تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) قال بعض أهل التأويل (مِنْها قائِمٌ) : ترى مكانها وتنظر إليها ، ومنها حصيد لا ترى له أثرا (١) ولا مكانا.

وقال بعضهم : قائم : أي : خاوية على عروشها ، وحصيد : مستأصلة (٢).

وعن الحسن قال : منها قائم وما حصد الله أكثر ، أي : وما أهلك الله من القرى أكثر. وأصله عندنا : منها قائم ؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين ، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام ؛ لأنه يقول في قرى عاد : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الآية [الأحقاف : ٢٥] ، ومنها حصيد : ما أهلك أهلها والقرى جميعا نحو قوم نوح ؛ أهلكوا ببنيانهم ، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضا حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان ، فذلك ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (مِنْها قائِمٌ) هلك أهلها وبقي البنيان ، ومنها حصيد : هو ما أهلك البنيان بأهله ، حتى لم يبق لها أثر ، وفيه وجوه ثلاثة :

أحدها : آية لرسالته (٣) ؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى ، وهو ما ذكر في آخره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي : عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، وزجرا لأهل الشرك والكفر ؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأولئك فينزجرون عن صنيعهم (٤) فيه.

هذه الوجوه التي ذكرناها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ) فيه وجهان :

أي : لم نظلمهم ؛ لأنهم وبنيانهم ملك لله ـ تعالى ـ وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه ، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه ، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم ، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم.

والثاني : أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ؛ يقول : وما ظلمناهم بالعذاب ؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا ، فلم نضع العذاب في غير موضعه ؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره ، فهو ظلم ؛ هذا التأويل في أنفسهم ، وأما البنيان فهو ، أنه إنما جعله لهم ، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم ، إنما أبقي لهم ما داموا ، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان.

__________________

(١) في أ : نظرا.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١١٠) (١٨٥٥٩) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣١) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن جريج.

(٣) في أ : الرسالة.

(٤) في أ : صنعهم.

١٨١

وما ذكر من ظلمهم أنفسهم يحتمل وجوها :

أحدها : ظلموا أنفسهم بعبادتهم غير الله.

والثاني : ظلموا أنفسهم بصرفهم الناس وصدهم عن سبيل الله وعن عبادة الله وتوحيده إلى عبادة غير الله.

والثالث : ظلموا أنفسهم بسؤالهم العذاب.

وقوله : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) في هذا وجهان :

أحدهما : ما أغنت عنهم عبادة آلهتهم التي عبدوها من دون الله لما جاء أمر ربّك ؛ أي : عذاب ربك ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ ...) الآية [الزمر : ٣] ، يخبر أن عبادتهم الأصنام لا تنفعهم المنفعة التي طمعوا.

والثاني : فما أغنت عنهم أنفس آلهتهم في دفع العذاب عنهم في أحوج حال إليها ؛ لعجزهم في أنفسهم وضعفهم ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فإذا لم يملكوا ذلك في وقت الحاجة إليهم فكيف يملكونه في غيره من الحال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يحتمل : ما زاد عبادتهم إياها غير تتبيب ، أو ما زاد آلهتهم التي عبدوها غير تتبيب.

والتتبيب : قال عامة أهل التأويل : هو التخسير (١).

وقال أبو عوسجة : غير تتبيب : غير فساد ، والتتبيب : الفساد.

وكذلك قال في قوله : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي : فساد.

وقال غيره : إلا في خسار وقال غيره : غير تخسير.

[وكذلك قالوا في قوله : (تَبَّتْ) [المسد : ١] أي : خسرت.

وقال أبو عبيدة (٢) : غير تتبيب : غير تدبير وإهلاك](٣).

وكذلك قالوا في قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) وكذلك قالوا في قول الناس : تبّا لك.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١١١) عن كلّ من : ابن عمر (١٨٥٦٥) ، ومجاهد (١٨٥٦٦ ، ١٨٥٦٧) ، وقتادة (١٨٥٦٨ ، ١٨٥٦٩).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٢) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عمر ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٢٩٩).

(٣) ما بين المعقوفين سقط في ب.

١٨٢

وقال بعضهم : غير تتبيب غير شر (١) ، والتتبيب (٢) : الشر ، والتبّ : الشر والخسران ، وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي : هكذا يأخذ كفار هذه الأمة كما أخذ أولئك ، أي : كما عذبنا الأمم الخالية وهي ظالمة مشركة كافرة ، كذلك نعذب هذه الأمة [لكن أخر عن هذه الأمة](٣) ، وفيه رحمة أن (أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ، أي : أن أخذه بالعذاب أليم شديد ، الأخذ نفسه يوصف بالشدة ، ولكن لا يوصف بالألم ، والعذاب يوصف بالألم ، لكن لما وصف بالألم والشدة دل أن الأخذ أخذ بعذاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) هو ما ذكرناه : فيه عبرة لأهل التقوى ولمن خاف عذاب الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) خصّ الناس بالذكر وإن كان الجمع لهم ولغيرهم ؛ لأن الآية التي ذكر تكون لهم آية ، أو لما هم المقصودون بالجمع بذلك اليوم ـ والله أعلم ـ قيل : يجمع فيه الأولون والآخرون (٤)(وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

قال بعضهم : يشهده أهل السماء وأهل الأرض للعرض والحساب ، والله أعلم (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي : ما نؤخر العذاب عن هذه الأمة إلا لأجل معدود ، وذكر هذا ـ والله أعلم ـ جواب ما استعجلوه من العذاب بقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ونحوه ، فقال : وما نؤخر العذاب عنهم إلا لأجل معدود ، إلا لوقت موقوت ؛ أي : إلا لأجل معدود عند الله ، ولو كان ما ذكر ابن عباس أنه سبعة آلاف فيكون معدودا عند الناس ، ويكون وقت القيامة معلوما على قوله ، وقد أخبر الله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : لا تكلم نفس بالشفاعة لأحد إلا بإذنه ؛ كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] أو لا تكلم نفس لأهوال ذلك اليوم ولفزعه ؛ كقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٢٦٠) ونسبه لابن زيد.

