تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

باعوا حرّا ، وبيع الحر حرام ، وأخذوا ثمنه ظلما حراما ؛ لأن ثمن الحرّ حرام.

وقال بعضهم : (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ) أي : دراهم مبهرجة وزيف.

(وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).

أي : كانت السيارة في يوسف من الزاهدين ؛ حيث باعوه بثمن الدون والنقصان بما لا يباع مثله بمثل ذلك الثمن ؛ خشية أن يجيئهم طالب ؛ لما علموا أن مثل هذا لو كان مملوكا لا يترك هكذا لا يطلب ، فباعوه بأدنى ثمن يكون لهم ، لا كما يبيع الرجل ملكه على رغبة منه ؛ خشية الطلب والاستنقاذ من أيديهم.

وقال عامة أهل التأويل : قوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ) : إن إخوة يوسف هم الذين باعوه من السيارة (١)(بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ، أي : لم يعرفوا منزلته ومكانه.

والأول أشبه.

وقوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).

أي : كانوا في شرائه من الزاهدين ؛ لما (٢) خافوا ذهاب الثمن إن كان مسروقا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ).

أي : مقامه ومنزلته.

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

إن صدق التجار أنه بضاعة عندهم. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

إن ظهر أنه مسروق ، وأنه حر ؛ لما وقع عندهم أن البضاعة لا تباع بمثل ذلك الثمن الذي باعوه.

[وقوله](٣) : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) تأويله ـ والله أعلم ـ : كما مكنا ليوسف عند العزيز وامرأته كذلك نمكنك عند أهل الأرض ، ولكن ذكر (مَكَّنَّا) على الخبر ؛ لأنه كان ممكنا في ذلك اليوم عند العزيز والملك.

ويشبه أن يكون قوله : (مَكَّنَّا) ، أي : كذلك جعلنا ليوسف مكانا ومنزلة عند الناس ، وفي قلوبهم مكان ما خذله إخوته ، ولم يعرفوا مكانه ومنزلته وبعد ما كان شبه المملوك عند أولئك ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٦٦) (١٨٩٠٨) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٨) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٢) في أ : أى.

(٣) سقط في ب.

٢٢١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) هذا قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ).

أي : لا مرد لقضائه إذا قضى أمرا كان كقوله ، (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد : ٤١] (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقال أهل التأويل : إنه بيع بعشرين درهما أو بعشرين [ونيف](١) ؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر سوى أن فيه أنه بيع بثمن الدون والنقصان بقوله : (بَخْسٍ) والبخس هو النقصان ؛ يقال : بخسته ؛ أي : نقصته ؛ كقوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [الأعراف : ٨٥] ؛ أي : لا تنقصوا ، وهو ما قال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤].

وقيل : البخس : الظلم والحرام ، وقد ذكرناه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) الأشد : هو اشتداد كل شيء ونهاية كل نوع في الكمال يحتمل أشده : انتهاء بلوغه أو انتهاء شبابه ، أو انتهاء عقله في التمام ؛ لا يخلو من هذه الوجوه الثلاثة.

وقول أهل التأويل : من ثماني عشرة سنة إلى أربعين ؛ لأنه به يتم ويكمل كل نوع (٢) من ذلك إلى ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

يحتمل قوله : حكما : الحكم بين الناس ، والعلم : في الحكم.

__________________

(١) في أ : زيف.

(٢) في أ : أنواع.

٢٢٢

ويحتمل قوله : (حُكْماً) أي : أعطيناه النبوة ، (وَعِلْماً) : علم الأحاديث وتأويلها ؛ على ما تقدم ذكره.

أو أن يكون إذا أعطاه الحكم أعطاه العلم ، وإذا أعطاه العلم أعطاه الحكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

يحتمل : الإحسان في الأعمال ؛ أي : عمل أعمالا حسنة صالحة.

ويحتمل : الإحسان إلى الناس ؛ أي : أحسن إليهم ، أو أحسن إلى نفسه ؛ لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة.

أو أن يكون قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : كذلك نجزى من أحسن صحبة نعم الله وإحسانه ، وقام بشكر ذلك كذلك ؛ أي : مثل الذي جزى يوسف لا يريد أنه يجزي غيره عين ما جزى يوسف ، ولكن يجزيه جزاء الإحسان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ).

دل قوله : (فِي بَيْتِها) أن البيت قد يجوز أن يضاف إلى المرأة ، وإن كان البيت في الحقيقة لزوجها ؛ على ما أضاف بيت زوجها إليها.

وقوله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) المراودة : قيل : هي الدعوة والطلبة ، راودته ، أي : دعته إلى نفسها (١).

وقال أهل التأويل : (وَراوَدَتْهُ) أي : أرادته.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ).

قيل : إن هذه كلمة (٢) أخذت من الكتب المتقدمة ، ليست بعربية ، ونحن لا نعرف ما أرادت بها ، لكن أهل التأويل قال بعضهم : هلم لك (٣).

وقال بعضهم : تهيأت لك (٤).

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٢ / ٤١٧) ، والبحر لأبي حيان (٥ / ٢٩٣).

(٢) في أ : الكلمة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧٦ ، ١٧٨) عن كلّ من : ابن عباس (١٨٩٧٧ ، ١٨٩٧٨ ، ١٨٩٧٩ ، ١٨٩٨١) ، وزر بن حبيش (١٨٩٨٠ ، ١٨٩٨٨) ، وعكرمة (١٨٩٨٢) ، والحسن (١٨٩٨٣ ، ١٨٩٨٤ ، ١٨٩٨٦ ، ١٨٩٨٧ ، ١٨٩٨٨ ، ١٨٩٩٦) ، والثوري (١٨٩٩٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢١) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس ، ولأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق أخرى عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق أخرى عن ابن عباس.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧٨) عن كل من : عبد الرحمن السلمي (١٩٠٠١) ، وعكرمة (١٩٠٠٢ ، ١٩٠٠٣ ، ١٩٠٠٤) ، وأبي وائل (١٩٠٠٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢١) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وأبي الشيخ عن يحيى بن وثاب ، ولأبي عبيد وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٢٢٣

وفي بعض القراءات (١) : (هَيْتَ لَكَ) بالهمز ، ومعناه ما ذكرنا ؛ أي : تهيأت لك.

