تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

لما ذكرنا أنّه كالأب لهم.

ثم يحتمل معنى جعل النبي لأولاد قومه كالأب ، وأزواجه كالأم وجهين :

أحدهما : نسبوا إليه للشفقة ، فهو (١) أشفق بهم من الأب والأم.

أو : لحق التربية وتعليم الدين كالأب لهم ؛ فهو أولى بهم من أنفسهم لهذين الوجهين.

وقال بعضهم : أراد بنات نفسه (٢).

ثم اختلف فيه.

قال بعضهم : كان ذلك منه تعريضا لهم للنكاح ؛ يقول : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم نكاحا إن كنتم قابلين للإيمان.

ومنهم من قال : هو تعريض منه لما هو زنا عندهم ، لا أنه عرض ذلك عند نفسه ، وهذا كما يقولون بأن من أكره على أن يشتم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا بأس بأن يشتم ويقصد بشتمه محمدا آخر يحل له شتمه ، وإن كان عند المكره أنه يشتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن جعل (٣) الشاتم في قلبه [غيره](٤) ، وكذلك إذا أكره [على](٥) أن يشتم الإله ، فيقصد بالشتم شتم آلهتهم ، وإن كان عندهم أنه [إنما](٦) يشتم إلهه الذي يعبده ؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) تعريض زنا عندهم ، وإن كان عنده أنه ليس لذلك يقصد.

وقال قائلون : قال هذا ليريهم قبح الفعل الذي كانوا يقصدون بأضيافه ؛ لأن الزنا كان عندهم محرما فعرض عليهم بناته ؛ ليعرفوا قبح ذلك الفعل ؛ حيث احتمل فعله (٧) في بناته ولم يحتمل في أضيافه ؛ ليمتنعوا عن ذلك.

أو يحتمل أن يكون قال ذلك وإن كان كلاهما لا يحلان ، لكن أحدهما أيسر وأهون ، ويجوز الجمع بين شرين ؛ فيقال : هذا أطهر لكم وأحل من هذا ، وهذا أيسر من هذا وأهون ، وإن كان كلاهما شرين ، فالزنا وإن كان حراما فذلك مما يحل بالنكاح ، وأدبار الرجال لا تحل بحال.

وقال بعضهم : إنهم كانوا يخطبون بناته ، وكان أبي أن يزوجهن منهم ؛ لما لم يكونوا

__________________

(١) في ب : هو.

(٢) ذكره البغوي (٢ / ٣٩٣) ، وكذا أبو حيان (٥ / ٢٤٧).

(٣) في أ : أخطر.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : قلبه.

١٦١

كفؤا لهن ، ثم عرض عليهم في ذلك الوقت ؛ ليعلموا قبح ذلك الفعل الذي قصدوا بأضيافه ، أو كلام نحو هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) وقال في موضع آخر : (فَلا تَفْضَحُونِ) [الحجر : ٦٨] ليعلم أن الإخزاء هو الفضيحة ؛ هذا يدل أن الخزي هو الذي يفضح من نزل به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) قال بعضهم : هم أن يزوج بعض بناته من يصدر لرأيه فيمنعهم عنهم ؛ كأنه يقول : أليس منكم من يرشد ويصدر لرأيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي : أليس منكم رجل يقبل الموعظة ، ويرشدكم ، ويعظكم ، أو يقول : أليس منكم رجل رشيد على النفي فيمنعهم عما يريدون ويقصدون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) على التأويلين اللذين ذكرناهما يكون : الحق : حق النكاح ، أو حق الاستمتاع ، وفي بعض التأويلات من حق : من حاجة ، وبذلك يقول عامة أهل التأويل : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي : من حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) يعنون : الأضياف (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي : قوة في نفسي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قيل : عشيرته. والركن الشديد عند العرب : العشيرة ؛ يقول : لو أن لي بكم قوة في نفسي أو عشيرة يعينوني لقاتلتكم ؛ فيه دلالة أن من رأى آخر على فاحشة فله أن يقاتله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) تأويله ـ والله أعلم ـ : أنك تعلم أن ليس لنا في بناتك من حق كما ليس لنا فى (١) أضيافك من حق فكيف تمنعنا عنهم وتعرض علينا بناتك ، فهن فيما ليس لنا فيهن حق كأولئك ، والله أعلم.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) قيل : قالوا ذلك للوط : لن يصلوا إليك ؛ لما طمسوا أعينهم ، وهو كقوله : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٧].

وقال قائلون قالوا ذلك للوط [لما أوعدوا للوط](٢) حين طمست أعينهم أن ضيفك سحروا أبصارنا ، فستعلم غدا ما تلقى أنت وأهلك ، فقالوا عند ذلك : لن يصلوا إليك بسوء غدا بأنهم يهلكون.

ودل قوله : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) على أنهم قد هموا للوط وأوعدوه حتى قال ما قال ؛ ألا ترى أن الملائكة قالوا له : إنهم لن يصلوا إليك ، فهذا على ما ذكرنا.

__________________

(١) في أ : من.

(٢) سقط في أ.

