تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٥

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٥

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥١٩

في حكم الله ، أو (فِي كِتابِ اللهِ) ؛ لأنه ذكر في كتاب الله.

ثم لزوم الهجرة على الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الذين تأخرت هجرتهم سواء ، قد سوى بينهم في اللزوم ، وجمع بين المهاجرين والأنصار في حق الشهادة لهم بالتصديق والإيمان ؛ حيث قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، وجمع بينهم في حق الولاية وما يكتسب بها من المنافع ؛ حيث قال : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، وجمع بينهم في الثواب والدرجة ؛ حيث قال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ، وجمع بينهم في هذه الخصال وإن قدم ذكر المهاجرين في غير واحدة من الآيات ؛ لما كانوا مستوين في الأسباب التي استوجبوا ذلك ؛ لأن من المهاجرين من ترك الأوطان والمنازل ، والخروج منها والمفارقة عن أهليهم وأموالهم ، وكان من الأنصار مقابل ذلك : إنزالهم في منازلهم وأوطانهم ، وبذل أموالهم ، وقيام أهليهم في خدمتهم ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله تعالى أعلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* * *

٢٨١

سورة التوبة

قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

قوله (١) ـ عزوجل ـ : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال بعضهم (٢) من أهل التأويل : ذلك في قوم كان بينهم وبين رسول الله عهد على غير مدة مبينة ، فأمر بنقض العهد المرسل وجعله في أربعة الأشهر التي ذكر في قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ).

وقال بعضهم (٣) : هي في قوم كان لهم عهد دون أربعة أشهر ، فأمر بإتمام أربعة أشهر ؛ [و](٤) دليله قوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

وقال أبو بكر الكيساني : الآية في قوم كانت عادتهم نقض العهد ونكثه ؛ كقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) [الأنفال : ٥٦] فأمر [أن يعطي العهد أربعة أشهر التي ذكر في الآية ثم الحرب بعد ذلك.

وقال بعضهم : لما نزل قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) بعث رسول الله](٥) عليّا إلى الموسم (٦) ليقرأه على الناس ، فقرأ (٧) عليهم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) من العهد غير أربعة

__________________

(١) في ب : سورة التوبة.

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٠٣) (١٦٣٧٣) عن الضحاك وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٠) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه ابن جرير ٦ / ٣٠٥ (١٦٣٨١) عن الكلبي وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٢٦٦).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) الموسم : المجمع الكثير من الناس والمقصود اجتماع الناس يوم الحج الأكبر. المعجم الوسيط بتصرف (٢ / ١٠٣٢) (وسم).

(٧) في ب : فقرأه.

٢٨٢

أشهر (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

على ما ذكرنا حمل هؤلاء كلهم قوله : (بَراءَةٌ) على النقض.

وعندنا يحتمل غير هذا ، وهو أن قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في إمضاء العهد ووفائه ، والبراءة هي الوفاء ، وإتمامه ليس على النقض ؛ [لأنه قال : إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة إليهم هي الأمان والعهد إليهم ، ولو كان على النقض لقال : «من الذين عاهدتم من المشركين» فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد إليهم](١) وإمضاؤه إليهم ، [ويؤيد هذا](٢) ما قال بعض أهل الأدب (٣) : إن البراءة هي الأمان ؛ يقال : كتبت له براءة ، أي : أمانا ؛ هذا الذي ذكرنا أشبه مما قالوا ، أعني : أهل التأويل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ).

أي : سيروا واذهبوا في الأرض (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أي : في مدة العهد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ).

أي : اعلموا أن المؤمنين وإن أعطوا (٤) لكم العهد في وقت فإنكم غير معجزي الله وأولياءه ، ولا فائتين عنكم في تلك المدة.

(وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) الخزي : هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم ويظهر عليهم.

ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكر في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ويؤيده.

(٣) وعلم الأدب علم يحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظا وخطّا ؛ قال أبو الخير : اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها لما لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها كان ضبط أحوالها مما اعتنى به العلماء ، فاستخرجوا من أحوالها علوما انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسما ، وسموها (بالعلوم الأدبية) لتوقف أدب الدرس عليها بالذات وأدب النفس بالواسطة ، وبالعلوم العربية أيضا لبحثهم عن الألفاظ العربية فقط لوقوع شريعتنا التى هي أحسن الشرائع وأفضلها وأعلاها وأولاها على أفضل اللغات وأكملها ذوقا ووجدانا. انتهى. واختلفوا في أقسامه ؛ فذكر ابن الأنباري في بعض تصانيفه أنها ثمانية. وقسم الزمخشري في القسطاس إلى اثني عشر قسما كما أورده العلامة الجرجانى في شرح المفتاح.

وتنحصر مقاصده في عشرة علوم : وهي علم اللغة وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي وعلم النحو وعلم قوانين الكتابة وعلم قوانين القراءة. ينظر أبجد العلوم (٢ / ٤٤ ، ٤٦).

(٤) في ب : أعطى.

٢٨٣

قال القتبي : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : إعلام ، ومنه أذان الصلاة ، وهو الإعلام (١) ؛ يقال : آذنتهم إيذانا.

وكذلك قال أبو عوسجة (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) يكون في قوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) دلالة ما قال أهل التأويل من النقض ؛ لأن قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر ، ويكون ما روي في الخبر [وذكر](٣) في القصة أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل (بَراءَةٌ) بعث أبا بكر على حج الناس ، يقيم للمؤمنين حجهم ، وبعث معه ب (بَراءَةٌ) السورة ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب ، فأدركه فأخذها منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بأبي أنت وأمي ، نزل في شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني ، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار ، وأنت أخي في الإسلام ، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة؟!» قال : بلى يا رسول الله (٤).

فمضى أبو بكر على الناس ، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة ، فقام على بالموسم ، فقرأ على الناس : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) : من العهد ، غير أربعة أشهر ؛ فإنهم يسيحون فيها.

ثم قوله : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ).

