظاهر هذا أن يوسف كان تلقّاهم خارجا من المصر ؛ فقال لهم : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ

__________________

(١) في أ : وأخر.

(٢) في أ : من.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : أخره.

(٥) سقط في ب.

٢٨٨

اللهُ آمِنِينَ) ثم لما دخلوا المصر آوى إلى نفسه أبويه وضمهما إليه.

ويشبه أن يكون قال لهم هذا القول ؛ وقت ما قال لهم : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) و (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ، ثم لما جاءوا هم ودخلوا مصر ـ ضم إليه أبويه ؛ وأمره إياهم أن يدخلوا مصر آمنين ؛ لأن المصر كان أهله أهل كفر ؛ فكأنهم خافوا الملك الذي كان فيه ؛ فذكر لهم الأمن لذلك. والله أعلم.

وذكر الثنيا فيه ؛ لأنه وعد منه ؛ وعد لهم ؛ والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كان لا يعدون شيئا إلا ويستثنون في آخره ؛ كقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] وإنما ذكر الثنيا في الأمن ؛ لم يذكر في الدخول ؛ لأن الدخول منه أمر وما ذكر من الأمن فهو وعد ؛ فهو ما ذكرنا : أنه يستثنى في الوعد ولا يستثنى في الأمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ).

يشبه أن يكون قوله : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) هو ما ذكر من رفعه إياهما على العرش ، وخص بذكر أبويه بالرفع على العرش ؛ فيحتمل أن يكون رفع أبويه والإخوة جميعا ؛ لأنه لو لم يرفعهم ـ وقد كان عفا عنهم ـ لما أقروا بالخطإ. وقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] لكان يقع عندهم أنه قد بقى شيء مما كان منهم إليه ؛ لكنه خصّ أبويه بالذكر ؛ لشرفهما ومجدهما ؛ على ما يخص الأشراف والأعاظم ؛ نحو قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [هود : ٩٦ ، ٩٧] ونحوه.

ودل رفع أبويه على العرش ـ على أن اتخاذ العرش والجلوس عليه لا بأس به ؛ إذ لو كان لا يحلّ أو لا يباح ذلك ؛ لكان يوسف لا يتخذه ؛ ولا كان يعقوب يجلس عليه ، دل ذلك منهما أن ذلك مباح لا بأس به. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً).

قال بعضهم ـ من أهل التأويل ـ كانت تحيتهم يومئذ ـ فيما بينهم ـ السجود ؛ يسجد بعضهم لبعض مكان ما يسلم بعضنا على بعض ، وأما اليوم فهو غير مباح ؛ وإنما التحية في السلام (١) ، لكن السجود لغير (٢) الله ؛ ليس يكره لنفس السجود ؛ وإنما يكره وينهى عما في السجود ؛ وهو العبادة والتسفل ، لا يحل لأحد أن يجعل العبادة والتسفل له دون الله ، وأما نفس السجود فإنه كالقيام والقعود ؛ وغيره من الأحوال يكون فيها المرء. والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه بمعناه (٧ / ٣٠٣ ، ٣٠٤) (١٩٩٠٢) عن ابن إسحاق ، و (١٩٩٠٣ ، ١٩٩٠٤) عن قتادة.

وذكره السيوطي بمعناه (٤ / ٧١) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عدي بن حاتم.

(٢) في أ : لدون.

٢٨٩

ويحتمل قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي خروا له خاضعين له ذليلين ، وقال بعضهم : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي : خروا له سجدا ، شكرا له ؛ لما جمع بينهم ورفع ما كان بينهم ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

أي : حقق تلك الرؤيا التي رأيتها من قبل ؛ وجعلها صدقا لى ، رأى يوسف رؤيا فخرجت رؤياه بعد حين ووقت وزمان طويل ؛ فهذا يدلّ أن الخطاب إذا قرع السمع يجوز أن يأتي بيانه من بعد حين وزمان ، ويجوز أن يكون مقرونا به ، وليس في تأخر بيان الخطاب تلبيس ولا تشبيه ، على ما قال بعض الناس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) [ذكر إحسانه إليه ومنته ولم يذكر محنته بالتصريح ، إنما ذكرها بالتعريض ، حيث قال : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)](١) ولم يقل : سجنت أو حبست ، وأمثاله ، ما كان ابتلاه الله به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ).