١٦٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قيل : قطع من الليل : آخره (١) وهو وقت السحر.

وقيل : هو ثلث الليل ، أو ربعه من آخره ، وهو واحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) قيل (٢) : لا يتخلف أحد منكم إلا امرأتك ؛ فإنها تتخلف ، ويصيبها ما أصاب أولئك.

وقال بعضهم : (وَلا يَلْتَفِتْ) من الالتفات والنظر.

وقيل : لا يترك أحد منكم متابعتك إلا امرأتك ؛ فإنها لا تتبعك ، فيصيبها ما أصاب أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) يحتمل النهي عن الالتفات ، كأنه يقول : لا يلتفت أحد.

ويحتمل الخبر كأنه يقول : لا يلتفت منكم أحد إلا من ذكر ، وهو زوجته ، فذلك علامة لخلافها له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) ، فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) : كأن لوطا استبطأ الصبح لعذابهم ، فقالوا : أليس الصبح بقريب ، هذا من لوط لا يحتمل أن يكون قال ذلك وهو بين أظهرهم ، ويعلم أن قراه يقلب أعلاها أسفلها ، وأسفلها أعلاها ، ولكن قال [ذلك](٣) ـ والله أعلم ـ بعد ما أخرجوه وأهله من بين أظهرهم ، فعند ذلك قال ما قال ، واستبطأ وقت نزول العذاب بهم ؛ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) يحتمل : جاء الأمر بالمراد بأمرنا.

أو أمره هو جعله عاليها سافلها.

ثم قال أهل التأويل قوله (٤) : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أدخل جبريل جناحه تحت [قريات لوط](٥) فرفعها إلى السماء ، ثم قلبها فجعل ما [هو](٦) أعلاها أسفلها ، فهوت إلى الأرض ؛ فذلك قوله : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) قيل : [أهوى بها](٧) جبريل من السماء

إلى الأرض.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٢٣) وعزاه لابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٣).

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير (١٨٤٢٢) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٤).

وهو قول قتادة والسدي ومجاهد وغيرهم.

(٥) في ب : قرياته.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : أهواها.

١٦٣

وأمكن أن يكون إذا أهلكهم جعلهم تحت الأرض ؛ فذلك جعل أعلاها أسفلها ، [لكن أهل التأويل حملوه على ما ذكرنا ، وأجمعوا على ذلك.

وقال بعضهم : قلبت القرى ، وجعل أعلاها أسفلها](١) على ما ذكر (٢) ، وأرسل الحجارة على من (٣) كان غائبا عنها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ).

قال بعضهم : أمطر الحجارة عليها ، ثم قلبها جبريل.

وقال بعضهم (٤) : أمطر عليها الحجارة بعد ما قلبها [جبريل](٥) ، فسواها ، وكل واحد منهم كان غائبا عن بلده جاءت (٦) حجار (٧) مكتوب عليها اسمه فقلته (٨) حيث كان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ سِجِّيلٍ) [قال بعضهم](٩) : السجيل (١٠) : هو اسم المكان الذي منه رفع (١١) الحجر الذي أمطر (١٢).

وقال بعضهم (١٣) : هو طين مطبوخ كالآجر.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال (١٤) : سنك وجيل (مَنْضُودٍ) نضد الحجر بالطين وألصق بعضه ببعض [مسومة](١٥) : معلمة ، مخططة ، سود الحمرة.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) في أ : ذكرنا.

(٣) في أ : ما.

(٤) انظر : تفسير البغوي (٢ / ٣٩٧).

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : فجاءت.

(٧) في أ : عجلا.

(٨) في ب : فقتله.

(٩) في ب : قيل.

(١٠) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (١٨٤٤٨).

(١١) في ب : نبع.

(١٢) في أ : أمطرنا.

(١٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٩٢) ولم يسنده عن أحد ، ونسبه البغوي (٢ / ٣٩٧) للضحاك.

(١٤) أخرجه ابن جرير (١٨٤٤٦) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٥).

(١٥) قاله قتادة وعكرمة ، أخرجه ابن جرير (١٨٤٥٨ ـ ١٨٤٥٩) وعبد الرزاق ، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٥).

وفي ب : قيل.

١٦٤

وقال بعضهم (١) : [(مُسَوَّمَةً)](٢) ، أي : مكتوب عليها اسم صاحبها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

قال بعضهم : ما هي من ظلمة قوم لوط ببعيد.

وقال بعضهم : ما هي من ظالمي أهل [مكة](٣) وحواليهم ببعيد ، [أي : عذاب الله ليس ببعيد ، فهو](٤) يعذبهم إن شاء.

ويحتمل قوله : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي : تلك القرى والأمكنة التي أهلك أهلها ليست ببعيدة من مشركي أهل مكة ، وهو ما ذكر : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ) الآية [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨] ، وفيه تذكير [منته](٥) على هذه الأمة ، حيث لم يجعل عذابهم عذاب استئصال بحيث لا يملكون العود عنه والرجوع ، ولكن جعل عذابهم الجهاد ، حتى لو أرادوا الرجوع عنه ملكوا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٢ / ٣٩٧).

(٢) في ب : مسمومة.