__________________

(١) قرأ نافع وابن ذكوان : هيت بكسر الهاء ، وسكون الياء ، وفتح التاء.

وقرأ ابن كثير : هيت بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وتاء مضمومة.

وقرأ هشام هئت بكسر الهاء ، وهمزة ساكنة ، وتاء مفتوحة ، أو مضمومة.

وقرأ الباقون : هيت بفتح الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة. فهذه خمس قراءات في السبع.

وقرأ ابن عباس ، وأبو الأسود ، والحسن ، وابن محيصن : بفتح الهاء ، وياء ساكنة وتاء مكسورة.

وحكى النحاس : أنه قرئ بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.

وقرأ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أيضا : هييت بضم الهاء ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حييت».

وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي إسحاق : بكسر الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مضمومة. فهذه أربع قراءات في الشاذ ؛ فصارت تسع قراءات.

وقرأ السلمي ، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزا ، يعنى : تهيأت لك ، وأنكره أبو عمرو ، والكسائي ، ولم يحك هذا عن العرب ؛ فيتعين كونها اسم فعل في غير قراءة ابن عباس هييت بزنة حييت ، وفي غير قراءة كسر الهاء ، سواء كان ذلك بالياء أم بالهمز ، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفا ، نحو : أين ، وكيف ، ومن ضمها ـ كابن كثير ـ شبهها ب «حيث» ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك «جير» ، وفتح الهاء وكسرها لغتان ، ويتعين فعليتها في قراءة ابن عباس هييت بزنة : «حييت» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلم من : «هيئت الشيء».

ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء وضم التاء ، فتحتمل أن تكون فيه اسم فعل بنيت على الضم ك «حيث» ، وأن تكون فعلا مسندا لضمير المتكلم ، من : هاء الرجل يهيئ ، ك «جاء يجيء» ، وله حينئذ معنيان :

أحدهما : أن يكون بمعنى : حسنت هيئته.

والثاني : أن يكون بمعنى : تهيأ ، يقال : هيئت ، أي : حسنت هيئتي ، أو تهيأت.

وجوز أبو البقاء : أن تكون «هئت» هذه من : «هاء يهاء» ك «شاء يشاء».

وقد طعن جماعة على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء ، فقال الفارسي : يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهما من الراوي ؛ لأن الخطاب من المرأة ليوسف ، ولم يتهيأ لها ؛ بدليل قوله : (وَراوَدَتْهُ) ، و (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب : يحب أن يكون اللفظ (هئت لى) أي : تهيأت لي ، ولم يقرأ بذلك أحد ، وأيضا : فإن المعنى على خلافه ؛ لأنه لم يزل يفر منها ، ويتباعد عنها ، وهي تراوده ، وتطلبه ، وتقد قميصه ، فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟!.

وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ أمرك ؛ لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حسنت هيئتك. و «لك» متعلق بمحذوف على سبيل البيان ، كأنها قالت : القول لك ، أو الخطاب لك ، كهي في «سقيا لك ورعيا لك».

قال شهاب الدين : واللام متعلقة بمحذوف على كل قراءة إلا قراءة ثبت فيها كونها فعلا ؛ فإنها حينئذ تتعلق بالفعل ؛ إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر. وقال أبو البقاء : والأشبه أن تكون الهمزة بدلا من الياء ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلا ؛ لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أنه لم يتهيأ لها ، وإنما هي تهيأت له.

الثاني : أنه قال «لك» ، ولو أراد الخطاب لقال : هئت لي ، وتقدم جوابه.

وقوله : إن الهمزة بدل من الياء ـ هذا عكس لغة العرب ؛ إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة الساكنة ـ

٢٢٤

ويشبه أن يكون قوله : (هَيْتَ لَكَ) : ها أنا لك.

(قالَ مَعاذَ اللهِ).

أي : أعوذ بالله وألجأ إليه.

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ).

قال أهل التأويل : (رَبِّي) أي : سيدي الذي اشتراه (١)(أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي : أكرم مقامى ومكاني ؛ دليله : قوله لزوجته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، هذا يدل أن قوله : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي : أحسني مثواه ، ولكن يشبه أن يكون أراد بقوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) ربّه الذي خلقه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بظلمهم وقت ظلمهم ، والمثوى : الموضع الذي يثوى فيه ، والثواء (٢) : المقام ، والثاوى : المقيم ، و (مَعاذَ اللهِ) قيل : أعوذ بالله (٣) ، وألجأ إليه ، وأتحصن به.

أو : لا يفلح الظالمون : إذا ختموا (٤) بالظلم ، وأما إذا انقلعوا عنه فقد أفلحوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

أما ما قاله أهل التأويل إنها استلقت له (وَهَمَّ بِها) أي : حل سراويله (٥) ، وأمثال هذا من الخرافات ؛ فهذا كله مما لا يحل أن يقال فيه شيء من ذلك ، والدلالة على فساد ذلك من وجوه :

__________________

ـ ياء إذا انكسر ما قبلها ، نحو : «بير» و «ذيب» ، ولا يقلبون الياء المكسور ما قبلها همزة ، نحو : ميل ، وديك ، وأيضا : فإن غيره جعل الياء الصريحة مع كسر الهاء ـ كقراءة نافع ، وابن ذكوان ـ محتملة لأن تكون بدلا من الهمزة ، قالوا : فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام.