قال عامة أهل التأويل (٥) : هو يوم النحر ؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت.

__________________

(١) والأذان : الإعلام ، قال الأزهري : «آذنته إيذانا. فالأذان يقوم مقام الإيذان ، وهو المصدر الحقيقي» ومنه : أذان الصلاة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاتي غسلن ابنته زينب : «فإذا فرغتن فآذنني»

أى : أعلمنني ، فلما فرغنا آذناه ، أي : أعلمناه ، والأذان معروف.

ونقل النووي في «التهذيب» عن الهروي قال : ويقال فيه : الأذان ، والأذين ، والإيذان قال : وقال شيخي : الأذين هو المؤذن المعلم بأوقات الصلوات «فعيل» بمعنى «مفعل» ، وقوله عليه‌السلام : «ما أذن الله كأذنه» بكسر الذال منه ، وقوله : «كأذنه» بفتح الذال ، والأذن بضم الذال وسكونها : أذن الحيوان ، مؤنثة ، وتصغيرها : أذينة. و «إذن» في قوله عليه‌السلام : «فلا إذن» حرف مكافأة وجواب ، يكتب بالنون ، وإذا وقفت على «إذن» قلت كما تقول : رأيت زيدا. قاله الجوهري.

ينظر : تهذيب اللغة (١٥ / ١٦) واللباب (١٠ / ١١ ، ١٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٠٩) (١٦٣٩٥) عن ابن زيد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٠٧) (١٦٣٩٢) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٧٨) وعزاه لابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بنحوه.

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١١ ـ ٣١٢) عن كلّ من : ـ

٢٨٤

وقال بعضهم (١) : هو يوم عرفة (٢) ؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة ، وبه يتم الحج على

__________________

ـ على بن أبي طالب (١٦٤٠٨ ، ١٦٤٠٩ ، ١٦٤١٠ ، ١٦٤١٩ ، ١٦٤٢٠ ، ١٦٤٢١ ، ١٦٤٢٢).

ـ عبد الله بن أبي أوفى (١٦٤١١ ـ ١٦٤١٨ ، ١٦٤٢٣ ، ١٦٤٢٤ ، ١٦٤٢٢).

ـ المغيرة بن شعبة (١٦٤٢٥ ـ ١٦٤٢٧).

ـ ابن عباس (١٦٤٢٨).

ـ سعيد بن جبير (١٦٤٢٩).

ـ أبي جحيفة (١٦٤٣٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٠ ـ ٣٨١) وعزاه الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه إلى علي ولابن أبي شيبة والترمذي من طريق أخرى عن علي.

ـ ولابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس.

ـ ولسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن المغيرة بن شعبة.

ـ ولابن أبي شيبة عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير.

ـ ولعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وأبي الشيخ عن عبد الله بن أبي أوفى.

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١٠ ـ ٣١١) عن كل من :

ـ عطاء (١٦٣٩٨ ، ١٦٤٠٢).

ـ أبي جحيفة (١٦٣٩٧).

ـ عمر بن الخطاب (١٦٣٩٩ ، ١٦٤٠٠).

ـ ابن الزبير (١٦٤٠١).

ـ محمد بن قيس بن مخرمة مرفوعا (١٦٤٠٣ ، ١٦٤٠٧).

ـ مجاهد (١٦٤٠٤).

ـ ابن عباس (١٦٤٠٥).

ـ طاوس (١٦٤٠٦).

ـ وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٢) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة.

ـ ولابن سعد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عمر بن الخطاب.

ـ ولأبى عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

ـ ولابن أبي شيبة عن الشعبي.

ـ ولابن جرير عن ابن الزبير وعلي بن أبي طالب.

(٢) عرفة : المكان الذي يؤدي فيه الحجاج ركن الحج وهو الوقوف بها.

قال الشافعي : هي ما جاوز وادى عرنة ـ بعين مضمومة ثم راء مفتوحة ثم نون ـ إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر ، وقد وضعت الآن علامات حول أرض عرفة تبين حدودها ويجب على الحاج أن يتنبه لها لئلا يقع وقوفه خارج عرفة ، فيفوته الحج ، أما جبل الرحمة ففي وسط عرفات ، وليس نهاية عرفات ، ويجب التنبه إلى مواضع ليست من عرفات يقع فيها الالتباس للحجاج وهى :

أ ـ وادى عرنة.

ب ـ وادى نمرة. ـ

٢٨٥

ما روي في الخبر (١) : [«الحج عرفة ، ومن أدرك عرفة بليل وصلي معنا بجمع ، فقد تم حجه وقضى تفثه (٢) ، بإدراكه يتم الحج](٣) وبفوته يفوت» (٤).

وعن الحسن (٥) أنه سئل فقيل [له](٦) : ما الحج الأكبر؟ فقال : سنة حج المسلمون والمشركون جميعا ، اجتمعوا بمكة ، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد ، وللنصارى عيد ، لم يكن قبله ولا بعده ، فسماه الله الحج الأكبر.

قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل أن يسمي الله عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر ، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة ، ولكن جائز أن يسمى بذلك ؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع ؛ على ما سمي يوم الحشر يوما [عظيما](٧) ؛ كقوله : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ

__________________

ـ ج ـ المسجد الذي سماه الأقدمون مسجد إبراهيم ، ويسمى مسجد نمرة ومسجد عرفة ، قال الشافعي : إنه ليس من عرفات ، وإن من وقف به لم يصح وقوفه ، وقد تكرر توسيع المسجد كثيرا في عصرنا ، وفي داخل المسجد علامات تبين للحجاج ما هو من عرفات ، وما ليس منها ينبغي النظر إليها.

والوقوف بعرفات ركن من أركان الحج ، بل هو الركن الذي إذا فات فات الحج بفواته ؛ لحديث : «الحج عرفة».

ينظر : المصباح المنير (عرف) ، والمجموع (٨ / ١١٠ ـ ١١١) والمسلك المتقسط (١٤٠ ـ ١٤١) حاشية إرشاد الساري وتاريخ مكة (٢ / ١٩٤ ـ ١٩٥) ومعجم البلدان (١٢ / ٤).