(٣) في ب : قرية لوط.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٥) في ب : منه.

١٦٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى مَدْيَنَ) [أي : إلى مدين أرسلنا](١)(أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذا قد ذكرنا فيما تقدم : أن كل نبي أول ما دعا قومه إنما دعا إلى توحيد الله ، وجعل العبادة له.

وفي قوله : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وما ذكر في غيره من الأخوة دلالة على أن الرسل من قبل كانوا يبعثون (٢) من جنس قومهم لا من الملائكة حيث قال : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) ، ومعلوم أنهم لم يكونوا إخوة لهم في الدين ، وفيه أن المؤاخاة (٣) لا توجب فضيلة المؤاخى له ؛ [لأنه ذكر أن الرسل](٤) إخوة أولئك الأقوام ، ومنهم (٥) كفرة ، وذلك يرد قول الروافض في تفضيل عليّ على أبي بكر بالمؤاخاة التي كانت بين رسول الله وبين علي ؛ والخلة توجب الفضيلة ، وقد جاء عنه عليه‌السلام [أنه قال](٦) : «لو اتخذت سوى ربي خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا» (٧).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، ذكر أنهم [كانوا](٨) ينقصون المكيال والميزان ، ولا يوفون الناس حقوقهم ، فنهاهم عن ذلك ، فهو ـ والله أعلم ـ لوجهين :

أحدهما : أنهم إنما نهوا عن ذلك ؛ لحق الربا ؛ لأن النقصان إذا كان برضا من صاحبه يجوز ؛ فدل أنه إنما نهاهم بحق الربا ، وفيهما يجري الربا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : من البشر.

(٣) في أ : الأخوة.

(٤) في أ : لأن الرسل.

(٥) في أ : وهم.

(٦) سقط في ب.

(٧) أخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير كما في الدر المنثور (٣ / ٢٤٣) بلفظ «غير» بدل «سوى» ، وزاد : «ولكن أخي وصاحبي في الغار» ، وفي الباب عن ابن عباس ، وابن مسعود.

حديث ابن عباس :

أخرجه البخاري (١ / ٦٦٥) كتاب الصلاة : باب الخوخة والممر في المسجد ، حديث (٤٦٧) ، وفي (٧ / ٢١) كتاب فضائل الصحابة : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت متخذا خليلا» ، حديث (٣٦٥٦ ـ ٣٦٥٧) ، وأحمد (١ / ٢٧٠).

حديث ابن مسعود :

أخرجه مسلم (٤ / ١٨٥٥) ، كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل أبي بكر ، حديث (٣ / ٢٣٨٣) ، والترمذي (٥ / ٦٠٦) كتاب المناقب : باب مناقب أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حديث (٣٦٥٥).

(٨) سقط في أ.

١٦٦

والثانى : فيه أن [هبة](١) المشتري للبائع ، وتقلبه [فيه](٢) قبل قبضه على قيام البيع فيما بينهما غير جائز ؛ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) قيل (٣) : [في سعة](٤) من المال.

وقيل (٥) : في رخص من السعر (٦) ، وإنما يحمل المرء على النقصان والظلم على آخر ـ عز الشيء وضيق [الحال](٧) ، فكيف تنقصون أنتم في حال السعة ورخص السعر (٨).

أو يقول : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) في غير هذا ، فلا تظلموا الناس في هذا ، و [لا](٩) تمنعوا حقوقهم ، (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) ، أي : يوم يحيط بهم العذاب إن كانت الإحاطة مضافة إلى اليوم فهو محيط بالكل ، وإن كانت الإحاطة مضافة إلى العذاب ، فهو محيط بالكفرة خاصة ، وهو ـ والله أعلم ـ أنه ما من جارحة من ظاهرة وباطنة إلا وقد يصيبها العذاب ، ويحيط بها ، ليس كعذاب الدنيا يأخذ جزءا دون جزء ، بل يحيط به ، والنهي (١٠) بتخصيص نقصان الكيل والميزان لا يدل على أن لم يكن فيهم (١١) من المآثم والإجرام سوى ذلك ، لكنه خص هذا ؛ لما كان الظاهر فيهم نقصان الكيل والوزن ، فذكر ذلك ، وهو ما خص قوم لوط بقوله : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦٥] و (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ ...) الآية [العنكبوت : ٢٨] ، ذكر هذا وخصهم ، ليس على أنهم لم يكونوا يأتون من الفواحش غيرها ، لكن خص هذا ؛ لأن الظاهر فيهم هذا ؛ فعلى ذلك نقصان الكيل والميزان في قوم شعيب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) خص المكيال والميزان [والله أعلم](١٢) ـ لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان ؛ رغبة فيهما ، وفيهما يجري الربا ، كما (١٣) ذكرنا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه ، كما في تفسير البغوي (٢ / ٣٩٧).

(٤) في أ : وسعة.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (١٨٤٨١) ، وأبو الشيخ عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٦).

(٦) في أ : السعة.

(٧) في ب : المال.

(٨) في أ : السعة.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : النهي.

(١١) في أ : فيه.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) في أ : لما.