(٢) في ب : وقال التشبيب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ٢٦١) وكذا الرازي (١٨ / ٤٧).

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ١١٣) (١٨٥٧٨) عن الضحاك ، وذكره السيوطي (٣ / ٦٣٣) وعزاه لابن جرير عن الضحاك ، وكذا البغوي (٢ / ٤٠١) ، والرازي (١٨ / ٤٨).

١٨٣

هَواءٌ) وكقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أو لا تكلم نفس من الأجلة والعظماء لأحد من دونهم بالشفاعة إلا بإذنه ، وهو ما ذكرناه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) : فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها وعملها أدخلته [النار ، ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها وعملها أدخلته](١) الجنة ، وكل عمل يعمله فيدخله الجنة فهو سعيد به ، وكل عمل يعمله فيدخله النار فهو شقي به.

روي في ذلك خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت هذه الآية : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا نبي الله ، فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه أو شيء لم يفرغ منه؟ قال : «بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كل ميسر لما خلق له» (٢) فإن ثبت هذا فهو يدل لما ذكرناه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) لما ذكرناه (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال بعضهم : الزفير هو كزفير الحمار في الصدر ، وهو أول ما ينهق ، وأمّا الشهيق فهو (٣) كشهيق الحمار في الحلق ، فهو آخر ما يفرغ من نهيقه ، فهو شهيق.

وقال بعضهم : الزفير هو ما لا يفهم منه شيء إنما هو كالأنين والجزع من شيء يصيبه لا يتبين منه ؛ كقوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الملك : ٧] والشهيق هو ما يرتفع منه الصوت يسمى شهيقا.

ويحتمل ما ذكر من الزفير والشهيق أنهم يصيرون بعد كثرة دعائهم وندائهم حتى يكون منهم الزفير والشهيق (٤) لا يفهم ؛ كصوت الدواب إذا أصابها ألم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١١٤) (١٨٥٨٣) ، والترمذي (٥ / ١٨٧) باب «ومن سورة هود» (٣١١١) وقال : حسن غريب ، وعبد بن حميد (٢٠) وابن أبي عاصم في السنة (١٧٠) والبزار (١٦٨) وابن عدي في الكامل (٣ / ١١٢١).

(٣) في ب : وهو.

(٤) قال ابن الخطيب : إن الإنسان إذا عظم غمّه انحصر روح قلبه في داخل القلب ؛ فتقوى الحرارة وتعظم ، وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوى لأجل أن يستدخل هواء باردا حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة ؛ فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل الصدر ، وحينئذ يرتفع صدره ، ولما كانت الحرارة الغريزية ، والروح الحيواني محصورا داخل القلب ، استولت البرودة على الأعضاء الخارجية ؛ فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرا في الصدر.

فعلى قول الأطباء : الزفير : هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب ـ

١٨٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) عن الحسن قال : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : تبدل سماء غير هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض (١) ؛ لأن السماء هذه أخبر أنها تنشق وتطوى وتبدل ؛ كقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) [الفرقان : ٢٥] و (يَوْمَ نَطْوِي) [الأنبياء : ١٠٤] و (يَوْمَ تُبَدَّلُ) [إبراهيم : ٤٨] ونحوه.

وقال بعضهم : قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) إنما هو صلة الكلام ؛ كأنه قال : خالدين فيها إلا ما شاء ربك ، وقد يتكلم بمثل هذا على الصلة.

وقال بعضهم : يدوم لهم العذاب أبدا ما دامت السموات والأرض [لأهل الدنيا ما كانوا فيها ؛ لأنهما إنما تفنيان بعد فناء أهلها وإحياء الأهل والبعث ، فأخبر أن العذاب يدوم لهم كما يدوم لأهل الدنيا السماء والأرض](٢).

وقال بعضهم : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي : ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة ، وسماء النار وأرض النار (٣) ، لكن ذكر هذا لئلا يتوهم أهل الجنة والنار قبل هلاك سمائها وأرضها على ما يتوهم في توهم هلاك أهل الدنيا قبل هلاك سمائها وأرضها.

وقال بعضهم : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي : ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء ، يتكلمون على ما بعد من أوهامهم فناؤهما ، أو على الصلة ؛ يقول الرجل لآخر : لا أكلمك ما دام الليل والنهار : أي أبدا.

هذا تأويل قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وأما قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال بعضهم : إن ناسا من أهل التوحيد يعذبون في النار على قدر ذنوبهم وخطاياهم ثم يخرجون منها. وقد روي في ذلك آثار ؛ روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الاستثناء في الآيتين كلتيهما لأهل الجنة» (٤) ، يعني :

__________________

ـ انحصار الروح فيه ، والشهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه ، وكل من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد.

ينظر : اللباب (١٠ / ٥٦٧).

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١١٥ ، ١١٦) (١٨٥٩١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن الضريس وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله ، أو عن أبي سعيد ، أو رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٨٥

الذين يخرجون من النار من أهل التوحيد (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) يقول : لم يشقوا شقاء من يخلد في النار وقال في الذين سعدوا إلا ما شاء ربك هم أولئك الذين لم ينالوا من السعادة ما نال أهل الجنة الذين لم يدخلوا النار.

وفي بعضها [عن النبي](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أما من يريد الله إخراجه [من النار](٢) فإنهم يماتون فيها إماتة» (٣).

وقال في خبر آخر : «أما من يريد الله له الخلود فلا يخرجون منها» وأمثال هذا من الأخبار ، فإن ثبت هذا فهو المعتمد.

وقال بعضهم : قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : قد شاء لأهل النار الأبد والخلود ، وشاء لأهل الجنة عطاء غير مجذوذ (٤) ؛ أي : غير منقطع.