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٣٠٩ ، ٣١٠) ، وأبو داود (١٩٤٩) ، والترمذي (٨٨٩) ، والنسائي (٥ / ٢٦٤) ، وابن ماجة (٣٠١٥) عن عبد الرحمن بن يعمر بلفظ : «الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه».

وأخرجه أحمد (٤ / ١٥) وأبو داود (١٩٥٠) والترمذي (٨٩١) وابن ماجة (٣٠١٦) عن عروة بن مضرس بلفظ : «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه».

(٢) أي يزيلوا وسخهم ودرنهم الذي اجتمع عليه حين أحرم.

وأصل التفث من وسخ الظفر وغيره عن الأبدان. وقال أعرابي لآخر : ما أتفثك وأدرنك ؛ ولذلك فسره ابن عرفة : ليزيلوا أدرانهم.

قال النضر بن شميل : التفث في كلام العرب : إذهاب الشعر. وفسره الأزهري بقص الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقلم الأظفار ، مما كان ممنوعا منه محرما. وعن الأزهري أيضا : التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير ، رحمهم‌الله.

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ٣٠٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يفوت بفوت.

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٢) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٢٨٦

لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٥ ـ ٦].

وقوله : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

أي : إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم ؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم ، ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين ؛ على ما روي في الخبر أنه قال : «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : عما ذكرنا ، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : غير فائتين من نقمة الله وعذابه.

ويحتمل قوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ) عن نقض العهد فهو خير لكم [في الدنيا](٢) ، والأول : فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة.

وروي (٣) في بعض الأخبار عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل : بأي شيء بعثت؟ قال : بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين النبي ـ عليه‌السلام ـ عهد فعهده أربعة أشهر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا (٤).

وفي بعض الأخبار : ولا يحج المشرك بعد عامه هذا ، وكذلك قال في الآية الأخرى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد ؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم : لا يحج مشرك بعد هذا ، مع كثرة أولئك وقوتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم ، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره ، دل أن ذلك كله كان بالله ـ تعالى ـ لا بهم.

ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة ، ثم أتبعه عليّا ، فأدركه فأخذها منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل

__________________

(١) هو طرف من حديث عن جابر.

أخرجه البخاري (٣٣٥) ، (٤٣٨) ، (٣١٢٢) ، ومسلم (١ / ٣٧٠) (٣ / ٥٢١) ولفظه : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... الحديث» السياق للبخاري.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ثم روي.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٠٦) (١٦٣٨٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٧٩) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه ، وابن المنذر والنحاس والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن زيد ابن تبيع عن علي بن أبي طالب وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه :

ـ البخاري (٣ / ٥٦٥) (١٦٢٢) ومسلم (٢ / ٩٨٢) (٤٣٥ / ١٣٤٧).

٢٨٧

نزل في شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري أو (١) رجل مني» ـ على أن عليّا هو المستحق للخلافة (٢) ، وهو الأحق بها دون أبي بكر ؛ حيث قال : «لا يبلغ عني غيري أو رجل مني».

__________________

(١) في أ : غير و.

(٢) هى النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه .. إلى آخره وهى مصدر خلف : يقال : خلفه خلفا وخلافة : إذا كان خليفة واسم الفاعل منه : خليفة وخليف.

ويقال : خلف فلان فلانا : إذا قام بالأمر عنه إما معه وإما بعده قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)[الزخرف : ٦٠].

والخليفة : السلطان الأعظم وقد يؤنث ، وأنشد الفراء :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

قال ابن الأثير : الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده والهاء فيه للمبالغة وجمعه الخلفاء على معنى التذكير لا على معنى اللفظ مثل ظريف وظرفاء ويجمع على اللفظ خلائف كظريفة وظرائف.

وقال صاحب لسان العرب : يقال : خليفة أنا جعلته خليفتي واستخلفه جعله خليفة والخليفة الذي يستخلف ممن قبله والجمع خلائف.

وقال صاحب محيط المحيط : الخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه والسلطان يحكم بين الخصوم والسلطان الأعظم والحاكم الذي يستخلف عمن قبله وفلان خليفة بيده الخلافة.

الخلافة شرعا : عرفها كثير من علماء الشريعة الإسلامية بتعريفات ترجع إلى معنى واحد : وهو رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا

قال السعد في «متن المقاصد» : (الفصل الرابع في الإمامة وهى رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وقال البيضاوي في «طوالع الأنوار» : (الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول (عليه‌السلام) في إقامة القوانين الشرعية ، وحفظ صورة الملة ، على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة).

وقال أبو الحسن الماوردي في «الأحكام السلطانية» : (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين ، وسياسة الدنيا).

وقد زاد الإمام الرازي قيدا آخر في التعريف فقال : (هي رئاسة عامة في الدين والدنيا ، لشخص واحد من الأشخاص).

وقال : هو احتراز عن كل الأمة ، إذا عزلوا الإمام لفسقه. وترادف الخلافة الإمامة العظمى ، وإمارة المؤمنين ، فهى ثلاث كلمات متحدة المعنى في لسان الشرعيين ، والقائم بهذه الوظيفة يسمى خليفة ، وإماما ، وأمير المؤمنين.

وأما قولهم بأن عليّا هو المستحق للخلافة فنقول : وإلى هذا ذهبت الروافض أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ هو الذي عينه عليه الصلاة والسلام بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة ، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.

وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي ؛ فالجلي مثل قوله عليه‌السلام : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قالوا في هذا الحديث : المولى في اللغة بمعنى أولى ، فلما قال : «فعلي مولاه» بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله : «مولى» أنه أحق وأولى فوجب أن ـ

٢٨٨

__________________

ـ يكون أراد بذلك الإمامة.

وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» قالوا : ومنزلة هارون معروفة وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ، ولم يكن ذلك لعلي ، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي ، وكان خليفة ؛ فعلم أن المراد به الخلافة.

