تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وذلك جائز في اللغة ؛ لأن بالماء ظهور كل شيء وبدأه ؛ كقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ، وإن كان العرش اسم السرير والكرسي على ما قاله بعض الناس ، فهو عرش الملك وسريره خلقه ليكرم به أولياءه ؛ ليمتحن ملائكته بحمله والخدمة له على ما يكون لملوك الأرض سرير يستخدمون خدمهم في ذلك ، وهو خلق من خلائقه أضافه إليه كما تضاف الأشياء إلى الله ، لكنه يضاف الأشياء إليه مرة بالإجمال مرة جملة ومرة بالإشارة والإفراد ، لكن ما أضاف إليه بالإشارة فهو على تعظيم ذلك الشىء ، وما أضيف إليه [من] الأشياء بالإجمال والإرسال فهو على ذكر عظمته وكبريائه ، كقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٠٧] ، (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] ونحوه [فيه ذكر سلطانه وعظمته ، وقوله : بيت الله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ونحوه](١) ، وهو يخرج على ذكر تعظيم البيت والمساجد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : خلق السموات والأرض وما فيهما للممتحن لم يخلق هذه الأشياء لأنفسها إنما خلقها للممتحن فيهما ؛ كقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [الجاثية : ١٣] ؛ لأن خلقها لأنفسها [عبث ؛ لأنها مخلوقة للفناء خاصة ، فكل مخلوق للفناء خاصة فهو عبث ؛ لذلك كان ما ذكر والله أعلم. وقوله تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

وقوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) : هذا القول نفسه : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) ليس يقولون هذا سحر ، ولكن إذا أخبرهم أنهم مبعوثون من بعد الموت ، وأقام الحجج والبراهين على البعث فحينئذ قالوا لحجج البعث وبراهينه : ما هذا إلا سحر.

ويحتمل وجها : وهو أن يذكر سفههم أنهم اعتادوا نسبة كل شيء إلى السحر ، حتى الأشياء التي لا تحتمل السحر وهو الإخبار ؛ لأن السحر إنما يكون في تقليب الأشياء ، وأما فيما يخبر عن شيء يكون فلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) قيل : إلى وقت

__________________

ـ وثالثها : أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سماوات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ؛ فدل على كمال القدرة.

ينظر اللباب (١٠ / ٤٤٠).

(١) سقط في ب.

١٠١

معلوم (١) وهو البعث ، ذكر (أُمَّةٍ) ـ والله أعلم ـ لأنه وقت [به ينقضي](٢) آجال الأمم جميعا.

(لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أي : كانوا يقولون : ما يحبس عنا العذاب الذي يعدنا لم تزل عادتهم استعجال العذاب استهزاء بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) : ذلك العذاب ؛ إذا جاء لا يملك أحد صرفه عنهم ؛ كقوله : (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [الشورى : ٨] ، وقوله : (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد : ٣٤] ونحوه.

وقوله : (وَحاقَ بِهِمْ) : قيل : نزل بهم (٣) ، وقيل : لحق بهم ما كانوا به يستهزءون جزاء استهزائهم بالرسول والكتاب.

وقوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي : لا يصرف عنهم بشفاعة من طمعوا بشفاعته ؛ كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا) [مريم : ٨١ ، ٨٢] أي : لا يكون ردّا على ما طمعوا ورجوا لعبادتهم.

وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) [يس : ٧٤] ونحو ذلك ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) قيل : سعة في المال ونعمة.

(ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) إياسه ذهاب ذلك المال عنه ونزعه منه عن العود ذلك إليه ويقنطه ، والإياس قد يكون كفرا (٤) ؛ كقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٨) (١٨٠٠٦ و ١٨٠٠٧ و ١٨٠١٤) عن ابن عباس ، (١٨٠٠٨) عن قتادة ، (١٨٠٠٩) عن الضحاك.

(٢) في ب : ينقضي به.

(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٩) ، والبغوي (٢ / ٣٧٥).

(٤) أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يئوسا ؛ لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يستبعد تلك النعمة ؛ فيقع في اليأس. وأما المسلم ، فيعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من فضل الله وإحسانه ؛ فلا ييئس ، بل يقول : لعله يؤخرها إلى ما هو أحسن وأكمل مما كانت. وأما أن الإنسان يكون كفورا حال تلك النعمة ، فإن الكافر لما اعتقد أن حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنه حصلها بجده واجتهاده ، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله على تلك النعمة والمسلم يشكر الله تعالى.

والحاصل : أن الكافر يكون عند زوال النعمة يئوسا وعند حصولها كفورا. ـ

١٠٢

الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧].

ويحتمل قوله : (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) في حال ذهاب النعمة ، والكفور في حال النعمة والسعة ، كفور لما رأى نزع ذلك المال والسعة منه جورا وظلما فهو كفور.

وعن ابن عباس قال : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني الكافر (١) ، (مِنَّا رَحْمَةً) يقول : نعمة العافية وسعة في المال وما يسر به ، (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) يعني الرحمة (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) يعني قنوط آيس وأقنطه من رحمة الله ؛ وهو كقوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦].

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) : الفرح هو الرضا ؛ كقوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦] أي : رضوا بها.

وقيل الفرح : البطر يبطر في حال السعة والرخاء ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] ، والفرح قد يبلغ كفرا ، ويكون الفرح سرورا ولا يكون كفرا.

