تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) يشبه أن يكون قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الشرك وأمكن الذين اتقوا الشرك والمعاصي كلها ، والأشبه أن يكون المراد منه اتقاء الشرك ؛ لأنه ذكر بإزاء قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) فهو في العقد أشبه.

وقال بعض أهل التأويل في قوله : (اهْبِطْ بِسَلامٍ) من السفينة بسلام منا ، فسلمه الله ومن معه من المؤمنين من الغرق ، (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا بعد ما خرجوا من السفينة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) ممن سبق له في علم الله البركات والسعادة من النبيين وغيرهم.

قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) : هذا والله أعلم صلة قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فيقول : ولقد أرسلنا هودا إلى عاد أخاهم.

ثم يحتمل قوله : (أَخاهُمْ) الأخوة تكون على وجوه : أخوة جنس يقال : هذا أخو هذا نحو مصراعي الباب ، يقال لأحدهما : هذا أخو هذا ونحو أحد زوجى الخف وأمثاله. وأخوة النسب. وأخوة الدين ؛ كقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] فهو لم يكن أخا لهم في الدين ، فهو يحتمل أنه أخوهم في الجنس وفي النسب ؛ لأن الناس كلهم ينسبون إلى آدم فيقال : بنو آدم مع بعد ما بينه وبينهم ؛ فعلى ذلك يكون بعضهم لبعض

١٤١

إخوة مع بعد النسب الذي بينهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : يعبد أي : الذين تعبدون ليسوا بآلهة يستحقون العبادة [إنما الإله الذي يستحق العبادة](١) الله الذي خلقكم وخلق لكم الأشياء (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي : ما أنتم إلا مفترون ، لا يحتمل أن يكون هو قال لهم هذا في أول ما دعاهم إلى التوحيد ، وفي أول ما ردوا إجابته وكذبوه ؛ لأنهم أمروا بلين القول لهم وتذكير النعمة عليهم ؛ كقوله لموسى وهارون حيث بعثهما إلى فرعون بقوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) الآية [طه : ٤٤] ، ولكن كأنه قال لهم ذلك بعد ما سبق منه إليهم دعاء غير مرة ، وأقام عليهم الحجة والبراهين فردوها ، فعند ذلك قال لهم هذا حيث قالوا : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ...) الآية [هود : ٥٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) : يحتمل في تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة ، يقول : [إن](٣) أنتم إلا مفترون في ذلك.

ويحتمل أنه سماهم مفترين فيما قالوا الله أمرهم بذلك ، يقول : أنتم مفترون فيما ادعيتم الأمر بذلك ، أو مفترون في إنكارهم البعث والرسالة (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) : هذا قد ذكر (٥) في غير موضع يقول لهم ـ والله أعلم ـ : إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا يمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عن الإجابة ، فما الذي يمنعكم عن الإجابة لي ويحملكم على الرد [بل أدعوكم إلى](٦) ما ترغبون فيه ، فكيف يمنعكم عن الإجابة والنظر فيما أدعوكم إليه؟!

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أنى رسول إليكم بآيات وحجج جئت بها ، أو : أفلا تعقلون أنها آيات وحجج ونحوه ، أو يقول : أفلا تعقلون أن الله واحد وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) : يحتمل أن يكون قوله

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أشياء.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : أو الرسالة.

(٥) في ب : ذكرنا.

(٦) في ب : بل أدعوكم على ما أدعوكم إليه.

١٤٢

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه واحدا.

ويحتمل على التقديم والتأخير توبوا إليه ثم استغفروا ما كان منكم من المساوي ، أي : أقبلوا إلى طاعة الله واندموا على أفعالكم.

وقوله : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) : معلوم أن هودا لم يرد بقوله : (اسْتَغْفِرُوا) أن يقولوا : نستغفر الله ، ولكن أمرهم أن يطلبوا السبب الذي به تجب لهم المغفرة وتحق وهو التوحيد ، كأنه قال : وحدوا ربكم فآمنوا به ثم توبوا إليه ، أو يقول : اطلبوا المغفرة بالانتهاء عن الكفر ؛ كقوله تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) : قال بعض أهل التأويل : إنه قد كان انقطع عنهم المطر وانقطع نسلهم (١) ، فأخبر أنكم إن تبتم إلى الله ، واستغفرتم ربكم (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ...) الآية حتى تناسلوا وتتوالدوا.

ويحتمل قوله : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً) أي : يزدكم قوة أفعالكم إلى قوة أبدانكم ؛ لأنهم كانوا أهل قوة وأهل بطش بقولهم قالوا : من أشد منا قوة.

ويحتمل على الابتداء : يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم.

فقوله : (وَلا تَتَوَلَّوْا) عما أدعوكم فيه ؛ فتكونوا (مُجْرِمِينَ) ولا تتولوا عما أدعوكم فيه ؛ فتكونوا مجرمين. المجرم قال أبو بكر : هو الوثاب في الإثم ، وقيل : هو المكتسب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) : على ما تدعونا إليه ، أو على ما تدعي من الرسالة ، فعند ذلك قال [لهم هود](٢) : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ).

(وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) أي : ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا عن قولك ، أي : بقولك ، كان لا يدعوهم هود إلى ترك عبادة آلهتهم بقوله خاصة ، ولكن قد دعاهم وأقام على فساد ذلك الحجج والبراهين ، لكنهم قالوا متعنتين مكابرين : (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فيما تدعونا إليه ، وتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) قيل : [هو كان](٣) يسب آلهتهم ويذكرهم بالعيب فيقولون : إن يعترك من بعض آلهتنا سوء أو يصيبوك بجنون وخبل ، فلا عجب (٤) أن يصيبك منها فاجتنبها سالما ، فذلك يخرج منهم مخرج الامتنان ،

__________________

(١) ذكره البغوي بمعناه (٢ / ٣٨٨) ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ٢٣٣).