واعلم أن القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورة عن هشام ، وأما ضم التاء فغير مشهور عنه.

ينظر : البغوي في تفسيره (٢ / ٤١٧) ، الحجة (٤ / ٤١٦) وإعراب القراءات السبع (١ / ٣٠٧) وحجة القراءات ص (٣٥٨) والإتحاف (٢ / ١٤٣ ـ ١٤٤) والمحرر الوجيز (٣ / ٢٣٢) والبحر المحيط (٥ / ٢٩٤) والدر المصون (٤ / ١٦٧). واللباب (١١ / ٥٤ ـ ٥٦).

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٥) عن كل من : السدى (١٩٠١٢ ، ١٩٠١٣) ، ومجاهد (١٩٠١٤ ، ١٩٠١٥ ، ١٩٠١٧) ، وابن إسحاق (١٩٠١٨).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) في أ : والمثوى.

(٣) ذكره البغوي (٢ / ٤١٨) ، وكذا الرازي (١٨ / ٩١).

(٤) في أ : اجتمعوا.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٢) عن كل من : ابن عباس (١٩٠٣٢).

٢٢٥

أحدها : قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ، ولو كان منه الإرادة والمراودة ، لم يكن ليقول ذلك لها ويبرئ نفسه من ذلك.

والثاني : قوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، ولو كان شيء مما ذكروا من حل السراويل والجلوس بين رجليها ، لم يكن السوء مصروفا عنه.

والثالث : قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف : ٥٢] ، ولو كان منه ما ذكروا لقد خانه بالغيب.

والرابع : قولها : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١] ، وقولها : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : ٥١].

هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد ، لا يحل أن يتكلم فيه بشيء من ذلك ، وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا لا قليل ولا كثير ؛ إذ ليس فيه سوى أن همت به وهم بها.

ثم تحتمل الآية وجوها عندنا :

أحدها : همت به : هم عزم ، وهم بها هم خطر ، ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ، ولا مؤاخذة عليه ، وهو قول الحسن.

والثاني : همت به همّ الإرادة والتمكن ، وهم بها هم دفع ، لكنه يدخل عليه قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، لو كان همه بها هم دفع لم يكن لقوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) معنى ، لكنه يشبه أن يكون هم بها ، أي : هم بقتلها (١) ، فإذا كان هم بقتلها فرأى برهان ربه فتركها (٢) لما لا يحل قتلها.

والثالث (٣) : كان يهم بها لو لا أن رأى برهان ربه على الشرط ؛ كان يهم بها لو لا ما رأى من برهان ربه ، وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) [الإسراء : ٧٤] لو لا ما كان من تثبيتنا إياك ، وكذلك يخرج قول إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣] ، أي : لو كان هو الذي ينطق لفعل هو.

ثم اختلف في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) : قال بعض أهل التأويل : رأى يعقوب عاضّا على شفتيه.

__________________

ـ ومجاهد (١٩٠٣٣ ، ١٩٠٣٩) ، وسعيد بن جبير وعكرمة (١٩٠٣٨ ، ١٩٠٤٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، ولأبي الشيخ وأبي نعيم في الحلية عن ابن عباس.

(١) في ب : قتلها.

(٢) في أ : وتركها.

(٣) في ب : والثاني.

٢٢٦

وقال بعضهم : مثل له يعقوب وصور له ، فرآه (١) عاضّا على إصبعه (٢).

وقال بعضهم : رأى برهان ربه.

[و] قال بعضهم : رأى آية من كتاب الله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ...) الآية (٣) [الإسراء : ٣٢].

هذا كله لا يدرى.

وأصل البرهان : الحجة ؛ أي : لو لا ما رأى من حجة الله ، وإلا كان يهمّ بها ، ولكن لا ندري ما تلك الحجّة ، والله أعلم بذلك.

والبرهان : هو الحجة والآية ؛ لو لا أن رأى حجة ربه ، وبرهان ربه وآياته ، أو الرسالة ، ويشبه الحجّة أي : النبوة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ).

قال بعضهم : استبقا الباب : استبقت هي لتغلق الأبواب (٤) ، واستبق هو ليخرج ويفر.

لكن قوله : لتغلق الباب ، لا يحتمل ؛ لأن الأبواب كانت مغلقة بقوله : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) ، ولكن استبقت هي لتحبسه وتمنعه ، واستبق هو ليخرج ويهرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ).

لما جرته لتحبسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ).

أي : وجدا سيدها ؛ هذا يدل أن قوله : (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) لم يرد به العزيز الذي اشتراه ، ولكن العزيز الذي خلقه ؛ لأنه قال : (سَيِّدَها) ، ولم يقل : سيدهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

هذا يدل أن الإرادة تكون مع الفعل ؛ لأنها كانت لا تعلم إرادة ضميره ، فإذا أخبرت عما عرفت من الميل وإظهار الفعل ، وكذلك قول إخوة يوسف : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) ، وكانوا هم لا يعرفون ما في ضميره من الحبّ سوى ما ظهر لهم منه من الميل

__________________

(١) في ب : فرأى.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٤ ـ ١٨٥) عن كل من : ابن عباس (١٩٠٤٣ ، ١٩٠٤٤ ، ١٩٠٥٢ ، ١٩٠٥٣ ، ١٩٠٥٦) ، وابن أبي مليكة (١٩٠٤٦) ، وسعيد بن جبير (١٩٠٥٤ ، ١٩٠٥٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عكرمة وسعيد بن جبير ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٨) (١٩٠٩٤ ، ١٩٠٩٨) عن محمد بن كعب القرظي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي.