فخور : يفتخر على الفقراء بالمال الذي أعطي ، أو يفتخر على الأنبياء والرسل بالتكذيب ، وكذلك كان عادة رؤسائهم أنهم كانوا ذوى مال وسعة ، فلا بد يرون الرسالة تكون فيمن دونهم في المال والسعة ؛ كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ؛ وكقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [سبأ : ٣٥] ونحوه.

ويحتمل قوله : (لَيَؤُسٌ) في حال الشدة ، كفور لله في نعمه [في الرخاء وأصل ذلك](٢) أنهم كانوا لا ينظرون في النعم إلى من أنعم عليهم ، إنما ينظرون إلى (٣) أعين النعم وأنفسها ؛ لذلك حملهم نزع ما أعطوا منهم على الإياس والقنوط ، وإعطاؤها إياهم على الكفران والفرح والفخر ، ولو نظروا في تلك النعم إلى المنعم لم يقع لهم إياس عند النزع ، ولا الكفران والفرح عند النيل ، بل يصبرون عند النزع من أيديهم ويشكرون للمنعم عليهم في حال النيل.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : قال بعض أهل التأويل : [إلا الذين صبروا على البلايا والشدائد وعملوا الصالحات يعني : الطاعات ويشبه أن يكون

__________________

ـ وأما انتقال الإنسان من المحنة إلى النعمة ، فالكافر يكون فرحا فخورا ؛ لأن منتهى طبع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية ، وهو منكر للسعادات الأخروية.

ينظر اللباب (١٠ / ٤٤٥).

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٧ / ١٥٣) ولم ينسبه لأحد ، وكذا أبو حيان (٥ / ٢٠٦).

(٢) في أ : والرخاء وأصله ، وذلك.

(٣) في أ : على.

١٠٣

قوله :](١)(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : آمنوا على ما ذكر في غير واحد من الآيات : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الشعراء : ٢٢٧] ؛ كقوله : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ١ ـ ٣] ، ويكون قوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) عن المعاصي فلم يرتكبوها ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات والإيمان نفسه هو اعتقاد الانتهاء عن المعاصي كلها ، والاتقاء عن جميع ما يدخل نقصا فيها وإتيان الطاعات جميعا ، وهكذا يعتقد كل مؤمن أن [يتقي وينتهي](٢) كل معصية ، ويأتي بكل طاعة ويعمل بها ، هذا اعتقاد كل مؤمن وحقيقة الوفاء بذلك كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : يشبه أن يكون قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما ارتكبوا على (٣) الصغائر من الذنوب ، وانتهوا عن الكبائر منها ، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) على ما أتوا وعملوا من الكبائر من الطاعات.

ويحتمل قوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) الستر في الدنيا ستر عليهم تلك الذنوب في الدنيا فلم يطلع عليها الخلق (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بما أظهر منهم ما كان من الطاعات والخيرات حتى نظر الناس إليهم بعين تعظيم بما ظهر منهم من الخيرات وخفي عليهم ما ارتكبوا من المعاصي.

هذا التأويل يكون في الدنيا ، والأول في الآخرة.

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٤)

وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) ، وإن كان معلوما أنه لا يترك ؛ كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧] وأمثاله ، نهاه وإن كان معلوما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفعل ذلك ، وإنما احتمل النهي كما يقول الرجل لآخر لعلك تريد أن تفعل كذا فهو نهاه عن ذلك.

والثاني : يقال عند القرب إلى الفعل والدنو منه ؛ كقوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] يقال : حرف «كاد» عند الميل إليه والقرب منه طمعا منه في

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في ب : ينتهي ويتقي.

(٣) في أ : من.

١٠٤

إيمانهم ، وذلك فيما يحل له الترك ، وذلك ما قيل من نحو سب آلهتهم وذكر العيب فيها ، ويحل له ترك سب آلهتهم وشتمها. وكذلك يخرج قوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) على هذين الوجهين ، على المنع ألا يحمل على نفسه إشفاقا على أنفسهم ألا يؤمنوا ما يوجب تلفه.

والثاني : على التخفيف ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...) الآية [الحجر : ٨٨] ، وقوله : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [القصص : ٧] هو على التخفيف ليس على النهي.

وفي قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ ...) الآية وجه (١) آخر : وهو نهي يخرج مخرج البشارة [له بما](٢) كان يخاف من ضيق صدره واشتغال قلبه عند سوء معاملتهم إياه ، فيقع له فيه تأخير في إبلاغ ما أمر بتبليغه فأمنه الله عن ذلك وعصمه.

والوجه الثاني : في النهي (٣) عن ذلك هو ما يقع له فيه الرجاء ، وذلك أن الأخيار إذا ابتلوا بالأشرار قد يؤذن لهم بمفارقتهم وترك الأمر فيهم ، فلعله كان يقع له في مثله الرجاء أنه قد يؤذن له ، في حال من الأحوال بتأخير التبليغ ، فأيئسه عن ذلك وكلفه بتبليغ ما أمر له في جميع أحواله و (بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) يحتمل ما ذكر أهل التأويل من سب آلهتهم وعيبها وما تدعو إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) : يضيق صدره بما يقولون له استهزاء ، وكذلك الحق أن كل من استهزئ به أن يضيق صدره لما لا يقدر على إتيان ما طلبوا منه من الكنز (٤) وإنزال الملك ، وقد وعدوا أن يؤمنوا لو فعل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) : لأن للكنز والملك محلّا في قلوب أولئك وقدرا فقالوا : لو لا أنزل عليه كنز [فيعظموه فيصدق على ما يدعي ، وكذلك الملك له محل عظيم عندهم إذا كان معه عظموه وصدقوه.

وقوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أثر قولهم : لو لا أنزل عليه كنز](٥) أو جاء معه ملك أي : إنما أنت نذير ليس عليك إتيان ما سألوا ، إنما ذلك تحكم منهم على الله تعالى وأمانيّ ، فعليك إبلاغ ما أنزل إليك ؛ كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨].

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : حفيظ لكل ما يقولون فيك ويتفوهون به ، أو هو الوكيل والحفيظ لا أنت ؛ كقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] ، وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ١٠٧] ونحوه ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : ووجه.

(٢) في أ : مما.

(٣) في أ : والنهى.

(٤) في أ : الملك.

(٥) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٠٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : قالوا : إنه افتراه ، أي : محمد افترى هذا القرآن من عند نفسه.

(قُلْ) : يا محمد إن كان افتريته على ما تقولون ، (فَأْتُوا) : أنتم ، (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) : لأنكم أقدر على الافتراء من محمد ؛ لأنكم قد عودتم أنفسكم الكذب والافتراء ، ومحمد لم تأخذوه بكذب قط ولا ظهر منه افتراء ، فمن عود نفسه الافتراء والكذب أقدر [عليه](١) ممن لم يعرف به [قط](٢) ، فأتوا بعشر سور مثله وادعوا أيضا شهداءكم من الجن والإنس ممن استطعتم من دون الله يعينوكم على إتيان مثله ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه افتراه من عنده.

أو يقول : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي أن محمدا قد جاء بسور [فيها أنباء](٣) ما أسررتم وأخفيتم مما لا سبيل إلى معرفة ذلك والاطلاع عليه إلا من جهة الوحي من السماء واطلاع الله إياه ، فأتوا أنتم بسورة مفتراة فيها أنباء ما أضمر هو وأسر ، وتطلعون أنتم على سرائره كما اطلع هو على سرائركم ، وادعوا من استطعتم ممن تعبدون من دون الله من الآلهة ، إن كنتم صادقين أنه افتراه.

أو يقول : إن لسانكم مثل لسان محمد ، فإن قدر هو على الافتراء افترى مثله من عنده ، فتقدرون أنتم على افتراء مثله : فأتوا به ، وادعوا أيضا من لسانه مثل لسانكم حتى يعينوكم على ذلك ، إن كنتم صادقين أنه افتراه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) ، وقال في موضع آخر : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

قال بعضهم : بعشر نزل قبل ولم تقدروا على مثله ، وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) دعوا (٤) أولا أن يأتوا بعشر سور ، فلما عجزوا (٥) عن ذلك عند ذلك قيل لهم : (فَأْتُوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : فيه إيتاء.

(٤) في ب : ادعوا.

(٥) اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزا ، فقيل : هو الفصاحة ، وقيل : الأسلوب ، وقيل : عدم التناقض ، وقيل : اشتماله على الإخبار عن الغيوب ، والمختار عند الأكثرين : أن القرآن معجز من جهة الفصاحة ، واستدلوا بهذه الآية ؛ لأنه لو كان إعجازه هو كثرة العلوم ، أو الإخبار عن الغيوب ، أو عدم التناقض لم يكن لقوله : (مُفْتَرَياتٍ) معنى ، أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك ؛ لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقا أو كذبا ، ثم إنه لما قرر وجه التحدي قال : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) : واستعينوا بمن استطعتم (مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) يا أصحاب محمد ، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول ـ صلوات الله البر الرحيم ـ

١٠٦

بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].

وقوله : (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [فإن قيل : كيف ذكر : فأتوا بسور مفتريات](١) قيل : معناه إن كان هذا مما يحتمل الافتراء على ما تزعمون ، فأتوا بمثله أنتم لأنكم أقدر على الافتراء من محمد ، فإن (٢) لم تقدروا لم يقدر أحد على ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي : فإن لم تقدروا أنتم ولم يجيبوكم أولئك على الإعانة على إتيان مثله ، فاعلموا [أنه](٣) إنما أنزل بعلم الله وبأمره أتاه ومن عنده نزل ، ليس بمفترى على ما تزعمون ، وأن لا إله إلا الله لا ألوهية لمن تعبدون دونه من الأصنام والأوثان.

والثاني : فإن لم يستجيبوا لكم يا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقدروا على مثله ، فاعلموا أنتم أنه إنما أنزل بعلم الله ومن عنده نزل على التنبيه والتذكير لهم ، وإن كانوا علموا أنه من عنده نزل ؛ كقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] على التنبيه والتذكير ليس على أنه لا يعلم فعلى ذلك الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : خاضعون له مخلصون ، وعلى التأويل الأول على حقيقة الإسلام ، والإيمان ، والله أعلم.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الآية اختلف فيه :

قال بعضهم : الآية في أهل الإيمان الذين عملوا الصالحات مراءاة للخلق يقول : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) من الذكر فيها والشرف ، وما طلبوا بأعمالهم في الدنيا من المباهاة وغيره ، آتاهم الله في الدنيا جزاء لتلك الأعمال التي عملوها وبطل ما صنعوا وباطل ما

__________________

ـ وسلامه عليه وحده ـ والمراد بقوله : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي : الكفار ، يحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا.

ينظر اللباب (١٠ / ٤٤٩).

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : فإذ.

(٣) سقط في ب.

١٠٧

كانوا يعملون ؛ لأنهم عملوا لغير الله ، فلا يجزون في الآخرة بأعمالهم تلك ، وإلى هذا يذهب ابن عباس.

