تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقوله : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) : احتجوا أيضا في رد الرسالة يقولون : إن الأراذل هم أتباع لكل من دعاهم وأهل طاعة لكل متبوع ، فليس في اتباع الأراذل إياك والضعفاء (١) دلالة ثبوت رسالتك ؛ إذ هم يتبعون بلا دليل ولا حجة وهم فروع وأتباع لغير ، ولم يتبعك أحد من الأصول.

لكن يقال : إن هؤلاء الأراذل لما اتبعوا الرسول ولم يتبعوا الأئمة والرؤساء الذين معهم الأموال والدنيا ، ولم يكن في أيدي الرسل ذلك ، ثم تركوا اتباع أولئك وفي أيديهم ما يدعوهم إليه واتبعوا الرسل دل أنهم إنما اتبعوا الرسل بالحجج والبراهين التي أقاموها عليهم أو نحوه.

والأراذل : قيل : هم السفهاء (٢) والضعفاء (٣).

وقال القتبي (٤) : أراذلنا : شرارنا.

و (بادِيَ الرَّأْيِ) [قال بعضهم : ظاهر الرأي ؛](٥) من قولك : بدا لي ما كان خفيا.

وقال بعضهم : بادي الرأي : خفيف الرأي لا يعرفون حقائق الأمور ، إنما يعرفون (٦) ظواهرها ، كأنهم يقولون : إنما اتبعك من كان خفيف الرأي وباديه ، لم يتبعك من يعرف حقائق الأمور والأصول.

وقد قرئ : بادئ الرأي بالهمز ، وقد قرئ بغير همز. ومن قرأ بالهمز فهو من الابتداء ، أي : في أول الرأي وابتدائه لا ينظر في عواقب الأمور. ومن قرأ بغير همز فهو من الظهور ، أي : ظاهر الرأى على غير تفكر ونظر فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ...) الآية : يحتمل هذا أي : فضلا في الخلقة ، أو في ملك أو مال (٧) ولا في شيء ، لكن جواب هذا ما سبق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) : هكذا كانت عادة الكفرة ، يردون دلالات الرسل والحجج بالظن لم يردوا لحقيقة ظهرت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على بيان من

__________________

(١) في أ : الضعفة.

(٢) في أ : السفلة.

(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٨) وكذا البغوي (٢ / ٣٨٠).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٣).

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : يفهمون.

(٧) في أ : ولا مال.

١٢١

ربي ، أو على حجة من ربي وبرهان فيما آتاني من رحمته. والرحمة تحتمل النبوة لأنهم (١) كانوا ينكرون رسالته لما أنه بشر مثلهم ، فكيف خص هو بها دونهم وهو مثلهم؟! فيقول : (وَآتانِي رَحْمَةً) أي : النبوة ، وآتاني ـ أيضا ـ على ذلك بينة وحجة. وتحتمل الرحمة الدين الذي كان يدعوهم إليه والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : قرئ بالتخفيف والتشديد ، أي : لبست ، أو التبس عليكم حيث أعرضتم عنه.

ومن قرأ ، بالتشديد : فعميت عليكم يرجع إلى الأتباع والسفلة ، أي : عميت عليهم القادة والرؤساء منهم ولبست. وعميت بالتخفيف أي : التبس ، وعمي على القادة والرؤساء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : أنوجبها عليكم ، وهي التي ذكر أنه آتاها إياه أو البينة التي ذكر أيضا أو الدين الذي كان يدعوهم إليه ، أي : لا نوجبها عليكم ولا نلزمها ، وأنتم لها كارهون بلا حجة ولا برهان.

(وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : لا نلزمها لكم بلا حجة شئتم أو أبيتم ولكن بحجة.

وفيه أن الدين لا يقبل بالإكراه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) : على تبليغ الرسالة إليكم ، أو على إقامة الحجة على ما أدعي من الرسالة ، أو على الدين الذي يدعوهم إليه ، أي : لا أسألكم على ذلك أجرا ، فلما ذا تعرضون عما أدعوكم إليه وأقيمه عليكم ليكون لكم الاحتجاج أو الاعتذار؟! وكذلك يخرج قوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠] [أي : لا تسألهم أجرا على ما تبلغه إليهم ويدعوهم إليه](٢) ، فيمنعهم ثقل ذلك العزم إجابتكم إياه ، فعلى ذلك الأول ذكر هذا ؛ لأن ما يلحق الإنسان من الضرر إنما يمنعه عن الإذعان بالحق [للخلق](٣) والإقبال إليه والقيام بوفائه ، أو يمنع ذلك لما لا يتبين له الحق لئلا يكون لهم الاحتجاج والاعتلال عند الله وإن لم يكن لهم حجة ؛ وكقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] ليس على أنه إذا سألهم على ذلك أجرا يكون لهم عذر في ردّ ذلك وترك الإجابة له ؛ إذ لله أن يكلفهم الإجابة والطاعة له بالمال وبغير المال.

__________________

(١) في أ : كأنهم.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : أي : لا نسألهم أجرا على ما نبلغه إليكم وندعوكم إليه.

(٣) سقط في ب.

١٢٢

والثاني : بقوله : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه وأبلغكم إياه مالا ، مع حاجتي وقلة مالي ، فيقع عندكم أني أدعوكم إليه رغبة فيما في أيديكم من الأموال أو لمنفعة نفسي بل إنما أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه لمنفعة أنفسكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي : ما أجري إلا على الله في ذلك ليس عليكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) : فيه دلالة أنهم كأنهم كانوا سألوا رسولهم أن يتخذ لهم مجلسا على حدة ، ويفرد لهم ذلك دون الأراذل والضعفاء الذين اتبعوه ويطرد الضعفاء ؛ وهو كقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) الآية [الأنعام : ٥٢].