قيل : من البادية ؛ لأنهم كانوا أهل بادية أصحاب المواشي (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).

[قال بعضهم : نزغ : أي فرق [أي :] بعد ما فرق الشيطان بيني وبين إخوتي](٣) ، وكأن النزغ هو الإفساد ؛ على ما ذكره أهل التأويل ؛ أي : بعد ما أفسد الشيطان بينى وبين إخوتي ، وأضاف ذلك إلى الشيطان ؛ لما كان قال لهم : لا تثريب عليكم حين أقروا له بالفضل ؛ والخطأ في فعلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ).

اللطيف : هو اسم لشيئين : اسم البرّ والعطف ؛ يقال : فلان لطيف ؛ أي بارّ عاطف.

والثاني : يقال : لطيف ؛ أي عالم بما يلطف من الأشياء ويصغر ، كما يعلم بما يعظم ويجسم.

أو يقال : لطيف : أي يعلم المستور من الأمور الخفية على الخلق ؛ كما يعلم الظاهرة منها والبادية ، لا يخفى عليه شىء ؛ يعلم السر وأخفى ، يقال له : عظيم ، ولطيف ؛ ليعلم

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير بمعناه (٧ / ٣٠٧) (١٩٩٣٥) عن ابن جريج ، وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٥١) ، وكذا أبو حيان (٥ / ٣٤٣).

(٣) سقط في ب.

٢٩٠

أن ليس يفهم من عظمه ما يفهم من عظم الخلق ؛ إذ لا يجوز في الخلق أن يكون عظيما لطيفا ؛ ويجوز في الله ، ليعلم أن ما يفهم من هذا غير ما يفهم من الآخر. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

أي العليم بما كان ويكون ، وما ظهر وما بطن ، وما يسرّ وما يعلن ، وبكل شيء ، أو عليم بعواقب الأمور وبدايتها ، (الْحَكِيمُ) : حكم بعلم ، ووضع كل شيء موضعه ؛ لم يحكم بجهل ولا غفلة ولا سفه ؛ على ما يحكم الخلق ، تعالى الله ـ عزوجل ـ عن ذلك علوّا كبيرا.

[مسألة](١) : ثلاث آيات في سورة يوسف على المعتزلة : قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) [يوسف : ٣٣] أخبر أنه لو لم يصرف عنه (٢) كيدهن مال إليهن ، وهم يقولون : قد صرف عن كل أحد السوء والكيد ؛ لكن لم ينصرف عنه ذلك.

وكذلك قوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف : ٥٣] أخبر أنه إذا رحمه امتنع عن السوء والأمر به ، وهم يقولون : إنه ـ وإن رحم ـ لا يمتنع السوء ولا الأمر به.

وكذلك قوله : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) [يوسف : ٥٦] وهم يقولون : ليس له أن يصيب أحدا دون أحد من رحمته ؛ ولا أن يخص أحدا بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ).

قال أبو بكر الأصم : ذكر (مِنَ الْمُلْكِ) ؛ لأنه لم يؤته كل الملك ؛ إذ كان فوقه ملك أكبر منه ، لكن لا لهذا ذكر (مِنَ الْمُلْكِ) ؛ إذ معلوم أنه لم يؤت لأحد كل ملك الدنيا ؛ قال الله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ويكون في وقت واحد ملوك.

وقال مقاتل : (من) صلة : كأنه قال : رب قد آتيتني من الملك. لكن الوجه فيه ما ذكرنا.

وقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...) إلى آخر ما ذكر ، قدم دعاءه ؛ وسؤاله ربه ما سأل ؛ إحسانه إليه ومحامده وصنائعه ؛ ليكون ذلك [له وسيلة](٣) إلى ربه في الإجابة.

وفي ذلك دلالة نقض قول المعتزلة من وجهين :

أحدهما : يقولون : إن كل أحد شفيعه عمله ؛ فيوسف لم يذكر ما كان منه : أني فعلت

__________________

(١) بياض في ب.