وروي في بعض الأخبار أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : ما بال العبد المعروف بالخير يشدد عليه عند الموت ، والرجل المعروف بالشرّ يهون عليه الموت؟! فقال : «المؤمن تكون له ذنوب فيجازى بها عند موته ، فيفضي إلى الله في الآخرة ولا ذنب عليه ، والكافر يكون له الحسنات فيجازى بها عند الموت يخفف عنه بها كرب الموت ، ثم يفضي إلى الآخرة وليست له حسنة» (١) أو كلام نحوه.

وقال بعضهم : الآية في أهل الكفر (٢) يعملون أعمالا هي في الظاهر صالحة ؛ نحو : التصدق على الفقراء وعمارات الطرق واتخاذ القناطر والرباطات هي في الظاهر صالحة ، يقول : نوف لهم جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا لا ننقص منها شيئا فهو ما وسع عليهم الدنيا.

وجائز أن يكون قوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي : نرد إليهم أعمالهم التي عملوها فلا نقبلها ويكون إيفاء أعمالهم الرد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي : لا ينقصون ما قدر لهم من الرزق إلى انقضاء مدتهم وآجالهم بشركهم بالله.

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) : على هذا التأويل [ظاهر ليس لأهل الكفر في الآخرة إلا النار](٣) وعلى التأويل الذي قال : إنها في أهل الإيمان ، أي : لا يستوجبون بتلك الأعمال التي عملوها مراءاة إلا النار ؛ لأنه إذا راءى فيها لم يخلصها لله وضيع أمره ، وكل من ضيع أمر الله وفريضته يستوجب التعذيب عليه وله العفو ، وليس في الآية أنه لا محالة يعذبهم بعملهم المراءاة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) فيه دلالة نقض قول الجهمية والمعتزلة بنفيهم العلم عن الله ، وفي الآية إثبات العلم له بقوله : (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ).

وقوله : (أَفَمَنْ) حرف يقتضي الجواب لكن الجواب له لم يخرج في الظاهر ؛ لأن

__________________

(١) أخرجه بمعناه مسلم (٤ / ٢١٦٢) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا (٥٦ / ٢٨٠٨) ، وأحمد في المسند (٣ / ١٢٣ ، ٢٨٣) عن أنس بن مالك.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٧) ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ٢١٠) ونسبه لمجاهد.

(٣) سقط في أ.

١٠٨

جوابه أن يقول : أفمن كان على بينة من ربّه كمن ليس على بينة من ربه كما قال في آية أخرى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] ؛ وكقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] لا يعلم ، فعلى ذلك جواب قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن لا يكون على بينة من ربه ، لكن الجواب عندنا يكون على وجوه : مرة يكون بالتصريح وهو ما ذكرنا ، ومرة بالإشارة ، ومرة بالكناية (١) على غير تصريح.

ثم منهم من يجعل جوابه ما تقدم وهو قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الآية ، [يقول : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها](٢) ، أي : لا يكون كذلك ، ومنهم من يجعل جوابه فيما تأخر وهو قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) كأنه يقول : أفمن كان على بينة من ربه كمن يكفر به الأحزاب ، أي : لا يكون كذلك وقالوا : يجوز تقديم الجواب وتأخيره ، كقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩] لم يخرج لهذا أيضا جواب التصريح.

ثم اختلفوا في جوابه ؛ قال بعضهم : جوابه فيما تأخر في قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وصف الذين لا يعلمون ، فكأنه يقول : أفمن يعلم كمن لا يعلم.

ومنهم من يجعل جوابه في قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [الزمر : ٨] يقول : من جعل لله أندادا وضل عن سبيله وصار من أصحاب النار ، كمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما أي : ليسا بسواء.

وقال مقاتل : ليس الذي على بيان من ربه كالذي موعده النار (٣) ، والله أعلم.

وجائز أن يكون على طرح الألف : (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى ...) الآية يقول : فمن كان على بيان من ربه أولئك يؤمنون به.

ثم قوله (٤) : (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : قال بعضهم : دين من ربه ، أي : من كان على دين من الله ويتلوه شاهد منه أي : يتلو لما هو عليه من الدين شاهد منه ، كمن كان على دين الشيطان ولا شاهد له عليه؟! وقال بعضهم قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ

__________________

(١) في أ : بالكتابة.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : في النار.

(٤) في أ : وقوله.

١٠٩

رَبِّهِ) ، أي : على برهان من ربه (١) وحجج ويتلوه شاهد منه على ذلك ، كمن لا على برهان من ربه ولا حجج ولا شاهد له على ذلك؟! ثم قال بعضهم : قوله : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) جبريل (٢) أو ملك غيره يتلو عليه القرآن. وقال بعضهم : يتلوه شاهد منه : لسانه. وقال بعضهم (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) هو القرآن ونحوه (٣).

ثم قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : يحتمل أصحاب عيسى الذين آمنوا به.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أصحاب التوراة الذين آمنوا.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : هؤلاء الذين آمنوا بهؤلاء هم الذين يؤمنون بمحمد ـ عليه أفضل الصلوات ـ وبما جاء به محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) : قيل فيه بوجوه :

قيل : ومن قبل القرآن كتاب موسى جاء جبريل إلى موسى ، كما جاء بهذا القرآن إماما يقتدى به ورحمة من العذاب لهم.

ويحتمل قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ) يعني قبل القرآن كتاب موسى التوراة إماما فيها أنباء هذا القرآن ، وأنباء محمد أنه رسول ؛ كقوله : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] ، وقوله : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] وأمثاله.