وقال أهل التأويل : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الأراذل والضعفاء عندكم ؛ لقولهم حيث قالوا : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ)(١) [هود : ٢٧] لأنهم يقولون : اتبعوك الأراذل ظاهرا ، وأما في الباطن فليسوا على ذلك ؛ ولذلك قال : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) [هود : ٣١] يعني : ما في قلوب السفلة فيقول : ما أنا بطارد الذين آمنوا ظاهرا الله أعلم بما في قلوبهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) يحتمل وجهين ؛ أي : ملاقو ربهم فيشكون مني إليه في رد إيمانهم ، ويخاصمونني في ذلك ويطالبونني في طردي إياهم.

والثاني : أنهم ملاقو ربهم بإيمانهم ظاهرا كان إيمانهم أو باطنا [أي في أي حال هم يلاقون](٢) ربهم فيجزيهم بما هم عليه ؛ كقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) يحتمل تجهلون ما أدعوكم إليه أو تجهلون في قولكم : إنهم إنما آمنوا واتبعوا في ظاهر الحال ، وأما في السر فلا ، أو تجهلون ما يلحقني في طردهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) : أي : (٣) من يمنعني من عذاب الله ، (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) : على ما تدعونني إليه ، أو من يمنعني من عذاب الله إن لم أقبل منهم الإيمان.

__________________

(١) زاد في ب : ظاهر الرأي.

(٢) في أ : حالهم ملاقون.

(٣) في أ : أو.

١٢٣

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أنه لا يسع لي ما تدعونني إليه من طرد هؤلاء أو رد إيمانهم ، أو أفلا تذكرون فتؤمنون.

وما روي في حرف أبي بن كعب (١) : أنلزمكموها شطر أنفسنا فمعناه أنلزمكموها نحن أنفسنا وأنتم قوم معاندون (٢).

وفي حرف ابن عباس : أنلزمكموها من شطر أنفسنا أي : من تلقاء أنفسنا (٣) ، أي : لا نقدر أن نلزمكم ذلك من تلقاء أنفسنا وأنتم كارهون لذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) يخرج على وجوه :

أحدها : يقول : ليس عندي خزائن الله والسعة ، فأبذل لكم لتؤمنوا رغبة في المال والسعة.

والثاني : يقول : ليس عندي سعة ، فيقع عندكم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه افتعالا رغبة في المال على ما يفعل المفتعلون للرغبة في المال ، ولكن لتعلموا أني مكلف في ذلك.

والثالث : يحتمل ما ذكرنا من أسئلة كانت منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) : هذا القول منه لهم يحتمل الوجهين :

أحدهما : أنه قال ذلك لهم على أثر أمور وأسئلة كانت منهم من نحو قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢] ، وقولهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩١] ، وقولهم : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) [الإسراء : ٩٣] وأمثال ما كان منهم ، فيقول لهم : ليس ذلك عندي وبيدي ، إنما ذلك عند الله وبيده.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يحتمل أن يكونوا سألوه أن يخبرهم عن أمور تستقبلهم قبل أن تستقبلهم ، إن كان شرا فيعدوا له في دفعه ، وإن كان منافع فيستقبلوا لها ويتهيئوا ، فيقول لهم : ذا غيب وأنا لا أعلم الغيب إنما العلم في ذلك إلى الله ، ولا أقول : إني ملك أعلم أخبار السماء والأمور التي فيها ، إنما أنا بشر مثلكم.

__________________

(١) ينظر اللباب (١٠ / ٤٧٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٠) (١٨١٢٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩١) وزاد نسبته لابن المنذر عن أبي بن كعب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٠) (١٨١٢٣) و (١٨١٢٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩١) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

١٢٤

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي : مفاتيح الله في الرزق ، فهذا كأنهم سألوه السعة فيتبعونه ، فيقول : ليس عندي ذلك.

ويحتمل أن يكون قال لهم الرسول هذا لدفع الشبهة عنهم ، وذلك أن من الكفار من اتخذ الرسول إلها فعبدوه بعد ما عاينوا أنه من البشر.

ومنهم من قال : إنه ابن الله.

ومنهم من قال (١) : إنه ملك ، وكانوا يعبدون الملائكة وكانوا يخبرونهم عن أشياء غابت عنهم ، فظنوا أنه إنما علم ذلك لأنه إله ، فيقول لهم ذلك ليدفع عنهم (٢) تلك الشبهة ويتبرأ من ذلك ؛ ولذلك قال عيسى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) [مريم : ٣٠ ، ٣١] هو ـ عليه‌السلام ـ كان يعلم في نفسه أنه عبد الله ، ولكن يقول لهم لئلا ينسبوه إلى الألوهية والربوبية على ما نسبوا إليه ، فأقر بالعبودية (٣) له ، والله أعلم بذلك.

وقال بعض أهل التأويل : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، أي : مفاتيح الله بأنه يهدي السفلة دونكم ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي : لا أقول : إن عندي علم ذلك أن الله يهديهم وهم مؤمنون في السر ؛ وذلك كقوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١٢].

وقوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) : من الصدق.

(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي : إنما [أنا](٤) بشر لقولهم : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ...) إلى آخر الآية [هود : ٢٧].

ثم قال : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) قيل : الذين حقرتموهم يعني السفلة والأتباع. وقال ابن عباس : الذين لم تأخذهم أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا يعني إيمانا الله أعلم بما في أنفسهم من الصدق ، إني إذا لمن الظالمين لهم إن لم أقبل منهم [الإيمان](٥) أو طردتهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)

__________________

(١) في ب : قالوا.