(٢) في ب : هود لهم.

(٣) في ب : كان هو.

(٤) في أ : فلا يجب.

١٤٣

أي : إنا إنما ننهاك عن سب آلهتنا وذكر العيب فيها إشفاقا عليك لئلا يصيبك [شىء منها](١).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قالوا : «شتمت آلهتنا فخبلتك وأصابتك بالجنون» (٢) ، فتأويله ـ والله أعلم ـ أنك إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه وتدعي ما تدعي لما أصابتك آلهتنا بسوء واعترتك بجنون ، كانوا يخوفونه أن تصيبه آلهتهم بسوء بتركه عبادتها ، على ما كانوا يرجون ويطمعون بعبادتهم إياها شفاعتها لهم ؛ قال : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به وتعبدونه من الآلهة ، واشهدوا أنتم أيضا بأني بريء من ذلك ، (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) : أنتم وآلهتكم فيما تدعونني من الهلاك أو السوء ، (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي : ثم لا تمهلون في ذلك.

ويحتمل قوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) [أنتم وآلهتكم](٣) ؛ يقول : اعملوا أنتم وآلهتكم جميعا التي تزعمون أنها خبلتني وأجنتني ، (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ). أي : لا تمهلون ، وهذا من أشد آيات النبوة ؛ لأنه يقول لهم وهو بين أظهرهم وحيدا ، فلولا أنه يقول ذلك لهم بقوة من الله والاعتماد له عليه والانتصار به ، وإلا ما اجترأ أحد أن يقول مثل هذا بين أعدائه علم أنه قال ذلك بالله تعالى ؛ وكذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ...) الآية [الأعراف : ١٩٥] ، وقول نوح : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ...) الآية [يونس : ٧١] ، وقول شعيب : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) الآية [هود : ٩٣] وأمثاله ، قالوا ذلك بين أظهر الاعداء ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان ؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك بالله وذلك من آيات النبوة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) أي : فوضت أمري [إلى الله](٤) ، أو وكلت في جميع عملي إليه ، أو وثقت به واعتمدت عليه فيما توعدونني من الهلاك ، أو توكلت عليه في دفع ما أوعدتموني ربي وربكم ، أي : كيف توعدونني بآلهتكم التي تعبدون ، ولا تخافون الذي تعلمون أنه هو ربي وربكم؟! وهو كما قال إبراهيم : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ...) الآية [الأنعام : ٨١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) : يميتها متى شاء.

__________________

(١) في ب : منها شيء.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٩) (١٨٢٨٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٠) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : إليه.

١٤٤

وقوله : (آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي : في ملكه وسلطانه ، يقال : فلان آخذ بحلقوم فلان ، وفلان في قبضة فلان ليس أنه في قبضته بنفسه أو آخذ بحلقوم فلان ، ولكن يراد أنه في سلطانه وفي ملكه (١) وفي قبضته.

(إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : على الذي أمرني ربي ودعاني إليه ، أو يكون قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : أن الذي أمرني ربي ودعاني إليه هو صراط مستقيم ؛ كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤].

وقال أبو عوسجة : الاعتراء هو الأخذ ، يقال : اعترته الحمى أي أخذته.

وقال القتبي (٢) : الاعتراء [هو](٣) الإصابة ، بقول : إلا اعتراك : أصابك ، يقال : اعتريت : أصبت ، وهو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) : يحتمل على الإضمار أي : فإن تولوا عن إجابتك وطاعتك فقل قد أبلغتكم [رسالات ربى](٤) ؛ لأن قوله : (تَوَلَّوْا) إنما هو خبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَبْلَغْتُكُمْ) : خطاب ، وأمكن أن يكونا جميعا على الخطاب ، يقول : فإن توليتم عن إجابتي فيما أدعوكم إليه ، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم وليس على إلا تبليغ الرسالة إليكم ؛ كقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩] ؛ وكقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [النحل : ٨٢] ، يقول : إنما على إبلاغ الرسالة (٥) إليكم ، ليس على جرم توليكم عن إجابتي ؛ كقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) [فيه وجهان : أحدهما : يخبر عن هلاكهم ؛ لأنه أخبر أنه يستخلف قوما غيرهم ؛ لأنه ما لم يهلك هؤلاء لا يكون غيرهم خلفهم](٦) : لأنهم كانوا يقولون : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، يقول ـ والله أعلم ـ : إن قوة أبدانكم وبطشكم لا تعجز الله عن إهلاككم ، وفيه أن عادا ليسوا هم النهاية في العالم ، بل يكون بعدهم قوم غيرهم ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : وملكه.

(٢) ينظر : غريب القرآن لابن قتيبة (٢٠٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : رسالاتي.

(٥) في ب : رسالته.

(٦) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٤٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) أي : لا تضرونه بتوليكم عن إجابتي وردكم رسالة الله إليكم ، ليس كملوك الأرض إذا تولى عنهم خدمهم وحشمهم ضرهم ذلك.

والثاني : لا تضرونه كما يضر ملوك الأرض بالقتال والحرب بعضهم بعضا.

والثالث : لا تضرونه لأنه لا منفعة له فيما يدعوكم حتى يضره ضد ذلك ؛ إذ ليس يدعوكم إلى ما يدعو لحاجة نفسه ولا لمنفعة له ، إنما يأمركم ويدعوكم لحاجة أنفسكم والمنفعة لكم.