(٤) في أ : الباب.

٢٢٧

إليه وإبداء الشفقة له ، فهذا يدل على ما ذكرنا من كون الإرادة مع الفعل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

أي : دعتني ، والمراودة قد ذكرنا أنها هي الدعوة ؛ كقوله : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي : سندعوه منه ونطلبه.

فإن قيل : كيف هتك سترها بقوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)؟

قيل : ليس فيه هتك الستر عليها ؛ بل فيه نفي العيب والطعن عن نفسه ، فالواجب على المرء أن ينفي العيب وما يشينه عن نفسه على ما فعل يوسف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) من كذا فهو كذا ، وإن كان كذا فهو كذا من كذا.

قال بعض أهل التأويل : ذلك الشاهد هو ابن عم لها رجل حليم يقال كذا (١).

وقال بعضهم : شق القميص من دبر هو الشاهد (٢) ، وأمثاله ؛ لكن هذا لا يعلم من كان ذلك الشاهد.

وقيل : صبي في المهد (٣).

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٢ / ٤٢٢) ، البحر المحيط لأبي حيان (٥ / ٢٩٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن زيد بن أسلم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٣) (١٩١٤٠ و ١٩١٤١ و ١٩١٤٢ و ١٩١٤٣) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩١ ، ١٩٢) عن كل من : سعيد بن جبير (١٩١١١ ، ١٩١١٥) ، وهلال بن يساف (١٩١١٦) ، والضحاك (١٩١١٧ ، ١٩١١٩) ، وابن عباس (١٩١٢٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ عن سعيد ابن جبير ، ولأبى الشيخ عن الضحاك ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

وأيضا : فكل من كان له تعلق بهذه الواقعة ، فقد شهد ببراءة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن المعصية والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها ، والنسوة الشهود ، ورب العالم ، وإبليس :

فأما يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فادعى أن الذنب للمرأة ، وقال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)[يوسف : ٢٦] و (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)[يوسف : ٣٣].

وأما المرأة فاعترفت بذلك ، وقالت للنسوة : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)[يوسف : ٣٢] وقالت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)[يوسف : ٥١].

وأما زوج المرأة فقوله : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ)[يوسف : ٢٨ ـ ٢٩].

وأما الشهود فقوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ...)[يوسف : ٢٦].

وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف : ٢٤] فقد شهد الله ـ تعالى ـ في هذه الآية على طهارته أربع مرات : ـ

٢٢٨

وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

هذا لأن القميص إذا كان قد من قبل فهو إنما ينقد من دفعها إياه عن نفسها ، وإذا كان القميص مقدودا من دبر فهو إنما ينقد من جرها إياه إلى نفسها ، لا من دفعها إياه عن نفسها ؛ هذا هو الظاهر في العرف ؛ لذلك قال الشاهد : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ) كذا (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ...) الآية ؛ استدل على أنه إنما تمزق من جرها إياه لا من دفعها عن نفسها (١) ، ففيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد ؛ لأن القميص في الغالب لا يتمزق من دبر إلا عن جر (٢) من وراء ، ولا من (٣) قبل إلا عن دفع من قدام ، لذلك دل على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وإن كان يجوز أن يكون في الحقيقة على غير ذلك ، لكن نظر إلى الغالب.

وقال أبو عوسجة : قوله : (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) ، أي : شقت ومزقت ، ومقدود : أي : مشقوق ، من دبر : أي : من خلف ، ومن قبل : أي : من قدام ، وهو مأخوذ من القبل ، من قبل المرأة.

وقوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) ولم يقل : سيدهما ؛ فهذا يدل على ما ذكرناه.

(لَدَى الْبابِ).

أي : عند الباب ، وهو ظاهر ؛ أي : وجدا سيدها عند الباب.

__________________

ـ أولها قوله : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ).

وثانيها : قوله : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ).

والثالث : قوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) مع أنه تعالى قال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)[الفرقان : ٦٣].

والرابع : قوله : (المخلصين) ، وفيه قراءتان : تارة باسم الفاعل ، وأخرى باسم المفعول ، وهذا يدل على أن الله تعالى ـ استخلصه لنفسه ، واصطفاه لحضرته ، وعلى كل وجه فإنه أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه.

وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص : ٨٢ ، ٨٣] فهذا إقرار من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى.

فثبت بهذه الدلائل أن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ برئ عما يقوله هؤلاء.

ينظر اللباب (١١ / ٦٣ ، ٦٤).

(١) في أ : نفسه.

(٢) في أ : دفع.

(٣) في أ : عن.

٢٢٩

وفي قوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) فهو كذا (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) فهو من كذا ـ دلائل يستدل بها لمسائل لأصحابنا ؛ من ذلك قولهم في حانوت فيه لؤلؤ وإهاب تنازع فيه دباغ ولؤلؤي ، فإنه يقضي باليد لكل واحد منهما في ذلك للؤلؤي باللؤلؤ وللدباغ بالإهاب باليد ؛ يستدل بغالب الأمر وظاهر اليد ؛ على ما قضى عليها بالمراودة بتمزق القميص من دبر ، وأمثال هذا مسائل يكثر عددها يقضى [فيها] بالدلالة الغالبة ، وإن كان يجوز في الحقيقة على خلاف الظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).

يشبه أن يكون كيدها أنها لما راودته عن نفسه وأمنته على إظهار ذلك وإفشائه عليه ، فأفشت عليه ذلك ؛ حيث أبي إجابتها ، فقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ذلك القول منها من كيدهن ، وأصل الكيد والمكر هو الأخذ على الأمن ، والله أعلم.

