تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقول الله ـ عزوجل ـ : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). يوسف ـ لما سئل عن تأويل الرؤيا ـ دعاهم إلى توحيد الله ودلهم عليه ؛ فقال : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، وقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، أي : عبادة رب واحد وإرضاؤه خير أم عبادة عدد وإرضاء نفر؟ لأنه إذا عبد بعضا واجتهد في إرضائهم أسخط الباقين ؛ فلا سبيل إلى الوصول إلى مقصوده والظفر بحاجته ؛ إذ لا يقدر على إرضائهم جميعا ، وإن اجتهد ، وأما الواحد : فإنه يقدر على إرضائه ؛ إذ لا يزال يكون في عبادته وإرضائه ؛ فيصل إلى حاجته والظفر بمقصوده.

والثاني : يخبر أن الواحد القهار يقهر غيره من الأرباب ومن تعبدون ؛ فعبادة الواحد القهار خير من عبادة عدد مقهورين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ).

من الأصنام والأوثان.

(إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها).

آلهة.

(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ).

ولا يستحقون العبادة ولا التسمية بالألوهية ؛ إنما المستحق لذلك : الذي خلقكم وخلق السموات والأرض.

(ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

أي : ما أنزل الله على ما عبدتموهم وسميتم أنتم وآباؤكم آلهة من حجة ولا برهان.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ).

أي : ما الحكم ـ في الألوهية والربوبية والعبادة ـ إلا لله [ليس كما تقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] يقول : ما الحكم في العبادة والألوهية إلا لله](١).

أو يقول : ما الحكم في الخلق إلا لله ؛ كقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] أي : له الخلق وله الأمر في الخلق.

و (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

حكمه هذا : أمر ألا تعبدوا إلا إياه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٢٤١

أي : عبادة الله وتوحيده هو الدين القيم ؛ لأنه دين قام على الحجة والبرهان ، وأمّا سائر الأديان فليست بقيمة ؛ إذ لا حجة قامت عليها ولا برهان.

والقيم : هو القائم الذي قام بحجة وبرهان ، وقال أهل التأويل : القيم : المستقيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

يحتمل : لا يعلمون ؛ لما لم يتفكروا فيه ولم ينظروا ؛ فلم يعلموا ، ولو نظروا فيه وتفكروا لعلموا ، وهذا يدلّ أن العقوبة تلزم ـ وإن جهل ـ إن أمكن له العلم به ؛ فلا عذر له في الجهل إذا أمكن العلم به.

أو علموا لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم ؛ فنفى عنهم العلم لذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ).

هو ما ذكرنا أنه تأويل رؤيا الساقي ، وعبرها على (١) العود إلى ما كان يعمل من قبل ؛ لما رأى أنه كان عمل على ما كان يعمل من قبل.

وعبر رؤيا الخبّاز بالهلاك ؛ لما رأى أنه حمل الخبز على الرأس ، والخبز إذا خبزه الخباز لا يحمله على رأسه ؛ فرأى أنه قد انتهى أمره ؛ إذ عمل على خلاف ما كان يعمل من قبل ؛ فتأكل الطير من رأسه ، فعبّر أنه يصلب وتأكل من رأسه لما رأى أنه حمل الخبز على رأسه ؛ لما كان يخبز من قبل للعباد ، فلما رأى أنه يخبز لغيره عبر أنه يهلك فتأكل الطير من رأسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

قال بعض أهل التأويل : إنه لما عبر لهما رؤياهما ، قال الذي عبر له الصلب والقتل : لم أر شيئا ؛ إنما كنا نلعب (٢) ، فقال لهما يوسف : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي : فرغ وانتهى ، لكن هذا لا يعلم : أقالا ذلك أم لم يقولا ، سوى أن فيه أنه عبّر رؤياهما ، وكان ما عبّر لهما ، وقد علم ذلك بتعليم من الله إياه ؛ بقوله : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا).

قال بعضهم : ظن الذي صدق [يوسف : أنه يسقي ربه ، وأنه ناج.

__________________

(١) في أ : عن.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢١٨ ، ٢١٩) (١٩٣٠٢ ، ١٩٣٠٥) عن ابن مسعود ، (١٩٣٠٦) عن ابن إسحاق ، (١٩٣٠٨ ، ١٩٣٠٩) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن مسعود ، ولأبي الشيخ عن مجاهد وقتادة بمثله.

٢٤٢

وقال بعضهم : قال يوسف للذى ظن أنه ناج منهما ، بجعل الظن ليوسف ، فإن كان الذي ظن](١) هو ذلك الرجل ؛ فكان الظن في موضع الظن ؛ وإن كان الظانّ هو يوسف ـ فهو علم ويقين ؛ أي : علم وأيقن أنه ناج منهما ؛ لأنه لا يحتمل أن يشك فيما يعبر وقد علمه الله تأويل الأحاديث بقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [يوسف : ٦] ، وقال : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف : ٣٧].

ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف ؛ أي : وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه ، وهو على التقديم والتأخير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).

قال بعض أهل التأويل : إن يوسف لما فزع إلى غير الله [وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه الله فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير الله](٢) ؛ ويدفع قلبه عن الله ويشغله بمن دونه ، لكنه رأى ـ والله أعلم ـ أن الله ـ عزوجل ـ جعل سبب نجاته على يديه ، وأنه بقي فيه منسيّا ؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن ، سوى الاعتذار إلى الناس ، والاعتلال لهم على نفى ما اقترفت به زوجته ، أو لينقطع ذلك الخبر [عن ألسن](٣) الناس ، ويبعد عن أوهامهم ، فرأى أنه إذا ذكّره ؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه ؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن الله.