١٦٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ، فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبضه (١) ؛ لأنه قال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أضاف إلى الناس أشياءهم ، فلو كان لا يملك ، لم يكن أشياء الناس ، إنما كان [أشياء البائع](٢) ، فإنما نقص ماله.

[وقوله](٣) : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ، وهو ما ذكر في موضع آخر : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال بعضهم : ما أبقى الله لكم من ثوابه في الآخرة خير لكم إن آمنتم به ، وأطعتموه مما تجمعون من الأموال.

[و](٤) قال بعضهم (٥) : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : ما جعل الله لكم مما يحل خير لكم مما يحرم عليكم من نقصان الكيل والوزن ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحلال أو بالآخرة.

وقال بعضهم (٦) : طاعة الله ـ وهو ما يأمركم به ، ويدعوكم إليه ـ خير لكم مما تفعلون.

وقال الحسن : رزق الله خير لكم من بخسكم الناس حقوقهم (٧) ، لكن هذا يرجع إلى ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يحتمل : ما أنا عليكم بحفيظ ، أي : لست أشهد بياعاتكم وأشريتكم حتى أعلم ببخسكم (٨) الناس المكيال والميزان ، لكن إنما أعرف ذلك بالله ، وفيه دلالة إثبات [رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٩).

والثاني : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : بمسلط عليكم ، إنما أبلغ إليكم ، كقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ).

__________________

(١) في أ : يقبض.

(٢) في أ : أشياءهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٢ / ٣٩٨).

(٦) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (١٨٤٩١ ـ ١٨٤٩٦) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٦).

(٧) أخرجه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٧).

(٨) في ب : بخسكم.

(٩) في أ : رسالته.

١٦٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) قال بعض أهل التأويل (١) : صلاتك ، [أي](٢) : قراءتك تأمرك هذا.

وقال ابن عباس : قالوا ذلك له ؛ لأن شعيبا كان يكثر الصلاة (٣) ، كأنه [يخرج](٤) على الإضمار يقولون : أصلاتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا.

وقوله : و (أَصَلاتُكَ) يحتمل [أنها كانت صلوات](٥) معروفة يفعلها ، فيقولون : أصلاتك (٦) التي تفعلها تأمرك أن نترك كذا ، أم صلاة واحدة تكثرها ، فقالوا : (أَصَلاتُكَ) ، وخصوا (٧) الصلاة من [بين](٨) غيرها من الطاعات ؛ لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم ، فقالوا له هذا.

ثم يحتمل وجهين :

[أحدهما : كأنهم](٩) قالوا : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ ...) كذا على التسفيه له [والتجهيل](١٠) كمن يوبخ آخر [ويسفهه](١١) ، [فيقول له](١٢) : أعلمك يأمرك [بذلك](١٣) ، أو (١٤) إيمانك يأمرك بهذا (١٥) ، كقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) [البقرة : ٩٣] ، ونحوه من الكلام يخرج على [التسفيه له أو التجهيل](١٦).

والثاني : يقال ذلك على الإنكار ، يقول الرجل لآخر : إيمانك يأمرك بذلك ، أو علمك يأمرك بهذا ، [أي : لا يأمرك بذلك](١٧) ، فعلى ذلك يحتمل قول هؤلاء : (أَصَلاتُكَ

__________________

(١) قاله الأعمش ، أخرجه ابن جرير (١٨٥٠٧) ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٧).

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن عساكر عن الأحنف بنحوه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٧).

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : أن يكون له صلاة.

(٦) في أ : أصلاتك.

(٧) في أ : فتخصيص.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في ب.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في ب.

(١٢) في أ : يقول.

(١٣) في ب : بكذا.

(١٤) في أ : و.

(١٥) في أ : هذا.

(١٦) في ب : هذا التأويل.

(١٧) في ب : ونحوه.

١٦٩

تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [أي : لا تأمرك بذلك](١) هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم ، فإن لم تكن مرضية ، فالتأويل هو الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : [(ما يَعْبُدُ آباؤُنا)](٢) الآية ، حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم (٣) والأموال التي كانت لهم ، [فمنعهم هذا](٤) عن النظر في الحجج والآيات ؛ [لما](٥) حبب إليهم ذلك ، وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات الله و [التأمل في](٦) حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا : حب اللذات ، ودوام الرئاسات ، والميل إلى الشهوات ، ظنوا أنهم لو اتبعوا رسل الله وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه ـ لذهب عنهم ذلك.

ثم قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) يحتمل : قضاء جميع الشهوات.

ويحتمل : ما ذكر من نقصان المكيال والميزان ، يقولون : أموالنا لنا ليس لأحد فيها حق ، نفعل فيها ما نشاء.

وقال بعضهم : قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) : الألف صلة «وأن نفعل في أموالنا ما نشاء».

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال [بعضهم من](٧) أهل التأويل (٨) : قالوا ذلك له ؛ استهزاء به وسخرية ، كنوا بالحليم عن السفيه ، وبالرشيد [عن](٩) الضال ، أي : أنت السفيه [الضال](١٠) ؛ حيث سفهت آباءنا (١١) في عبادتهم الأصنام ، [الضال](١٢) حيث تركت ملتهم ومذهبهم.