وفى الآية دلائل لقول أصحابنا في المتاع يختلف فيه الزوجان : فإن كان من متاع الرجال فهو في يد الرجل ، وإن كان من متاع النساء فهو في يد المرأة في قول أبي يوسف ومحمد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا).

يحتمل قوله : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) ، أي : عن قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

ويشبه أن يكون قوله : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) : عن جميع ما كان بينهما ؛ أي : استر عليها ، ولا تهتك عليها سترها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).

قال ليوسف ذلك القائل : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) ، وقال للمرأة : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ، لما ظهر عنده أنها هي التي راودته ودعته إلى نفسها.

ثم اختلف في قائل (١) هذا القول ؛ قال بعضهم : هو زوجها ؛ قال ليوسف : أعرض عن هذا ، ولا تهتك عليها سترها ، لكنهم قالوا : إنه كان قليل الغيرة.

وقال بعضهم : ذلك القائل هو رجل آخر هو ابن عم لها ؛ وهذا أشبه (٢).

وقوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).

قال بعضهم : قال هذا لها ؛ لأنهم وإن كانوا يعبدون الأصنام فإنما يعبدونها ليقربوهم

__________________

(١) في أ : تأويل.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٥) (١٩١٤٦) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

٢٣٠

إلى الله زلفى ؛ حيث قال لها : واستغفري لذنبك.

وقال بعضهم من أهل التأويل : قوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي : إلى زوجك حيث خنتيه ، فإن كان التأويل هذا فذلك يدل أن القائل لذلك رجل آخر ، لا زوجها.

فإن كان التأويل هو الأوّل فإنه يحتمل كليهما أنهما كان ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)(٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ).

يشبه أن تكون استكتمت سرها عند نسوة في المدينة ، فأفشين سرها عند أهل المدينة ، ليبلغ ذلك الخبر الملك.

أو أن لم تكن أعلمت تلك النسوة ، فلا بدّ من أن يعلم ذلك بعض خدمها ؛ فالخادم أعلمت سرها وأفشته عند نسوة في المدينة ، فقلن عند ذلك : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي : تدعو عبدها إلى نفسها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا).

قال بعضهم : الشغاف : هو حجاب القلب وغلافه ، (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي : بلغ حبها إياه الشغاف ، ومنه يقال : مشغوف.

والمشغوف : قيل : المجنون حبّا ، وهو من العشق (١).

قال الحسن : الشغف : أن يكون قد بطن لها حبه ، والشغف : أن يكون مشغوفا به.

قال أبو عوسجة : شغفها حبا أي : دخل الحبّ في شغاف القلب ، وهو غطاؤه.

وقال : من قرأها (٢) شغفها أي : ذهب بعقلها ؛ أي : عشقها.

لكن هذا قول أولئك النسوة ، فلا ندري ما أردن بذلك ، إنما ذلك خبر أخبر عن قول

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٦) (١٩١٥٥) عن الشعبي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الشعبي.

(٢) ينظر : اللباب (١١ / ٧٩).

٢٣١

قلنه هن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

حيث خانت زوجها.

أو (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، أي : في حيرة من حبه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ).

أي : بقولهن المكر : هو الأخذ في حال الأمن ، وهو الخيانة فيما اؤتمن واستكتم ؛ فهذه كأنها استكتمت سرّها وحبّها ليوسف عن الناس ، وأفشت ذلك لنسوة في المدينة ، على أن يستكتمن عن الناس ، فأفشين عليها ذلك ؛ فذلك المكر الذي سمعت ، والله أعلم.

إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل.

وأمكن أن تكون المرأة لم تفش سرها إليهن ، لكن بعض خدمها التي اطلعت على ذلك هي التي أفشت إليهن ، فأفشين هن ذلك ، فلما سمعت ذلك منهن أرسلت إليهن : إمّا تنويشا ودعاء للضيافة ، وإما استزارة يزرنها ، وأما قول أهل التأويل : إن النسوة كانت امرأة الخباز والسّاقي ؛ ولا أدري من ما ذا ، فذلك لا نعلمه ، وليس لنا إلى [معرفة](١) ذلك حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) قال الحسن : متكأ : طعاما وشرابا (٢) وتكأة.

وقال بعضهم : الأترنج والترنج (٣).

وقال بعضهم : متكأ : وسائد وما يتكأ عليه (٤).

وقال أبو عوسجة : متكأ : ممدودا ؛ يعني : هيئات المجلس وما يتكأ عليه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠٠) (١٩١٨٧ ، ١٩١٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير ، ولابن جرير وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠٠) عن كل من : ابن عباس (١٩١٨٤ ، ١٩١٨٥) ، ومجاهد (١٩١٩١ ، ١٩١٩٥) ، وليث عن بعضهم (١٩١٩٧).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٨) وزاد نسبته لابن مردويه عن ابن عباس ، ولمسدد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق آخر عنه ، ولابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد ، ولأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من وجه آخر عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن سلمة بن تمام ، ولأبى الشيخ عن أبان بن تغلب.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٣) ، وذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٣٠٢).

٢٣٢

ومن قرأ (١) : متكأ مقصورا ، وهو الأترنج وطعام ؛ على ما قال الحسن (٢).

وكذلك قال القتبي (٣) ؛ قال : ويقال : البزماورد (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً).

أي : أعطت كل واحدة منهن سكينا ؛ ظاهر.

(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ).