ويحتمل أن يكون لا تضرونه شيئا جواب قوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ...) الآية.

(إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [لا يخفى عليه شيء وإن لطف ، فكيف يخفى عليه أعمالكم وأموالكم مع ظهورها وبدوها. أو يقول : إن ربي على كل شيء حفيظ](١) : فيجزيه عليه ، ولا يذهب عنه شيء ، أي : لا يفوته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً).

قوله : (جاءَ أَمْرُنا) أمر تكوين لا أمر يقتضي الساعة ؛ كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ؛ فعلى ذلك هذا هو أمر تكوين وقد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) : هذا يدل أن من نجا إنما نجا برحمة منه لا بعمله ؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله ، قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٢) ، لا على ما يقوله المعتزلة : إن من نجا إنما ينجو بعمله لا برحمته.

ثم يحتمل قوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وجوها ؛ تحتمل الرحمة هاهنا هودا ، أي : رحمهم به حيث بعث إليهم رسولا فنجا من اتبعه ، فإن كان هذا ففيه أن أهل الفترة معاقبون في حال فترتهم ؛ لأنه أخبر أن من نجا إنما نجا بهود ، فدل أنهم معاقبون قبل بعث الرسل إليهم.

ويحتمل قوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي : بتوفيق منا إياهم نجا من نجا منهم.

والثالث : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [قال بعضهم : نجيناهم من العذاب الذي أهلك هؤلاء. ويحتمل أن يكون على الوعد أي : ينجيهم في الآخرة من عذاب غليظ](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا) أي : وتلك أهل قرية عاد جحدوا بآيات ربهم

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) تقدم.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٤٦

وعصوا رسلهم ، الكفر بالآيات كفر بجميع الرسل ، والكفر بواحد من الرسل كفر بالرسل جميعا وبالله ؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو إلى الإيمان بالله وبجميع الرسل ، فالإيمان بواحد منهم إيمان بالله وبجميع الرسل والآيات ، والكفر بواحد منها (١) كفر بالله وبجميع الرسل ، وإنما كان الكفر بالآيات كفرا بالله ؛ لأن الله إنما يعرف من جهة الآيات والكفر بالآيات كفر به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) قيل : أخبر أنهم اتبعوا أمر الجبابرة وأطاعوهم ، وتركوا اتباع الرسل وطاعتهم. قيل : الجبار هو المتجبر الذي يتجبر على الرسل ويتكبر عليهم ؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يتجبرون على الرسل ويتكبرون ، ثم الأتباع اتبعوا الرؤساء في عملهم.

قال أبو عوسجة : الجبار هو المتجبر ، والعنيد هو المعاند المخالف.

وقال القتبي (٢) : العنود والعنيد والمعاند المعارض لك بالخلاف عليك.

وقال أبو عبيدة (٣) : العنيد والعنود والمعاند هو الجائر (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : قال بعضهم : اللعن هو العذاب ، أي : أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب ؛ كقوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨] أي : عذاب الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُتْبِعُوا) أي : ألحقوا ، وقيل : إن اللعن هو الطرد (٥) ، طردوا عن رحمة الله حتى لا ينالوها لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إلا أن عادا كفروا ربهم (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) ، أي : ألا بعدا لهم من رحمة الله.

قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ

__________________

(١) في ب : من هذا.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٥).

(٣) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٢٩٠).

(٤) انظر تفسير البغوي (٢ / ٣٨٩) ، وكذا الرازي (١٨ / ١٣ ، ١٤).

(٥) تقدم.

١٤٧

فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ(٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) : هو ما ذكرنا ، أي : أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا.

وقوله : (أَخاهُمْ) : قد ذكرنا أيضا أن الأخوة تتجه إلى وجوه ثلاثة : أخوة في الدين ، وأخوة في الجنس ، وأخوة في النسب [فهو لا يحتمل أن يكون أخاهم في الدين ، لكنه يحتمل أن يكون أخاهم من الوجهين الآخرين في الجنس والنسب](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : إن الرسل صلوات الله عليهم جميعا أول ما دعوا قومهم إنما دعوا إلى توحيد الله وجعل العبادة له ؛ لأن غيره من العبادات إنما يقوم بالتوحيد ، فكان أول ما دعاهم قومهم إليه لم يزل عادة الرسل وعملهم (٢) الدعاء إلى توحيد الله والعبادة له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : وقال بعض أهل التأويل : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يقول : هو خلقكم من آدم وخلق آدم من الأرض (٣) ، لكنه أضاف خلق الخلائق إليها (٤) ؛ كما أضاف في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) الآية [الأعراف : ١٨٩] ، أخبر أنه خلقنا من نفسه ، أي : آدم ، وإن لم تكن أنفسنا منه (٥) ؛ فعلى ذلك إضافته إيانا بالخلق من الأرض ، وإن لم يخلق أنفسنا منها ، أي : خلق أصلنا وأنشأه من الأرض ، فأضاف إنشاءنا إلى ما أنشأ أصلنا.

ويشبه أن يكون قوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : جعل نشأة الخلائق كلهم ونماءهم

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : وعلمهم.

(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٦٢) ، والبغوي (٢ / ٣٩٠) ، والسيوطي بمعناه في الدر (٣ / ٦١١) وعزاه لأبي الشيخ عن السدي.

(٤) قال ابن الخطيب : (وفيه وجه آخر وهو أقرب منه ؛ وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني إنما تولد من الدم ؛ فالإنسان مخلوق من الدم ، والدم إنما تولد من الأغذية ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانات حالها كحال الإنسان ؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات ، والنبات إنما تولد من الأرض ؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض).

ينظر اللباب (١٠ / ٥١٢).