وهكذا جعل الله تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب.

وعلى ذلك تعبّد عباده ؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من الله ؛ نحو : ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها ، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك ، وإنما يحاربون بالله ، وبه يقاتلون ، ومن عنده ينصرون.

وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب ؛ فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] ، وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير الله ، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب ؛ بل رأى ذلك كله من الله ومن عنده ؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله ، ورأى نجاته من عند ذلك ، ولكن للوجه الذي ذكرناه. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٣) في ب : عن الخلق ألسن.

٢٤٣

يحتمل وجهين : أحدهما : اذكرني عند ربك ؛ لعلي حبست بلا علم منه وبغير أمره ؛ لأن تلك المرأة هي التي أوعدت له السجن ؛ فوقع عنده أنها هي التي احتالت فى (١) حبسه ؛ فقال لذلك ما قال.

والثاني : يقول : اذكرني بالذي رأيت مني وسمعت ؛ لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد ؛ حيث قال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ).

قال بعض أهل التأويل : أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه وخلقه ؛ فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة ربّ (٢).

وقال بعضهم : قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) الذي قال له يوسف : اذكرني عند ربك ذكر ربه ، وهذا أشبه ، والأوّل بعيد ؛ لأنه قال في آخره : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] ، أي : بعد حين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) [يوسف : ٤٥] دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان على ذلك الرجل فلم يذكره عنده حينا.

وقال بعضهم : لم ينسه الشيطان ، ولكن تركه عمدا ؛ لم يذكره عنده ؛ لعله يتذكر ما تقدم من المقال فيزداد غضبا عليه ، فتركه عمدا إلى أن جاء وقته ـ والله أعلم ـ وأضاف الإنساء إلى الشيطان ، وكذلك قال موسى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف : ٦٣] ، فهو ـ والله أعلم ـ لأن بدء كل شرّ يكون من الشيطان ؛ لأنه يخطر بباله ويقذف في قلبه ويوسوسه ، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك والفعل ، وفائدة النسيان ـ والله أعلم ـ هو أن الله تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته ؛ بكونه في السجن ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أولئك النسوان ، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

قال بعضهم : خمس سنين. وقال بعضهم : سبع سنين (٣) ؛ ونحو ذلك.

__________________

(١) في أ : على.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢١) (١٩٣٢٥) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢٢) عن كل من : قتادة (١٩٣٣٠ ، ١٩٣٣١) ، ووهب بن منبه (١٩٣٣٢) ، وابن جريج (١٩٣٣٣).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٨) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة ، ولعبد الرزاق وأحمد في الزهد ، وابن المنذر وأبي الشيخ عن وهب بن منبه ، ولابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش عن الكلبي ، ولأبى الشيخ عن قتادة.

٢٤٤

ولكن لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى [أنه](١) لبث فيه حينا.

وقال أبو بكر الأصم : قوله : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [سماهم : أصحاب السجن ؛ لأنهم كانوا في السجن ، كما يقال : أصحاب النار ، وأصحاب الجنة ، ونحوه ، لكنه لو كان ما ذكر لقال : يا صاحبا السجن](٢) بالألف ؛ فلما لم يقل هذا دل أنه أضافه إلى نفسه ؛ كأنه قال : يا صاحبي في السجن ؛ لأنهما كانا معه في السجن.

وقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

قيل : فرغ (٣).

وقيل : انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية [الإسراء : ٤].

وقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) كأنه بلغ إليهما وحيا أوحى إليه وأمر به ؛ أي : هو كائن من غير رجوع كان منهما ؛ على ما يقوله أهل التأويل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ).

ذكر أنه رأى ، وليس فيه ذكر أنه رأى في المنام ، ولكن ذكر في آخر الرؤيا ؛ دل أنه رأى في المنام بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

وفيه : أن من الرؤيا ما هو حق ولها حقيقة ، ومنها باطل لا حقيقة لها ؛ لأنه قال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) فكأن ، الرؤيا هي حق ، ولها حقيقة ؛ بتأويل (٤) عواقبها ، وأضغاث أحلام : لا حقيقة لها.

__________________

(١) في أ : أن فيه أن.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٧).

(٤) في ب : تتأمل.

٢٤٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ).

أما البقرات : هي السنون ، والسمان : هي المخصبات الواسعات.

(يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ).

العجاف : هي المجدبات.

(وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ).

السنبلات : سنبلات ، وخضر : عبارة عما يحصد.

(وَأُخَرَ يابِساتٍ).

عبارة عما لا يحصد أي : لا يكون فيه ما يحصد.

فيه دلالة أن في الرؤيا ما يكون مصرحا مشارا إليه يعلم بالبديهة ، ومنها ما يكون كناية مبهما غير مفسر ؛ لا يعلم إلا بالنظر فيها والتفكر (١) والتأمل ؛ لأنه قال : (أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ) ، وسبع : هو سبع لا غير ، وبقرات : هن كناية عن السنين ، وسمان : كناية عن الخصب والسعة ، يأكلهن على حقيقة الأكل لا غير.