هاهنا كلام أن كيف أطاع يوسف بالخروج على النساء بقولها إياه : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) فذلك مما لا يحل ، لكنه يخرج على وجوه :

أحدها : أنه إنما يكره الدخول عليهن ، والخلوة بهن ، وأما الخروج عليهن فهو ليس بمكروه ؛ إذ فيه الخروج منهن ؛ لأنه إذا خرج عليهن كان يقدر أن يخرج منهن ؛ فكأنه لما أذنت له بالخروج عليهن خرج رغبة أن يخرج من عندهن ؛ إذ لم [يكن ليقدر](٥) أن يخرج من البيت عليهن بغير إذن منها ؛ فالأمر بالخروج عليهن أفاد له إذنا بالخروج من البيت ؛ إذ لا سبيل له إلى الخروج منه بلا إذن له منها ، فخرج عليهن ثمت من عندهن إلى غيره من المكان ، وذلك مما لا يكره إذا كان مما لا سبيل إلى ما سواه.

ويشبه أن يكون منها الأمر بالخروج حسب إذا خرج ولم تقل عليهن ، ولم يعلم يوسف أنها إنما تأمره بالخروج على النساء فخرج ، لكن الله ـ عزوجل ـ أخبر عن مقصودها ، وكان مقصودها من الأمر بالخروج [خروجا عليهن](٦) ، فأخبر عن مقصودها بقوله :

__________________

(١) قرأ العامة : (مُتَّكَأً) بضم الميم ، وتشديد التاء ، وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعول به ، ب «أعتدت» أي : هيأت ، وأحضرت.

والمتّكأ : الشيء الذي يتّكأ عليه من وسادة ونحوها ، والمتكأ : مكان الاتكاء ، وقيل : طعام يجز جزّا.

وقرأ أبو جعفر ، والزهرى ـ رحمهما‌الله ـ : (مُتَّكَأً) مشددة التاء ، دون همز.

وقرأ الحسن وابن هرمز : متكاء بالتشديد والمد ، وهي كقراءة العامة ، إلا أنه أشبع الفتحة ؛ فتولدت منها الألف.

وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدرى ، وأبان بن تغلب ـ رحمهم‌الله ـ : (مُتَّكَأً) بضم الميم ، وسكون التاء ، وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز ، وعبد الله ومعاذ ؛ إلا أنهما فتحا الميم.

ينظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٣٩) والبحر المحيط (٥ / ٣٠٢) والدر المصون (٤ / ١٧٤) ، واللباب (١١ / ٨١ ، ٨٢).

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢١٦).

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٩) (١٩١٨٢) عن الضحاك ، وذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٣٠٢).

(٥) في أ : يقدر.

(٦) في ب : على النساء ، فخرج لكن الله عزوجل.

٢٣٣

(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) [ومثل هذا قد يكون في الكلام.

وجائز أن يكون قوله : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ)](١) أي : عنهن ، وذلك جائز في اللغة : (على) مكان (عن) كقوله : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) [المطففين : ٢] ، أي : عن الناس ، وأمثاله كثير.

وفي هذه الآية دلالة أن مشتري يوسف كان يمنع يوسف عن أن يخرج إلى البلد والسوق ، ومن أن تخالطه الناس : إما إشفاقا على نفسه ، أو لئلا يفتن به النساء ، أو لئلا يطلع على نفس يوسف ؛ لما وقع عنده أنه مسروق ، فكيفما كان ففيه : أن [على المرء أن](٢) يحفظ ولده أو عبده إشفاقا عليه.

وقوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ).

أي : أكبرنه وأعظمنه من حسنه أن يكون مثل هذا بشرا ؛ ألا ترى أنهن قلن : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

وقوله : (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) ؛ قيل : حزّا بالسّكّين (٣).

قوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

(حاشَ لِلَّهِ) : قال أهل التأويل : أي : معاذ الله (٤).

وقال بعضهم : (حاشَ لِلَّهِ) : كلمة تنزيه من القبيح ، ودلّ هذا القول منهن أنهن كنّ يؤمنّ بالله ؛ حيث قلن : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

قوله : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

كان الملك وإن لم يرونه حسنا عندهم ، ينسبون كل حسن إلى الملائكة ، والشيطان ـ لعنه الله ـ عندهم قبيح ؛ فنسبوا كل قبيح إليه.

وقوله : (بَشَراً).

قرأه بعضهم : بشرى بالتنوين ، أي : ما هذا بمشترى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : المرء على أن.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠٣ ، ٢٠٤) (١٩٢٢٠ ، ١٩٢٢١ ، ١٩٢٢٢) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠٦) (١٩٢٤٢ ، ١٩٢٤٥ ، ١٩٢٤٧) عن مجاهد ، (١٩٢٤٦) عن الحسن.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

٢٣٤

بقولهن : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) ، أي : إنكن لمتنني فيه أني أراوده عن نفسه ، وأنتن قطعتن أيديكن إذ رأيتنه ، وأنكرتن أن يكون هذا بشرا ؛ فذلك أعظم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ).

أي : دعوته إلى نفسي فاستعصم ؛ قيل : امتنع ؛ كقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] أي : لا مانع ، ويشبه قوله : استعصم بالله أو بدينه أو نبوته أو بعقله ، هذا يدلّ على أنه لم يكن منه ما قال أهل التأويل من حلّ السراويل ونحوه ؛ حيث قالت : (فَاسْتَعْصَمَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ).

قالت ذلك امرأة العزيز.

(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ).

يشبه أن يكون قولها (١) : ليسجنن وليكونن في السجن (٢) من الصاغرين ، أو ليسجنن وليكونن من المذلّين الصّاغرين : هو (٣) : الذليل لأنه قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، فكان مكرما عندها معظما ؛ فلما أبي ما راودته فقالت : (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي : من الذليلين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء ما كان من امرأة العزيز من المراودة والدعاء إلى نفسها ؛ حيث قال : (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ؛ ألا ترى أنه قال في موضع آخر : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : ٥١] ، [وكذلك قالت امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي : كنتن لمتنني فيه أني راودته عن نفسه](٤) ؛ وأنتن قد راودتنّه عن نفسه.