(٥) في أ : فيه.

١٤٨

وحياتهم ومعاشهم بالخارج من الأرض ؛ إذ به نشوؤهم ونماؤهم وحياتهم وقوامهم منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) : قال بعضهم : [أسكنكم فيها (١) ، وقال بعضهم : استخلفكم فيها (٢). وقال بعضهم : قوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)](٣) أي : جعلكم عمار الأرض تعمرونها لمعادكم ومعاشكم ، جعل عمارة هذه الأرض إلى الخلق هم الذين يقومون بعمارتها وبنائها وأنواع الانتفاع بها ، ويرجع كله إلى واحد. وقال بعضهم في قوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) أي : جعل عمركم طويلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) : هذا قد ذكرنا فيما تقدم في قصة نوح ، أي : كونوا بحال يغفر لكم ؛ وهو كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] كأنه قال : فإن انتهوا عن الكفر يغفر لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) : لحفظ الخلائق أو قريب لمن أنعم عليهم وأمثاله ، أو قريب إلى كل من يفزع إليه ، مجيب لدعاء كل داع استجاب له ؛ كقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ...) الآية [البقرة : ١٨٦] ؛ وكقوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ...) الآية [البقرة : ٤٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) : قال بعضهم : قولهم : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) كنت ترحم الضعفاء وتعود المرضي (٤) ونحو ذلك من الكلام ، فالساعة صرت على خلاف ذلك.

وقال بعضهم : (كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا قبل هذا الذي تدعونا إليه (٥) ، فالساعة صرت تشتم آلهتنا وتذكرها بعيب ، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ، أي : ما كنا نعرف أن آباءنا عندك سفهاء من قبل هذا ، فالساعة تسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام.

(وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [قالوا هذا ؛ احتجاجا لهم عليه فيما دعاهم إلى توحيد الله وعبادتهم إياه ، فقالوا : إنا على يقين أن آباءنا قد عبدوا هذه الآلهة من غير شك فما تدعونا إليه مريب](٦) أي : يريبنا أمرك ودعاؤك لنا إلى هذا الدين.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٩٠) ونسبه لقتادة.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١١) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٤) ذكره الرازي في تفسيره (١٨ / ٤٥).

(٥) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٩٠) ، وابن عادل في اللباب (١٠ / ٥١٣).

(٦) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٤٩

قد قيل هذا ، ولكنا لا نعلم ما كانوا يرجون فيه ، وأما المعنى الذي قالوا له قد كنت فينا مرجوا سوى أنا نعلم أنه كان مرجوا فيهم بالعقل والدين والعلم والبصيرة (١) ونحوه ، فكان مرجوا فيهم بالأشياء التي ذكرنا. هذا نعلمه ولا نعلم ما عنى أولئك بقولهم : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : إن كنت على حجة وبرهان وبيان من ربي فيما أدعوكم إلى توحيد الله وصرف العبادة إليه.

والثاني : قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : قد كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة يحتمل قوله : رحمة أي : آتاني هدى ونبوة من عنده.

(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) أي : من يمنعني من عذاب الله إن عصيته ورجعت إلى دينكم ، أي : لا أحد ينصرني إن أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه ، أي : لا أحد ينصرني دون الله لو أجبتكم وأطعتكم فيما دعوتموني إليه.

ثم الذي دعوه إليه يحتمل ترك تبليغ الرسالة إليهم ، أو دعوه إلى عبادة الأصنام التي عبدوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) : قيل فيه بوجوه :

قيل : فما تزيدونني بمجادلتكم إياي فيما تجادلونني إلا خسرانا.

وقال بعضهم : فما تزدادون بمعصيتكم إياي إلا خسرانا لأنفسكم.

وقال القتبي (٢) : غير تخسير ، أي : غير نقصان.

وقال أبو عوسجة : غير تخسير هو من الخسران ، يقال : خسرته أي : ألزمته الخسران.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) : قال لهم هذا حين سألوا منه الآية ، فقال : هذه ناقة الله لكم آية على صدق صالح فيما ادعى من الرسالة ، أو هذه ناقة الله لكم [فذروها تأكل في أرض الله ، قال لهم هذا حين سألوا منه الآية ، فقال : هذه ناقة الله لكم آية](٣) ، أي : لكم آية التي سألتموها من الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ناقَةُ اللهِ) : أضاف إليه لخصوصية كانت فيها نحن لا نعرف ذلك ، ليست تلك الخصوصية في غيرها من النوق ؛ لما (٤) جعلها آية لرسالته ونبوته

__________________

(١) في أ : والصبر.

(٢) ينظر : غريب القرآن لابن قتيبة (٢٠٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : مما.

١٥٠

خارجة عما عاينوا من النوق وشاهدوها ، وهكذا كانت آيات الرسل كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم ؛ ليعلم أنها سماوية.