وكذلك (سَبْعٌ عِجافٌ) السبع : هو سبع ، والعجاف : كناية عن الشدة والجدب ، وسبع سنبلات : هنّ عين السنبلات ، وخضر : هن كناية عما يحصد ، ويابسات : كناية عما لا يكون فيه ما يحصد.

ففيه : أن من الخطاب ما لا يكون مصرحا مبينا مشارا إليه ؛ يفهم المراد منه بالبديهة وقت قرع الخطاب السمع ، ومنه ما يكون مبهما غير مفسر ؛ فهو على وجهين :

منه ما يفهم بالنظر فيه والتفكر.

والثاني : لا يفهم بالبديهة ولا بالنظر فيه والتفكر ، إلا ببيان يقرن به سوى ذلك ، على هذا تخرج المخاطبات فيما بين الله وبين الخلق والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

خاطب الأشراف من قومه والعلماء بقوله : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) على ما ذكرنا فيما تقدم أن الملأ : هو اسم للأشراف منهم والرؤساء ، وهكذا العادة في الملوك ؛ أنهم إذا خاطبوا إنما يخاطبون أعقلهم وأعظمهم منزلة عندهم وأكرم مثواهم.

دلّ قوله : (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أنه إنما رأى ذلك في المنام والله أعلم.

وقوله : (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ...) الآية.

__________________

(١) في ب : الفكر.

٢٤٦

كأنه (١) نهاهم أن يتكلفوا التعبير للرؤيا التي رآها ؛ إذا لم يكن لهم بها علم ، وكذلك الواجب على كل من سئل عن شيء لا يعلم ألا يشتغل به ، ولا يتكلف علمه ؛ إذا لم يكن له به علم ؛ حيث قال : (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ).

قال بعضهم : أباطيل أحلام كاذبة وقال بعضهم : أخلاط أحلام (٢) ؛ مثل أضغاث النبات تجمع فيكون فيها ضروب مختلفة ، وهو كما قيل في قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] أي : جماعة من أغصان الشجر.

وقال بعضهم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : الضغث ، والأضغاث : ما لا يكون له تأويل (٣) ، ويقال لنوع من الكلأ : ضغث وهو الحلفا ؛ يشبه البردي وغيره.

وقيل : إن الضغث والأحلام : هما اسمان لشيء لا معنى له ، ولا تأويل ، وهما واحد ، وأصل الأحلام : كأن مخرجه من وجهين :

أحدهما : العقول ؛ دليله : قوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) [الطور : ٣٢] أي : عقولهم (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الطور : ٣٢].

والثاني : من الاحتلام ، وهو [ما ذكرنا](٤) من الحلم ؛ كقوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ...) [النور : ٥٩] : الآية فيشبه أن يكون يخرج على هذا ؛ لأن الصبي ما لم يعقل لا يلعب به الشيطان ، ولا يحتلم ؛ لأن (٥) الاحتلام هو من لعب الشيطان به ، فسمى الرؤيا الباطلة الكاذبة أحلاما ؛ لأنها من لعب الشيطان به ، كما سمى احتلام الصبى حلما ؛ لأنه إذا بلغ العقل لعب به الشيطان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ).

يحتمل قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) لما لا تأويل لها ؛ كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، وقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أي : لا شفيع لهم.

__________________

(١) في ب : كأنهم.

(٢) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢٢٤) (١٩٣٤٢) عن قتادة ، (١٩٣٤٥) وعن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٩) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

قلت : لم أجده في ابن جرير بهذا اللفظ ، إنما هو بلفظ «كاذبة» وعزاه السيوطي أيضا لابن جرير عن الضحاك ، ولأبى عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) انظر التعليق في البحر المحيط (٥ / ٣١١).

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : كأن.

٢٤٧

ويحتمل قوله : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) لها تأويل ، ولكن نحن لا نعلمها (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما).

من الهلاك ، وهو الساقى الذي ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).

أي : تذكر بعد أمّة ، قال الأمّة ـ هاهنا ـ : الحين ، أي : ذكر بعد حين ووقت ؛ كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] قيل : حين ووقت معدود (٢) ، وقال الحسن : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد أمّة من الناس (٣).

ويقرأ بعد أمه قال أبو عوسجة : الأمة : النسيان والسهو ؛ أي : تذكر بعد نسيان وسهو ؛ كقوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] يقال منه في الكلام : أمه يأمه أمها ؛ فهو آمه ، وأمه ؛ أي : نسي.

والأمة : من الأمم والقرون التي مضت.

والأمة : النعمة ، والأمم جمع.

والأمة أيضا : الدّين والسّنة ؛ كقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] أي : على دين.

__________________

(١) اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ جعل هذه الرؤيا سببا لخلاص يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من السجن ؛ وذلك أن الملك لما رأى ذلك ، قلق واضطرب بسببه ؛ لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل ؛ فشهدت فطرته بأن هذا أمر عداوة وقدر بنوع من أنواع الشر ، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه.

والشيء إذا صار معلوما من وجه ، وبقي مجهولا من وجه آخر ـ عظم شوق النفس إلى تمام تلك المعرفة ، وقويت المعرفة في إتمام الناقص ، لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة ، وكان ذلك الشيء دالّا على الشر من بعض الوجوه ، فبهذا الطريق قوّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتفسير هذه الرؤيا ، وأنه ـ تعالى ـ عجّز المعبّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة ؛ ليصير ذلك سببا لخلاص يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ من تلك المحنة.

واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير ؛ بل قالوا : إن علم التعبير على قسمين :

منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة ؛ فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية.

ومنه ما يكون مختلطا مضطربا ، ولا يكون فيه ترتيب معلوم ، وهو المسمى بالأضغاث.

ينظر اللباب (١١ / ١١٨).

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢٧) (١٩٣٥٤ ، ١٩٣٥٥ ، ١٩٣٥٦) وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.

٢٤٨

ويقال : الأمة : القامة أيضا ؛ يقال : فلان حسن الأمة ؛ أي : حسن القامة ، ويقال : الأمم : القريب.

فهو يحتمل هاهنا الوجهين اللذين ذكرناهما ؛ أي : ذكر بعد حين ووقت ، أو بعد نسيان ؛ من قرأه بالنصب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ).

معناه : أي أنا أنبئكم ببيان تأويلها لا أنه كان ينبئهم هو بنفسه ؛ ألا ترى أنه قال : (فَأَرْسِلُونِ). (يُوسُفُ) فيه إضمار ؛ كأنه قال : فأرسلوني إلى يوسف ، وليس في تلاوة الآية أنه أرسل إليه ، ولا إتيانه إليه ، ولكن فيه دليل أنه أرسل إليه فأتاه ؛ فلما أتاه قال له : (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ).

قيل : الصدّيق : هو كثير الصدق (١) ؛ كما يقال : شرّيب وفسّيق وسكّير ؛ إذا كثر ذلك منه ، والصديق : هو الذي لم يؤخذ عليه كذب قط ، أو سماه صديقا لما عرف أنه رسول الله ، وهو ما قال في إبراهيم (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٤١].

أو يقول : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي : أنا أتعلم منه ؛ فأنبئكم بتأويله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ).

فأفتاها له وعبرها عليه ؛ وهو ما قال : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) إلى آخر ما ذكر.

وقوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ).

هذا تفسير (٢) رؤيا الملك للذي سأله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).

هذا يحتمل وجوها :

يحتمل : يعلمون أن هذه الرؤيا حق ولها حقيقة ؛ ليس كما قال أولئك : أضغاث أحلام.

والثاني : يعلمون فضلك على غيرك من الناس ، أو يعلمون أنك تصلح لحاجاتهم التي في حال يقظتهم ؛ فيرفعونها إليك ؛ كما أصلحت ما كان لهم في حال نومهم ، ثم علمهم الزراعة ، وجمع الطعام (٣) والادخار أن كيف يدّخر حتى يبقى إلى ذلك الوقت ، فقال :

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٩) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٥ / ٣١٤).

(٢) في أ : تعبير.

(٣) في أ : الطاعات.

٢٤٩

(تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قال بعضهم : أي : دائما ؛ أي : تداومون الزراعة فيها. وقال أبو عوسجة : دأبا : من الدوب ؛ من الجدّ والتعب.

وقال القتبي (١) : دأبا : أي : جدّا في الزراعة ومتابعة. وكله واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ).

لا تنقوه ؛ لأن ذلك أبقى له من إذا نقي وميز ، إلا قليلا مما تأكلون ؛ فتنقونه إن شئتم ؛ أي : قدر ما تأكلون.

وقوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ).

قيل : مجدبات من الشدة (٢).

(يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ).

أي : ما ادخرتم لهن.

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ).

قال بعضهم : تدخرون (٣).

وقال بعضهم : تحرزون (٤).

قال أبو عوسجة : أحصنته ، أي : ادخرته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ).

قال بعضهم : هو من الغيث ؛ وهو المطر ؛ أي : يمطرون (٥). وقيل : يغاثون بالمطر ؛ من الإغاثة والغوث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).

قال بعضهم : هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره (٦) ؛ إنما هو إخبار عن

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢١٨).

(٢) ذكره بمثله البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٩).

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢٩) (١٩٣٨٠) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٠ ، ٤١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢٩) (١٩٣٨٢) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٢٩).

(٥) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢٢٩ ، ٢٣٠) عن كل من : قتادة (١٩٣٨٥) ، والضحاك (١٩٣٨٦) ، وابن عباس (١٩٣٨٧) ، مجاهد (١٩٣٨٨).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٦) أخرجه ابن جرير بمثله (٧ / ٢٣٠) عن كل من : ابن عباس (١٩٣٨٩ ، ١٩٣٩٠ ، ١٩٣٩١) ، ومجاهد (١٩٣٩٢) ، وقتادة (١٩٣٩٥ ، ١٩٣٩٦).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤١) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق آخر عن ابن عباس ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

٢٥٠

الخصب والسعة.

وقال بعضهم : قوله : (يَعْصِرُونَ) أي : ينجون ؛ يقول : من العصر يعني الملجأ : أي يلجئون إلى الغيث ، والعصرة المنجاة ؛ وهو قول أبي عبيدة (١). وأمّا قول غيره من أهل الأدب والتأويل : فهو من العصر ؛ يعني : عصر العنب وغيره والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) يعني : يوسف [فلما جاءه الرسول ، قال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) : فيه دلالة أن قول يوسف](٢) للرجل.

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).

إنما طلب بذلك براءة نفسه فيما اتهم به ، ليس كما قال أهل التأويل ؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان لا يرد الرسول إليه ولكنه خرج والله أعلم.

وقوله : (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ).

يحتمل هذا من وجهين :

أحدهما : أهنّ على كيدهن بعد ، أم رجعن عن ذلك؟

والثاني : ليعلم الملك براءته مما قرف به واتهم. [ليظهر عنده أنه كان بريئا مما قرف به واتهم](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).