وقول يوسف : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

أي : ذلك الذل والصغار أحبّ إليّ ، أي : آثر عندي وأخير في الدّين مما يدعونني إليه ؛ وإن كان ما يدعونه إليه تهواه نفسه وتميل إليه وتحبه ؛ فأخبر أن السجن أحبّ إليه ، أي : آثر وأخير في الدين ؛ إذ النفس تكره السجن وتنفر عنه ؛ ألا ترى أنه قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)؟! فهذا يدل على أن ما قال : (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا

__________________

(١) في أ : قوله.

(٢) في أ : السكن.

(٣) في أ : هذا.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

٢٣٥

يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إنما أراد به : محبة الاختيار والإيثار في الدّين ، لا محبّة النفس واختيارها ؛ بل كانت النفس تحب وتهوى ما يدعونه إليه ؛ دليله قوله : (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

وليس الدعاء في قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) كما يقول بعض الناس : إنه إنما وقع في السجن ؛ لأنه سأل ربه السجن فاستجيب له في ذلك ؛ ولكن الدعاء في قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) ، وهو كقول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣] ليس الدعاء في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) لأنه (١) : إخبار عما كان منهم ، إنما الدعاء في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] وكذلك قول نوح : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) [هود : ٤٧].

وفي قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) دلالة على أن عند الله لطفا لم يكن أعطى يوسف ذلك ؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفا عنه ؛ حيث قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى ، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم ، حيث قالوا : إن الله قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر ، وقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي : لا أحد يملك صرف كيدهن عنّي لو لم تصرفه أنت ، وكذلك قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) [هود : ٤٧] وهو أبلغ في الدعاء من قوله : اللهم اغفر لي وارحمني.

وقوله : (أَصْبُ إِلَيْهِنَ).

قال بعضهم : أمل إليهن (٢).

وقال بعضهم : قال : لو لم تصرف عنى كيدهن لأتابعهن (٣).

ويقال : الصبو : هو الخروج عن الأمر ؛ يقال : كل من خرج عن (٤) دينه فقد صبا.

وبهذا كان المشركون يسمّون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صابئا ، أي : خرج مما نحن عليه.

وقال أبو بكر الأصم : الأصب : هو الأمر المعجب.

وقوله : (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

أي : يكون فعلي فعل الجهّال لا فعل العلماء والحكماء ، إن لم تصرف عنى كيدهن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ).

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٠٩) ، وكذا البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٤).

(٣) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢٠٩) (١٩٢٥٦) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٤) في ب : من.

٢٣٦

أي : أجاب له ربه ؛ فصرف عنه كيدهن.

هذا يدل على أن الدعاء كان في قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) ، ليس في قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ، إنما هو خبر أخبره ؛ حيث أخبر أنه أجاب له ربه فصرف عنه كيدهن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

السميع لكل قول وكلام ؛ خفيّا كان على الخلق أو ظاهرا ، العليم به ؛ لا يخفى عليه شيء.

وفي قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) ، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ).

دلالة على أنهن كن يدعونه إلى ذلك من وجه كان يخفى عليه ولم يشعر به ؛ فالتجأ إلى الله في صرف ذلك عنه.

وقوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).

ذكر في بعض القصة أنها قالت لزوجها : ما زال يوسف يراودني عن (١) نفسي فأبيت عليه فصدقها ؛ فحبسه في السجن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ).

قال أهل التأويل : هو قدّ القميص من دبره وخمش الوجه وغيره (٢) ، ولكنه يشبه أن يكون الآيات التي رأوها هي آيات نبوته ورسالته.

وقال بعضهم : حبسوه ، لينفوا عن المرأة ما رميت به ، ولينقطع ذلك عن الناس ، ويموت ذلك الخبر ويذهب ، فيه أنهم حبسوه بعد ما رأوا آيات عصمته وبراءته عما اتهموه ، وأنهم ظلمة في حبسه. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما

__________________

(١) في ب : من.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢١٠) عن كل من : مجاهد (١٩٢٦١ ، ١٩٢٦٣ ، ١٩٢٦٥ ، ١٩٢٦٧) ، وعكرمة (١٩٢٦٢) ، وقتادة بمثله (١٩٢٦٦) ، وابن إسحاق (١٩٢٦٨).

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة ، ولابن المنذر عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عكرمة عن ابن عباس بمثله.

٢٣٧

كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ).

قيل : عبدين للملك ؛ غضب عليهما الملك (١).

(قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً).

وقال بعضهم : أرض يدعى العنب بها خمرا ، أو سمي خمرا باسم سببه وباسم أصله ، [وجائز في اللغة تسمية الشيء باسم سببه وباسم أصله](٢).

(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً).

كان أحدهما خبازا للملك ، والآخر ساقيه.

(نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

قال بعضهم : إحسانه في السجن ؛ لما كانوا رأوه يداوي المرضي ، ويعزّي حزينهم ، ويجتهد في نفسه في العبادة لربّه (٣). هذا يحتمل لعله كان يبرّ أهل السجن ويصلهم ، ويجتهد في العبادة لله في الصلاة له والصوم ، وأنواع العبادة التي تكون فيما بينه وبين ربه ، فسمياه محسنا لذلك.

ويشبه أن يكون قالوا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لما رأوا به سيما الخير وآثاره ، أو يدعوهم إلى توحيد الله والعبادة له ، وخلعهم عن عبادة الأصنام والأوثان والانتزاع من ذلك ، فسمياه محسنا لذلك.