(٢) في ب : عنكم.

(٣) في ب : بالعبودة.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

١٢٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) : قالوا ذلك لأنه قد كان طال عمره وهو بين أظهرهم ويدعوهم إلى الإيمان ، فأكثر حجاجه ومجادلته إياهم (١). فقالوا : (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وكان يعدهم العذاب إن لم يجيبوه ؛ كقوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦] ، وما كان وعد لهم في غير آية من القرآن إن لم يجيبوه فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب ، فقال : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي : ليس لي إتيان ذلك إنما ذلك إلى الله ، إن شاء عجل وإن شاء أخر إلى ما بعد الموت ؛ وهو كقول رسول الله لقومه : (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٥٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : لا تعجزون الله عن تعذيبكم فتفوتون عنه ، وقيل : وما أنتم بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها ؛ وهو واحد ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : تأويله ـ والله أعلم ـ لا ينفعكم دعائي إلى ما به نجاتكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ثم اختلف في وقت ذلك : قال بعضهم : لا ينفعكم نصحي عند إقبال العذاب عليكم ؛ إن كان في حكم الله ألّا تكونوا من الغاوين في ذلك الوقت.

وقال بعضهم : قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) إن كان الله يريد أن يغويكم](٢) أي : لا ينفعكم نصحى إن كان الله يريد أن يعذبكم في نار جهنم ويقول الغي العذاب ؛ كقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] أي : عذاب جهنم ونحوه من الكلام.

وأما عندنا فهو على ما أخبر : إن كان الله يريد إغواء قوم أبدا فهم في الغواية أبدا ، وأصله أن الله أراد غواية من في علمه أنه يختار الغواية [وأراد ضلال كل من في علمه أنه يختار الضلال ؛ لأن من في علمه أنه يختار الغواية](٣) والضلال اختار عداوته ، ولا يجوز

__________________

(١) دلت هذه الآية على أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قد أكثر في الجدال معهم ، وذلك الجدال كان في بيان التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدل على أن المجادلة في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء ، وأن التقليد والجهل والإصرار حرفة الكفار ، ودلت على أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ثم إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجابهم بقوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) [هود : ٣٣] أي : أن إنزال العذاب ليس إليّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحدا لا يعجزه ، أي : لا يمنعه.

ينظر اللباب (١٠ / ٤٧٦).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٢٦

أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته ؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته ، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال.

ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى الله يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغا وضلالا لا بد ؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ.

والثاني : أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم ، فمن ذلك (١) الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه ، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم ؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال ، فاستوجبوا الذم عليه بذلك ، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به ، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من الله تعالى من هذا الوجه ، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما.

وفي قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) دلالة تعليق الشرط على الشرط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : بل يقولون.

إنه افتراه من عند نفسه قل : (٢)(إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : قال قوم نوح لنوح ـ عليه‌السلام (٣) ـ : إنه افترى على الله أنه رسول إليهم من الله على ما سبق من دعائه قومه إلى دين الله ، فقالوا له : إنه افتراه.

وقال بعضهم : هو قول قوم محمد (٤) قالوا : افترى محمد هذا القرآن من نفسه ليس هو من الله على ما يزعم ، وهو ما قال في صدر السورة ، وهو قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) إلى آخر ما ذكر ، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من الله من نفسه فقال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : إن افتريته فعليّ جرم افترائي وجزاؤه.

(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) معناه ـ والله أعلم ـ أي : لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته ، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم ؛ كقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] وكقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، فعلى ذلك إجرامى ، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم ؛ كقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا

__________________

(١) في ب : ذا.

(٢) في أ : قيل.

(٣) ذكره البغوي بمعناه (٢ / ٣٨١) ونسبه لابن عباس وأبي حيان في البحر (٥ / ٢٢٠).

(٤) ذكره ابن جرير (٧ / ٣٣) ، وكذا البغوي بمعناه (٢ / ٣٨١) ونسبه لمقاتل.

١٢٧

وَبَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] لما أيس عن إيمانهم ، وانقطع طمعه ورجاؤه عن إسلامهم ، قال لهم ذلك أن لا محاجة بيننا وبينكم بعد هذا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) قال بعضهم : إن نوحا عليه‌السلام لم يدع على قومه بالهلاك ما دام يرجو ويطمع من قومه الإيمان ، فإذا أيس وانقطع رجاؤه وطمعه فحينئذ دعا عليهم بالهلاك ؛ كقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)(١) [نوح : ٢٦] أي أحدا ، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ...) الآية [نوح : ٢٧] ، وعرف الإياس عن إيمانهم بقوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ ...) الآية ؛ وكذلك سائر الأنبياء والرسل لم يؤذن [لهم](٢) بالدعاء على قومهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم ، ما داموا يرجون ويطمعون منهم الإيمان والإجابة لهم ، فإذا أيسوا وانقطع رجاؤهم وطمعهم عن ذلك ، فعند ذلك أذن لهم بالدعاء عليهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم [وعلى ذلك عوتب يونس بالخروج من بين أظهرهم قبل أن يؤذن له بالخروج من بينهم](٣).