إنهن كدن ثم قال لهن الملك : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) هذا يدل أن

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣١٣).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٢٥١

الملك قد علم أنهن راودن يوسف عن نفسه ؛ لأنه قال : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَ) ولم يقل لهن : أراودتن أم لا؟ ولكنه قطع القول فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

بدأ بهن حتى أقررن أنه كان بريئا ما قرف به واتهم ، ثم أقرت امرأة الملك بعد ذلك لما أقر النسوة ؛ فقالت :

(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ).

قيل : الآن تبين الحق وتحقق (١).

(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [يوسف : ٢٦].

وقوله : (ما خَطْبُكُنَ) ما شأنكن وأمركن ، والخطب : الشأن ، وراودتن : قد ذكرناه.

وقوله : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ).

قيل : معاذ الله (٢) ، وقيل : هي كلمة تنزيه وتبرئة من القبيح.

وقوله : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

قال أهل التأويل : الزنا ، ولكن قوله : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) هو السوء الذي قالت ، (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [يوسف : ٢٥] هو ذلك السوء قالت إنه أراده بها قلن ما علمنا منه ذلك.

وقوله : (حَصْحَصَ الْحَقُ).

قد ذكرناه أنه تبين وتحقق (٣).

وفي قوله : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

دلالة أن لم يكن منه ما قاله [أهل](٤) التأويل من حلّ السراويل وغيره ؛ لأنه لو كان منه ذلك لكنّ (٥) قد علمن منه السوء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).

قوله : ذلك الرد الذي كان منه وترك الإجابة لرسول الملك ؛ حيث قال : (ائْتُونِي بِهِ)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٥) عن كل من : ابن عباس (١٩٤١٤) ، ومجاهد (١٩٤١٥ ، ١٩٤١٨ ، ١٩٤٢٠) ، وقتادة (١٩٤١٩ ، ١٩٤٢١) ، والسدي (١٩٤٢٢ ، ١٩٤٢٣) ، والضحاك (١٩٤٢٤) ، وابن إسحاق (١٩٤٢٥).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٢) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : الحق.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : لكان.

٢٥٢

ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب ؛ في أهله إذا غاب عني (١) ؛ ردّا لقولها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) وتصديقا لقوله ؛ حيث قال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [يوسف : ٢٦].

وقال بعض أهل التأويل : ذلك ليعلم الله أني لم أخنه ؛ يعني الزوج بالغيب (٢) ، لكن هذا بعيد ، إنه قد علم يوسف أن الله قد علم أنه لم يخنه بالغيب.

وقول أهل التأويل لما قال يوسف : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له الملك : ولا حين هممت ما هممت؟ فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) : هذا مما لا نعلمه (٣).

وقد ذكرنا التأويل في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤] ما يحل ويسع أن يتكلم به ، وفساد تأويل أهل التأويل من الوجوه التي ذكرنا.

__________________

(١) دلت هذه الآية على طهارة يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من الذنب من وجوه :

الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وطلبه ، فلو كان يوسف متّهما بفعل قبيح ، وقد كان صدر منه ذنب ، وفحاش ـ لاستحال بحسب العرف والعادة ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة ، وكان ذلك سعيا منه في فضيحة نفسه ، وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.

والثاني : أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ، ونزاهته (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ، وفي المرة الثانية : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

والثالث : أن امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته ، حيث قالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ، وفي المرأة الثانية قولها : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ، وهذا إشارة إلى أنه صادق في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

والرابع : قول يوسف (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).

قال ابن الخطيب : والحشويّة يذكرون أنه لما قال هذا الكلام ، قال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : ولا حين هممت. وهذا من روايتهم الخبيثة ، وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن.

والخامس : قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ، يقتضي أن الخائن لا بد أن يفتضح ؛ فلو كان خائنا لوجب أن يفتضح ، ولمّا خلصه الله من هذه الورطة ، دل ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.

ينظر : اللباب (١١ / ١٣٠ ، ١٣١).

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٢٣٥ ، ٢٣٦) عن كل من : مجاهد (١٩٤٣٠) ، وأبي صالح (١٩٤٣٣) ، والضحاك (١٩٤٣٤).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٣) وزاد نسبته لابن عبيد وابن المنذر عن مجاهد ، ولابن المنذر وأبي الشيخ عن أبي صالح.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٣٧ ، ٢٣٩) عن كل من : ابن عباس (١٩٤٣٥ ، ١٩٤٣٦ ، ١٩٤٣٧) ، وسعيد ابن جبير (١٩٤٣٨ ، ١٩٤٤٠ ، ١٩٤٤٣) ، وأبي الهذيل (١٩٤٤١ ، ١٩٤٤٢) ، والحسن (١٩٤٤٤ ، ١٩٤٤٥) ، وأبي صالح (١٩٤٤٦ ، ١٩٤٤٧) ، وقتادة (١٩٤٤٨ ، ١٩٤٤٩) ، وعكرمة (١٩٤٥٠).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٣) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ عن أبي صالح ، ولابن المنذر عن الحسن وابن جبير ، ولابن المنذر وعبد بن حميد عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم عن قتادة.

٢٥٣

ومعنى قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي).

أى : عصم ربي. والله أعلم.