وقال بعضهم (١٣) : على النفي والإنكار ، أي : ما أنت الحليم الرشيد.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ).

(٣) في أ : آباءهم.

(٤) في ب : فامتنعوا.

(٥) في ب : كما.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٥٠٨) وهو قول قتادة وابن زيد.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في ب.

(١١) في ب : آباءك.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٧).

١٧٠

ويشبه أن يكون على حقيقة الوصف له بالحلم والرشد ؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط ، ولا رأوه على خلاف و [لا على](١) سفاهة قط ؛ فقالوا : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) ، أي : كنت هكذا ؛ فكيف تركت ذلك ، وهو ما قال قوم صالح لصالح حيث قالوا : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على [علم و](٢) بيان وحجج وبرهان من ربي ، على ما ذكرنا فيما تقدم ، أي : تعلمون أني كنت على بيان من ربى وحجج ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) : [يحتمل هذا منه مكان ما قال أولئك الأنبياء : (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي : قال شعيب : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً)](٣) الدين والهدى ، [و](٤) النبوة على ما ذكر (٥) وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك ؛ وما رزق أولئك عليهم تبعة في ذلك ؛ لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) من الناس من يقول : قال لهم ذلك بإزاء ما قالوا فيما ذكر في الأعراف : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يقول : أأدعوكم (٦) إلى الإيمان بالله والتوحيد له ، وأنهاكم عن الكفر به ، ثم أرتكب ما أنهاكم عنه ، وأترك ما أدعوكم إليه؟!

وقال قتادة (٧) : لم أكن لأنهاكم عن أمر [وأرتكبه](٨) ، وهو واحد (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [أي : ما أريد إلا الإصلاح لكم ما استطعت](٩) ، وفيه دلالة [على](١٠) أن الاستطاعة تكون مع الفعل [لا غير](١١) ، أما أن يكون أراد : استطاعة الإرادة أو استطاعة الفعل ، فكيفما كان ، فقد أخبر أنه يريد لهم من الصلاح ما استطاع ، ففيه ما ذكرنا ، وهو ينقض على المعتزلة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : الاستطاعة تتقدم [على](١٢) الفعل ، وهي لا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : أو.

(٥) في أ : ذكرنا.

(٦) في أ : أدعوكم.

(٧) أخرجه ابن جرير (١٨٥١٠) ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (٣ / ٦٢٧).

(٨) وفي أ : وأركبه.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في أ : لا يخلو.

(١٢) سقط في ب.

١٧١

تبقى وقتين ؛ فيصير على قولهم إرادة الصلاح لهم [في غير زمن](١) الاستطاعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) ، قال بعضهم : التوفيق : هو صفة كل مطيع ، والخذلان : هو صفة كل عاص.

وقال بعضهم : التوفيق : هو ما [يوفق بين فعله وقوله](٢) في الطاعة ، والخذلان ما يفرق بين قوله وفعله في المعصية.

وقال الحسين النجار : التوفيق : هو قدرة كل خير وطاعة ، والخذلان : هو قدرة كل شر ومعصية.

وعندنا : التوفيق : هو أن يوفق بين عمل الخير والاستطاعة ، والخذلان : هو أن يفرق بين عمل الخير والاستطاعة.

أو أن نقول : هو أن يوفق بين عمل الشر والاستطاعة ، وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : عليه اعتمدت في جميع أمري ، وإليه توكلت ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، أي : أرجع.

أو يقول : إليه أقبل بالطاعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) [بالغرق](٣)(أَوْ قَوْمَ هُودٍ) [بالريح الصرصر](٤)(أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) بالصيحة على ما ذكر.

قال بعضهم (٥) : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : لا يحملنكم (شِقاقِي) قيل (٦) : خلافي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك.

وقال بعضهم قوله : [(لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : لا يؤثمنكم (شِقاقِي) أي : عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك.

وقيل :](٧)(لا يَجْرِمَنَّكُمْ) [أي :](٨) لا يكسبنكم عداوتي.

وقال الحسن : (شِقاقِي) : ضراري.

__________________

(١) في أ : بما عدم من.

(٢) في أ : يوافق قوله فعله.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (١٨٥١٥ ـ ١٨٥١٦) ، وهو قول السدي أيضا.

(٦) انظر : تفسير البغوي (٢ / ٣٩٨).

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

١٧٢

لكن كله (١) يرجع إلى معنى واحد ؛ لأنه إذا ثبت العداوة ، ثبت المخالفة والبغض والضرر ، فكل ما ذكروا فهو واحد.

وأصل الجرم : الإثم والذنب (٢).

ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين :

أحدهما : أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث وبالقيامة ، فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة ؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث ، لكان لا ينجح فيهم ؛ لأنهم (٣) لا يؤمنون به.