(٢) في أ : عنى.

(٣) في ب : وسيلة له.

٢٩١

كذا ؛ فافعل بي كذا ، ولكن ذكر نعم الله وإحسانه إليه.

والثاني من قولهم : إنه لا يؤتي أحدا ملكا ولا نبوة إلا بعد الاستحقاق [به ، ولا يكون من الله إلى أحد نعمة وإحسان إلا بعد الاستحقاق](١).

ومن قولهم : إن كل أحد هو المتعلم ؛ لا أن الله يعلم أحدا ، وقد أضاف يوسف التعليم إلى الله ؛ حيث قال : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وهم يقولون : لم يعلمه ولكن هو تعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ).

قال أهل التأويل : تعبير الرؤيا (٢) ، ولكن الأحاديث : هي الأنباء ، والتأويل : هو علم العاقبة وعلم ما يئول إليه الأمر ، كأنه قال : علمتني مستقر الأنباء ونهايتها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ). والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

كأنه على النداء والدعاء ؛ ذكر : يا فاطر السموات والأرض ؛ لذلك انتصب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

يشبه أن يكون تأويله : أنت ولى نعمتي في الدنيا والآخرة ؛ كما يقال : فلان ولي نعمة فلان.

ويحتمل : أنت أولى بي في الدنيا والآخرة ، أو أنت ربي وسيدي في الدنيا والآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً).

تمنى ـ عليه‌السلام ـ التوفّي على الإسلام ، والإخلاص بالله والإلحاق بالصالحين ؛ فهو ـ والله أعلم ـ وذلك أن الله قد آتاه النهاية في الشرف والمجد في الدنيا دينا ودنيا ؛ لأن نهاية الشرف في الدين هي النبوة والرسالة ، ونهاية الشرف في الدنيا الملك ؛ فأحب أن يكون له في الآخرة مثله ؛ فقال : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ثم يحتمل سؤاله : أن يلحقه بالصالحين ؛ بكل صالح.

ويحتمل : أنه سأله أن يلحقه بالصالحين ؛ بآبائه وأجداده وبجميع الأنبياء والرسل.

وقوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) هو ينقض على المعتزلة أيضا ؛ ومن قولهم : [إنه أعطى كل أحد](٣) ليس له ألا يتوفاه مسلما ؛ فيكون في دعائه عابثا ؛ على قولهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٣٠٩) (١٩٩٤٦) ، وذكره البغوي (٢ / ٤٥١).

(٣) سقط في ب.

٢٩٢

[والثاني : على قولهم](١) لا يملك أن يتوفاه مسلما ؛ لأن من قولهم : إنه أعطى كل أحد ما به يكون مؤمنا حتى لم يبق عنده شيء ، ومن سأل آخر شيئا يعلم أنه ليس عنده ؛ فهو يهزأ به ، أو يكون فيه كتمان النعمة ؛ وفي كتمان النعمة كفرانها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ...) الآية.

(ذلِكَ) : أي خبر يوسف وإخوته ؛ وقصصهم التي قصصنا عليك وأخبرناك به ؛ من أوله إلى آخره ، (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) لم تشهدها أنت [ولم تحضرها كقوله](٢) : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ) [هود : ٤٩] هذا ليعلم أنك إنما علمت وعرفتها بالله وحيا ؛ ليدلهم على رسالتك ونبوتك. والله تعالى أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).

أي : ما كنت لديهم ولا بحضرتهم ؛ ثم أنبأت على ما كان ؛ ليدل على ما ذكرنا من الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ يَمْكُرُونَ).

بأبيهم وأخيهم : أما مكرهم بأبيهم ؛ حيث قالوا : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) [يوسف : ١١] أخبروه أنهم له ناصحون ؛ فخانوه.

ومكرهم بأخيهم ؛ حيث قالوا : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢] ضمنوا له الحفظ ؛ فلم يحفظوه ـ مكروا بهما جميعا.

والمكر : هو الاحتيال ؛ في اللغة ؛ والأخذ على جهة الأمن ، وقد فعلوا هم بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف عليهما‌السلام.

قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٠٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

أي ما أكثر الناس بمؤمنين ؛ ولو حرصت يا محمد أن يكونوا مؤمنين ؛ كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ من شفقته ورحمته على الخلق ؛ ورغبته في إيمانهم ؛ حتى كادت نفسه تهلك في ذلك ؛ حيث قال :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ولا تحضرها ؛ لقوله.

٢٩٣

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الشعراء : ٣] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) [فاطر : ٨] (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] كان حرصه على إيمانهم بلغ ما ذكر ؛ حتى خفف ذلك عليه بهذه الآيات (١).

وقال بعض أهل التأويل : قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكة ، (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهم كذلك ؛ كانوا أكثرهم غير مؤمنين ، وأهل مكة وغيرهم سواء كلهم ؛ كذلك كانوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : [على](٢) ما تبلغ إليهم وتدعوهم إلى طاعة الله ؛ وجعل العبادة له ؛ وتوجيه الشكر إليه ؛ لا تسألهم على ذلك أجرا ؛ فما الذي يمنعهم عن الإجابة لك فيما تدعوهم ؛ والائتمار بأمرك؟! هذا يدل أنه لا يجوز أخذ الأجر على الطاعات والعبادات ؛ حيث نهى وأخبر أنه لا يسألهم على ما يبلغ إليهم أجرا ، وهو لم يتولّ تبليغ جميع ما أمر بتبليغه بنفسه إلى الخلق كافة ، بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...) الآية [سبأ : ٢٨] ولكنه ولى بعضه غيره ؛ كقوله : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» ؛ فإذا لم يجز له أخذ الأجر فيما يبلغ هو ؛ فالذي كان مأمورا أن يبلغ عنه أيضا لا يجوز أن يأخذ الأجر على ما يبلغ.

وفى قوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وجهان :

أحدهما : أنه ليس يسألهم على الذي يبلغه إليهم ويدعوهم أجرا ؛ حتى يمنع بذل ذلك وثقله عن الإجابة.

والثاني : إخبار أن ليس له أن يأخذ ؛ وأن يجمع من الدنيا شيئا ؛ كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية [طه : ١٣١] ومعلوم أنه لا يمد عينيه إلى ما لا يحل ؛ فيكون النهي عن أخذ المباح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

أي هذا القرآن الذي تبلغهم ليس إلا ذكرى ؛ وموعظة (٣) للعالمين ، أو هو نفسه عظة وذكرى للعالمين ؛ أعني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي شرف وذكرى لمن اتبعه وقام به ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] ، وقوله : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥] أي منفعته تكون لمن اتبعه ؛ فعلى ذلك هذا.

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وهو عظة.

٢٩٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ ...) الآية.

أي كم من آية في السموات والأرض. قال بعض أهل التأويل : الآيات التي في السماء مثل : الشمس والقمر والنجوم والسحاب ؛ وأمثاله ، والآيات التي في الأرض : من نحو : الجبال والأنهار والبحار والمدائن ؛ ونحوها ، لكن السماء نفسها آية ، والأرض نفسها آية ؛ وما يخرج منها من النبات آية.

(يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ).

أي : هم عنها معرضون عما جعلت من آيات ؛ لأنها إنما جعلت آيات لوحدانية الله وألوهيته ؛ فهم عما جعلت من آيات معرضون. وبالله الهداية والعصمة.

وقال بعضهم في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي : كم من آية دليل وعلامة على وحدانية الله ؛ في خلق السموات والأرض ، وهو قريب مما ذكرنا.

وقال بعضهم : آيات السماء ؛ ما ذكرنا من نحو الشمس والقمر والكواكب. وآيات الأرض ؛ فمثل آثار (١) الأمم التي أهلكوا من قبل ؛ من نحو قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط ؛ وغيرهم ؛ ممن قد أهلكوا ؛ يمرون عليها ويرونها ولا يتعظون بهم.

والوجه فيه ما ذكرنا : أنهم معرضون عما جعلت تلك آيات ؛ وإنما جعلت آيات لوحدانية الله وألوهيته ، أو معرضون عن التفكر فيها والنظر إعراض معاندة ومكابرة.