وقد قال القرطبي في الجواب عن الحديث الأول : إنه وإن كان صحيحا فليس فيه ما يدل على إمامته وإنما يدل على فضيلته ؛ وذلك أن المولى بمعنى الولي فيكون معنى الخبر : من كنت وليه فعلي وليه قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ)[التحريم : ٤] أي وليه ، وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه وذلك فضيلة عظيمة لعلي.

وله في ذلك جواب ثان : وهو أن هذا الخبر ورد على سبب ؛ وذلك أن أسامة وعليّا اختصما ، فقال علي لأسامة : أنت مولاي فقال : لست مولاك بل أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من كنت مولاه فعلي مولاه».

وهناك جواب ثالث : وهو أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ لما قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة الإفك في عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «النساء سواها كثير» شق ذلك عليها ، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المقال ردّا لقولهم وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه.

وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده ، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما‌السلام وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون ، فلو أراد بقوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» الخلافة لقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد الخلافة ، وإنما أراد أني أستخلفك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه. وقد قيل : إن هذا الحديث خرج على سبب وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليّا عليه‌السلام في المدينة على أهله وقومه ، فأرجف أهل النفاق وقالوا إنما خلفه بغضا له فخرج علي فلحق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : إن المنافقين قالوا كذا وكذا فقال : «كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون» وقال : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟!». وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليّا في هذه الفضيلة غيره ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه ، منهم ابن أم مكتوم ومحمد بن سلمة وغيرهما من أصحابه وروى في مقابلته لأبى بكر وعمر ما هو أولى منه ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له : ألا تنفذ أبا بكر وعمر. فقال : «إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما من الرأس بمنزلة السمع والبصر» ، وقال : «هما وزيراي في أهل الأرض» ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى» ، وهذا الخبر ورد ابتداء وخبر علي ورد على سبب ، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة.

ومن الخفي عندهم : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولا أبا بكر ، ثم أوحى إليه : ليبلغه رجل منك أو من قومك ، فبعث عليّا ليكون القارئ المبلغ.

فهذه كلها أدلة شاهدة بتعيين على للخلافة دون غيره ، ومن هذه الأدلة ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلاتهم.

ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل علي تعيين علي وتشخيصه ، وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية ويتبرءون من الشيخين حيث لم يقدموا عليّا ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص ويغمصون في إمامتهما. ـ

٢٨٩

لكن يحتمل أنه ولّى ذلك عليّا ؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهدا أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم ، فولى ذلك عليّا ؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون : لم ينقض علينا العهد.

أو أن يقال : ولى عليّا أمر الحرب ، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر ، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك ، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات ، وعلي أمر الحروب ، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات.

أو أن يقال : إن أبا بكر كان أمير الموسم ، وعليّا كان مناديه ، فالأمير في شاهدنا أجل قدرا وأعظم منزلة من المنادي ، وأمر عليّا ذلك ؛ لما أن ذلك كان (١) أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) «قال بعضهم : هذا صلة قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

أمر بإتمام العهد للذين لم ينقضوا المسلمين ، ولا ظاهروا عليهم أحدا ، وأما الذين كانت عادتهم نقض العهد ونكثه فإنه لا يتم لهم ، ولكن ينقض ، وكذلك تأولوا قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : النقض (٢).

ويحتمل أن يكون صلة قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، ويكون العذاب الأليم هو القتل والأسر ؛ كأنه يقول : وبشر الذين كفروا بالقتل والأسر (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً).

ثم يحتمل قوله : (لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي : لم يخونوكم شيئا ما داموا في العهد ، (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي : لم يعاونوا ولا أطلعوا أحدا من المشركين عليكم ، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ؛ كقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] أمر بالنبذ إليهم عند خوف الخيانة ، وأمر بالإتمام إذا لم يخونوا ولم

__________________

ـ ومنهم من يقول : إن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص ، والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه ، وهؤلاء هم الزيدية ، ولا يتبرءون من الشيخين ، ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن عليا أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ينظر الخلافة الإسلامية لمحمد مصطفى شاهين ، وينظر تاج العروس (٦ / ١٠٠) ، وعبد الفتاح الجوهري.

(١) في ب : أن كان.

(٢) انظر : تفسير الخازن والبغوي (٣ / ٧٣).

٢٩٠

يظاهروا عليهم أحدا.

ودل قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على أن قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : غير معجزي أولياء الله في عذاب الدنيا ؛ لأنهم جميعا سواء في عذاب الآخرة ، مشتركون فيه.

وقوله : (إِلى مُدَّتِهِمْ) قال بعضهم (١) : مدة القوم أربعة أشهر بعد يوم النحر لعشر مضين من ربيع الآخر لمن كان له عهد ، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، خمسون ليلة.

وقال بعضهم : إلا الذين عاهدتم من المشركين بالحديبية فلم يبرأ الله ورسوله من عهدهم في الأشهر الأربع [ثم لم ينقصوكم في الأشهر الأربع](٢) ، (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي : لم يعينوا على قتالكم أحدا من المشركين ، أي : [إن](٣) لم يفعلوا ذلك (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) وهو الأربعة الأشهر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) : الذين اتقوا المعاصي والشرك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) قال بعضهم : الأشهر الحرم هي أشهر العهد والأمان ، فإذا انسلخ تلك الأشهر ومضت ، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٤).

وقال بعضهم (٥) : الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها الله وجعلها حراما ؛ كقوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ) :

قال بعضهم (٦) : حيث وجدتموهم وخذوهم في الأماكن كلها ؛ لأن «حيث» إنما يترجم عن مكان ، [و] أمر بقتلهم في الأماكن كلها ؛ لأنه لم يخص مكانا دون مكان.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦٣٧١) و (١٦٣٧٢) عن ابن عباس بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٠) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله مجاهد ومحمد بن اسحاق كما في تفسير الخازن والبغوي (٣ / ٧٩). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٤) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه ، وأخرجه الطبري (١٦٤٩٢) عن مجاهد وعمرو بن شعيب.