إنه لما قال ذلك ؛ (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ؛ لما عصمني الله عن ذلك ، ولو لم يكن عصمنى لكنت أخونه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي : [ما](١) عصم ربي ؛ لأن النفس جبلت وطبعت على الميل إلى الشهوات واللذات ، والهوى فيها والرغبة والتوقي عن المكروهات والشدائد ؛ ألا ترى أنه قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ ـ ٤١] أثبت للنفس الهوى وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها ، هذا يدل أن قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) هو محبة الاختيار والإيثار في الدين لا ما تختار النفس وتؤثر ، النفس أبدا تختار وتؤثر ما هو ألذّ وأشهى ، وتنفر عن الشدائد والمكروهات ، على هذا طبعت وجبلت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي : [لا يجعل](٢) فعل الكيد والخيانة هدى ورشدا ، إنما يجعل فعل الكيد والخيانة ضلالا وغواية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) [أي : أجعله لنفسي خالصا لحوائجي وأن يكون قوله : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)](٣) :

أصدر لرأيه وأطيع أمره ، في هذا يقع استخلاصه إياه ؛ ولذلك قال : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ...) الآية لا أن يجعله لحاجة نفسه خالصا دون الناس لا يشرك غيره فيه ؛ دليله ما ذكر في حرف حفصة إنك اليوم لدينا مطاع أمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ).

ولم يذكر فيه أنه أتى به ، ولكن قال : فلما كلمه ؛ فهذا يدل أنه قد أتى به وإن لم يذكر أنه أتى به ؛ حيث قال : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) قيل : المكين : الوجيه ، وقيل : المكين : الأمين المرضي عندنا والأمين على ما استأمناك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ).

سأل هذا لما علم أنه ليس في وسعهم القيام بإصلاح ذلك الطعام ، وعلم أنه لو ولي غيره الخزائن لم يعرف إنزال الناس منازلهم ؛ في تقديم من يجب تقديمه ، والقيام بحاجة الأحق من غيره. وعلم أنه إليه يرجع ، ويقع حوائج أكثر الناس ، وبه قوام أبدانهم ؛ فسأله

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : لا يحتمل ، وفي ب : يجعل.

(٣) سقط في أ.

٢٥٤

ليقوم بذلك كله ، وعلى يديه يجري.

ولذلك قال : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

قال بعضهم : حفيظ لما (١) وليت عليم بأمره (٢).

وقيل : حفيظ أي : حاسب ، عليم : أي بالألسن كلها. وقيل : حفيظ لما في الأرض من غلة ؛ عالم بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه : حفيظ لما تحت يدي ، عليم بالناس. وقيل : حفيظ بصير بتقديره عالم بساعات الجوع حين يقع (٣) ، إني حفيظ لما استحفظت عليم بحوائج الناس ، أو عليم بتقديم الأحق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : كما برأنا يوسف مما قرف به ، وأظهرنا براءته منه ؛ مكناه (٤) في الأرض حتى احتاج أهل نواحي مصر وأهل الآفاق إليه.

أو أن يقال : كما حفظناه وأنجيناه ؛ مما قصد به إخوته من الهلاك ؛ نمكن له في الأرض. وجائز أن يكون قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) جوابه : كما مكنا ليوسف في الأرض بعد ما أخرج من عليه الإيواء (٥) والضم ، كذلك نمكنك في الأرض ونؤوي ؛ بعد ما أخرجك من عليه إيواؤك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ).

أي : ينزل منها حيث يشاء ، أو يسكن منها حيث يشاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ).

يحتمل قوله : (بِرَحْمَتِنا) سعة الدنيا ونعيمها ؛ كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢].

ويحتمل (بِرَحْمَتِنا) : أمر الدين من النبوة والعصمة ، وهو على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : ليس لله أن يختص أحدا برحمته (٦) ولا يصيب من رحمته إنسانا دون إنسان ، وعلى قولهم لم يكن من الله إلى رسول من الرحمة إلا وكان إلى إبليس مثله.

__________________

(١) في ب : بما.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٤١) (١٩٤٦٣) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٤١) (١٩٤٦٤) عن شيبة الضبي ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٤٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي.

(٤) في ب : ملكناه.

(٥) في أ : الإبراء.

(٦) في ب : بالرحمة.

٢٥٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

أي : لا نضيع أجر من أحسن صحبة الله في الدنيا والآخرة ؛ أي نجزيه جزاء إحسانه أو يقول : ولا نضيع أجر من أحسن صحبة نعم الله وقبلها بالشكر له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

أي ثواب الآخرة وأجرها خير لهم من ثواب الدنيا وأجرها.

وقوله : (آمَنُوا).

صدقوا.

(وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك. أو (آمَنُوا) صدقوا ؛ (وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصى والفواحش.

قوله تعالى : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

لما أراد الله أن يبلغ أمر يوسف ؛ فيما أراد أن يبلغ جعلهم بحيث لا يعرفونه ؛ لذلك قال : (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي : لا يعرفونه ؛ كقوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الحجر : ٦٢] أي : غير معروفين عند إبراهيم ، والمنكر : هو الذي لا يعرف في الشرع ولا في العقل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ).

أي : أعطى لهم الطعام الذي طلبوا منه.

قال أبو عوسجة : الجهاز : المتاع. والجهاز ـ أيضا ـ : متاع المرأة التي تجهز به ، ولا يقال : جهاز بخفض الجيم.