وفي قوله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) دلالة أن للإيمان حكم التجدد والابتداء في كل وقت [وفي](٤) كل حال ؛ لأنه أخبر أن الذي قد آمن قد يؤمن في حادث الوقت ؛ وعلى ذلك يخرج الزيادات التي ذكرت في الإيمان فزادتهم إيمانا ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) قيل : لا تحزن بما كانوا يفعلون (٥) ، فهو يحتمل وجهين :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٤) عن قتادة (١٨١٣٩) ، والضحاك (١٨١٤٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٢) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة ، ولأحمد في الزهد وابن المنذر وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٤) عن كل من : مجاهد (١٨١٣٥ ، ١٨١٣٦) ، ابن عباس (١٨١٣٧) ، قتادة (١٨١٣٩). ـ

١٢٨

أحدهما : لا تحزن بكفرهم بالله وتكذيبهم إياك ، ليس على النهي عن الحزن في ذلك ، بل (١) على دفع الحزن عنه والتسلي به ؛ لأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا يحزنون بكفر قومهم بالله وجعلهم (٢) أنفسهم أعداء له ؛ كقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وأمثاله ، كان الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أشدّ الناس حزنا بكفر قومهم بالله وتكذيبهم آياته وأشدهم رغبة في إيمانهم ، وكان حزنهم لم يكن على هلاكهم ألا ترى أن نوحا دعا عليهم بالهلاك وكذلك سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ دل أن حزنهم كان لمكان كفرهم بالله وتكذيبهم آياته ، لا لمكان هلاكهم إشفاقا على أنفسهم.

والثاني : قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) يحتمل أنهم كانوا هموا قتله والمكر به ، فقال : لا تحزن بما كانوا يسعون في هلاكك فإني كافيهم (٣) قال أبو عوسجة : قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) هو من الحزن ، يقال : ابتأس يبتئس ابتئاسا. قال الكسائي ـ أيضا ـ لا تبتئس أي : لا تحزن هو من البأس ، يقال : لا تبتئس بهذا الأمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) : قال بعض أهل التأويل : (بِأَعْيُنِنا) بأمرنا ووحينا (٤) ، وقال بعضهم (٥) : بمنظرنا ومرآنا (٦) ، ولكن عندنا يحتمل وجهين ، أحدهما : قوله : (بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا ورعايتنا ، يقال : عين الله عليك أي حفظه عليك ، ثم لا يفهم من قوله : (بِأَعْيُنِنا) نفس العين على ما لا يفهم من [قوله](٧) : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨٢] و (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، ولكن ذكر الأيدي لما في الشاهد إنما يقدم باليد ويكتسب باليد ؛ فعلى ذلك ذكر العين لما بالعين يحفظ في الشاهد.

والثاني : قوله : (بِأَعْيُنِنا) أي : بإعلامنا إياك ؛ لأنه لو لا تعليم الله إياه اتخاذ السفينة

__________________

ـ وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٢) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(١) في أ : ولكن.

(٢) في ب : جعل.

(٣) في ب : أكافئهم.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير عن كل من : ابن عباس (١٨١٤٢ ، ١٨١٤٥) ، مجاهد (١٨١٤٣ ، ١٨١٤٤) ، قتادة (١٨١٤٦).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٢) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس.

(٥) ذكره البغوي بمثله (٢ / ٣٨٢) عن ابن عباس ، وأبو حيان في البحر (٥ / ٢٢١).

(٦) في ب : ومرأى منا.

(٧) سقط في ب.

١٢٩

ونجرها لم يكن ليعرف أن كيف يتخذ وكيف ينجر ، إنما عرف ذلك بتعليم الله إياه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) : هذا يحتمل وجهين.

يحتمل أي : لا تشفع إلي في نجاة الذين ظلموا فإنهم مغرقون في حكم الله.

والثاني : لا تخاطبني في هداية الذين هم في حكم الله أنهم يموتون ظلمة ، أي : لا تسألني إيمان من في علم الله أنه لا يؤمن ، وفيه نهي السؤال عما في علم الله أنه لا يكون ؛ لأنه إذا أخبر أنه لا يكون أو لا يفعل فإذا سأله كان يسأله أن يكذب خبره الذي أخبر أنه لا يكون ، وفيه أنه إذا أراد الله إيمان أحد آمن ، ومن لم يرد إيمانه لم (١) يؤمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) : الملأ هم الأشراف والرؤساء من قومه.

(سَخِرُوا مِنْهُ) : هم الذين سخروا منه ، قال بعضهم : سخريتهم منه أن قالوا : صار نجارا بعد ما ادعى لنفسه الرسالة (٢).

وقال بعضهم : سخريتهم منه لما رأوه يتخذ الفلك ، ولم يكن هنالك بحر ولا واد ولا مياه جارية ، إنما هي آبار لهم فقالوا : يتخذوا السفينة ليسيرها في البراري والمفاوز ونحوه من الكلام (٣).

وقال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) وقالوا : سخريته منهم أنه إذا ركبوا الفلك رأوهم يغرقون ، قالوا : كنت على حق وعلى هدى ونحوه من الكلام ، لكن هذا لا نعلمه ولا حاجة لنا إلى معرفة سخريتهم أن كيف كانت سوى أن فيه سخروا منه.

ويحتمل قوله : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي : نجزيهم جزاء سخريتهم.

وقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) : هو وعيد ، أي : سوف تعلمون أن حاصل سخريتكم رجع إليكم ؛ كقوله : (وَما يَخْدَعُونَ ...) الآية [البقرة : ٩] ، أي : سوف تعلمون إذا نجونا نحن ، وغرقتم أنتم من (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي : عذاب يفضحه ويهلكه وهو

__________________

(١) في أ : لا.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٦) (١٨١٥٢) عن عبيد بن عمير الليثي ، وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٨٢).

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٣٥) (١٨١٤٨) عن عائشة مرفوعا ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، والحاكم وصححه ، وضعفه الذهبي وابن مردويه عن عائشة مرفوعا ، ولإسحاق بن بشير وابن عساكر عن ابن عباس.

١٣٠

الغرق.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي : عذاب يدوم.