(٥) قاله الطبري (٦ / ٣١٩) والخازن والبغوي (٣ / ٧٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي والضحاك بنحوه.

(٦) قاله الطبري (٦ / ٣٢٠) والخازن والبغوي (٣ / ٧٩ ـ ٨٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٤) وعزاه لابن المنذر عن قتادة.

٢٩١

وقال آخرون : هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم ، دليله ما ذكر في السورة التي ذكر فيها البقرة ، وهو قوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، وقال : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام.

وأمكن أن يكون أنهم يقتلون إلا أن يدخلوا الحرم ، فإذا دخلوا الحرم وقد نهوا عن الدخول فيه والحج هنالك ، على ما روي أن عليّا نادى بالموسم : ألا لا يحجن بعد العام مشرك ـ فإذا دخلوا يقتلون ، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلتهم إيانا ، فإذا قاتلونا عند المسجد الحرام قاتلناهم ؛ كقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] والله أعلم.

وقوله : (وَخُذُوهُمْ) قيل : ائسروهم (١).

وقوله : (وَاحْصُرُوهُمْ) قيل : احبسوهم (٢) ، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ، والمرصد : الطريق (٣) ؛ كأنه أمر بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بقتلهم إذا قدروا عليهم ، وأمكن لهم ذلك ، والأسر (٤) عند الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن ، وحفظ المراصد عند غير الإمكان ؛ لئلا يغروا ، ويقال : أرصدت له ، أي : انتظرت أن أجد فرصتي ، ويقال : ترصدته ، أي : انتظرته.

وقال بعضهم : قوله : (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي : كل طريق يرصدونكم ؛ كأنه أمر بذلك ؛ ليضيق عليهم الأمر ؛ ليضجروا وينقادوا.

وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به ؛ لأنه أمر بالحصر وحفظ الطرق والمراصد ؛ ليضيق عليهم الأمر ويشتد ، فينقادوا ، وفيما يحملون إليهم توسيع عليهم.

وقوله : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) يحتمل أن يكون قوله : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) أي : أقيموا عليهم الحجج والبراهين ؛ ليضطروا إلى قبول ذلك ، فإذا انقادوا لكم وإلا فاقتلوهم حيث وجدتموهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) :

[قال بعضهم أمر الله في أول الآية بقتل المشركين ، فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

__________________

(١) قاله الطبري (٦ / ٣٢٠) والخازن والبغوي (٣ / ٨٠).

(٢) ينظر ما سبق.

(٣) ينظر ما سبق.

(٤) في أ : الأمر.

٢٩٢

وَجَدْتُمُوهُمْ) وقال : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)](١) فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما رفع القتل عنهم بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم ، وكذلك فعل أبو بكر الصديق لما ارتدت العرب ومنعتهم الزكاة حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه.

روي عن أنس قال : لما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدت العرب كافة ، فقال عمر : يا أبا بكر ، أتريد أن تقاتل العرب كافة؟! فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، منعونى دماءهم وأموالهم» والله لو منعوني عناقا مما كانوا يعطون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتلتهم عليه. قال عمر : فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح عرفت أنه الحق (٢).

وفي بعض الأخبار قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، ونصلي ، ولكن لا نزكي ، فمشى عمرو البدريون إلى أبي بكر ، فقالوا : دعهم ؛ فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدّوا ، فقال : والله ، لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتلتهم عليه ، قيل : أو قاتل رسول الله على ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وقال الله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ، والله لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن ، فقالوا : إنا نزكي ، ولكن لا ندفعها [إليك](٣) ، فقال : والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأضعها مواضعها.

وقال آخرون : قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) في قبولهم والاعتقاد بهما دون فعلهما ، لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلى أن يحول الحول فيؤخذون بأداء الزكاة ـ دل على أنه على القبول والإقرار بذلك ، واستدلوا بما روى في بعض الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله [فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (٤) وقالوا فى بعض الأخبار : أمرت أن أقاتل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه البخاري (١٣٩٩) و (١٤٠٠) ومسلم (٣٢ / ٢٠) وأحمد (١ / ١٩ ، ٤٧) وأبو داود (١٥٥٦) والترمذي (٢٦٠٧) والنسائي (٥ / ١٤) عن أبي هريرة.

وأما حديث أنس فلفظه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». أخرجه البخاري (٣٩٢) وأحمد (٣ / ١٩٩ ، ٢٢٤).

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه مسلم (٣٥ / ٢١) عن جابر بن عبد الله.

٢٩٣

الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله](١) ، وإني رسول الله ، فإذا قالوا ذلك : عصموا مني ...» كذا ، وفي بعضها : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وإني رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك منعوا مني ...» (٢) كذا دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان [أن ذلك](٣) في قوم مختلفين ، وأنه على القبول لذلك والاعتقاد ، لا على الفعل نفسه ، فمن كان لا يقر بشيء من ذلك ، فإذا قال : لا إله إلا الله ، كان ذلك منه إيمانا في الظاهر ، ومن كان يقول : لا إله إلا الله ، ولا يقول : محمد رسول الله ، فإذا قال ذلك كان ذلك منه إيمانا ، ومن كان يقر بهذين ولا يقر بالصلاة والزكاة ، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيمانا ، فهو على الإقرار به والاعتقاد ، لا على الفعل ، ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة شاءوا أو أبوا؟! فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هؤلاء.

واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر :

روي عن عبد الله بن الزبير [عن أبيه](٤) قال : قال النبي ـ عليه‌السلام ـ يوم عرفة : «هل تدرون أي يوم هذا؟» قالوا : نعم ، اليوم الحرام ، يوم الحج الأكبر ، قال : «فإن الله قد حرم دماءكم وأموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا».

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن الحج الأكبر ، فقال : يوم عرفة.