والثاني : أنذرهم بأولئك ؛ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان ، ويتبعونهم ، فيقول : إنكم تقلدون آباءكم وتتبعونهم في عبادة الأوثان فاتبعوهم ـ أيضا ـ فيما بلغوا إليكم من هلاك أولئك بعبادتهم الأوثان ، وتكذيبهم الرسل ، فإذا قلدتموهم في العبادة (٤) [فهلا](٥) تقلدونهم وتتبعونهم فيما أصابهم بم أصابهم؟

أو يقول [لهم](٦) : إنكم تقلدون آباءكم (٧) الذين عبدوا الأوثان وقد هلكوا ، فهلا (٨) تقلدون من لم يعبد منهم ونجا وقد [عرفتم أن](٩) من هلك منهم [بم](١٠) هلك؟ ومن نجا منهم (١١) [بم](١٢) نجا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي : إن نسيتم من مضى منهم ، فلا تنسوا ما نزل بقوم لوط ، وليسوا هم ببعيد منكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : اطلبوا من ربكم المغفرة ؛ أي : اطلبوا السبب الذي يقع لكم المغفرة من ربكم ، وهو التوحيد (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : ارجعوا إليه ، ولا تعودوا إلى ما كنتم [من](١٣) قبل.

__________________

(١) في ب : بحله.

(٢) في أ : الكسب.

(٣) في أ : أنهم.

(٤) في أ : ذلك.

(٥) في ب : فلا.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : آباء.

(٨) في أ : فلا.

(٩) في ب : آمن.

(١٠) في ب : بمن.

(١١) في أ : معهم.

(١٢) في ب : بمن.

(١٣) سقط في ب.

١٧٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : ارجعوا إليه رجوعا حتى لا تعودوا إلى مثل صنيعكم أبدا (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) يرحم من تاب إليه ، والله يرحمه (وَدُودٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ودود : أي : حق أن يودّ ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان ، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم.

والثاني : ودود لمن توسل إليه وتقرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) قوله : (ما نَفْقَهُ) يحتمل : ما نفهم وما نعقل كثيرا مما تقول (١) ؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به ؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون ؛ يقولون : لا نفهم ما تقول ؛ لأن كلامك كلام مجانين. وهذه هي عادة القوم ؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون.

ويحتمل : ما نفقه : ما نقبل كثيرا مما تقول ، فإن كان على الفهم فهو كقوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] وهم كانوا فريقين : فريق كانوا يقولون : قلوبنا أوعية للعلم ؛ كقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فإن كان ما تقول حقّا نفهم ونعقل كما نعقل غيره ، وفريق قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون ؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر ، والفريق الأول يقولون : إن قلوبنا أوعية للعلم ، فلو كان حقّا لعقلناه كما عقلنا غيره ، فهؤلاء كانوا يصرفون العيب إلى الرسول ، وأولئك إلى أنفسهم ، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : أي : إنك لست من كبرائنا وأجلتنا ، إنما أنت من أوساطنا ، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس (٢) ، لا من كبرائهم في أمر الدنيا ، فالقوي والعزيز عند أولئك القوم من عنده الدنيا والمال ، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل ؛ لأنهم لا يعرفون الدين ، ولا يؤمنون بالآخرة ، لذلك قالوا ما قالوا.

__________________

(١) استدلوا بهذه الآية على أن الفقه : اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القول ، ثم صار اسما لنوع معين من علوم الدين ، وقيل : إنه اسم لمطلق الفهم ، يقال : أوتي فلان فقها في الدين ، أي : فهما ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «... يفقّهه في الدين» أي : يفهمه تأويله.

ينظر اللباب (١٠ / ٥٥٢).

(٢) في أ : القوم.

١٧٤

والثاني : لست أنت بذي قوة وبطش في نفسك ، وقد ذكر أنه كان ضعيفا في بصره ونفسه.

ويحتمل وصفهم بالضعف لهذين الوجهين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي : قبيلتك.

وقيل : عشيرتك (١)(لَرَجَمْناكَ) الرجم : يحتمل : القتل ، ويحتمل : اللعن والشتم.

ثم يحتمل قوله : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) وجهين :

أحدهما : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي : لو لا حرمة رهطك وإلا لرجمناك ؛ كأنهم كانوا يحترمونه (٢) لموافقة رهطه إياهم في العبادة أعني عبادة الأوثان ، وعلى ما هم عليه.

والثاني : لو لا رهطك لرجمناك خوفا منهم لما ذكر أنه كان كثير العشيرة ، والقبيلة ؛ كانوا يخافون عشيرته فلم يؤذوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي : ما أنت من أجلتنا وكبرائنا ، إنما أنت من أوساطنا أو (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي : ما أنت من أجلتنا ؛ لأن العزيز عندهم من كان عنده المال والدنيا ، لا يعرفون [العز في غير](٣) ذلك ، ولم يكن عند شعيب الدنيا لذلك نسبوه إلى ما ذكر :

أو أنت ذليل عندنا ، لست بعزيز ، فيكون صلة قوله : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) هذا يخرج على وجهين : يحتمل يا قوم ، أرهطي أعظم حقّا عليكم من الله وأكثر حرمة حتى تركتم ما أوعدتمونى من النقمة لحقهم وحرمتهم؟!