وقال بعضهم : (عَذابٌ مُقِيمٌ) هو عذاب الآخرة (١) ؛ كقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥].

وأما قول أهل التأويل : إن سفينة نوح كان طولها كذا وعرضها كذا ، فليس لنا بذلك علم ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك ، فإن صح ذلك فهو ما قالوا وقولهم كان لها ثلاثة أبواب وثلاثة أطباق ، فذلك أيضا لا نعرفه ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(٤٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ).

قوله : (جاءَ أَمْرُنا) أي : جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه ؛ كقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ٧٠] ؛ وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم ، وسمي العذاب أمر الله ؛ لما لا صنع لأحد فيه ، وكذلك المرض سمي أمر الله ؛ لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه ، وسمى الصلاة أمر الله ؛ لما بأمره يصلي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفارَ التَّنُّورُ) : قال أبو عوسجة : (وَفارَ التَّنُّورُ) يقال : فار الماء أي خرج يفور فورا ، أي : غلى كما تغلي القدر وتصديقه قوله : (وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ ...) [الملك : ٧ ، ٨] قالوا : فار أي : خرج وظهر.

والتنور : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : التنور هو وجه الأرض ، قالوا : إذا رأيت الماء خرج ونبع وظهر على وجه الأرض فاركب (٢).

وقال بعضهم : التنور هو التنور الخابزة التي يخبز فيها ، قالوا : إذا رأيت الماء نبع من

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٧ / ٣٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٨ ، ٣٩) عن ابن عباس (١٨١٥٨) ، وعن الضحاك (١٨١٥٩) ، وعكرمة (١٨١٦٠ ، ١٩١٦١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٦) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ، ولأبي الشيخ عن عكرمة.

١٣١

تنورك فاركب (١) ، قالوا : كان الماء ينزل من السماء وينبع من الأرض ؛ كقوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١١ ـ ١٢] ، لكن جعل علامة وقت ركوبه السفينة هو خروج الماء من الأرض ونبعه منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : يحتمل هذا وجهين :

يحتمل إن كنا قلنا له إذا فار التنور : احمل فيها من كل زوجين اثنين.

ويحتمل وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : الزوج هو اسم فرد لذى شفع ليس هو اسم الشفع حتى يقال عند الاجتماع ذلك ، ولكن ما ذكرنا أنه اسم فرد لذي شفع كان الإناث صنفا وزوجا والذكور صنفا وزوجا ، فيكون الذكر والأنثى زوجين ، والله أعلم.

وقوله : (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : من ذكر وأنثى ثم يحتمل زوجين من ذوي الأرواح التي تكون لهم النسل ؛ لئلا ينقطع نسلهم.

ويحتمل ذوي الأرواح وغيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) : قال بعضهم : قوله : (وَأَهْلَكَ) أراد أهله والذين آمنوا معه ، يقول : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، واحمل أهلك أيضا إلا من قد سبق عليه القول ، أي : إلا من كان في علم الله أنه لا يؤمن ، أو إلا من كان في علم الله أنه يهلك.

وقال بعضهم : قوله : (وَأَهْلَكَ) أراد أهله خاصّة ، ثم استثنى من سبق عليه القول ، وهو ابنه وزوجته وهما من أهله ، ألا ترى أنه ذكر من بعد من آمن معه وهو قوله : (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ) أي : احمل أهلك الذين آمنوا معك إلا من سبق عليه القول من أهلك وغيره أنه في الهالكين.

أو يقول : إلا من سبق عليه القول أنه لا يؤمن ، فهذا يدل أن في أهله من كان ظالما كافرا حيث استثني من أهله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) : يذكر هذا ـ والله أعلم ـ تذكيرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مننه ونعمه التي أنعمها عليه ؛ لأن نوحا مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين الله ومواعظه لم يؤمن من قومه إلا القليل منهم ؛ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٠) عن كل من : ابن عباس (١٨١٦٩) ، الحسن (١٨١٧٠) ، مجاهد (١٨١٧١ ، ١٨١٧٢ ، ١٨١٧٣ ، ١٨١٧٤ ، ١٨١٧٥) ، الشعبي (١٨١٧٦) ، الضحاك (١٨١٧٨).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١٣٢

قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير يعرفه نعمه عليه ، وفيه دلالة رد قول من يقول : إن [المواعظ إنما تنفع](١) الموعوظ (٢) على قدر استعمال الواعظ ، وليس هكذا ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها ؛ لأن نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم دعاء ، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل ؛ دل أنه ليس لما فهموا ، ولكن لما ذكرنا.

وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب ، فأخذه إبليس فلم يعطه إلا أن أعطى له الشركة ، فذلك شيء لا علم لنا به ، فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس له في سائر الأنبذة والأشربة نصيب ، إنما يكون له فيما يخرج من العنب ، وتقدير الثلث والثلثين إنما يكون في عصير العنب خاصة ليس في غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) : يحتمل قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) أنه لما قال لهم نوح : اركبوا فيها قولوا (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ، وهو كقول الناس باسم الله من أوله على ما يقال ، ويذكر [اسم الله](٣) في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره.

ويحتمل قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي : بالله مجراها ومرساها ، أي : به تجري وبه ترسو ، وأنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري وبهم تقف ، وهم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقوفها ، وأما سفينة نوح كانت جريتها بالله وبه رسوها لا صنع لهم في ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : هو ظاهر لمن آمن به وصدق رسوله ينجيه من الغرق والهلاك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت بالله تجري وبه ترسو ؛ حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج ، وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها ، لما كانوا هم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقفها ، والله أعلم.

وقوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : هذا يدل على أنها كانت آية ؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها ، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير [آية لهم](٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : الموعظ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : لهم آية.

١٣٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ).

يحتمل قوله : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أي : بمعزل من نوح ، أو كان بمعزل من السفينة ، أو ما كان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) يحتمل لا تكن مع الكافرين : لتغرق ، أو لا تكن مع الكافرين لنعم الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) أي : سأنضم إلى جبل ، (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : ظن المسكين أن هذا الماء كغيره من المياه التي يسلم منها بالالتجاء إلى الجبال ، فأخبر عليه‌السلام أنه (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : من عذاب الله ، سمى عذابه أمر الله لما ذكرنا (١) أمر الله أمر تكوين ؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج [لقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ ...) الآية [النحل : ٤٠] ، وهو كما يسمى البعث لقاء الله لأنه هو النهاية في الاحتجاج](٢) على من ينكر البعث ؛ فعلى ذلك سمى عذابه أمر الله وهو أمر تكوين ؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج على من ينكر العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) بهدايته إياه ، أو إلا من سبقت له الرحمة من الله بالهداية له والنجاة.

وقوله : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) : يحتمل قوله : (بَيْنَهُمَا) بين ابنه وبين نوح ، ويحتمل بينه وبين السفينة.

(فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وقوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) : يحتمل صار من المغرقين ، ويحتمل كان في علم الله أنه يغرق ، وهذا يدل على أن قوله في إبليس : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه كان في علم الله أنه يكفر ، أو صار من الكافرين كما ذكر ، وكان من المغرقين إذ لم (٣) يكن من المغرقين في الأزل.

قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ

__________________

(١) في ب : ذكر.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) في أ : ولم.

١٣٤

وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)

وقوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) : قال بعضهم : عاد كل ماء إلى من حيث خرج : ما أرسل من السماء عاد إليها ، وما خرج من الأرض غاض في الأرض وغار فيها.

وقال بعضهم : لا ولكن أمسك السماء من إرساله ، وأمسك الأرض من نبعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ليس على القول لهم ، ولكن الله أمسكهما من إرساله ونبعه.

ويحتمل على القول منه لهم باللطف جعل فيهم ما يفهم هذا.

(وَغِيضَ الْماءُ) أي : غار الماء في الأرض.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) : بهلاك قوم نوح ويحتمل على التكوين على ما ذكر (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أي : استقرت على الجودي وهو جبل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا ويحتمل بعدا للقوم الظالمين من رحمة الله (١). وقال القتبي (٢) : مرساها أي تقف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : يمنعني من الماء ، وقال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قال القتبي (٣) : لا معصوم اليوم من عذاب الله ؛ كقوله : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ)

__________________

(١) في هذه الآية ألفاظ كل واحد منها دال على عظمة الله ـ تعالى ـ :

فأولها : قوله : (وَقِيلَ) ، وهذا يدل على أنه ـ سبحانه ـ في الجلال والعظمة بحيث أنه متى قيل لم ينصرف الفعل إلا إليه ، ولم يتوجه الفكر إلا إلى ذلك الأمر ؛ فدل هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوى والسفلي إلا هو.

وثانيها : قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ؛ فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام ، والحق ـ تعالى ـ مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ؛ فصار ذلك سببا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله ـ تعالى ـ وعلو قدره وقدرته وهيبته.

وثالثها : أن السماء والأرض من الجمادات ، فقوله : (يا أرض ويا سماء) مشعر بحسب الظاهر على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأن نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المراد منه أنه تعالى يأمر الجمادات ؛ فإن ذلك باطل ، بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريرا كاملا.

ورابعها : قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ومعناه : أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزما فقد وقع ، ذلك يدل على أن ما قضى الله ـ تعالى ـ به فهو واقع في وقته ، وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه. ينظر اللباب (١٠ / ٤٩٩).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٤).

(٣) ينظر : السابق.

١٣٥

[الطارق : ٦] أي : مدفوق ، وأصله لا عاصم أي : لا شيء يمنع اليوم من نزول عذاب الله عليهم ولا دافع لهم منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ...) الآية ، فقال : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

هذا ـ والله أعلم ـ كان عند نوح أن ابنه كان على دينه لما لعله كان يظهر الموافقة له ، وإلا لا يحتمل أن يقول : إن ابني من أهلي ويسأله نجاته ، وقد سبق منه النهي في سؤال مثله حيث قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ولا يحتمل أن يكون يعلم أنه على غير دينه ، ثم يسأل له النجاة بعد ما نهاه عن المخاطبة في الذين ظلموا ، فقال : إنه ليس من أهلك في الباطن والسر ، وإلا خرج هذا القول مخرج تكذيب رسوله ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه كان في الظاهر عنده أنه على دينه لما كان يظهر له الموافقة ، وكان لا يعرف ما يضمره فسأله على الظاهر الذي عنده ؛ وكذلك أهل النفاق كانوا يظهرون الموافقة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه ويضمرون الخلاف له ، وكانوا لا يعرفون نفاقهم إلا بعد اطلاع الله إياه ؛ فعلى ذلك نوح كان لا يعرف ما كان يضمر هو لذلك خرج سؤاله فقال : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذي وعدت النجاة لهم ، أو ليس من أهلك ؛ لأنه لم يؤمن بي ولم يصدقك فيما أخبرت أنه عمل غير صالح.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) أنه كان يقرأ : عمل غير صالح بغير تنوين (٢). وعن

__________________

(١) قرأ الكسائي : عمل فعلا ماضيا ، وغير نصبا.

والباقون (عمل) بفتح الميم وتنوينه على أنه اسم ، و (غير) بالرفع.