ثم لا نعرف أية خصوصية كانت لها عظم جسمها وغلظ بدنها ، حيث قسم الشرب بينهم وبينها حتى جعل يوما لها ويوما لهم بقوله : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥] ، ولم يقسم مراعيها بينها وبينهم بقوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ، وأما ما قاله بعض الناس : إنها خرجت من صخرة كذا ، وأنها كانت تحلب كل يوم كذا وأشياء أخر ذكروها ، فإنا لا نعرف ذلك ولا نقطع القول فيه أنه كان كذلك ، سوى أنا نعرف أن لها كانت خصوصية ليست تلك الخصوصية لغيرها من النوق ، ولو كانت لنا إلى تلك الخصوصية حاجة لبينتها لنا (١) ، وأصله ما ذكرنا أنه إذا أضيف جزئية الأشياء إلى الله تعالى فهو على تعظيم تلك الجزئيات المضافة إليه ، وإذا أضيف إليه كلية الأشياء فهو على إرادة التعظيم لله والتبجيل له ؛ نحو قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [المائدة : ٤٠] (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) [النمل : ٩١] ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) نهاهم أن يمسوها بسوء ، ولم يبين ما ذلك السوء ، فيحتمل أن يكون ذلك شيء عرفوا هم ونهاهم عن ذلك. وقال بعض أهل التأويل : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي : لا تعقروها فيأخذكم عذاب قريب (٢) ، لما كان ذلك على أثر عقرهم الناقة بثلاثة أيام حيث قال : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ، وما ذكر أيضا أن وجوههم اصفرت في اليوم الأول ، ثم احمرت في اليوم الثاني ، ثم اسودت في اليوم الثالث ، ثم نزل بهم العذاب في اليوم الرابع ، فذلك أيضا مما لا نعرفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَذابٌ قَرِيبٌ) قيل : سريعا لا تمهلون حتى تعذبوا.

وقوله : (ذلِكَ وَعْدٌ) من الله (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) : ليس فيه كذب ، وكان عذابهم إنما نزل على أثر سؤال الآية ، سألوا ذلك فلما أن جاءهم بها كذبوها ، فنزل بهم العذاب ، وهكذا السنة في الأمم السالفة أنهم إذا سألوا الآية فجاءتهم فلم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب ، وهو قوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ...) الآية [الإسراء : ٥٩] ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : لها.

(٢) ذكره ابن جرير (٧ / ٦٣) ، والبغوي (٢ / ٣٩١).

١٥١

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي : جاء ما أمر به كما يقال : جاء وعد ربنا ، أي : جاء موعود ربنا ؛ لأن وعده وأمره لا يجيء ، ولكن جاء ما أمر به ووعد (١) به وهو العذاب ، أو نقول : جاء أي أتى وقت وقوع ما أمر به ووعد ، وهو العذاب الذي وعد وأمر به ، والله أعلم.

(نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) : بنعمة منا أو بفضل (٢) منا ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) قيل : الخزي هو العذاب الذي يفضحهم ، وقيل : كل عذاب فهو خزي ، أي : نجاهم من خزي ذلك اليوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) قيل : القوي : هو الذي لا يعجزه شيء ، والعزيز هو الذي يذل من دونه ، وقيل : القوي هو المنتقم المنتصر لأوليائه من أعدائه ، والعزيز : هو المنيع في ملكه وسلطانه الذي لا يعجزه شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) : قيل : عذابهم كان صيحة صاح بهم جبريل ، وقيل : الصيحة الصاعقة وكل عذاب فهو صيحة ، لكن لا ندري كيف كان ، أو أن يكون عذابهم (٣) قدر صيحة لسرعة وقوعه بهم ، أو يسمى ذلك العذاب صيحة لما رأوه ما يصيحون فيما بينهم أو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) : قال هاهنا : ديارهم ، وقال في سورة الأعراف : دارهم ، والقصة واحدة. قال بعضهم : دارهم قراهم ، وديارهم منازلهم ، ولكن هو واحد أصبحوا جاثمين في دارهم ومنازلهم سواء.

وقوله : (جاثِمِينَ) قيل : خامدين موتى وأصل قوله : (جاثِمِينَ) أي : منكبين على وجوههم ، يقال : جثم الطائر إذا انكب على وجهه مخافة الصيد ، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) قيل : كأن لم يعيشوا فيها (٤) ، وقيل : كأن لم يسكنوا فيها ، وقيل : كأن لم يعمروا فيها ، وأصله أنهم صاروا كأن لم يكونوا فيها لما لا يذكرون بعد هلاكهم ، فصاروا من حيث لا يذكرون كأن لم يكونوا ، وأما الأخيار والأبرار فإنهم وإن ماتت أبدانهم وصارت كأن لم تكن ففي الذكر كأنهم أحياء حيث يذكرون بعد موتهم.

__________________

(١) في أ : وما وعد.

(٢) في ب : وبفضل.

(٣) في ب : عقابهم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٧) (١٩٣٠٩) عن ابن عباس ، (١٨٣١٠) عن قتادة.

١٥٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) قيل : كفروا نعمة ربهم ، أو كفروا بآيات ربهم ، فذلك كله كفر بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [أي : ألا بعدا لثمود](١) من رحمة الله.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) : اختلفوا في هذه البشارة ؛ قال بعضهم : جاءوا هم ببشارة إسحاق والحافد. وهو قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ). وقال بعضهم : جاءوا ببشارة إهلاك قوم لوط وإنجاء لوط وأهله ، قيل : لأن لوطا كان ابن أخى إبراهيم ، وكان لوط فزع إلى الله بسوء عمل قومه وصنيعهم ودعا بالنجاة منهم ، وهو قوله : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ...) الآية [الشعراء : ١٦٨] حتى ذكر في بعض القصة أن سارة قالت لإبراهيم : ضم ابن أخيك إلى نفسك فإن قومه يعذبون ، كأنها عرفت أنه لا يتركهم على ما هم عليه بسوء عملهم. قالوا : جاءوا بالبشارتين جميعا : ببشارة الولد والحافد ، وبشارة هلاك قوم لوط ونجاة لوط وأهله ؛ إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) : هذا يدل أن السلام هو سنة الأنبياء والرسل والملائكة في الدنيا والآخرة ، ولم تخص هذه الأمة به بل كان سنة الرسل الماضية والأمم السالفة وكذلك هو تحية أهل الجنة لقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) [الزمر : ٧٣] ونحوه ، هذا يدل على ما ذكرنا.