ويحتمل قوله : (إِماماً وَرَحْمَةً) [ما روي] عن ابن عباس قال : إماما ورحمة : كان كتاب موسى وهو التوراة إماما يقتدى به ، وكان رحمة ، أولئك يؤمنون به قال : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين آمنوا به من أهل الكتاب وغيرهم. ويحتمل قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : مؤمني أهل التوراة يؤمنون بالقرآن ويقتدون به ؛ كما آمنوا بالتوراة واقتدوا بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي : بالقرآن (مِنَ الْأَحْزابِ) الأحزاب : الفرق والأصناف. يحتمل من يكفر به أي : بالقرآن من الفرق.

ويحتمل يكفر به أي : بمحمد. ويحتمل الدين الذي هو عليه ويدعوهم إليه.

__________________

(١) ذكره الرازي (١٧ / ١٦١).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧) عن كلّ من : ابن عباس (١٨٠٦٣ و ١٨٠٧٨) ، وإبراهيم (١٨٠٦٤ و ١٨٠٦٥ و ١٨٠٦٧ و ١٨٠٦٨ و ١٨٠٦٩ و ١٨٠٧٠ و ١٨٠٧٧) ، ومجاهد (١٨٠٦٦ و ١٨٠٧١ و ١٨٠٧٩) ، وأبي صالح (١٨٠٧٢) ، والضحاك (١٨٠٧٣ و ١٨٠٧٤) ، وأبي العالية (١٨٠٧٥) ، وعكرمة (١٨٠٧٦).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٨) وعزاه لابن أبي المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٧) (١٨٠٥٧) عن ابن زيد ، وذكره البغوي (٢ / ٣٧٧) ونسبه للحسين ابن الفضل.

١١٠

(فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) : إن مات على ذلك ، وأمّا إذا أسلم ومات على الإسلام ، فلا تكون النار موعده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : يحتمل في قوله الوجوه الثلاثة التي ذكرنا من الدين والقرآن والنبي ، يحتمل هو نفسه ، ويحتمل الخطاب غيره لما ذكرنا في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧] ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] وأمثاله ؛ فكذلك هذا ، وقد ذكرنا أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيدهما ؛ لأن بالعصمة يظهر موافقة الأمر ومخالفة النهي والمحظور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : يحتمل القرآن ، ويحتمل الدين الذي عليه ويدعوهم إليه ، ويحتمل هو نفسه الحق من ربه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على (١) نفسه ممن أخذ (٢) نفسه من معبوده وشغلها في عبادة من لا يملك له نفعا إن عبده ولا ضر إن ترك عبادته ، أو يقول : لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب الله ونقمته أبدا بافترائه على الله ، وبالله العصمة والقوة.

وفي التأويل لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على الله كذبا ، وفي المعنى لا أحد أفحش ظلما ممن افترى على الله كذبا بعد معرفته أن جميع ما له من الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي : أولئك الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم ، فإن وافقت أعمالهم [ما في](٣) شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة ، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار ، تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم ؛

__________________

(١) في أ : عن.

(٢) في أ : اختلق.

(٣) في أ : في ما.

١١١

لأن الله عزوجل عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال على ربهم ، أي : عند ربهم ؛ كقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٣٠] [أي : عند ربهم](١) وتأويله ما ذكرنا يعرضون على ربهم لأنفسهم ؛ لأنهم إنما يؤمرون وينهون ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم فيكون عرضهم لهم ، أو أن يكون قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ) على ما وعدهم ربهم في الدنيا ، أو يقول : أولئك يعرضون لأنفسهم على ربهم من غير غيبة كانت منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) : اختلف فيه : قيل : الأشهاد : الرسل والأنبياء (٢).

وقال بعضهم : الأشهاد : الملائكة (٣).

وقال بعضهم : الأشهاد : المؤمنون. فمن قال : هم الأنبياء والمؤمنون ؛ فهو كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ؛ وكقوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ومن قال : هم الملائكة ؛ كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ ...) الآية [الانفطار : ١٠ ـ ١١] ، ونحوه.

ومعناه ـ والله أعلم ـ أنه (٤) : تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم فإن أقروا بها بعثوا إلى النار ، وإن أنكروا يشهد عليهم ما ذكر من الشهداء فإن أنكروا يقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ ...) الآية [الإسراء : ١٤] ، فإن أنكروا ذلك [فعند ذلك](٥) تشهد عليهم جوارحهم ؛ كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ...) الآية [النور : ٢٤].

ويحتمل أن يكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم.

ويحتمل ما ذكر من (٦) شهادة الذين كانوا موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم يخبرون عما

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢) (١٨١٠٢) عن الضحاك ، وذكره البغوي (٢ / ٣٧٨) ونسبه للضحاك وابن عباس.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٢) عن كل من : مجاهد (١٨٠٩٥ و ١٨٠٩٦ و ١٨١٠٠) ، قتادة (١٨٠٩٧ و ١٨٠٩٨ و ١٨٠٩٩) ، الأعمش (١٨١٠١).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨٨) وعزاه لابن جرير عن مجاهد.

(٤) في أ : أن قوله.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : في.

١١٢

كتبوا في الكتب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) : اللعنة : قال بعضهم : هي الطرد عن جميع المنافع والإبعاد عن رحمة الله في الدنيا عن دينه وفي الآخرة عن ثوابه. وقال بعضهم : اللعنة هي العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يصدون يحتمل وجهين :

يحتمل أن أعرضوا هم بأنفسهم عن دين الله.