والثاني : قوله : (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ) أي : رهطي أشد خوفا عليكم وأكثر نكاية من الله ؛ لأنا قلنا في قوله : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : الاحترام لرهطه لموافقتهم إياهم في جميع ما هم عليه ، والمساعدة لهم.

والثاني : على الخوف والنكاية لقوتهم ، وكثرتهم ، وفضل بطشهم تركوا ما وعدوا له خوفا من رهطه ، فقال : خوفكم من رهطي أشد وأكثر عليكم من الخوف من الله ، وقد بلغكم من نكاية الله ونقمته فيما حل بالأمم الماضية.

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٧ / ١٠٤) والبغوي (٢ / ٣٩٩).

(٢) في ب : يحترمون.

(٣) في أ : العزيز بغير.

١٧٥

أو حرمة رهطي عندكم وحقهم أعظم من حق الله وحرمته ، وقد تعلمون إحسانه إليكم وإنعامه عليكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) قال بعضهم : [قوله](١) : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي : حملتموه على ظهركم وحملهم إياه على ظهرهم إسخاطهم إياه ، قال : تقول : العرب : فلان حمل الناس على ظهره : أي : أسخطهم على نفسه. ولكن لا ندري أيقال هذا أم لا.

فإن قيل هذا فهو يحتمل ما قال ، وهو قول أبي بكر الأصم.

وقال غيره من أهل التأويل : قوله : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي : نبذتم الله وراء ظهركم (٢) ، أي : نبذتم حق الله وأمره وكتابه الذي أنزله إليكم وراء ظهركم ، لا تعملون به ، ولا تكترثون إليه ، هو كالمنبوذ وراء ظهركم ؛ هذا على التمثيل أي : جعلوا أمر الله ودينه الذي دعوا إليه كالمنبوذ وراء ظهرهم ، لا يعملون به ولا ينظرون إليه ، ولا يكترثون وهو ما ذكر في قوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٤٨] وقوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] على التمثيل ، أي : الذي أنتم عليه في القبح كالانقلاب على الأعقاب (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) هذا يخرج على وجهين ـ أيضا ـ :

أي : إن ربي بما تعملون من الأعمال الخبيثة محيط فيجزيكم بها ، أو يقول : إن ربي بما تعملون من الكيد برسول الله والمكر به محيط فينصره عليكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه ، وأنا أكون على ديني ؛ كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] لأن قوم شعيب قالوا لشعيب : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) فقال لهم [هذا] عند ذلك ، وهذا إنما يقال عند الإياس (٣) عن إيمانهم ، كقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] وأمثاله.

والثاني : قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) أي اعملوا في كيدي ، والمكر في هلاكي ، إني عامل ذلك بكم ، وهو كما قال غيره من الرسل : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥] وقوله : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [الأعراف : ٧١] ونحوه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر تفسير البغوي (٢ / ٣٩٩) والرازي (١٨ / ٤١).

(٣) في أ : الأيس.

١٧٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في العاقبة وعيد من يأتيه عذاب يخزيه ، أو سوف تعلمون في العاقبة من يأتيه منا عذاب يخزيه نحن أو أنتم ومن هو كاذب ، وتعلمون ـ [أيضا ـ في العاقبة](١) من الكاذب منا نحن أو أنتم ؛ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على الله ، فيقول : سوف تعلمون في العاقبة [من](٢) الكاذب منّا والمفتري على الله ، والصادق عليه (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي : ارتقبوا هلاكي ، وأنا أرتقب هلاككم ، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا لنا أو لكم إني معكم رقيب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) هذا قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قيل : الصيحة صيحة جبريل (٣) ؛ أي : هلكوا بصيحته.

وقال بعضهم : الصيحة : اسم كل عذاب ، وكذلك الرجفة ؛ سمي العذاب بأسماء مختلفة : مرة صاعقة ، ومرة صيحة ، ومرة رجفة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) هذا ـ أيضا ـ قد ذكرناه فيما تقدم.

قال بعض أهل التأويل : قوله : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) في الهلاك (٤)(كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) : كما أهلكت ثمود ؛ لأن كل واحد منهما هلك بالصيحة فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : لم يعذب بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب من فوقهم.

قال : فنشأت لهم سحابة فيها عذابهم ، فلم يعلموا كهيئة الظلة فيها ريح ، فلما رأوها أتوها يستظلون تحتها من حر الشمس ، فسال عليهم العذاب من فوقهم ، فذلك قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ).

وقوله : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) من رحمة الله (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) من رحمته.

ويحتمل الهلاك الذي ذكرناه ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : في العاقبة أيضا.

(٢) سقط في ب.

(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ١٠٧) ، والبغوي (٢ / ٤٠٠) ، والرازى (١٨ / ٤٢).

(٤) انظر تفسير البغوي (٢ / ٤٠٠).

١٧٧

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهي الحجج.