ويؤيد هذا التأويل ما ذكر في حرف ابن مسعود وأبي : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) في الآيتين ؛ وفي الآية الأولى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وفي الأخرى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي أنهما لم يذكرا الثنيا في أهل الجنة (٥) ، وأصل هذا ما ذكر أبو عبيد قال : الاستثناء الذي هو في أهل السعادة فهو المشكل ؛ لأنه يقال : كيف يستثني وقد وعدهم خلود الأبد في الجنة. وقال في ذلك أقوالا لا أدرى إلى من تسند ، إلا أن لها مخارج في كلام العرب وشواهد في الآثار ، وإنما يتكلم الناس في هذا على معاني العربية ، والله أعلم بما أراد.

قال : فأحد هذه الوجوه في الاستثناء فيما يقال كالرجل يوجب على نفسه الشيء ليفعلنه ، ثم يقول : إن شاء الله ، وعزمه [و] ضميره مع استثنائه أنه فاعله ، لا يريد غيره.

ومما يقوي هذا المذهب قول الله ـ تعالى ـ : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] فاستثنى ، وقد علم أنهم داخلوه البتة.

ومنه ما روي في حديث مكة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» (٦).

__________________

(١) في ب : عنه.

(٢) في ب : منها.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ١٧٢ ، ١٧٣) كتاب الإيمان ، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (٣٠٦ / ١٨٥) ، وابن ماجه (٥ / ٦٧٨) (٤٣٠٩) ، وأحمد (٣ / ٥ ، ١١ ، ٧٨) ، والدارمي (٢٨٢٠) ، وعبد بن حميد (٨٦٨).

(٤) في أ : محدود.

(٥) أي : لم يرد في هذا الحرف هنا قوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).

(٦) أخرجه بمعناه البخاري (٤ / ٥٦) كتاب جزاء الصيد ، باب لا يحل القتال بمكة (١٨٣٤) وكتاب الحج ، باب فضل الحرم (١٥٨٧) ، ومسلم (٩٨٦) كتاب الحج ، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (٤٤٥ / ١٣٥٣).

١٨٦

وقال بعضهم : استثنى المنشد وهي لا تحل له ، كما لا تحل لغيره.

والوجه الثاني بأن يكون «إلا» في معنى سوى ؛ فإن العرب تفعل ذلك ؛ تقول : عليك ألف درهم من قبل كذا وكذا ، إلا الألف التي قبل ذلك ؛ أي : سوى الألف التي قبل ذلك [وغير الألف التي قبل ذلك ، وإلا الألف التي قبل ذلك](١) ، فيكون المعنى على هذا أنه وعدهم خلود الأبد سوى ما أعد لهم من الزيادة في الكرامة والمنزلة التي لم يذكرها لهم.

ومما يقوي هذا التأويل ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله ـ تعالى ـ : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطلعتم عليه» ثم قرأ : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ...)(٢) الآية [السجدة : ١٧] ؛ أفلا ترى أن هاهنا من الزيادة ما لم يطلعهم عليه.

والوجه الثالث : أن يكون الاستثناء من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين البعث والحساب ، وقد قيل ما ذكرناه أنه ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ الذي ذكر ، إلى أن يصيروا إلى الجنة ، ثم هو خلود الأبد ؛ يقول : فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في الحساب.

ومما يقوي هذا المذهب ما قيل في قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل : ما بين الموت والبعث ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) فقد اختلف القراء في قراءتها ؛ قرأها الكسائي وحمزة. بضم السين (سُعِدُوا) وأما أبو عمرو وأهل المدينة وغيرهم من القراء قرءوا بفتح السين (سُعِدُوا) على قياس (شَقُوا).

قال أبو عوسجة : لا أعرف سعدوا بضم السين ، وإنما هو سعدوا بفتح السين.

وقال أبو عوسجة (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي : غير مقطوع (٣) ؛ كقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي قطعا ، وقد ذكرنا قولهم في الزفير والشهيق على قدر حفظنا له.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٣٦٦) كتاب في بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٤) وأطرافه في (٤٧٧٩ ، ٤٧٨٠ ، ٧٤٩٨) ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة وصفة نعيمها (٢ / ٢٨٢٤) ، والترمذي (٥ / ٣٢٣) كتاب التفسير ، باب من سورة السجدة (٣١٩٧) وابن ماجه (٢ / ٤٤٧) كتاب الزهد ، باب صفة الجنة (٤٣٢٨).

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١١٩) عن كلّ من :

الضحاك (١٨٥٩٧) ، وقتادة (١٨٥٩٨) ، وابن عباس (١٨٥٩٩) ، ومجاهد (١٨٦٠٠ ، ١٨٦٠١ ، ١٨٦٠٢ ، ١٨٦٠٤) ، وأبو العالية (١٨٦٠٣ ، ١٨٦٠٥) ، وذكره البغوي وغيره (٢ / ٤٠٣).

١٨٧

قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) تأويله ـ والله أعلم ـ : لا تكن يا محمد في شك بأن هؤلاء قد بلغوا في عبادتهم الأصنام والأوثان الحد الذي بلغ آباؤهم في عبادتهم الأصنام والأوثان فأهلكوا إذا بلغوا ذلك الحد ، فهؤلاء ـ أيضا ـ قد بلغوا ذلك المبلغ ؛ أي : مبلغ الهلاك ، لكن الله برحمته وفضله أخره عنهم إلى وقت.

أو يقال : إن هؤلاء قد بلغوا في العبادة لغير الله بعد نزول القرآن والحجة المبلغ الذي كان بلغ آباؤهم قبل نزول الحجة والبرهان في عبادتهم غير الله.

أو كان في قوم قد أظهروا الموافقة لهم ، وكانوا يعبدون الأصنام في السر على ما كان يعبد آباؤهم ، فقال : هؤلاء وإن أظهروا الموافقة لك فقد بلغوا بصنيعهم في السر مبلغ آبائهم ، والله أعلم هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : إخبار عن قوم خاص أنه لا يؤمن أحد منهم ؛ ليجعل شغله (١) بغيرهم.

والثاني : إخبار ألا يؤمن جميع قومك كما لم يؤمن قوم موسى بأجمعهم ؛ بل قد آمن منهم فريق ، ولم يؤمن فريق ، فعلى ذلك يكون قومك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) قال بعضهم : قوله : وإنا لموفوهم نصيبهم في الدنيا من الأرزاق (٢) ، وما قدر لهم من النعم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) ، لا ينقص ما قدر لهم ؛ أي : لا يهلكون حتى يوفى لهم الرزق.