ويحتمل صرفوا الناس عن دين الله ، لكنه يتبين ذلك بالمصدر أنه أراد ذا أو ذا ، يقال في الإعراض بنفسه : صد يصد صدودا ؛ كقوله : (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء : ٦١] ، ويقال في صرف غيره : صد يصد صدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الأعراف : ٤٥] : قال بعضهم : هم بغاة على دين الله بالجور.

وقال بعضهم : يبغون من النساء الميل عن دين الله إلى دينهم ، فذلك هو بغي العوج ، كل سبيل غير سبيل الله فهو عوج وبغي ، كأنه يقول : يبغون سبيلا غير سبيل الله.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) : في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : أولئك لم يكونوا معجزي الله في الدنيا من أن يعذبهم وينتقم منهم إن شاء. والثاني : أولئك لم يكونوا سابقي الله في الآخرة في دفع العذاب عن أنفسهم. وجائز أن يكون الآية في الأئمة منهم والجبابرة يخبر أنهم غير معجزي الله فيما يريد منهم من التعذيب لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) هم حسبوا أن أولئك الذين عبدوهم من دون الله يكونون لهم أولياء ؛ لأنهم يقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] كانوا يطمعون في شفاعة الأصنام التي كانوا يعبدونها ، أو الذين اتبعوهم يكونون لهم أولياء فأخبر أن ليس لهم أولياء على ما ظنوا وحسبوا ، بل يكونون لهم أعداء ؛ كقوله : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ...) الآية [الأحقاف : ٦] ، وأمثاله كثير ؛ وكقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] ؛ وكقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [يس : ٧٤] أي : لم يكن لهم ما طمعوا ، وقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢] صاروا لهم أعداء على ما ذكر.

ويحتمل (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي : لا ينفعهم ولاية من اتخذوا أولياء ؛

١١٣

كقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) : هذا يدل على أن قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في الأئمة الذين صرفوا الناس عن دين الله ؛ لأنه أخبر أنه يضاعف لهم العذاب. وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : لما ضلوا هم بأنفسهم ، والآخر : لما صرفوا الناس عن دين الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : و (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) : قالت المعتزلة فيه بوجهين :

أحدهما : أنهم كانوا يسمعون ويبصرون ، لكنه قال لا يستطيعون السمع ولا يبصرون استثقالا منهم لذلك ، وهو كما يقول الرجل : ما أستطيع أن انظر إلى فلان ولا أسمع كلامه ، وهو ناظر إليه سامع كلامه ، لكنه يقول ذلك لاستثقاله النظر إليه وسماع كلامه ؛ فعلى ذلك الأول كانوا يسمعون ويبصرون ، لكنهم كانوا يستثقلون السمع والنظر إليهم [فنفى عنهم](١) ذلك.

والثاني : كانوا لا يستطيعون السمع ، أي : كانوا كأنهم لا يستطيعون السمع ولا النظر ، وهو ما أخبر أنهم صم بكم عمى ، كانوا يتصامون ويتعامون الحق.

وأمّا عندنا : الجواب للتأويل الأول أنهم كانوا لا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون السماع سمع الرحمة والنظر إليه بعين الرحمة والقبول ، فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون.

والثاني : يحتمل سمع القلب وبصر القلب ، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب ؛ كقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال ؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة ؛ فدل أنها الاستطاعة التي بها يكون الفعل لما ذكرنا.

وفي حرف ابن مسعود (٢) ـ رضي الله عنه ـ : (يضاعف لهم العذاب بما كانوا

__________________

(١) في أ : فنفاهم.

(٢) يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون نافية ، نفى عنهم ذلك لما لم ينتفعوا به ، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار ، أو يكون متعلق السمع والبصر شيئا خاصّا.

والثاني : أن تكون مصدرية ، وفيها حينئذ تأويلان :

أحدهما : أنها قائمة مقام الظرف ، أي : مدة استطاعتهم ، وتكون «ما» منصوبة ب «يضاعف» ، أي : لا يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والأبصار.

والثاني : أنها منصوبة المحل على إسقاط حرف الجر ، كما يحذف من «أن» و «أنّ» أختيها ، وإليه ـ

١١٤

يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ، ثم سئل الحسن عن ذلك؟ فقال : هو قول الله : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [الكهف : ١٠١] إذا سمعوا الوحي تقنعوا في ثيابهم ، فلم يستطيعوا احتمال ذلك.

وفى حرف حفصة : وما كانوا يستطيعون السمع بالواو.

وأما في حرف ابن مسعود ظاهر تأويله أي : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ، فلم يسمعوا عنادا وإبطاء ، وأصله ما كانوا يستطيعون السمع المكتسب والبصر المكتسب عندنا ، ما (١) ذكر من السمع والبصر هو السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة ؛ لأن سمع الآخرة وحياتها مكتسبان ، وحياة الدنيا والسمع والبصر مخلوقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : أما في الدنيا عبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع ، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار ، وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعم الدائمة.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي : بطل عنهم ، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا ...) الآية [الزمر : ٣] وأمثاله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : قال أبو عوسجة : لا جرم واجب من الكلام ، أي : الحق أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال بعضهم : لا جرم أي : نعم إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال الفراء : قوله : (لا جَرَمَ) أي : لا بد ، لكن (٢) الناس أكثروا استعماله فصار في معارفهم حقا ، ولا بد في الحقيقة حقا ؛ لأنه إذا كان لا بد فهو حق.

__________________

ـ ذهب الفراء ، وذلك الجار متعلق أيضا ب «يضاعف» أي : يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ، ولا ينتفعون.

والثالث : أن تكون «ما» بمعنى «الذي» وتكون على حذف حرف الجر أيضا ، أي : بالذى كانوا.