ثم انتصاب قوله : (سَلاماً) وارتفاع الثاني ؛ لأن الأول انتصب لوقوع القول عليه كقولك : قال قولا ، والثاني حكاية لقولهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).

__________________

(١) سقط في أ.

١٥٣

وقوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) أي : ما لبث عندهم حتى اشتغل بتقديم شيء إليهم ، وإلا قد يكون في ذبح العجل وشويه لبث إلا أن يكون العجل مشويّا ، فإن لم يكن مشويّا فتأويله ما ذكرنا أن لم يلبث عندهم في المؤانسة والحديث معهم على ما يفعل مع الأضياف حتى جاء بما ذكر ، وفيه ما ذكرنا من الأدب ، وفيه دلالة فيمن نزل به ضيف ألا يشتغل بالسؤال عن أحوال ضيفه من أين وإلى أين؟ وما حاجتهم؟ ولكن يشتغل بقراهم وإزاحة حاجتهم ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إنما اشتغل بقراهم ، لم يشتغل بالسؤال عن أحوالهم ، ولكن اشتغل بما ذكرنا فجاء بعجل حنيذ ، وهذا هو الأدب في الضيف (١) ، ألا ترى أنه لو كان سأل عن أحوالهم ، فعرف أنهم من الملائكة لكان لا يشتغل بما ذكر ؛ إذ عرف أنهم من الملائكة والملائكة لا يتناولون شيئا من الطعام.

وقوله : (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) ، قال بعضهم : الحنيذ : السمين (٢) ، وهو ما ذكر في موضع آخر : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات : ٢٦].

وقال بعضهم : الحنيذ هو المشوي الذي خد في الأرض خدّا ، فحمي فشوي بالحجر المحمي (٣).

وقال بعضهم : الحنيذ هو المشوي الذي يسيل منه الماء (٤).

وقال ابن عباس (٥) : الحنيذ : النضيج (٦).

__________________

(١) في أ : بالضيف.

وفى هذه القصة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسر من الموجود في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أول من أضاف ، وليست الضيافة بواجبة عند عامة أهل العلم ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».

وإكرام الجار ليس بواجب ؛ فكذلك الضيف ، وفي الضيافة الواجبة يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ليلة الضيف حق».

وقال ابن العربى : وقد قال قوم : إن الضيافة كانت واجبة في صدر الإسلام ، ثم نسخت.

ينظر : اللباب (١٠ / ٥٢٣).

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٩٢) ، وأبو حيان (٥ / ٢٤٢) ونسبه للسدي.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٦٨ ـ ٦٩) (١٨٣١٣) عن مجاهد ، (١٨٣٢١) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وعزاه للطستي عن ابن عباس ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٨ ، ٦٩) (١٨٣١٦ ، ١٨٣١٨ ، ١٨٣١٩) عن شمر بن عطية. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وعزاه لأبي الشيخ عن شمر بن عطية.

(٥) زاد في أ : هو نضيج.

(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٨) (١٨٣١١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن عباس.

١٥٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ).

قال بعضهم : نكرهم وأنكرهم واستنكرهم : واحد (١) ، وهو من الإنكار ، أي : لم يعرفهم ؛ ظن أنهم لصوص ؛ لأن اللصوص من عادتهم أنهم كانوا إذا أرادوا السرقة من قوم لم يتناولوا من طعامهم ، ولم يأكلوا شيئا عندهم.

وقيل : نكرهم أنهم من البشر.

(وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

قيل (٢) : أضمر منهم خوفا (٣) ، قال بعضهم : خاف لما ظن أنهم سراق ولصوص ؛ حيث لم يتناولوا شيئا مما قدم إليهم.

وقال بعضهم : خيفة ، أي : وحشة : أي : أضمر وحشة ، حيث لم يتناولوا شيئا مما قرب إليهم ؛ فحينئذ علم أنهم ليسوا من البشر ؛ لأن منزل إبراهيم كان ينأى من البلد ، ولم ينزل أحد من البشر إلا وقد احتاج إلى الطعام ، فلما لم يتناولوا علم أنهم ليسوا من البشر ، فما جاءوا إلا لأمر عظيم : لتعذيب قوم وهلاكهم ؛ فخاف لذلك ؛ فقالوا : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [وقال في موضع آخر : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً ...) الآية [الذاريات : ٣٢ ، ٣٣]. وقال في موضع آخر : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ)](٤).

وقال في موضع آخر : (لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات : ٢٨] ، وقال : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يذكر هاهنا أن قولهم : (إِنَّا أُرْسِلْنا) على أثر سؤال ، وفيما نحن فيه لا كذلك ؛ فالمعنى فيه ـ والله أعلم ـ أن ذلك كان على أثر سؤال إبراهيم بقوله : (فَما خَطْبُكُمْ) ، لكنه جمع ذلك فيما نحن فيه بالحكاية عن قولهم ، وإن كان مفصولا عنه ، وخرجت الحكاية في موضع آخر على ما كان في الحقيقة ، وذلك مستقيم في كلام العرب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ).

قال بعضهم : قائمة على رءوس الأضياف ؛ لأنها كانت عجوز ، ولا بأس لعجوز ذلك ؛ ألا ترى إلى قول الله ـ تعالى ـ (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ ...) الآية [النور : ٦٠].

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٧ / ٧٠) ، والبغوي (٢ / ٣٩٢) ، وأبو حيان (٥ / ٢٤٢).

(٢) ذكره ابن جرير (٧ / ٧٠) ، والبغوي (٢ / ٣٩٢).