يحتمل قوله : (بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) واحد ، على التكرار ، فإن كانت الآيات هي الأوامر والنواهي (١) ، وما يؤتى وما يتقى فقوله : (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هي الحجج والبراهين (٢) على ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) قد ذكرنا أن الملأ هو اسم لشيئين : اسم الجماعة ، واسم الأجلة والأشراف ، وهو كان مبعوثا إلى الأشراف من قومه ، وإلى الجماعة جميعا ؛ خصّ بعثه إلى فرعون وقومه (٣) وإن كان مبعوثا إلى الكل ؛ لما العرف في الملوك أنهم إنما يخاطبون الكبراء منهم والأشراف ، وإن كان [المقصود من الخطاب](٤) الكل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) قال بعضهم : هو ما ذكر في حم المؤمن حيث قال لهم : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩] فأطاعوا فرعون في قوله ؛ يقول الله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [أي](٥) : يهدي ، أو يقول : ما الأمر الذي عليه فرعون برشيد ؛ بل هو ضلال.

ولكن عندنا أنهم أطاعوا فرعون في جميع أمره ونهيه في عبادة الأصنام وغيره ، وهو ما ذكر : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزخرف : ٥٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي : ليس بهدى ؛ بل كان أمره ضلالا ؛ حيث كان هو ضالا مضلا.

__________________

(١) في أ : والمناهي.

(٢) قال الزجاج : السلطان هو الحجة ، وسمي السلطان : سلطانا ؛ لأنه حجة الله في أرضه ، واشتقاقه من السليط الذي يستضاء به ، ومنه قيل للزيت : السليط. وقيل : مشتق من التسليط ، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم ، إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأبقى من سلطنة الملوك ؛ لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل ، وسلطنة الملوك تقبلهما ، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء ، وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء.

ينظر اللباب (١٠ / ٥٥٧).

(٣) في أ : وملئه.

(٤) في ب : من القصود خطاب.

(٥) سقط في ب.

١٧٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال بعضهم : أي : صار قدامهم.

وقال بعضهم : يقدم أي : يقود قومه إلى النار حتى يوردهم النار (١).

ويحتمل قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي : يكون إماما لهم يوم القيامة (٢) يتبعون أثره ، كما كان إمامهم في الدنيا فاتبعوه ؛ كقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] وكقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] أخبر أنهم يكونون أئمة لهم في الآخرة.

ويشبه أن يكون قوله : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي : دعاهم في الدنيا ، وأمرهم بأمور توردهم النار تلك الأعمال كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] أي : ما أصبرهم على عمل أهل النار.

وقال بعضهم : يتبعونه حتى يدخلهم النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) قال بعضهم : بئس المدخل المدخول (٣) ، والورد هو الدخول ، والمورود المدخول ؛ سمي الجزاء باسم سببه.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : جميع ما ذكر في القرآن من الورود فهو دخول منهم ، قوله : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] فقال : والله ليردنها كل برّ وفاجر (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٤) [مريم : ٧٢].

وقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يحتمل : اللعنة في الدنيا : العذاب الذي نزل بهم.

ويحتمل لعن الخلائق يلعنهم من ذكرهم.

وفي الآخرة يحتمل الوجهين جميعا.

يحتمل : يعذبون في الآخرة ـ أيضا ـ كما عذبوا في الدنيا.

ويحتمل : لعن الخلائق ـ ايضا ـ من رآهم لعنهم ، واللعن هو الطرد في اللغة : طردوا عن رحمة الله ولم يرحموا في عذاب الدنيا ، ولا يرحمون في عذاب الآخرة.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٠٨) (١٨٥٤٣ ، ١٨٥٤٤) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وأبي الشيخ عن قتادة.

(٢) في أ : في الآخرة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٠٨) (١٨٥٤٦) عن ابن عباس ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٤٠٠) وكذا السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٠) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٠٨) (١٨٥٤٧) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١٧٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) عن ابن عباس : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) يقول : لعنة الدنيا والآخرة (١).

وقال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان من الله : لعنة الدنيا ، ولعنة الآخرة ، ولكن على زعمهم يجيء أن يقال : الردف من الترادف.

وقال بعضهم : الردف العون ، وهو قول القتبي.

وقال القتبي (٢) : الرفد : العطية ، والمرفود : المعطى ؛ يقال : رفدته : إذا أعطيته وأعنته ، كما يقال : بئس العطاء المعطى ، وكذلك قال أبو عوسجة : بئس ما أعطوا وأعينوا ، وبئس المعطى ، والله أعلم.

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١٠٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) : ذلك ما (٣) سبق من ذكر القرى والقرون في هذه السورة من أنباء الغيب نقصه عليك ؛ [لتفهم رسالتك بها](٤) ، ولتكون آية لنبوتك ؛ لأنك لم تشاهدها ، ولا اختلفت [إلى أحد](٥) منهم فتعلمت منهم ، ولا كانت الكتب بلسانك فيقولون : نظرت فيها فأخذت ذلك منها ، ثم أنبأت على ما كان وقصصت عليهم ؛ ليعلم أنك إنما عرفت بالله ، فتكون آية لرسالتك.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٠٩) (١٨٥٥٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٩).

(٣) في ب : من.

(٤) في أ : ليعلم بها رسالتك.

(٥) في أ : لأحد.

١٨٠