وفيه بعد ؛ لأن حذف الحرف لا يطرد.

والجملة من قوله : «يضاعف» مستأنفة.

وقيل : إن الضمير في قوله «ما كانوا» يعود على «أولياء» وهم آلهتهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء ، وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء ؛ فعلى هذا يكون (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) معترضا.

ينظر : اللباب (١٠ / ٤٦٠).

(١) في أ : وما.

(٢) في أ : ولكن.

١١٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) : تأويله ـ والله أعلم ـ أن الذين آمنوا بالله وبجميع ما أنزل على رسوله ، وعملوا الصالحات ولزموا ذلك حتى صاروا إلى الله أولئك أصحاب الجنة ؛ وهو كقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] أي : من تاب من الشرك وآمن بالله وعمل صالحا ثم اهتدى أي : ثم لزم ذلك حتى صار (١) إلى الله هكذا ؛ فعلى ذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) لزموا ذلك كله حتى صاروا إلى الله.

ويحتمل قوله : (ثُمَّ اهْتَدى) سنن الذين أولئك كذا.

وقوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) اختلف فيه :

قال بعضهم : الإخبات التخشع والتواضع (٢) ، أي : تخشعوا وتواضعوا فرقا من ربهم.

وقال بعضهم : أخبتوا أي : اطمأنوا على ذلك أولئك كذا.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أخبتوا قال : خافوا من ربهم (٣).

وقال القتبي (٤) : أخبتوا أي : تواضعوا لربهم ، وقال : الإخبات التواضع والوقار.

وقال أبو عوسجة : الإخبات التوبة والمخبت التائب.

وقال غيرهم : الإخبات الإنابة ، أخبتوا أي : أنابوا إلى الله ؛ وبعضه قريب من بعض. ومن قال : الإخبات هو التواضع والخشوع فمعناه ـ والله أعلم ـ أي : تواضعوا وخشعوا بالإجابة إلى ما دعاهم إليه ربهم وندبهم إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي : الصنفين اللذين سبق وصفهما ، وهو قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الآية [هود : ١٥] فهو وصف الكافر ، والفريق الآخر قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [هود : ١٧] إلى آخر ما ذكر وفيه وصف المؤمن. أو يكون وصف الكافر ما ذكر : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ...) إلى قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) هو وصف أحد الفريقين وهم الكفار ، والفريق الآخر ما ذكر : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) هذا ـ والله أعلم ـ الفريقين اللذين ضرب مثلهما بالأعمى

__________________

(١) في ب : صاروا.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٦) (١٨١١٥) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٥) (١٨١١١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٠٢).

١١٦

والأصم و [البصير والسميع](١).

ثم وجه ضرب مثل الكافر بالأعمى والأصم ، والمؤمن بالبصير والسميع ، فهو ـ والله أعلم ـ أن الكافر أعمى القلب وأصم السمع ، لم يبصر ما غاب عنه من الموعود ، ولا يسمع (٢) ما غاب عنه من الموعود ، وإنما أبصر ظواهر الأمر ؛ وكذلك إنما سمع ظواهر من الأمور وبواديها (٣) ، لم ينظر إلى الغائب من الموعود ولا سمع ذلك ، وهو لم يخلق لمعرفة ذلك الظاهر خاصة ، وإنما خلق لما وعد وأوعد في الغائب.

والمؤمن أبصر ذلك الغائب وسمع ما غاب من الموعود ، فيقول [كما لم يستو](٤) عندكم في الظاهر البصير والأعمى والسميع والأصم لم يستو من كان أعمى القلب بمن كان بصير القلب بذلك ، ولم يستو أيضا من به صمم القلب بمن كان سميعا بذلك.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أنهما لا يستويان ، أو يقول : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : أفلا تتعظون بما نزل من القرآن وتنتهون عما تنهون ، والله أعلم.

وفى قوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وجوه من الأسئلة :

أحدها : أن يقال : كيف احتج عليهم وهو ما ذكر أنهم عميان وصم أو كالعميان والصم ، ولا يكلف الأعمى الإبصار والنظر ولا الأصم السماع؟!

والثاني : يقولون : إنا [بصراء سمعاء](٥) ليس بنا صمم ولا عمى ، بل أنتم العميان والصم.

والثالث : كيف ذكر المثل لهم ، وهم لا يتفكرون ولا ينظرون في المثل ولا يلتفتون إليه؟! (٦)

__________________

(١) في ب : السميع والبصير.

(٢) في ب : سمع.

(٣) في ب : باديها.

(٤) في أ : كما يسبق.

(٥) في ب : سمعاء بصراء.

(٦) وقد أحسن الزمخشري في التعبير عن ذلك فقال : شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم ، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع ، وهو من اللّفّ والطباق ، وفيه معنيان : أن يشبه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعنّاب ، وأن يشبه بالذي جمع بين العمى والصمم ، والذي جمع بين البصر والسمع ، على أن تكون الواو في «والأصم» وفي «والسميع» لعطف الصفة على الصفة ؛ كقوله :

 ................................. الص

صابح فالغانم فالآئب

يريد بقوله (اللف) : أنه لف المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله : (الفريقين) ، ولو فسرهما لقال : مثل الفريق المؤمن كالبصير والسميع ، ومثل الكافر كالأعمى والأصم ، وهي ـ

١١٧

أما جواب الأول : فإنه احتج عليهم ؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة ، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة ؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدين وسمعا في أمر الدين وحياة الدين ، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم ، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء ؛ كقوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤].