(٣) في أ : خيفة.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٥٥

وقال بعضهم : (قائِمَةٌ) من وراء الباب ، لكن لسنا ندري أي ذلك كان؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَضَحِكَتْ).

قال بعضهم : ضحكت ، تعجبا من خوف إبراهيم أنهم لصوص ، وهم كانوا ثلاثة أو أربعة ، دون عشرة ، وكان خدم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يبلغ عددهم ثلاثمائة (١) ، على ما ذكر في القصة ضحكت تعجبا ؛ إذ (٢) كيف يخاف من نفر عددهم دون عشرة ، وعنده من الخدم ما يبلغ عددهم ما ذكرنا.

وقال بعضهم : ضحكت ؛ تعجبا ممّا بشروها بالولد ، وقد بلغ سنها ما بلغ من الكبر وهو كذلك (٣) ، وقالت : أحق أن ألد وقد بلغت (٤) من السن كذا.

وقال بعضهم : ضحكت أي : حاضت (٥) ، من قولهم : ضحكت الأرنب إذا حاضت ، وهو قول ابن عباس وعكرمة (٦). وقال الفراء : ضحكت : حاضت غير مسموع ولا معروف فعلى تأويل من قال : إنها ضحكت تعجبا مما بشرت بالولد فهو على التقديم والتأخير ، كأنه قال فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت.

وقال بعضهم : ضحكت سرورا بالأمن منهم ؛ لأنهما خافا منهم.

وقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ).

ظاهر هذا أنها بشرت بإسحاق ، ومن وراء أولاد إسحاق أولاد (٧) يعقوب ، ولكن لم يكن يعقوب ولد من إبراهيم ؛ إنما ولد من إسحاق ، وهو : حافد إبراهيم أبي (٨) إسحاق فتأويله من وراء إسحاق حافد ؛ فإنما البشارة بالولد وبالحافد ، وهو كقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢].

وقال في هذه السورة : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) ، وقال في موضع آخر : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ) [الذاريات : ٢٩].

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٧٣) وعزاه لإسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، وكذا البغوي (٢ / ٣٩٣) ونسبه لمقاتل والكلبي.

(٢) في ب : أنه.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٧١) (١٨٣٣٣) عن وهب بن منبه ، وذكره بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ٦١٥) وعزاه لابن جرير عن السدي.

(٤) في أ : كبرت.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٧٢) (١٨٣٣٤) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ، ولأبي الشيخ عن عكرمة.

(٦) تقدم.

(٧) في أ : بولد.

(٨) في أ : ابن.

١٥٦

فإن كان على ما قالوا إنها كانت قائمة وراء الباب ؛ فيكون إقبالها خروجها إلى القوم ، وإن كان قيامها على رءوسهم ؛ فيكون معنى الإقبال هو الإقبال في ضرب وجهها وصكها ، لكن ذلك من القدوم ، لكنه على الإقبال بفعل ما أخبر عنها من صك وجهها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [وقال في موضع آخر : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) [الذاريات : ٢٨ ، ٢٩] ؛ وقال هاهنا : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)](١) إن هذا لشيء عجيب.

هي لم تتعجب [من](٢) قدرة الله أنه قادر على أن يهب الولد في كل وقت ؛ ولكنها تعجبت لما رأت العادة في النساء والرجال أنهم إذا بلغوا المبلغ الذي كانوا هم لم يلدوا ؛ فتعجبها أنها تلد في الحال التي هي عليها ، أو يردان إلى حال الشباب ؛ فعند ذلك يولد لهما ، وكلاهما عجيب بحيث الخروج على خلاف العادة ، لا بحيث قدرة الرب ، وهو كما ذكرنا من قول زكريا : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠] ، وفي موضع آخر : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] ، وقوله : أنى يكون لي غلام في الحال التي أنا عليها أو يرد لي شبابي ، فعلى ذلك قولها (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ).

قال أهل التأويل : أتعجبين من قدرة الله هذا؟ [...](٣) لكنه يحتمل وجهين :

أحدهما أي : لا تعجبي من أمر الله هذا وكثيرا مما رأيت أمثال ذلك في أهل بيتك. والثاني [...](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ).

يشبه أن يكون هذا صلة قوله : (قالُوا سَلاماً) ؛ لأنه معلوم أنهم لم يقولوا سلاما حسب ، لم يزيدوا على هذا ؛ بل زادوا ؛ فكأنهم قالوا : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أو قالوا : سلام الله ورحمته وبركاته عليكم.

(أَهْلَ الْبَيْتِ).

بالنصب ؛ كأنه قال يا أهل البيت ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : «تركت بعدي

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بياض بمقدار نصف سطر.

(٤) بياض في ب.

١٥٧

الثقلين : كتاب الله وعترتي : أهل بيتي» ، أي : يا أهل بيتي (١).

(إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

يحتمل حميد الذي يقبل اليسير من المعروف ويعطي الجزيل كالشكور ، والمجيد : من المجد والشرف.

وقيل : الحميد : المحمود ، والمجيد : الماجد وهو الكريم (٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ).

قيل : الروع هو الفرق والفزع الذي دخل فيه بمجيء الملائكة.

(وَجاءَتْهُ الْبُشْرى).

في الولد والحافد ، وفي نجاة لوط وأهله ، وهو ما ذكرنا في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) [هود : ٦٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ).