وقال قائلون : وإنا لموفوهم بأعمالهم غير منقوص أي : لا ينقصون من أعمالهم شيئا ، ولا يزادون عليها (٣) ، إن كان حسنا فحسن ، وإن كان شرّا فشر ؛ فهو على الجزاء.

وقال بعضهم : [قوله](٤) : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) يقول : إنا نوفر لهم حظهم من

__________________

(١) في أ : شغلهم.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي العالية ، والرازي في تفسيره (١٨ / ٥٥).

(٣) في أ : عليهم.

(٤) سقط في ب.

١٨٨

العذاب في الآخرة ، غير منقوص عنهم ذلك العذاب (١).

وقوله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) إن كان التأويل في قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) على الإياس من قوم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون ، فيكون تأويله ما ذكر في آية أخرى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ ...) الآية [هود : ١٥] ، وإن كان الثاني فهو ما ذكر في آية أخرى قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ...) الآية [هود : ١١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي : اختلف في الكتاب ، والاختلاف فيه يحتمل وجوها ثلاثة :

أحدها : في الإيمان به والكفر منهم ، من آمن به ، ومنهم من كفر.

والثاني : اختلفوا فيه : في الزيادة والنقصان ، والتبديل والتحويل والتحريف ؛ كقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ...) الآية [آل عمران : ٧٨] ، وكقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ...) الآية [البقرة : ٧٩] وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] وأمثاله من الآيات.

والوجه الثالث : من الاختلاف : اختلفوا في تأويله وفي معناه بعد ما آمنوا به وقبلوه ، فالاختلاف في التأويل مما احتمل كتابنا ، وأمّا التبديل والتحويل والتحريف ، والزيادة والنقصان فإنه لا يحتمل لما ضمن الله حفظ هذا الكتاب بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٢] ، وجعله ميسرا على ألسن الناس وقلوبهم ، حتى من زاد ، أو نقص ، أو بدل ، أو حرف شيئا أو قدم ، أو أخر عرف ذلك ، فهو ـ والله أعلم ـ لما لا يحتمل إحكام هذا نسخها ولا شرائعه تبديلها ، وأما الكتب السالفة فإنما جعل حفظها إليهم بقوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤] فهو ـ والله أعلم ـ لما احتمل شرائعها وأحكامها نسخها وتبديلها ، لذلك كان الأمر ما ذكرناه.

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ذكر هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصبره على ما اختلف فيه قومه في الكتاب الذي أنزل (٢) عليه ؛ يقول : وقد اختلف فيما أنزل على من كان قبلك كما اختلف فيما أنزل عليك.

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٢٠) (١٨٦١١) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن زيد.

(٢) في ب : نزل.

١٨٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالهلاك إهلاك استئصال واستيعاب.

وكلمته التي سبقت تحتمل ما كان من حكمه أن يختم الرسالة بمحمد وأن يجعله خاتم النبيين ، وأمته آخر (١) الأمم ، بهم تقوم الساعة ، يحتمل أن يكون كلمته التي ذكر هذا الذي ذكرناه.

وتحتمل وجها آخر : وهو أن كان من حكمه أنهم إذا اختلفوا في الكتاب والدين ، وصاروا بحيث لا يهتدون إلى شيء ، ولا يجدون سبيلا إلى الدين أن يبعث رسولا يبين لهم الدين ، ويدعوهم إلى الهدى ؛ لو لا هذا الحكم الذي سبق وإلا لقضي بينهم بالهلاك.

والثالث : [لو لا](٢) ما سبق منه أن يؤخر العذاب عن هذه الأمة إلى وقت وإلا لقضي بينهم بالهلاك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يحتمل الكلمة التي ذكر أنها سبقت في قوم موسى ، وهو أنه لا يهلكهم بعد الغرق إهلاك استئصال ، والتوراة إنما أنزلت من بعد ، فقد آمن [من قومه قوم ، وهو ما قال](٣) : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...) الآية [الأعراف : ١٥٩].

[وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يحتمل قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) في الدين مريب](٤).

وقال بعضهم : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) يعني : من العذاب مريب وقد ذكرنا الفرق بين الشك والريب فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) قيل : (لَمَّا) هاهنا صلة ، يقول ـ والله أعلم ـ : وإن كلا ليفينهم ربك جزاء أعمالهم في الآخرة إن كان شرّا فشرّ ، وإن كان حسنا فحسن.

ومن قرأ (٥) (لما) بالتشديد [فتأويله يحتمل](٦) وجهين :

__________________

(١) في ب : خير.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٥) قرأها مشددة هنا وفي «يس» وفي سورة الزخرف ، وفي سورة الطارق : ابن عامر وعاصم وحمزة ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافا : فروى عنه هشام وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف ، وتلخص من هذا : أن نافعا وابن كثير قرأ : وإن و (لما) مخففتين ، وأن أبا بكر عن عاصم خفف إِنَّ وثقل لَمَّا ، وأن ابن عامر وحمزة وحفصا ـ

١٩٠

أحدهما : إلا.

والثاني : لما ؛ أي : «لممما» اجتمع فيها ميمات طرحت الواحدة وأدغمت إحداهما في الأخرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وهو وعيد.

قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) وقال في موضع آخر : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال بعضهم قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) الاستقامة هو التوحيد ؛ أي : استقم عليه حتى تأتى به ربك ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على ذلك حتى أتوا على الله به.

وقال بعضهم : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) بما تضمن قوله : (رَبُّنَا اللهُ) لأن قوله : (رَبُّنَا اللهُ) إقرار منه له بالربوبية ، فيجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية لله ، والألوهية له ، ويجعل في نفسه العبودية له ؛ هذه هي الاستقامة التي ذكر ، والله أعلم ، أن يجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية لله ، والألوهية له ، ويأتي ما يجب [أن يؤتى ، وينتهي عما يجب أن ينتهي](١) ، ويتبع جميع أوامره ونواهيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَقِمْ) لرسول الله ، يحتمل على تبليغ الرسالة إليهم.

وقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : استقم على ما أمرت ومن آمن معك ـ أيضا ـ يستقيم على ما أمروا.

والثاني : يقول : امض إلى ما أمرت حرف (كَما) يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما على ما أمرت ، وإلى ما أمرت.

__________________

ـ عن عاصم شددوا (إن) و (لما) معا ، وأن أبا عمرو والكسائى شددا (إن) وخففا (لما) ، فهذا أربع قراءات للقراء في هذين الحرفين.

ينظر اختلاف السبعة في هذه القراءة فى : الحجة (٤ / ٣٨٠ ، ٣٨١) ، وإعراب القراءات السبع (١ / ٢٩٤) ، وحجة القراءات ص (٣٥١ ، ٣٥٢) ، والإتحاف (٢ / ١٣٥ ، ١٣٦) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢١٠) ، والبحر المحيط (٥ / ٢٦٦) ، والدر المصون (٤ / ١٣٥).

ينظر اللباب (١٠ / ٥٧٦).

(٦) في أ : فيحتمل.

(١) في أ : ما يؤتى وينتهي ما يجب ما ينتهي.

١٩١

وقوله : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) من الشرك ، ادعوهم على أن يستقيموا على ما أقروا وأدّوا بلسانهم (وَلا تَطْغَوْا) قال بعضهم (١) الطغيان هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له.

وقوله : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذا وعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال الحسن : هو صلة قوله : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار.

قال الحسن : بينهما دين الله بين الركون إلى الظلمة ، والطغيان في النعمة.

الآية وإن كانت في أهل الشرك فهي فيهم وفي غيرهم من الظلمة أن كل من ركن إلى الظلمة يطيعهم أو يودهم فهو يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) في دفع العذاب عنهم ، أو إحداث نفع لهم.

(ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) لا ناصر لهم دونه ، ولا مانع ، والله أعلم.

وتأويل قوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في ظلمهم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ...) الآية ، وإن خرجت مخرج العموم فهي خاصة ؛ لأنه لا كل ظلم يركن إليه تمسّه النار ، وكأنه إنما خاطب به الأتباع ؛ يقول : لا تركنوا إلى الكبراء منهم والقادة في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه فتمسكم النار.

وقال بعض أهل التأويل نزل قوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاه أهل الشرك إلى ملة آبائه ؛ يقول : ولا تميلوا إلى أهل الشرك ، ولا تلحقوا بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : صلاة المغرب ، ظاهر هذا أن يكون فيها ذكر صلوات ثلاث : صلاة الفجر في الطرف الأوّل ، وصلاة العصر في الطرف الأخير (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [صلاة المغرب ؛ لأنه ذكر زلفا من الليل ، والزلف هي القرب منه ؛ لأن الزلفى هي القربة والوسيلة إليه ؛ فيكون قوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)](٢) أي : قريبا من طرفي النهار من الليل ، وهو المغرب ، ويكون ذكر سائر الصلوات في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء : ٧٨] ذكر دلوك الشمس ، وهو زوال الشمس ، وغسق الليل : العشاء ، أو في قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم : ١٧ ، ١٨] (حِينَ تُمْسُونَ) : صلاة العصر ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : صلاة الفجر (وَعَشِيًّا) : صلاة العشاء (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) : صلاة الظهر ، وليس لصلاة المغرب ذكر في الآية ، لكنها ذكرت في قوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٩٢

وقال بعضهم : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : هو ساعات الليل (١) ، إلا أن بعض أهل التأويل صرفوها إلى الصلوات الخمس ، وقالوا : قوله : (طَرَفَيِ النَّهارِ) : صلاة الصبح والظهر والعصر (٢)(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء (٣).

وقال الحسن : هما زلفتان من الليل : صلاة المغرب وصلاة العشاء (٤) ، وعلى ذلك جاءت الآثار في قوله (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الحسنات هي الصلوات الخمس.

وروي أن رجلا أصاب من امرأة كل شيء إلا الجماع ، فندم على ذلك ، فأتى رسول الله ، فسأله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أدري ما أرد عليك حتى يأتيني فيك شيء من الله.

قال : فبينما هم كذلك إذ حضرت الصلاة ، فلما فرغ من صلاته نزل عليه جبريل بتوبته فقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية ، صلاة الغداة والظهر والعصر (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) صلاة المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَناتِ) يعني : الصلوات الخمس (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). (ذلِكَ) : يعني : الصلوات الخمس (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) قال : توبة للتائبين (٥) ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : يا رسول الله ، أخاص له أم عام؟ قال ، «لا ، بل عام للناس كلهم» (٦) فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك.

وعن عثمان ـ في بعض الأخبار ـ أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الصلوات الخمس الحسنات يذهبن السيئات» فقالوا : فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ فقال : لا إله إلا الله ، وسبحان

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٢٧) (١٨٦٣٨ ، ١٨٦٣٩ ، ١٨٦٤٠ ، ١٨٦٤٤) عن مجاهد.

وذكره بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٧) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٢٥٠١٢٤) عن كلّ من : مجاهد (١٨٦٢١ ، ١٨٦٢٢ ، ١٨٦٢٣) ، ومحمد ابن كعب (١٨٦٢٤ ، ١٨٦٢٥) ، والضحاك (١٨٦٢٦).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨) عن كلّ من : مجاهد (١٨٦٤٩ و ١٨٦٥٠ و ١٨٦٥١) ، وقتادة (١٨٦٥٣) ، ومحمد بن كعب (١٨٦٥٤ ، ١٨٦٥٥ ، ١٨٦٥٦) ، والضحاك (١٨٦٥٨ ، ١٨٦٦٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٢٧ ، ١٢٨) (١٨٦٤٦ ، ١٨٦٤٧ ، ١٨٦٤٨ ، ١٨٦٥٢ ، ١٨٦٥٩).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٥) في أ : للتائب.