وقال أهل التأويل : إن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قال لهم حين دخلوا عليه أنتم عيون ؛ بعثكم ملككم تنظرون إلى أهل مصر ثم تأتونه بالخبر وتأتونه بكذا (١).

ذلك مما لا نعلمه أنه قد كان قال لهم ذلك أم لا ، وغير ذلك من الكلمات التي قالوا : إنه قال لهم كذا وقالوا هم له كذا ، نحن كذا كذا رجلا ؛ فهلك منا كذا ، ولنا أب كذا : مثل

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٤٣) (١٩٤٧١) عن السدى ، وذكره بمثله السيوطي في الدر (٤ / ٤٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي الجلد.

٢٥٦

هذا لا يكون كلام الأنبياء إنما هو كلام بعض العوام الغوغاء. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

مثل هذا لا يحتمل أن يقوله يوسف ابتداء ؛ على غير سبب أو كلام كان هنالك ، لكنه لم يذكر الذي كان ؛ ونحن لا نعرف ما الذي كان جرى هنالك فيما بينهم.

وكذلك قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

أمّا أهل التأويل فإنهم قالوا : قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم إلى آخر ما ذكر ؛ لأنه لما قال لهم : إنكم جئتم عيونا لملككم ؛ فأمر بحبسهم ، فقالوا : نحن بنو يعقوب النبي ، وكنا اثنى عشر رجلا ؛ فهلك منا رجل في الغنم ، ووجدنا على قميصه دما ؛ فأتينا أبانا فقلنا : كذا ، وقد خلفنا عند أبينا أخا له ؛ من أم الذي هلك ؛ فعند ذلك قال [لهم](١) : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لكن هذا الذي ذكروا لا يكون سببا ولا جوابا له ، وقد ذكرنا أنه لا يصح هذا الكلام مبتدأ ، لكنا نعلم بالعقل أنه كان هنالك سبب ، ومعنى أمر يوسف أن يقول لهم ذلك ، وإلا لا يحتمل أن يقول لهم يوسف : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) وهو كان يعلم أن أباه يعقوب يحتاج إلى طعام ، ويعرف حاجتهم في ذلك ـ هذا لا يسع إلا بسبب كان ؛ فأمر يوسف بذلك.

وقوله : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) فيما يستقبل ؛ أي : لا تأتوني. والله أعلم.

ويحتمل قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) وجهين :

أحدهما : قال ذلك لهم ؛ إنه يوفي لهم الكيل ؛ لأن أهل ذلك المكان كانوا ينقصون ويخسرون الكيل في الضيق ؛ فقال هو : ألا ترون أني أوفي الكيل ولا أبخس.

والثاني : ألا ترى أنى أوفي الكيل على غير الحاجة ؛ وكان يجعل لغيرهم الطعام على الحاجة ؛ لضيق الطعام.

إني أوفي الكيل على قدر الحاجة وأنا خير المنزلين في الإحسان إليكم والتوسيع عليكم ؛ لأن أهل ذلك المكان لا يحسنون إلى النازلين بهم ، ولا يوسعون [عليهم](٢) ؛ لضيق الطعام. وكأن قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) مؤخر عن قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ؛ كأنه قال : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ؛ فعند ذلك قال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

٢٥٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ).

هذا الكلام في الظاهر ليس هو جواب قول يوسف ؛ حيث قال : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وجوابه أن يقولوا له : نأتي به أو لا نأتي ، فأما أن يجعل قولهم : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) جوابا له ؛ فلا يحتمل مع ما أن في قلوبهم سنراود عنه اضطراب ؛ يملكون أو لا يملكون.

قولهم : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ).

على القطع ؛ لكن يشبه أن يخرج على وجهين :

أحدهما : على الإضمار ؛ سنراود عنه أباه فإن أذن له وإنا لفاعلون ذلك.

أو على التقديم والتأخير يكون جواب قوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) في قولهم : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) كأنه لما قال لهم يوسف : ائتوني بأخ لكم من أبيكم قالوا إنا لفاعلون ، ثم قالوا فيما بينهم : سنراود عنه أباه.

على هذين الوجهين يشبه أن يخرج والله أعلم (١).

وقوله : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ).

قال أبو عوسجة : المراودة : الممارسة ، وهي شبه المخادعة ، وهي المعالجة. وقيل : سنراود : أي سنجهد وسنطلب (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) لفتيته.

الفتية : الخدم ؛ والفتيان : المماليك.

(اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ).

قيل : اجعلوا دراهمهم في أوعيتهم (٣) ، فيه دلالة أن الهبة قد تصح ـ وإن لم يصرح بها ـ إذا وقع في يدى الموهوب له وقبضه ـ وإن لم يعلم هو بذلك ـ وقتما جعل له ؛ لأن يوسف جعل بضاعتهم في رحالهم ؛ هبة لهم منه ؛ وهم لم يعلموا بذلك ، وهو وقتما جعل [ذلك لهم](٤) ملك ليوسف ؛ ولهذا قال أصحابنا : إن من وضع ماله في طريق من طرق المسلمين ؛ ليكون ذلك ملكا لمن رفعه كان ما فعل. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

__________________

(١) ثبت في حاشية ب : ويمكن أن نقول : معنى وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ، أي : المراودة ، كأنهم قالوا : لا بد أن نراوده ونفعل المراودة ، فإن أذن له جئنا به ، وإلا فلا ؛ فلا حاجة إلى ما ذكره ، والله أعلم. كاتبه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٤٤) (١٩٤٧٦) عن ابن إسحاق ، وكذا الرازي (١٨ / ١٣٤).