فقراءة الكسائي : الضمير فيها يتعين عوده على ابن نوح ، وفاعل «عمل» ضمير يعود عليه أيضا ، و «غير» مفعول به. ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : عمل عملا غير صالح ؛ كقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١] ، وقيل : إنه ذو عمل باطل ؛ فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.

وأما قراءة الباقين ، ففي الضمير أربعة أوجه :

أظهرها : أنه عائد على ابن نوح ، ويكون في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في «رجل عدل» ، و «زيد كرم وجود».

والثاني : أنه يعود على النداء المفهوم من قوله : (وَنادى) ، أي : نداؤك وسؤالك.

وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطر عظيم ، كيف يقال ذلك في حق نبي من الأنبياء ، فضلا عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم ، عليهما الصلاة والسلام؟! ولما حكاه الزمخشري قال : «وليس بذاك» ولقد أصاب. واستدل من قال بذلك أن في حرف عبد الله ابن مسعود : إنه عمل غير صالح أن تسألنى ما ليس لك به علم وهذا مخالف للسواد.

الثالث : أنه يعود على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله : (ارْكَبْ مَعَنا).

الرابع : أنه يعود على تركه الركوب ، وكونه مع المؤمنين ، أي : أن تركه الركوب مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عمل غير صالح. ـ

١٣٦

ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قرأه : عمل غير صلح بالتنوين (١). فمن قرأ بالنصب : عمل غير صالح أي : أن ابنك عمل غير صالح ، ومن قرأه : عمل يكون معناه ـ والله أعلم ـ أن سؤالك عمل غير صالح وكلا القراءتين يجوز أن يصرف إلى ابنه ، أي : أنه عمل غير صالح وهو عمل الكفر ، و (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : الذي كان عليه عمل غير صالح ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ثم قال : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) : هذا في الظاهر يخرج على التكذيب له ، لكن الوجه فيه أنه من أهلك على ما عندك ، وليس هو من أهلك فيما بشرتك من نجاة أهلك.

وقوله : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) : يحتمل وجهين :

يحتمل وإن وعدك بإغراق الظلمة حق.

والثاني : وإن وعدك بنجاة المؤمنين حق وأنت أحكم الحاكمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) : يحتمل هذا نهيا عن سؤال ما لم يؤذن له من بعد ؛ لأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا لا يسألون شيئا إلا بعد الإذن لهم في السؤال ، وإن كان يسع لهم السؤال ، أو أن يكون عتابا لما سبق ، والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا يعاتبون في أشياء يحل لهم ذلك ؛ نحو قوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) [التوبة : ٤٣] ، وقد كان له (٢) الأمر بالقعود والنهي عن الخروج بقوله : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة : ٨٣] ونحوه.

__________________

ـ وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويل ؛ لأن كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي : أن نوحا قال : إن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح ، بخلاف ما تقدم ؛ فإنه من قول الله تعالى فقط. هكذا قال مكي ، وفيه نظر ، بل الظاهر أن الكل من كلام الله تعالى.

ينظر : الحجة (٤ / ٣٤١) وإعراب القراءات السبع (١ / ٢٨٣) ، وحجة القراءات (٣٤١) وقرأ بها أيضا يعقوب.

وينظر : الإتحاف (٢ / ١٢٧) والمحرر الوجيز (٣ / ١٧٧) والبحر المحيط (٥ / ٢٢٩) والدر المصون (٤ / ١٠٤) ، واللباب (١٠ / ٥٠٠ ، ٥٠١).

(٢) أخرجه أحمد (٦ / ٤٥٤ ، ٤٥٩ ، ٤٦٠) ، وأبو داود (٣٩٨٢ ، ٣٩٨٣) والترمذي (٢٩٣٢) من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٧) وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة ، قال عبد بن حميد : أم سلمة هي أسماء بنت يزيد.

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٦) وعزاه لابن المنذر عن علقمة عن ابن مسعود.

(٢) في أ : منه.

١٣٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) : هو كما نهى رسول الله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وأمثاله ، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين ، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء ، بل بالنهي تظهر العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) إني أعوذ بك أن أعود إلى سؤال لا أعلم بالإذن في السؤال هذا يحتمل.

وقوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : إن لم ترحمني (١) بالعصمة من العود إلى مثله أكن من الخاسرين ، هذا يشبه أن يكون.

ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما لا يستوجبون المغفرة والرحمة إلا برحمة الله وفضله ، على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله» ، قيل : ولا أنت يا رسول الله ، قال : «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٢).

وقوله تعالى : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) : هو طلب المغفرة بالكناية (٣) ، وهو أبلغ وأكبر من قوله : اللهم اغفر لي ؛ لأن في قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) قطع رجاء المغفرة من غيره ، وإخبار ألّا يملك أحد ذلك ، وليس في قوله : اغفر لي قطع كون ذلك من غيره ؛ لذلك كان ذلك أبلغ من هذا ، وكذلك سؤال آدم وحواء المغفرة حيث قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣] ، هو سؤال بالكناية فهو أبلغ في السؤال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) : قال بعضهم : أي : انزل من الجودي إلى قرار الأرض ، وقال بعضهم : قوله : (اهْبِطْ) [أي](٤) : انزل وأقم على المقام والمكث في المكان ، ليس على الهبوط من مكان مرتفع إلى مكان منحدر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) : السلام هو أن يسلم عن الشرور والآفات ، والبركة هي نيل كل خير وبرّ على غير تبعة ، ثم هما في التحصيل واحد ؛ لأنه إذا سلم عن كل شر وآفة نال كل خير وبر ، وإذا نال كل خير سلم عن كل شر وآفة ، هما في الحقيقة واحد لكنهما في العبارة مختلف ، وهو كالبر والتقوى من العبد : البر هو كسب كل خير ، والتقوى هو اتقاء كل شر ومعصية ، هما في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد ؛

__________________

(١) في أ : لم تغفر لي.