ثم يحتمل الإعراض وجهين :

أحدهما : أعرضوا : أي لم ينظروا فيها ؛ ولم يتفكروا ؛ ليدلهم على وحدانية الله وألوهيته ؛ فهو إعراض عنها.

والثاني : نظروا وعرفوا أنها آيات [لوحدانية الله](٢) ؛ لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين ، ليس في السموات ولا في الأرض شيء ـ وإن لطف ـ إلا وفيه دلالة [على](٣) وحدانية الله ، وآية ألوهيته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : في الاعتقاد ؛ أي : وما يؤمن أكثرهم بالله بأنه الإله ؛ إلا وهم مشركون الأصنام والأوثان في التسمية ، وسموها آلهة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما

__________________

(١) في أ : آيات.

(٢) في ب : لوحدانيته.

(٣) سقط في ب.

٢٩٥

يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢].

والثاني : إشراك في الفعل (١) ؛ أي : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم عبدوا غيره ؛ من الأصنام والأوثان ، أو أن يكون (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) بلسانهم (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بقلوبهم أو يقول : وما يؤمن أكثرهم بالله في النعمة أنها من الله تعالى ؛ إلا وهم مشركون في الشكر له تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

أي : كيف أمنوا أن يأتيهم عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة ؛ وقد سمعوا إتيان العذاب بمن قبلهم وهلاكهم ، وقد جاء ما يخوفهم إتيان الساعة ؛ وخافوا عنها ؛ وإن لم يعلموا بذلك حقيقة ؛ لما تركوا العلم بها ترك معاندة ومكابرة ؛ لا ترك ما لم يبين لهم ؛ ومن (٢) لم يأت له التخويف والإعلام.

و (غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) : قال أبو عوسجة ـ رحمه‌الله ـ : أي مجللة تغشيهم ، ومنه قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] وهو ما يأتيهم العذاب من فوقهم.

وقال غيره : غاشية من عذاب الله : أي عذاب من عذاب الله تعالى ؛ وهو كقوله : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) [الأنبياء : ٤٦] ؛ يجب أن يكون أهل الإسلام معتبرين بقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) ، وكذلك بقوله : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وإن كانت الآيتان نزلتا فيهم ؛ لأنهم يمرون بما ذكر من الآيات ولا يعتبرون بما ذكر ، وكذلك يكون آمنين عن غاشية من عذاب الله تعالى.

قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي).

[قيل](٣) : السبيل يؤنث ويذكّر. ويحتمل : هذه الطاعة أو العبادة لله.

__________________

(١) في أ : العقل.

(٢) في أ : وما.

(٣) سقط في ب.

٢٩٦

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (سَبِيلِي) هذه التي أنا عليها ،

ويحتمل : هذه سبيلي التي أدعوكم إلى الله.

(عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

البصيرة : العلم والبيان والحجة النيرة ؛ أي هذه سبيلي التي أنا أدعوكم إليها ؛ إنما أدعوكم على بصيرة ؛ أي على علم وبيان وحجة قاطعة ؛ وبرهان نير ؛ ليس كسائر الأديان التي يدعى إليها على الهوى والشهوة بغير حجة ولا برهان ؛ (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [أي : ومن اتبعني](١) ـ أيضا ـ فإنما يدعوكم أيضا على حجة وبرهان ؛ إذ من يجيبني ؛ فإنما يجيب على بصيرة وبيان وحجة.

(وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

قيل : كأن هذا صلة قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سبحان الله : تنزيها لما قالوا ؛ وتبرئة عما قالوا في الله بما لا يليق به.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في ألوهيته وربوبية غيره ؛ أو في عبادته. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ).

ذكر رجالا ـ والله أعلم ـ أي : لم نبعث رسولا من قبل إلا بشرا ؛ لم نبعث ملكا ولا جنّا ؛ فكيف أنكرتم رسالة محمد بأنه بشر ؛ ولم يروا رسولا من قبل ولا سمعوا إلا من البشر ؛ كقولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] وكقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] هذا والله أعلم.