وعنه : أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال : إن هذا يوم الحج الأكبر ، فلا يصومنه أحد (٥).

وعن ابن الزبير يقول : يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر.

وفي بعض الأخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر ، فقال رسول الله : «أتدرون (٦) أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر» (٧).

وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال : رأيت أو قال : سمعت ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه النسائي (٦ / ٦ ، ٧ / ٧٦) وابن خزيمة (٢٢٤٧) عن أنس بن مالك عن عمر ابن الخطاب بلفظ : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ...» الحديث.

أخرجه ابن ماجه (٧١) (٧٢) عن أبي هريرة ومعاذ بن جبل بنفس اللفظ السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١٠) (١٦٤٠٠).

(٦) في أ : أتدري.

(٧) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١٥) (١٦٤٦٢) ، (١٦٤٦٣).

٢٩٤

يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع (١) ، فقال : «أي يوم هذا؟» ، قالوا : هذا يوم النحر ، قال : «فأي بلد هذا؟» قالوا : بلد حرام ، قال : «فأي شهر هذا؟» ، قالوا : شهر حرام ، قال : «هذا يوم الحج الأكبر ، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ؛ كحرمة هذا البلد في هذا اليوم» ، ثم قال : «هل بلغت» (٢).

وعن الحارث [قال](٣) : سألت عليّا عن الحج الأكبر ، فقال : يوم النحر.

وعن المغيرة بن شعبة (٤) : أنه خطب يوم العيد ، فقال : «هذا يوم النحر ، ويوم الأضحى ، ويوم الحج الأكبر».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «الحج الأكبر : يوم النحر».

وفيه قول ثالث : ما روي أنه كان في كتاب رسول الله الذي كتبه لعمرو بن حزم : «والحج الأصغر العمرة».

وعن ابن عباس : العمرة : هي الحجة الصغرى (٥).

وسئل عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر ، فقال : الحج الأكبر يوم النحر ، والأصغر العمرة (٦).

__________________

(١) حجة الوداع ـ بفتح الحاء ـ وقال الهروي وغيره من أهل اللغة : المسموع من العرب في واحدة الحج حجة بكسر الحاء ، قالوا : والقياس فتحها لكونها اسما لمرة واحدة ، وليست عبارة عن الهيئة حين تكسر ، قالوا : فيجوز الكسر بالسماع ، والفتح بالقياس ، وسميت بذلك ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودع الناس فيها وعلمهم في خطبه فيها أمر دينهم ، وأوصاهم بتبليغ الشرع إلى من غاب.

ينظر : سبل الهدى والرشاد (٨ / ٦٧٥ ـ ٦٧٦).

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٧٨) كتاب الأدب : باب قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ...) الآية [الحجرات : ١١] (٦٠٤٣).

وأبو داود (١ / ٥٩٨ ـ ٥٩٩) (١٩٤٥) وابن ماجة (٤ / ٥٠٣) (٣٠٥٨) والطبراني (١٦٤٤٧) والحاكم (٢ / ٣٣١) والبيهقى (٥ / ٣٩).

(٣) سقط في أ.

(٤) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفى أبو محمد. شهد الحديبية وأسلم زمن الخندق. له مائة وستة وثلاثون حديثا ، اتفقا على تسعة. وعنه ابناه حمزة وعروة والشعبي وخلق. شهد اليمامة واليرموك والقادسية ، وكان عاقلا أديبا فطنا لبيبا داهيا. قيل : أحصن ألف امرأة. قال الهيثم : توفي سنة خمسين.

ينظر : تهذيب الكمال (٣ / ١٣٦) تقريب التهذيب (٢ / ٢٦٩) الكاشف (٣ / ١٦٨) تاريخ البخاري الكبير (٧ / ٣٨٢) الجرح والتعديل (٨ / ٢٢٤) الثقات (٣ / ٣٨٢) تجريد أسماء الصحابة (٢٩ / ١٩١) الاستيعاب (٤ / ١٤٤٤٥) الإصابة (٦ / ١٩٧).

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥) (١٣٦٥٩) عن ابن عباس (١٣٦٦٥ ، ١٣٦٦٧) عن مجاهد بن جبر وذكره والسيوطي في الدر (٣ / ٣٨٢) وعزاه لابن أبي شيبة عن مجاهد.

(٦) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١٤ ، ٣١٧) (١٦٤٥٢) (١٦٤٨١) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (٣ / ٢٢٤) (١٣٦٦٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٨٢) ، وعزاه لابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد.

٢٩٥

فأما حديث عمرو بن حزم : فهو حكاية عن كتاب ، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر ، إنما يذكر فيه الحج الأصغر ، ولو لا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال : يوم عرفة [هو](١) يوم الحج الأكبر ؛ لأنه يقضى فيه فرض الحج وهو الوقوف ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج ، وجاز أن يقال : هو يوم النحر ؛ لأنه فيه يقضى طواف الزيارة (٢) ، وهو فرض ويقضى فيه أكبر مناسك الحج ؛ بل يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر ؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضا من فرائض الحج ، وهو الوقوف ، ويقضي في يوم النحر فرضا آخر من فرائضه ، وهو طواف الزيارة ، ويقضي مع ذلك [أكثر](٣) مناسك الحج ، فقد استوى هذان اليومان في أنه يقضى في كل واحد منهما فرض من فرائض الحج ، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج ، ولا يفعل في يوم عرفة شيئا من النسك إلا الوقوف بعرفة.