(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٣١ ، ١٣٢) (١٨٦٨١ ، ١٨٦٨٧) ، وأحمد (١ / ٤٤٥) ، وابن خزيمة (٣١٣) وابن حبان في صحيحه (١٧٣٠).

وللحديث ألفاظ أخرى أخرجها كل من : البخاري (٨ / ٣٥٥) كتاب التفسير سورة «هود» ، باب : «وأقم الصلاة ... الآية» (٤٦٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١١٥ ، ٢١١٦) كتاب التوبة ، باب قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣٩ / ٣٧٦٣) عن ابن مسعود.

١٩٣

الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم](١).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات كفارات الخطايا ، واقرءوا إن شئتم : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

وعن ابن عباس : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال : الصلوات الخمس (٢).

وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات» (٣).

والأخبار في هذا كثيرة.

وقال بعضهم : فيه ذكر أربع صلوات ، يقول : (طَرَفَيِ النَّهارِ) : الفجر والعصر (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : المغرب والعشاء.

وقد جاءت الآثار في أن الحسنات هن خمس صلوات.

وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال بعضهم : فعل الصلوات نفسها ، وهو ما ذكرنا من الأخبار إن ثبت.

وقال بعضهم : نفس الصلاة لا تكفر ، ولكن تذكر ما ارتكب من الذنوب فيندم عليها ؛ فذلك يكفر ، وهو كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ...) الآية ، أخبر أن الصلاة تنهى ، ولا تنهى إلا بعد أن تذكر ذلك.

وقال بعضهم قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) ؛ أي : تمنع عن الفحشاء ؛ أي : ما دام فيها.

ويحتمل قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الصلوات وغيرها من الحسنات ؛ فيه إخبار أن من الحسنات [ما يكفر](٤) شيئا من السيئات ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ذلِكَ) الذي سبق ذكره (ذِكْرى) عظة للمتعظين.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير بمعناه (٧ / ١٣٠) (١٨٦٧٥ ، ١٨٦٧٦ ، ١٨٦٧٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٤٠) وزاد نسبته لأحمد والبزار وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، ونسبه صحيح عن عثمان بن عفان.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٢٩) (١٨٦٤٤ ، ١٨٦٦٧ ، ١٨٦٧٣) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٧) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٤٦٣) كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب «المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات» (٢٨٤ / ٦٦٨) ، وأحمد (٣ / ٣٠٥ ، ٣١٧ ، ٣٥٧) ، وعبد بن حميد (١٠١٤) ، والدارمي (١١٨٦).

(٤) في أ : تكفر.

١٩٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ظاهر ما ذكر من الكلام أن يقول : فإن الله لا يضيع أجر الصابرين ؛ لأنه ذكر الصبر بقوله : (اصْبِرْ) [ص : ١٧] لكن يحتمل قوله : (وَاصْبِرْ) عن الشرور كلها وأحسن (١) ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ؛ بل يجزيهم جزاء إحسانهم.

أو يقول : اصبر على أداء ما كلفت من الطاعات ، أو تبليغ ما كلفت التبليغ إليهم.

ويحتمل وجها آخر : اصبر على أذاهم ولا تكافئهم [فإذا لم تكافئهم](٢) فقد أحسنت إليهم ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، أو يقول هو له : (إِنَّ الْحَسَناتِ) والله أعلم.

قال أبو عوسجة : قوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : ساعات من الليل (٣). وقال : الزلفة : المرحلة ، والزلفة : القربة ؛ كقوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي : لقربة (٤).

وقال أبو عبيدة (٥) : الزلف : [جمع](٦) زلفة ، وهي الساعة ، وهي المنزلة (٧) [على ما قلناه](٨).

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١٢٠)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً) ظاهر هذا يخرج على المعاتبة أو التنبيه والتذكير ؛ لأنه يقول : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) أي : لم لا كانوا كذا؟ فليس ثم من أولئك من يعاتب أو ينبه ، لكنها تخرج على وجهين :

__________________

(١) في أ : فأحسن.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : القربة.

(٥) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٠٠).

(٦) سقط في ب.

(٧) انظر البحر المحيط لأبي حيان (٥ / ٢٧٠).

(٨) سقط في أ.

١٩٥

أحدهما : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أي : فهلا كانوا ذوي بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ومعناه ـ والله أعلم ـ : هلا كثر أهل الإسلام فيهم حتى قدروا على النهي عن الفساد في الأرض ؛ لأنهم إذا كانوا قليلا لم يقدروا على النهي عن الفساد في الأرض ؛ نحو لوط وأهله ، كانوا عددا قليلا كيف كان يقدر على النهي عن الفساد ، أو المنع عن ذلك ، وكنوح ـ أيضا ـ كان معه نفر يقل عددهم ، لم يقدروا على منع قومه عن الفساد ونحوه.

فإذا كان ما ذكرناه فكأنه ـ والله أعلم ـ يقول : هلا كثر أهل الإسلام وأولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض.

والثاني : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : قد كان منهم أولو بقية ، لكنهم لم ينهوا عن الفساد في الأرض ، فأهلكوا جميعا إلا قليلا ممن أنجينا منهم ، وذلك القليل قد نهوا عن الفساد في الأرض ، فنجوا بين أولئك.

حاصل هذا يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما :

أحدهما : لم يكن منهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ؛ على ما قاله بعض أهل التأويل.

والثاني : كان فيهم أولو بقية ، لكنهم لم ينهوهم عن الفساد [في الأرض](١) إلا قليلا منهم فإنهم قد نهوهم عن ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) هو يخرج على وجهين :

يحتمل : واتبع : الأتباع والسفلة الذين ظلموا من أترفوا فيه من الأموال أي : وسع [عليهم وأعطوا](٢) الأموال وهم الأجلة والأئمة منهم أي : آثروا اتباع الأئمة والأجلة الذين أترفوا فيه على اتباع الرسل والأنبياء.

والثاني : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الأجلة والأئمة (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي : ما أعطوا من الأموال أي : آثروا الدنيا وما فيها على اتباع الرسل والأنبياء.