__________________

(١) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢١٢) (١٩٢٧٣) عن ابن إسحاق ، (١٩٢٧٤) عن قتادة.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٣) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس بمثله ، ولابن جرير عن قتادة.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢١٤) (١٩٢٨٦ ، ١٩٢٨٧ ، ١٩٢٨٩) عن الضحاك ، (١٩٢٨٨) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٣) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن قتادة ، ولسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك.

٢٣٨

ويحتمل قوله : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لما رأوه أحسن إلى أهل السجن ، ويحتمل الإحسان ـ هاهنا ـ : العلم ؛ أي : (١) نراك من العالمين ؛ وهو قول الفراء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ).

سمى التعبير : تأويلا ؛ لأن التأويل : هو الإخبار عن العواقب ؛ لذلك سموه تأويلا ، ثم خرج تأويل الذي كان يعصر الخمر على العود إلى ما كان في أمره ؛ من السقي للملك ؛ وهو كان ساقيه ؛ على ما ذكر ، فلما رأى أنه دام على أمره ، أول له بالعود إلى أمره الذي كان فيه. والآخر كان خبّازا ؛ على ما ذكر ، وهو إنما كان يخبز للناس ، فلما رأى أنه حمل الخبز على رأسه ، وأنه يأكل الطير ـ علم أنه يخرج من الأمر الذي كان فيه ، وخروجه يكون بهلاكه ؛ لأنه كان من قبل يخبز للناس ، فصار يخبز لغيرهم ؛ فاستدل بذلك على خروجه من أمره وعمله ، لكنه أخبر أنه يصلب ؛ لأنه كان قائما منتصبا ، فأول على ما كان أمره. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) هذا ـ والله أعلم ـ كان يقول لهم ذلك ؛ ليعرفهم أن عنده علم ذلك ؛ علم ما لا يحتاج إليه ؛ فعلم ما يحتاج إليه أحرى أن يعلم ذلك ، وهذا ـ والله أعلم ـ منه احتيال ؛ لينزعهم عما هم فيه من عبادة الأوثان ، وعبادتهم غير الله ، وليرغبهم في توحيد الله ، وصرف العبادة إليه ؛ ولهذا قال :

(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)

هذا باللطف ما أضاف إليه أنه علمه ، وإلا التعليم لا يكون إلا باختلاف الملائكة إليه ، وذلك لطف من الله تعالى للرسل عليهم‌السلام.

وقوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما).

تأويله ـ والله أعلم ـ أي : لا يأتيكما طعام رأيتما آثار ذلك في المنام إلا نبأتكما بتأويل ذلك قبل أن يأتى ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

أخبر أنه ترك : (مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية.

وقوله : (تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ليس أنه كان فيه ثم تركه ، ولكن تركه ابتداء ؛ ما لو لم يكن تركه كان آخذا بغيره ؛ وهو كقوله : (رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] ليس أنها كانت موضوعة فرفعها ، ولكن رفعها أول ما خلقها. وكذلك قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها)

__________________

(١) في أ : إنا.

٢٣٩

[الرحمن : ١٠] ليس أنها مرفوعة ثم وضعها ؛ أي أنشأها مرفوعة وموضوعة.

وكقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] ليس أنهم كانوا فيها فأخرجهم ، ولكن عصمهم حتى لم يدخلوا فيها. فعلى ذلك الأول (١). والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).

قال في الآية الأولى : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(٢) ، وأخبر أنهم كافرون بالله واليوم الآخر ، وفيه أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، فهو كافر ، فهذا ينقض على المعتزلة ؛ حيث جعلوا بين الكفر والإيمان رتبة ثالثة ، ويوسف يخبر أن من لم يؤمن بالله فهو كافر ؛ وهم يقولون : صاحب الكبيرة غير مؤمن بالله ، وهو ليس بكافر.

ثم أخبر أنه ترك ملة أولئك الذين لا يؤمنون بالله ، واتبع ملة آبائه إبراهيم ومن ذكر ، ثم أخبر عن ملة آبائه وهو ما ذكر.

(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ)

عرفهم ملة آبائه ودينهم ؛ وهو على ترك الإشراك بالله ، وجعل الألوهية له ، وصرف العبادة إليه. وفيه : أن الملة ليست إلا ملتين : ملّة كفر ، وملة إسلام (٣). وأخبر أن من لم يكن في ملة الإسلام كان في ملة الكفر. ثم خص بذكر هؤلاء : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ لأن هؤلاء كانوا مكرمين عند الناس كافة ، كل أهل الدين يدّعون أنهم على دين أولئك ؛ فأخبر أنهم على دين الإسلام.

والحنيف : المخلص ، ليس على ما تزعمون أنتم ؛ ولهذا قال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران : ٦٧].

وفي قوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) دلالة أن الكفر كله ملة واحدة ؛ حيث أخبر أنه ترك ملة قوم لا يؤمنون على اختلاف مذاهبهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ).

أي : ذلك الدين والملة التي أنا عليها وآبائي من فضل الله علينا وعلى الناس ؛ لأنه ـ عزوجل ـ فطر الناس على فطرة ؛ يعرفون وحدانية الله وربوبيته بعقول ركبت فيهم ؛ ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل الله وما ركب فيهم من العقول ، أو ذلك الدين والهداية الذي أعطاهم من فضل الله ؛ لكن أكثر الناس يتركون ذلك الدين وتلك الهداية ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) زاد في أ : ليس أنه كان فيه ثم تركه ، ولكن تركه ابتداء ، ما لو لم يكن تركه كان آخذا إلى ...

(٣) في أ : الإسلام.

٢٤٠