واحتج بعض الناس بفرضية العمرة (٤) بما رواه عمرو بن حزم أن الحج الأصغر هو

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) طواف الزيارة يؤديه الحاج بعد أن يفيض من عرفة ويبيت بالمزدلفة ، ويأتي منى يوم العيد فيرمي وينحر ويحلق ، ثم بعد ذلك يفيض من مكة فيطوف بالبيت ، سمي طواف الزيارة ؛ لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يرجع ليبيت بمنى ، ويسمى أيضا طواف الإفاضة ؛ لأن الحاج يفعله عند إفاضته من منى إلى مكة ، وعدد أشواط الطواف سبعة ، وكلها ركن عند الجمهور ، وقال الحنفية : الركن أكثر السبعة ، والباقي واجب ينجبر بالدم ، ويجب المشي في الطواف على القادر عليه عند الجمهور ، وهو سنة عند الشافعية ، ويسن الرمل والاضطباع في الطواف إذا كان سيسعى بعده وإلا فلا يسن. ويصلّي بعد الطواف ركعتين وجوبا عند الجمهور وسنة عند الشافعية.

ينظر : بدائع الصنائع (٢ / ١٢٨) ، والمسلك المتقسط (ص ٩٨ ، ٩٩) ، والمهذب (٨ / ١٦) ، والإيضاح (ص ٢٥١ ، ٢٥٢) ، ونهاية المحتاج (٢ / ٤٠٩ ، ٤١٤ ، ٤١٦) ، ومغني المحتاج (١ / ٤٨٧ ، ٤٩٢) ، والمغني (٣ / ٤٤١ ـ ٤٤٣) ، والفروع (٣ / ٤٩٩ ـ ٥٠١).

(٣) سقط في أ.

(٤) اختلف العلماء في حكم العمرة ؛ فقال الشافعي في القديم : هي سنة ليست بفرض ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : هي تطوع ، وحجتهم الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة ، مثل حديث ابن عمر : «بنى الإسلام على خمس» فذكر الحج مفردا ، ومثل حديث السائل عن الإسلام ، فإن في بعض طرقه : «وأن يحج البيت» ، وربما قالوا : إن الأمر بالإتمام في الآية ، ليس يقتضي الوجوب ؛ لأن هذا يخص السنن والفرائض ، أعني إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع ، واحتج هؤلاء أيضا ـ أعني من قال إنها سنة ـ بآثار ، منها : حديث الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : «لا وأن تعتمر خير لك» ، وقد ضعف النووي هذا الحديث وبين وجه ضعفه.

وقال الصنعاني : الراجح وقفه على جابر ، فإنه الذي سأله الأعرابي ، وأجاب عنه وهو مما للاجتهاد فيه مسرح.

وقد جزم بوجوب العمرة جماعة من أهل الحديث وهو المشهور عن الشافعي في الجديد وأحمد وداود وابن حزم ، فمن أوجبها ، احتج بقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] وبآثار مروية منها : ما روي عن ابن عمر عن أبيه قال : دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب يسأله ـ

٢٩٦

__________________

ـ عن الإسلام ، وفيه «وتحج البيت وتعتمر» إلى غير ما ذكر من أدلة. فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه.

قال الفخر الرازي : قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا) أمر بالإتمام ، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ، ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق ، والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام ، والقول الثاني ـ وهو قول أبي حنيفة ـ : إن هذا الأمر مشروط ، والمعنى : أن من شرع فيه فليتمه قالوا : ومن الجائز ألا يكون الدخول في الشيء واجبا ، إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجبا ، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند الشافعية ، وغير واجبة عند أبي حنيفة.

وحجة الشافعية : أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تامّا ، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه ، وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك ، أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ)[البقرة : ١٢٤] أي فعلهن على سبيل التمام والكمال ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)[البقرة : ١٨٧] ، أي فافعلوا الصيام تامّا إلى الليل ، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال : المراد فاشرعوا في الصيام ثم أتموه ؛ لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه وهو أولى ويدل عليه وجوه :

(١) الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب ، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة ، فكان حمل كلام الله عليه أولى.

(٢) أن الباب باب عبادة فكان الاحتياط فيه أولى ، والقول بإيجاب الحجة والعمرة معا أقرب إلى الاحتياط فوجب حمل اللفظ عليه.

(٣) هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام ، لكنا نقول : اللفظ دل على وجوب الإتمام جزما ، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجبا جزما والإتمام مسبوق بالشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ؛ فيلزم أن يكون الشروع واجبا في الحج والعمرة.

(٤) روي عن ابن عباس أنه قال : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله أي أن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية. فكان كقوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)[الحج : ٧٨] فهذا تمام تقرير هذه الحجة.

وقال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب.

وحجة من قال : العمرة ليست واجبة وجوه ، منها : قصد الأعرابي الذي سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أركان الإسلام ، وحديث بني الإسلام على خمس ، وغير ذلك ، ولم يذكر فيها العمرة ، فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها.

وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال : «لا وأن تعتمر خير لك». وعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحج جهاد والعمرة تطوع».

والجواب من وجوه أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن.

وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عند ما ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] وهذا هو الأقرب ؛ لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة. وثالثها : أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد قلنا : إن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر ، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة ، وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا : رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف. ـ

٢٩٧

العمرة ، والأكبر هو الحج ، بما (١) سميت العمرة حجّا ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.

وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى (٢) ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قالوا : الحجة الكبرى : يوم النحر.

وعن عمر وابن عباس أنهما قالا : يوم عرفة.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

__________________

ـ الرأى الراجح :

هو ما ذهب إليه الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في الجديد ، بأن العمرة فريضة كالحج وهو الصحيح باتفاق الأصحاب ؛ لقوة دليله.

ينظر : المجموع للنووي (٧ / ٨) ، وبداية المجتهد (١ / ٢٣٥ ، ٢٣٦) ، وسبل السلام (٢ / ١٧٩) ، والتفسير الكبير للرازى (٥ / ١٣٩ ـ ١٤١).

(١) في أ : إنما.

(٢) عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي أبو إبراهيم ، صحابي ابن صحابي. شهد بيعة الرضوان. وروى خمسة وتسعين حديثا ، اتفقا على عشرة ، وانفرد البخاري بخمسة ، ومسلم بواحد. وعنه عمرو بن مرة ، وطلحة بن مصرف وعدى بن ثابت والأعمش. قال الذهبي : قيل : حديثه عنه مرسل وقد سمع الأعمش ممن مات قبله ، فما المانع من أن يكون سمع منه قال الواقدي : مات سنة ست وثمانين. وقال أبو نعيم : سنة سبع. قال عمرو بن علي : هو آخر من مات بالكوفة من الصحابة.