(٢) أخرجه بمعناه البخاري (١١ / ٣٠٠) كتاب الرقاق ، باب القصد والمداومة (٦٤٦٣) ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين ، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله (٧١ / ٢٨١٦) عن أبي هريرة.

(٣) في أ : بالكتابة.

(٤) سقط في ب.

١٣٨

لأنه إذا اتقى كل شر ومعصية عمل كل خير وبر ، وإذا كسب كل خير وبر اتقى كل [معصية وشر](١) ؛ وعلى ذلك يخرج الشكر والصبر : الصبر هو كف النفس عن كل مأثم ، والشكر هو استعمال النفس في كل طاعة ، هما أيضا في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد ؛ لأنه إذا كف نفسه من كل مأثم استعملها في الطاعة ، وإذا استعملها في الطاعة كفها عن كل مأثم ومعصية ؛ وعلى ذلك يخرج الإسلام والإيمان : الإسلام هو تسليم النفس [الله](٢) خالصة سالمة لا يجعل لغيره فيها حقا ، والإيمان هو أن يصدق الله بالربوبية في نفسه وفي كل شيء ، وهما في الحقيقة واحد وفي العبارة مختلفان ؛ لأنه إذا جعل نفسه وكل شيء سالما [لله تعالى](٣) أقر بالربوبية له في نفسه وفي كل شيء ، وإذا صدقه وأقر له بالربوبية في نفسه وفي كل شيء جعلها لله ، وكل شيء له.

هذه أشياء في العبارة مختلفة وفي التحصيل واحد.

ثم قوله : (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) : جائز أن يكون جواب قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) آمنه عما خاف وطلب منه المغفرة والرحمة.

والثاني : السلام له منه هو الثناء الحسن ؛ كقوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) : يحتمل أن يكون جواب قوله : (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) ، والبركة هي اسم كل خير لا انقطاع له ، أو اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه.

ثم قوله : (بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ، على قول بعض أهل التأويل : ذلك السلام ، وتلك البركات في الدنيا : السلام لما سلموا من الغرق والبركات ما نالوا في الدنيا من الخيرات والمنافع.

وعلى قول بعضهم : السلام والبركات جميعا في الآخرة.

ثم جعل عزوجل المؤمن والكافر مشتركين في منافع الدنيا وبركاتها ، وجعل منافع الآخرة وبركاتها للمؤمنين خاصة بقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، وبقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ثم قال : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] أشرك المؤمن والكافر في زينة الدنيا ، ثم جعل [للمؤمنين خالصة](٤) يوم القيامة ، فذلك قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَ

__________________

(١) في ب : شر ومعصية.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : خالصة للمؤمنين.

١٣٩

يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أخبر أنه يمتعهم ثم يصيبهم عذاب أليم ، ويمتع المؤمن أيضا في هذه الدنيا بأنواع المنافع ، ثم أخبر أن العاقبة للمتقين ثم جعل العاقبة للمتقين بإزاء ما جعل لهم عذابا أليما أعني الكفرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) : ولم يكن مع نوح أمم يومئذ ، إنما كانوا معه نفرا ، لكنه أراد ـ والله أعلم ـ الأمم التي كانوا من بعده كأنه قال : وعلى أمم يكونون من بعدك ، فهذا (١) يدل أن دين الأنبياء والرسل جميعا دين واحد ، وإن اختلفت شرائعهم ؛ لأن تلك الأمم لم يكونوا بأنفسهم مع نوح ، ولا كانوا معه في العبادات التي كان فيها نوح ؛ دل أنهم كانوا جميعا على دينه وهو واحد ، وعلى ذلك يخرج دعاؤه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ...) الآية [نوح : ٢٨] ، دعاء بالمغفرة له لكل مؤمن ومؤمنة يكون من بعده ؛ وكذلك يحق على كل كافر دعاؤه : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح : ٢٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) : يحتمل قوله : (تِلْكَ) أي : قصة نوح من أنباء الغيب غابت عنك لم تشهدها ، ولم تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، إن كان المراد من قوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) قصة نوح خاصة وأنباؤه ، كان يجيء أن يقول : هذه من أنباء الغيب نوحيها إليك ، لكنه كأنه على الإضمار ، أي : هذه الأنباء تلك الأنباء التي ذكرت في كتبهم ، وإن كان المراد هذه وغيرها من الأنباء يصير كأنه قال : هذه من تلك الأنباء. ويحتمل قوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) القصص كلها قصة نوح وغيره من الأنبياء من أنباء الغيب ، غابت عنك لم تشهدها ولا تعلمها أنت ولا قومك ، خص قومه لأن غيره من الأقوام قد كانوا عرفوا تلك الأنباء فيخبرونهم فيعرفون به صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أخبرهم على ما أخبر أولئك الذين عرفوا تلك الأنباء بكتبهم ؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك [بالله تعالى إذ تلك](٢) الأنباء كانت بغير لسانه ، ولم يعرف أنه اختلف إلى أحد (٣) منهم ؛ دل أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ) يحتمل قوله : (فَاصْبِرْ) على تكذيبهم إياك ، وعلى أذاهم أو اصبر على ما أمرت ونهيت ، واصبر على ما صبر إخوانك من قبل ؛ كقوله : (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] ونحوه.

__________________

(١) في أ : فهو.

(٢) في أ : بالله أن تلك.

(٣) في أ : لأحد.

١٤٠