أحد التأويلين يرجع إلى السفلة والأتباع ، وهو الأوّل ، والثاني إلى الأجلة والأئمة هم آثروا اتباع الدنيا على اتباع الرسل ، ثم تبعهم الأتباع والسفلة في ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) أي : ما كان ربك ليهلك القرى إهلاك استئصال وانتقام وأهلها كلهم مصلحون ، أو أكثر أهلها

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : إليهم وأعطوهم.

١٩٦

مصلحون ، إنما يهلك القرى إذا كان أهلها كلهم مفسدين ، أو عامة أهلها مفسدين ؛ هذا يدل [على] أن الحكم في الدار إنما يكون بغلبة أهلها : إن كان أكثر أهلها أهل الإسلام فالحكم حكم الإسلام ، وإن كان عامة أهلها أهل الحرب والكفر فالحكم حكمهم ، ولا يسمّى أهلها كلهم بالكفر والفساد إذا كان أكثر أهلها مصلحين ؛ ألا ترى أنه قال في قوم لوط : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) سمى أهل [القرية](١) قرية وإن كان فيها لوط وأهله مصلحون لم يعد لوطا وأهله من أهلها.

وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي : لا يكون في إهلاكهم ظالما.

ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : أن الخلق له ، فهو بإهلاكه لم يكن ظالما ؛ لأنه أهلك ماله.

والثاني : أنه إنما يهلكهم بظلم كان منهم ؛ كقوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ ...) الآية ، أي : إنما يهلكهم بشيء اكتسبوه ، فهم بما اكتسبوا ظلموا أنفسهم ، وهو كقوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) قالت المعتزلة : هذه المشيئة مشيئة القهر والقسر ، وذلك مما يدفع (٢) المحنة ، ويزول لديه المثوبة والعقوبة ، وكذلك في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩].

وأما عندنا فلو شاء لجعلهم أمة واحدة ، مشيئة لا تزول معها المحنة ، والذى يدل عليه خصال :

أحدها : أن الله تعالى قد عرفنا الإيمان والدين الذي يقع به اجتماع ، أو فيه الاختلاف بما ركب فينا من العقول التي بها نعرف حقائق الأشياء ومجازاتها ، ومحاسن الأمور وقبيحها ، بمعونة السمع أو بالتأمل فيما يحس (٣) بالأمرين جميعا أنه لا يكون إلا بالاختيار ، ولا يوصل إلى السبب الذي به يدان إلا بالاستدلال أو التعليم ؛ إذ هو طاعة وتصديق ، وذلك يكون ممن لا يحس (٤) ، وطريقه الاجتهاد ، وكل ذي أضداد القسر ، فمحال أن يعود الكون لو شاء على وجه قد عرفنا أنه لا يكون سمعا وعقلا ، فيكون في الحقيقة كأنه قال لو شاء أن يكون لا يكون ، على أن ذا من يقبل عنه هذه الدعوى على قولهم ، وهو منذ كان الخلق بين أن كان فيما شاء إثباته من أفعال الخلق فلم يكن ولم

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يرفع.

(٣) في أ : يحسن.

(٤) في أ : يحسن.

١٩٧

يشأ ، فكان عندهم ، فهو كمن ظهر عجزه بجميع أدلة العجز ، ثم يدع أن له القدرة بها ، يقهر ما يشاء ، فذلك كمن لا يقوم للانتصاب والنهوض فيدع أنه يقدر على الصعود ، أو من لا يملك إمساك مثل ذرة أنه ممسك السموات والأرض. على أنه لو كان كذلك ليجيء أن يكون يقدر على فعل الكفر والسفه والكذب ، إذ من يقدر على فعل شيء (١) لا يقدر على فعل ضده عندهم ليس ذلك بقدرة.

ثم لو كان ذلك كله بلا غير ، يصير له فعلا ، فكان يكون في الحقيقة سفيها كذوبا ، ومن كان ذلك وصفه فهو غير رب ولا حكيم ، ومن ربوبيته تحت قدرة غيره أو حكمته تحتمل المضادات ، فهو مسئول عما يفعل ، مطالب بالحجج (٢) ، فأنى يكون لمن ذلك وصفه ربوبية جل عن ذلك.

والثاني : أن الذي يكون بالقسر والقهر يكون أمر الخلقة ، لا أمر فعل العبد ، وذلك في الحقيقة لله ، لا للبشر ، وما هو له من جهة الخلقة موجود ؛ لأن نفس كل أحد بالخلقة مؤمن ، وقد شاء الله تلك المشيئة ، فالقول بلو شاء لا معنى له ؛ بل قد شاء وكان ، ولا قوة إلا بالله.

والثالث : أنه وعد أن لو شاء أن يجعل كذا لفعل ؛ وهو لو فعل لكان يجعل من قد آمن منهم في الحقيقة مؤمنا في المجاز ، كافرا في الحقيقة ؛ لأنهم بهذا يصيرون أمّة واحدة ؛ إذ صار كثير منهم مؤمنين بالاختيار ، لا يحتمل أن يجعلهم على غير ذلك ، فيكون محمودا عدلا ، والله الموفق.

ثم الأصل أن الله ـ تعالى ـ قد جعل أدلة كل موعود في الحس ظاهرا ، وكل مقدور عليه بالوعد والدعوى له مما جبل عليه أمرا بيّنا ، وهذا النوع من المشيئة عندهم والدعوى بما جعل جميع مانع لأن يكون كائنا (٣) ، فيصير بالذى به ادعى لنفسه من القدرة مكذبا بما جعل لمنع مثله الأدلة ، ومن ذلك وصفه ، فهو غير حكيم ، جل الله عن هذا.

على أن المتأمل بما أخبر (٤) يجد حقيقته دون أن يحتاج إلى دليل يوضح قدرته على ما ادعى على بقاء المحنة سبيلا سهلا بحمد الله لا يحتاج إلى ما ذكروا من المكابرة ، وهو ما قال الله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية [الزخرف : ٣٣].

__________________

(١) في أ : ذلك.

(٢) في أ : بالحجة.

(٣) في ب : كذلك. ولعل في الجملة سقطا بعد «جميع».