ينظر : الخلاصة (٢ / ٤١) (٣٣٩٣) ، وتهذيب الكمال (٢ / ٦٦٧) ، والجرح والتعديل (٥ / ١٢٠) ، والثقات (٣ / ٢٢٢) ، والإصابة (٤ / ١٨) ، وأسد الغابة (٣ / ١٨٣) ، والاستيعاب (٣ / ٨٧٠).

٢٩٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) وقد قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) الآية [التوبة : ٥] ، فأمر بالآية الأولى عند الوجود [بالإجارة](١) ، وفي هذه بالقتل والأسر ، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه ، وفي هذه بأن يقعد له (٢) كل مرصد ، وحال هذه هى (٣) حال الأولى في رأي العين ، ويتهيأ له في كل وقت يظفر به أن يستجير ؛ لما ذكر ، وفي كل حال يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه ، وفي ذلك زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر ، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعا.

فقال أصحابنا : إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر أعلام الحرب ، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه ؛ بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة ، ومن يتعاهد ومن ينادي إليه بالاستجارة ـ فيجار.

ولو كان مقبلا نحو مأمننا ، كالطالب لأحد ، عليه أعلام الحرب ، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له أو الذين (٤) لهم منعة ولا قوة به ـ فلا يقبل قوله ، وذلك على تسليم الأمر الغالب من الأحوال ؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك ، وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين ، وما ذكرت من الآية في لزوم ذلك الاعتبار ؛ إذ لا وجه له غيره هو دليله ، والله أعلم.

ثم دل قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) بعد العلم بأنه (٥) من مأمنه لا يقدر على الاستجارة لبعد [مأمن كل من](٦) مأمن الآخر ، ثم لا يكون مأمن الفريقين في إحدى (٧) الدارين ؛ لما كان تحقيق أمن كل فريق منهما نفي أمن الآخر ؛ إذ به خوفه ؛ فثبت أنه قد يؤذن له بالخروج للاستجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مساكنهم فيستجيروا ؛ فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل ، ويجب رده لو لم يجر ، ولم (٨) يسع تعرضه لشيء من ذلك.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في أ : في.

(٣) في أ : في.

(٤) في أ : والذين.

(٥) في أ : وأمنه.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ ، ب : أحد.

(٨) في أ : لا.

٢٩٩

ثم قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) من غير أن يبين استجارته لما ذا ، يحتمل أن يكون ترك بيانه ؛ لما في الجواب ذلك بقوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ، وذلك كقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] أنه في الجواب بيان ما استفتوا.

ويحتمل أن يكون ذلك لازم أن يسمع كلام الله بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان. وذلك قريب ؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا ، فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا غرض ، تذهب منفعة التضييق ، فيكون المقصود بالعهد لما يرون من آثار الإسلام ، وحسن رعاية أهل الإسلام ، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه ، رجاء أن يجيبوا ، فلذلك يؤذنون ، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم.

وقد روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو ؛ إلى الإسلام (١) ، فيما قد كان دعاهم غير مرة (٢) ، فذلك المعنى عند الأمان أولى ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه بمعناه مسلم في صحيحه (٣ / ١٣٥٦) في كتاب الجهاد باب تأمير الإمام الإسراء على البعوث (٤ / ١٧٣١).

وأحمد (٥ / ٣٥٢ ، ٣٥٨) ، والدارمى (٢٤٤٤ ، ٢٤٤٧) ، وأبو داود (٢٦١٢ ، ٢٦١٣) ، والترمذي (١٤٠٨ ، ١٦١٧) ، وأبو يعلى (١٤١٣) ، وابن الجارود (١٠٤٢) ، والطحاوى (٣ / ٢٠٦ ، ٢٠٧) وابن حبان (٤٧٣٩) ، والبيهقي (٩ / ١٥ ، ٤٩ ، ٩٧ ، ١٨٤) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٥٤٨) ، (٢٦٦٣).

(٢) أرسل الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة ، وأمره بتبليغ رسالته ، والدعوة إلى الإيمان بها ، ثم أذن له في قتال المعرضين المستكبرين ، وقد اتفق العلماء على أن تبليغ الدعوة الإسلامية أمر يقضي به منصب النبوة وهو مقتضى الرسالة : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧]. وهذا التبليغ لا محل للكلام فيه ، وإنما الكلام في أنه إذا أراد المسلمون قتال قوم ، فهل يجب عليهم أن يدعوهم قبل الشروع في القتال دعوة خاصة غير التبليغ الذي وجب بمقتضى الرسالة ، أو يصح لهم أن يفاجئوهم من غير تجديد لدعوتهم؟

وهنا اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة مذاهب :

المذهب الأول : عدم وجوبها وإليه مال فريق من العلماء.

المذهب الثاني : وجوبها مطلقا سواء بلغتهم الدعوة قبل ذلك أم لا وإليه ذهب الإمام مالك والهادوية.

المذهب الثالث : التفصيل : وهو أنه إذا لم تكن الدعوة العامة قد بلغتهم وجبت دعوتهم قبل القتال ، وإذا كانت قد بلغتهم لم تجب دعوتهم ، بل تستحب ، وهو مذهب الحنفية والشافعية ، والحنابلة ، وأكثر أهل العلم.

الأدلة :

استدل القائلون بعدم الوجوب ، بما جاء في حديث متفق عليه عن ابن عوف قال : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إلي : إنما كان ذلك في أول الإسلام ، وقد أغار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ، حدثنى به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش ؛ فدل هذا الحديث على عدم وجوب الدعوة قبل القتال ؛ لأنها قد انتشرت وعمت ولم يبق ممن لم تبلغهم ـ

٣٠٠