قال بعض أهل التأويل : مجادلته إياهم في قوم لوط ما ذكر في القصّة أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيهم من المؤمنين كذا تعذبونهم؟ قالوا : لا ونحوه من الكلام فإن ثبت هذا ، وإلا لا نعلم ما مجادلته إياهم [وأمكن أن تكون مجادلته إياهم](٣) في دفع العذاب عنهم أو تأخيره دليله قوله : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ، ويحتمل مجادلته إياهم في استبقاء قوم لوط ؛ شفقة عليهم ورحمة ، لعلهم يؤمنون ويقبلون ما يدعون إليه ؛ لئلا ينزل بهم العذاب : ما أوعدوا يتشفع إليهم ليسألوا ربهم أن يبقيهم والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).

قيل : الحليم هو الذي لا يكافئ من ظلمه ولا يجازيه به ، أو يحلم عن سفه كل سفيه (أَوَّاهٌ) ، قيل : الأواه : الموقن ، بلغة الحبش ، وقيل : الأواه : المتأوه ، وهو الدعاء وكثير الدعاء ، وقيل : الأواه : المتقي الذي لا يفتر لسانه عن ذكره ، وقيل : الأواه : الحزين فيما بينه وبين ربّه (٤). في هذه الأحرف الثلاثة جميع أنواع الخير والطاعة ما كان [فيما](٥) بينه

__________________

(١) أخرجه بمعناه الترمذي (٦ / ١٢٤) باب مناقب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٧٨٦) ، وقال : حسن غريب من هذا الوجه. والطبراني في الكبير (٢٦٨٠) عن جابر بن عبد الله.

(٢) انظر تفسير ابن جرير (٧ / ٧٥) ، والبغوي (٢ / ٣٩٣).

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم في التوبة.

(٥) سقط في ب.

١٥٨

وبين ربه ، وما كان بينه وبين الخلق ، حيث ذكر أنه حليم وأنه أواه ، وأنه منيب ، والمنيب ، قيل : المخلص لله وقيل : هو المقبل إلى الله بقلبه وبدنه ، وقد ذكرنا هذا في سورة التوبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) يعني : عن المجادلة [التي كان يجادلهم (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي : جاء ما أمر به ربك ، وجاء موعودهم ، وأنهم (آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي : غير مدفوع لا يحتمل الردّ بالشفاعة.

ويحتمل قوله : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) عن المجادلة التي](١) ذكر أنه قد جاء أمر ربك بالانصراف والرجوع عنك.

ويحتمل : جاء أمر ربك من إنزال العذاب بهم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) : قوله (سِيءَ بِهِمْ) قيل : أي : ساءه مجيئهم ومكانهم (٢) وكرههم لصنيع قومه بالغرباء مخافة أن يفضحوهم (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي : لم يدر كيف يصنع بهم ، وكيف يحتال ليدفع عن ضيفه سوء قومه.

والذرع : قيل : هو المقدرة والقوة ، أي : ضاق مقدرته وقوته (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قيل : فظيع شديد (٣) ؛ لأنه يوم يهتك فيه الأستار ، ويفضح الرجال.

وفيه دليل جواز الاجتهاد ؛ لأنه قال : يوم عصيب فظيع ، فبعد لم يظهر له شدته لكنه قاله اجتهادا ، والله أعلم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) ذكره ابن جرير (٧ / ٧٩) وبمعناه البغوي (٢ / ٣٩٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٨١) عن كلّ من : مجاهد (١٨٣٧٠) ، وقتادة (١٨٣٧١ ، ١٨٣٧٣) ، وابن إسحاق (١٨٣٧٢) ، وابن عباس (١٨٣٧٤).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٩) وعزاه لابن الأنبارى في الوقف والابتداء ، والطستي عن ابن عباس.

١٥٩

ثم قوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [يحتمل : أن يكون قوله : (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) لما جاءته الرسل بإهلاك قومه ساءه ذلك ، وضاق به ذرعا كذلك أيضا. ويحتمل قوله : (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً)](١) بسوء صنيع قومه بأضيافه ، الحرفان جميعا ينصرفان (٢) إلى لوط لمكان قومه ، أو لمكان أضيافه ، أو يكون أحد الحرفين لمكان ضيفه ، والآخر لمكان ما ينزل بقومه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال بعضهم : يسرعون إليه (٣).

وقال بعضهم : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي : يروعون إليه (٤) ، وهو سير بين السعي وبين المشي بين بين.

وقال بعضهم : [قوله](٥)(يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي : يروعون إليه ، من الروع ، أي : فزعين إليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) هذا يحتمل وجهين : يحتمل قوله : (وَمِنْ قَبْلُ) أي : من قبل أن يبعث لوط رسولا إليهم كانوا يعملون السيئات.

ويحتمل قوله : (وَمِنْ قَبْلُ) أي : من قبل نزول الأضياف (٦) بلوط كانوا يعملون السيئات ، والسيئات تحتمل الشرك وغيره من الفواحش التي كانوا يرتكبونها ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) اختلف في قوله : (بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال بعضهم : أراد بنات قومه ؛ لأن الرسل هم كالآباء لأولاد قومهم ينسبون إليهم ؛ ألا ترى إلى قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه ، (وهو أب لهم كما أزواجه أمهاتهم والنبي أب لهم) (٧) ؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط : (هؤُلاءِ بَناتِي) أراد بنات قومه فنسبهن إلى نفسه ؛

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في ب : ينصرف.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٨٢) عن كلّ من : الضحاك (١٨٣٧٨) ، وقتادة (١٨٣٧٩ ، ١٨٣٨٠) ، والسدي (١٨٣٨١) ، وشمر بن عطية (١٨٣٨٤) ، وابن عباس (١٨٣٨٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٨٢) (١٨٣٨٢) وذكره البغوي (٢ / ٣٩٥).

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : الضياف.

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ٨٣) (١٨٣٩٤) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي (٣ / ٦٢٠) وعزاه لابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي.

١٦٠