والثاني : نفى عنهم هذه الحواس ؛ لأنهم لم ينتفعوا بها ؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها ، وهو المقصود بإنشائها ، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم.

وأما جواب ما قالوا : إنا [بصراء وسمعاء](١) وأنتم العميان والصم ، فيقال لهم : إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم (٢) من الآيات والنظر فيها ، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا ، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء و [سمعاء وأحياء](٣) ، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات.

والثاني : أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة ، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء ، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء ، فصاروا صمّا عميانا أمواتا ؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن ، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما ؛ فدل أنهم بما ذكر أولى.

وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام ؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ

__________________

ـ عبارة مشهورة في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللف والنشر ، أشار لقول امرئ القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

أصل الكلام : أن الرطب من قلوب الطير : العناب ، واليابس منها : الحشف ، فلفّ ونشر.

ينظر اللباب (١٠ / ٤٦٤).

(١) في ب : سمعاء وبصراء.

(٢) في ب : أسماعهم.

(٣) في ب : وأحياء وسمعاء.

١١٨

(٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٣١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) : أخبر أنه أرسله إلى قومه ، ولم يفهم منه الإرسال من مكان إلى مكان ؛ وكذلك قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] ولم يكن مجيئه من مكان إلى مكان ، فهذا يدل أنه لا يفهم من ذكر المجيء الانتقال من مكان إلى مكان ؛ وكذلك الإرسال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : نذير لمن عصى بالنار وبعقابه بين الإنذار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ لا تَعْبُدُوا) أي : لا تجعلوا عبادتكم إلا لمعبود هو معبود بشهادة خلقتكم ؛ لأن خلقتهم تشهد على أنه هو المستحق للعبادة ، لا من تعبدون من الأصنام والأوثان.

ويحتمل قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : وحدوا الله ولا تصرفوا الألوهية إلى غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) : أضاف [الألم إلى اليوم واليوم ليس بمؤلم ولكنه ـ والله أعلم ـ أضاف إليه ؛ لما فيه يؤلم ، وهو كقوله : (اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] والليل لا يسكن ولا يوصف به ، لكنه يسكن](١) فيه ، وكذلك قال : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] والنهار لا يبصر ، لكنه يبصر فيه ؛ فعلى ذلك قوله : (يَوْمٍ أَلِيمٍ) لما فيه يكون العذاب الأليم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي : الخوف في غيره لا يكون في الحقيقة خوفا ؛ وكذلك الرجاء في غيره لا يكون في الحقيقة رجاء ، وفي نفسه يكون في الحقيقة خوفا ورجاء ؛ لما يلحقه ضرر في نفسه أن جعل به ذلك لغيره ، ويلحقه نفع فيكون الخوف في نفسه حقيقة خوف والرجاء حقيقة رجاء ، وأما في غيره لما لا يلحقه ضرر وإن حل ذلك لغيره ، ولا ينال من النفع في الرجاء إن نال ذلك الغير ، لكنه يخرج على وجهين :

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١١٩

أحدهما : على العلم ، أي : إني أعلم أنه ينزل بكم العذاب ؛ نحو قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) [النساء : ٣٥] أي : علمتم.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] أي : فإن علمتم أن يضيعا حدود الله.

والثاني : يخاف عليهم (١) إشفاقا منه ؛ لأن الخلق جبلوا على أن يتألم بما يحل بغير حتى لا يكون في وسع بعض أن يروا ذلك في غيره. على هذين الوجهين يخرج الخوف على غيره ، وفي الخوف رجاء وفي الرجاء خوف ؛ لأن الخوف إذا لم يكن فيه رجاء فهو إياس ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ، والرجاء إذا لم يكن فيه خوف فهو أمن قال : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا ...) كذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) : قيل : أشراف قومه وأئمتهم (٢).

(ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) : وكذلك قال عامة القوم لرسلهم الذين بعثوا إليهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] ، كان هذا احتجاجهم في رد الرسالات (٣) يحتجون على الرسل فيقولون ـ والله أعلم ـ : إن الرسل في الشاهد إنما يجيئون من عند المرسل ، وأنتم نشأتم بين أظهرنا لم تأتونا من [عند] أحد في الظاهر ، والرسول هو الذي يأتي من عند غير ، ويكون للرسول خصوصية عند المرسل ، ولا نرى لك خصوصية لا في الخلقة ولا في القدرة والمال وغيره ، فكيف بعثتم إلينا رسلا دون أن نبعث نحن إليكم رسلا ؛ إذ أنتم ونحن في الخلقة سواء وفي الأمور الظاهرة سواء؟! أو نحوه من الكلام ، احتجوا على رسلهم في رد الرسالة ؛ وكذلك كان عادة الكفرة يقولون للرسل إذا لزمتهم الحجة وأقيم عليهم نسبوها إلى السحر ، ونسبوا الرسل أنهم بشر مثلهم.

فجواب هذا كله ما ذكر : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١١] ، وما قال لهم نوح : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي : آتاني رحمة من عنده ، وجعل لي بينة وبرهانا على ما آتاني رحمة من عنده بمثل هذا يحتج عليهم.

ويقال أيضا : إنكم لا تنكرون فضل الله وتخصيص بعض على بعض بما جعلكم أئمة ورؤساء بأمور الدنيا على غيرهم ، فكيف تنكرون فضل الله وتخصيص بعض على بعض بفضل الدين والرسالة؟!.

__________________

(١) في أ : عليكم.

(٢) ذكره البغوي (٢ / ٣٨٠).

(٣) في أ : الرسالة.

١٢٠