(٣) ذكره بمثله البغوي (٢ / ٤٣٥).

(٤) في ب : لهم ذلك.

٢٥٨

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يرجعون ؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة لما عسى يقع عندهم أن واحدا منا جعل هذا في متاعنا وأوعيتنا سرّا منهم ففعل يوسف هذا ؛ ليرجعوا ؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة (١).

والثاني : ما قاله أهل التأويل : لما تخوف يوسف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى فجعل دراهمهم في أوعيتهم ؛ لكى يرجعوا إلينا ؛ فلا يحبسهم عنا عدم الدراهم (٢) ؛ لأنهم كانوا أهل ماشية (٣).

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي

__________________

(١) ثبت في حاشية ب : هذا لا يحتمل مع قولهم لأبيهم : هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا كما لا يخفى ، والله أعلم. كاتبه.

(٢) وذكر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوها :

أولها : أنهم إذا فتحوا المتاع ، فوجدوا بضاعتهم فيه ، علموا أن ذلك كرم من يوسف ؛ فيبعثهم ذلك على العودة إليه.

وثانيها : خاف ألا يكون عندهم غيره ؛ لأنه زمان قحط.

وثالثها : رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ، وإخوته ـ مع شدة حاجتهم إلى الطعام ـ لؤم.

ورابعها : قال الفراء ـ رحمه‌الله ـ : إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم ، فيحسبوا أن ذلك وقع سهوا ، وهم أنبياء وأولاد أنبياء ؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعة ؛ نفيا للغلط ، ولا يستحلون إمساكها.

وخامسها : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم منه عتب ولا منّة.

وسادسها : قال الكلبي : تخوف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى.

وسابعها : أن مقصوده أن يعرفوا أنه لم يطلب أخاهم لأجل الإيذاء والظلم ، وإلا لطلب زيادة في الثمن.

وثامنها : أن يعرف أباه أنه أكرمهم ، وطلبهم بعد الإكرام ؛ فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.

وتاسعها : أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمن ، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق ، فوضع الدراهم في رحالهم ؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.

وعاشرها : أنه قابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغة في الإحسان إليهم.

ينظر : اللباب (١١ / ١٤٤ ، ١٤٥).

(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٤٤) ، وكذا البغوي (٢ / ٤٣٥).

٢٥٩

عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ).

فيما يستقبل ويستأنف لقوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

(فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) بالنون ؛ وبالياء (١) : نكتل ، وبالنون أقرب ؛ لأنهم قالوا : منع الكيل منا فأرسل معنا أخانا نكتل ؛ نحن ، يشبه : ويكتل هو إن أرسلته.

(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

لا يحتمل (٢) أن يقولوا له هذا من غير سبب كان هنالك : من خوف خاف عليه أبوهم من ناحيتهم ، وقد اتهمهم ؛ لأنه كان أخوهم من أبيهم ، خاف عليه أن يضيعوه أو إن استقبله أمر لا يعينونه أو أمر كان لم يذكر ، ولسنا ندرى ما ذلك المعنى والله أعلم بذلك.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ).

وفي حرف ابن مسعود (٣) رضي الله عنه : هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل.

في هذا دلالة أن من ظهرت منه تهمة أو خيانة في أمر ، يجوز أن يتهم فيما لم يظهر منه

__________________

(١) قرأ الأخوان حمزة والكسائي : بالياء من تحت ، أي : يكتل أخونا.

والباقون بالنون ، أي : نكتل نحن ، وهو الطعام ، وهو مجزوم على جواب الأمر.

ويحكى أنه جرى بحضرة المتوكل ، أو وزيره ابن الزيات ـ بين المازنى ، وابن السكيت ـ مسألة ، وهى : ما وزن «نكتل»؟ فقال يعقوب : نفتل ؛ فسخر به المازني وقال : إنما وزنها : نفتعل.

قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله ـ : وهذا ليس بخطإ ؛ لأن التصريفين : نصوا على أنه إذا كان في الكلمة حذف أو قلب حذفت في الزنة ، وقلبت ، فنقول في وزن : قمت ، وبعت : فعت ، وفعت ، ووزن «عدة» «علة» ، وإن شئت أتيت بالأصل ؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله : وزن «نكتل» : نفتل ؛ لأنه اعتبر اللفظ ، لا الأصل ، ورأيت في بعض الكتب أن وزنها : «نفعل» بالعين ، وهذا خطأ محض ، على أن الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقن هذا ، ولو أتقنه لقال : وزنه على الأصل كذا ، وعلى اللفظ كذا ؛ ولذلك أنحى عليه المازني ، فلم يرد عليه بشيء.

ينظر : اللباب (١١ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٢) ثبت في حاشية ب : غير محتمل ؛ لأنهم قالوا ذلك لما وقع في أنفسهم أنه لا يأمنهم عليه ؛ لأنه سبق منهم خيانة في أخيه ؛ فقالوا ذلك دفعا له ، وأنا لا نفعل به كما فعلنا بأخيه ، بل نحفظه ، فقال لهم ما قال ، والله أعلم. كاتبه.

(٣) والمعنى أنه : أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف ، وضمنتم لى حفظه حيث قلتم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه ، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك؟! فكما لا يحصل الأمان هناك لا يحصل هنا.

ينظر اللباب (١١ / ١٤٦).

٢٦٠