(إِلَّا رِجالاً) مثلك ؛ بشرا لا ملكا ولا جنّا ، أو ذكر رجالا ؛ لأنه لم يبعث امرأة رسولا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى).

أي : إنما أرسل الرسل جملة من أهل الأمصار والمدن ؛ لم يبعثوا من أهل البوادي وأهل البرارى والقرى ؛ إنما يريد الأمصار والبنيان ، وقال الله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [النحل : ١١٢] قيل : هي مكة (٢) ، جميع ما ذكر في القرآن من القرية والقرى ؛ يريد به الأمصار والمدن ؛ وإنما بعث الرسل والأنبياء من الأمصار ؛ ولم يبعثهم من البوادي ومن أهل البراري ـ لوجهين ـ والله أعلم ـ :

أحدهما : لأن لأهل الأمصار والمدن ؛ اختلاطا بأصناف الناس ؛ وامتزاجا بأنواع

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٥٥) عن كل من : ابن عباس (٢١٩٥٦) ، ومجاهد (٢١٩٥٧ ، ٢١٩٥٨) ، وقتادة (٢١٩٥٩ ، ٢١٩٦٠) ، وابن زيد (٢١٩٦١).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٥١) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

٢٩٧

الخلق ، ويكون لهم تجارب (١) بالخلق ؛ فهم أعقل وأحلم وأبصر من أهل البادية والبرية ، إذ اختلاطهم وامتزاجهم إنما يكون بالماشية وأنواع البهائم ؛ لذلك بعثوا من الأمصار دون البادية.

وبعد فإن الرسل يكون لهم أسباب وأعلام تتقدم عن وقت الرسالة تحتاج إلى أن يظهر ذلك للخلق ؛ ليكون ذلك أسرع إلى الإجابة لهم ؛ وأدعى وأنفذ إلى القبول ، فإذا كانوا من أهل البوادي لا يظهر ذلك للخلق.

والثاني : أنه يراد من الرسالة إظهارها في الخلق ؛ في الآفاق والأطراف والأمصار ، والمدن هي الأمكنة (٢) التي ينتاب الناس إليها في التجارات وأنواع الحوائج من الآفاق والأطراف ؛ فيظهر ذلك فيها. وفي أهل الآفاق وأما أهل البوادي والبراري ؛ ليس يدخلها ولا ينقلب (٣) إليها ؛ إلا الشاذة من الناس ؛ ولا يقضى فيها الحوائج ؛ فلا يظهر في الخلق الرسالة وما يراد بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

أي : ألم ينظروا ويتفكروا ؛ فيمن هلك من قبلهم من الأمم ؛ بتكذيبهم الرسل أن كيف كان عاقبتهم بالتكذيب في الدنيا ؛ ليمتنعوا عن تكذيب رسولهم.

وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الآية ؛ يخرج على وجهين :

أحدهما : أي قد ساروا ونظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ لكنهم عاندوا ولم يعتبروا.

والثاني : أي سيروا في الأرض ؛ وانظروا ، ولكن ليس على نفس السير في الأرض ؛ ولكن على السؤال عما نزل بأولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشّرك أو خلاف الله ورسوله.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن ذلك أفضل وخير ؛ [ممن لم يتق ذلك](٤). والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) و (كُذِبُوا) ؛ كلاهما لغتان ، قال بعضهم : أيس الرسل عن إيمان قومهم وتصديقهم الرسل (٥) ، ثم

__________________

(١) زاد في ب : بالعقل.

(٢) في أ : إلى مكة.

(٣) في أ : ينتاب.

(٤) في أ : من لم يتق بذلك.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣١٦ ، ٣١٧) (١٩٩٨٨ ، ١٩٩٨٩ ، ١٩٩٩٢ ، ١٩٩٩٣) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٧٧) وزاد نسبته لأبي عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

٢٩٨

يحتمل استيئاسهم عن إيمانهم ؛ لكثرة ما رأوا من اعتنادهم الآيات وتفريطهم في ردها ؛ أيسوا عن إيمانهم ، أو كان إياسهم بالخبر عن الله أنهم لا يؤمنون ؛ كقوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ...) الآية [هود : ٣٦] وأمثاله.

وقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قال بعضهم : وظن الرسل أن أتباعهم الضعفة قد كذبوهم ؛ لكن هذا إن كان من الرسل فهو ظن من الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ؛ [لكثرة ما أصابهم من الشدائد ، وطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، فوقع عند الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم وإن كان من الأعداء فقد استيقن الرسل أنهم كذبوهم](١).

وروى عن عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة ؛ قال : فقلت : أرأيت قول الله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أو (كُذِبُوا) قال : فقالت : بل كذّبهم (٢) قومهم ، قال : فقلت : [أرأيت قول الله (حَتَّى)](٣) والله لقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم ؛ وما هو بالظن ؛ فقالت : يا عروة لقد استيقنوا بذلك ، قال : قلت : فلعلهم ظنوا أن قد كذبوا ، قالت : معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها (٤) ، [قال] : وما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ؛ وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر ؛ حتى إذا استيأست الرسل ممن كذبهم من قومهم ؛ وظنوا أن أتباعهم قد كذبوهم ؛ جاءهم نصر الله عند ذلك (٥).

وقال بعضهم : حتى إذا استيأس الرسل عن إيمان قومهم ؛ وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما أوعدوا من العذاب أنه نازل بهم ؛ لما أبطأ عليهم العذاب (٦).

وقال بعضهم : وظنوا أنهم ؛ أي ظن قومهم ؛ أن رسلهم قد كذبوهم خبر السماء جاءهم نصرنا.

فإن كان الآية في أتباع الرسل ؛ على ما ذكر بعضهم ؛ فهو كقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤].

فإن كانت (٧) في غيرهم من المكذبين ؛ فقد جاء الرسل نصر الله.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : كذبوهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : بها.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٢٢) (٢٠٠٣٢ ، ٢٠٠٣٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٧٦) وزاد نسبته لأبي عبيد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق عروة عن عائشة.

(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣١٦) (١٩٩٩٦ ، ٢٠٠٠٢ ، ٢٠٠٠٤) عن ابن عباس.

(٧) في ب : وكان.

٢٩٩

وقوله : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين ؛ فهو في ظاهره خبر على المستقبل ؛ أي : ينجي من يشاء من هؤلاء المؤمنين.

ويشبه أن يكون على الخبر في أولئك ؛ فإن كان على هذا ؛ فيجيء أن يكون نجينا من نشاء (١) منهم ؛ وأهلكنا من نشاء منهم ، لكن يجوز هذا في اللغة ، أو يكون في الآخرة ننجي من نشاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

أي لا يرد عذابنا إذا نزل عن المجرمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

يحتمل قوله : (فِي قَصَصِهِمْ) قصة يوسف وإخوته وغيره ؛ عبرة لأولى الألباب. ويحتمل (قَصَصِهِمْ) : قصص الرسل والأمم السالفة جميعا عبرة لأولى الألباب ، والاعتبار إنما يكون لأولى الألباب ؛ الذين ينتفعون بلبهم (٢) وعقلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى).

يحتمل ؛ أي : ما حديث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وما أخبر من القصص وأخبار الرسل والأمم السالفة ؛ بالذي افتري ؛ بل إنما أخبر ما كان في الكتب السالفة على غير تعلم منه ولا دراسة كتب.

ويحتمل : ما كان هذا القرآن بالذي يقدر أن يفترى.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

أي : تصديق الذي نزل على رسول الله ـ الكتب التي كانت من قبل.

(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).

أي تفصيل ما للناس حاجة إليه.

(وَهُدىً) من الضلالة لمن اهتدى.

(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وفيما ذكر من قصة يوسف وإخوته على رسول الله دلالة التصبير (٣) على [أذى](٤) قريش ؛ يقول : إن إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع موافقتهم إياه في الدين والنسب والموالاة ـ عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر به ؛ فقومك ـ مع مخالفتهم إياك في الدين ـ أحرى أن تصبر على أذاهم. وبالله العصمة.

__________________

(١) في ب : شئنا.

(٢) في أ : بنيتهم.

(٣) في أ : التصبر.

(٤) سقط في ب.

٣٠٠