(٤) في أ : اختبر.

١٩٨

ومعلوم أنهم لو كفروا جميعا بما ذكر لكانوا مختارين ، وإلى ما جاءوا به غير مضطرين ، فإذا استقام كونهم على دين الكفر بذلك لا يحتمل ألا يوجب ذلك بقاء على الإيمان لو كانوا [مختارين لذلك يستقيم كونهم على دين الإيمان مختارين ، أو لو جعل ذلك للمؤمنين](١) فيقدرون (٢) على قولهم أن يجعلهم كفارا بالمحنة ، لا يقدر على أن يجعلهم مؤمنين بها ؛ لأن ذلك وصف العجز عندهم ، وإن كان لا يكون كذلك عندنا ؛ لأنه يستقيم القول بالأقدار على إحداث غيره ، ومحال القول على جعل غيره قديما ، أو على إحواج غيره إليه لا يحتمل الوصف بالقدرة على إغناء غيره عنه ، وعليهم أوضح ؛ إذ أجازوا [له](٣) القدرة على كل حركة للعبد وسكون بالاضطرار ، ولم يجوزوا في ذلك بالاختيار ، اللهم إلا أن يقولوا : لا يجوز أن يكون العبد غير كامل القدرة ، وهي القدرة على مضادات (٤) الأشياء ، والله يجوز له الوصف بالقدرة الناقصة ، فيكون قريبا مما جعلوا للعبد قدرة على ما يجهل الرب ، ويجعله كاذبا فيما يخبر على بقاء الربوبية له ، والله لا يقدر على مثله في العبد على بقاء العبودية (٥) له بالمحنة ، أو ما أقدروا العبد على إهلاك من وعد الله فيه الإبقاء ، ويريد ذلك ، وذلك فضله ، ووعد له مع ذلك أن يعطيه كذا ، فيأتي معاند فيقتله ، ويمنع الرب عن إنجاز وعده ، وعن سلطان بقائه ؛ جل الرب عن هذا ، وذلك في قولهم فيما يضرب الله لنبي أو صديق أجلا يرى به مصلحة عباده يقدر الكافر على قتله قبل مجيء ذلك الأجل ، وإبطال جميع ما وعد والإيفاء بما هو صنيعه من إبقاء الحياة فيه ، ولا يقدر الله على إنجاز ما وعد وإيفائه على ما أراد ، والعبد بحاله إلا أن يعجزه ، أو يميته ، أو يجعله زمنا ، والله المستعان.

ثم الأصل أن كل مريد بفعله فيما فعله أمرا لا يكون ذلك ، وهو لم يكن فعله إلا لذلك يوجب أحد أمرين في الحكمة : إما جهلا بالعواقب وخطأ بالفعل ؛ كمن يفعل فعلا يحزن عليه أو يلحقه به مكروه ، فهو لا يفعله له يظهر فاعله أنه عن جهل فعل ، وعلى الخطأ خرج فعله ، وعلى ذلك معنى التحذير في الخلق والتنبيه بقولهم : «لدوا للموت وابنوا للخراب» وسرق ليقطع ، وبارز ليقتل من حيث كان والثاني متصلا بالأول ينبه عن الغفلة على إرادة التحذير أنه إليه يئول أمر فعله وعلى ذلك قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...)

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) في ب : فيقدر.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : مضادة.

(٥) في ب : العبودة.

١٩٩

الآية [القصص : ٨] ، أو أن يقال ذلك على أنه كذلك في فعله عند الله وإن جهله هو ، أو يوجب السفه في الفعل والعبث ؛ إذ هو يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون ، أو يريد ما يتيقن أنه لا يبلغ ، وإذا كان كذلك فإعطاء الله ـ تعالى ـ القدرة ليؤمن ، أو خلقه ليعبد ، وأراد أنه يفعل ذلك ، واختار ذلك الفعل ، لذلك يوجب أحد ذينك الوجهين جل الله عنهما وتعالى ، وقد ثبت أن الله ـ تعالى ـ عالم بالعواقب ، متعال عن العبث ، ثبت أنه خلق من خلق ، وأعطى ما أعطى لما علم أنه يكون ، وقد علم ما يكون ، وعلى هذا التقدير (١) يخرج الأمر في قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ...) الآية [الأعراف : ١٧٩] ، وقوله : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ...) الآية [التوبة : ٨٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أنه خلقهم للذى علم أنهم يصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق ، أو عداوة أو ولاية ، لا يريد غير الذي علم ، ولا يعلم غير الذي يكون ممن يعلم ما يكون ، ولا قوة إلا بالله.

وقالت المعتزلة : قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي : للرحمة خلقهم ؛ فقال : بعض متكلمي أصحابنا : إن الرحمة تذكر بالتأنيث وهو إنما ذكر بالتذكير ؛ حيث قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ولم يقل : ولتلك خلقهم دل أنه ليس على ما يقولون.

وقال قائلون : للاختلاف خلقهم إلا من رحم ربك.

وقال بعضهم : هو صلة قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) أي : خلقهم لئلا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.

وعندنا ما ذكرنا أنه خلقهم للذى علم أنه يكون منهم ، وأنهم يصيرون إليه من الاختلاف أو الاتفاق ، أو العداوة أو الولاية ، لا يخلقهم لغير الذي علم أنه يكون منهم ، ولا يريد ـ أيضا ـ غير ما علم أنهم يصيرون إليه ، ولا يعلم غير ما يكون منهم ، والله الموفق.

وتأويل المعتزلة في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أنها مشيئة [القسر والقهر](٢) ، فذلك بعيد ؛ لأنه لا يكون في حال القهر والاضطرار إيمان ؛ لأن من أكره واضطر على الإيمان حتى آمن فإنه لا يكون إيمانه إيمانا ، إنما يكون الإيمان إيمانا في حال الاختيار إذا آمن مختارا ممتحنا فيه ، فعند ذلك يكون إيمانه إيمانا دل أن تأويلهم فاسد.

__________________

(١) في ب : التقرير.

(٢) في ب : القهر والقسر.

٢٠٠