الطّراز الأوّل

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني

الطّراز الأوّل

المؤلف:

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-479-5
الصفحات: ٤٥٦

بقواعد الإعراب والبناء ، كما إنّ هذه الضآلة في الموادّ اللغويّة المستعملة بالنّسبة للمهملة ، تدل على فداحة المقدار الضائع والذي لم يصل إلينا من لغة العرب ، إذ لو لا القرآن والسنة والتدوين لا ندثر الكثير من لغة العرب ، كما حصل ذلك بالفعل من قبل كما سمعت.

وعليه فالإسلام أقرّ تعدّد اللهجات للحفاظ على الوحدة الفكرية والسياسية عند العرب ، وقد عقد ابن جني في خصائصه فصلا باسم ( اختلاف اللغات وكلّها حجة ) قال فيه : ... لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب لكنه يكون مخطئا لأجود اللغتين (١).

وقال : فان كانت اللفظتان في كلام متساويتين في الاستعمال ، كثرتهما واحدة ، فإنّ أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين ؛ لأنّ العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرّف أقوالها .. (٢)

وقال ابن هشام : كان العرب ينشد بعضهم شعر بعض ، وكلّ يتكلم على مقتضى سجيته الّتي فطر عليها ، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات .. (٣)

وقد نقل ابن جني حكاية عن الأصمعي قال فيها : اختلف رجلان في الصقر ، فقال أحدهما ( الصقر ) بالصاد ، وقال الآخر : ( السقر ) بالسين ، فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه ، فقال : لا أقول كما قلتما ، إنّما هو ( الزقر ).

ويعلق ابن جني على هذا بقوله : أفلا ترى إلى كلّ واحد من الثلاثة كيف أفاد في

__________________

(١) الخصائص ٢ : ١٢.

(٢) الخصائص ١ : ٣٧٢.

(٣) المزهر ١ : ٢٦١ ، وقارن بالنحو العربي على ضوء اللغات الساميّة ٣٩ ـ ٤٠.

٢١

هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها؟ وهكذا تتداخل اللغات ... (١)

وهذا القول يشير إلى جواز اجتماع لغتين فصاعدا في كلام العرب ، ويفيد الذاهبين إلى القول بحجية جميع اللغات ، ولهذا ترى اللغوي حينما يذكر معنى كلمة يقول : لغة في كذا ، إشارة منه إلى ورود القول الثاني في لغة الآخر ، وهو حجة.

ومن المشهور أنّ أفصح القبائل العربية كانت ، تميم ، طي ، هذيل ... ، لكونها بدوية ضاربة في الصحراء ، وقد اشتهر منها الكثير من الشعراء ، كأوس بن حجر ، وسلامة بن جندل ، وعلقمة بن عبدة ، وعديّ بن زيد ، وعمرو بن الأهتم ، والبرّاق بن روحان ، والأسود بن يعفر التميميّين.

ومن شعراء الطائيّين : حاتم الطائي ، وإياس بن قبيصة ، وأبو زيد الطائي ، و ...

ومن شعراء الهذليّين : أبو ذويب الهذلي ، وعامر بن حليس ، وخويلد بن خالد و ...

وبهذا تكون المجموعة العربية ، إمّا حجازية وهي المعروفة بـ ( القرشية ) ، وإما نجدية شرقية والمعروفة بـ ( التّميميّة ) ، وإنّ لغات هاتين المجموعتين موجودة في الأعم الأغلب من المعاجم اللغوية ، إذ تجد تعلم ونعلم ـ بكسر حرف المضارعة ـ إلى جانب تعلم ونعلم ، ووجود حمر وحمة إلى جانب حمر وحمة ، ووجود حقد يحقد إلى جانب حقد يحقد ، ووجود مديون إلى جانب مدين ، ومرية ومرية ، وهيهات وأيهات (٢).

هذا وراى البعض أنّ العوامل السياسية والدينية والاجتماعية هي الّتي جعلت

__________________

(١) الخصائص ١ : ٣٧٤.

(٢) اللفظة الاولى من جميع الأمثلة لتميم ، والأخرى لقريش.

٢٢

لهجة قريش هي الفصحى ، لكنّ هذا الرأي بعيد عن الصحّة على إطلاقه ، لأنّ في لغة تميم ما هو أوفق للقياس من لغة قريش في بعض الحالات ، لكنّ القول بأنّ لغة تميم أوفق بالقياس في جميع الحالات بعيد جدّا وغير صحيح أيضا ، إذ المشهور الذي لا مراء فيه عند الجميع أنّ لغة قريش كانت أغزرها مادة ، وأرّقها أسلوبا ، أكثرها ثراء ، وقد ارتفعت قريش من الفصاحة عن عنعنة تميم ، وكشكشة ربيعة ، وكسكسة هوازن ، وتضجّع قيس وعجرفيّة ضبّة ، وتلتلة بهراء (١).

وقد أكّد الفراء صفاء لغة قريش بقوله : كانت العرب تحضر الموسم كلّ عام وتحج البيت في الجاهلية ، وقريش يسمعون لغات العرب ، فما استحسنوه من لغاتهم تكلّموا به ، فصاروا أفصح العرب ، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ ، وقد كان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته ويتجنّب صفاتها الخاصّة في بناء الكلمة وإخراج الحروف وتركيب الجملة ليتحدث إلى الناس بلغة ألفوها وتواضعوا عليها ، بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في تهذيبها وصقلها.

وفي كتب اللغة إشارات إلى بعض المذموم من لهجات العرب ، ككشكشة ربيعة وقضاعة ، إذ هؤلاء يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينا ، فيقولون : رأيتكش ، وبكش وعليكش.

والكسكسة هو أن يجعلون بعد الكاف أو مكانها سينا في المذكّر.

ومن ذلك الفحفحة في لغة هذيل ، حيث يجعلون الحاء عينا (٢).

__________________

(١) انظر الخصائص ٢ : ١١.

(٢) انظر المزهر ١ : ٢٢٢ ، مقدمة التاج : ٢٢.

٢٣

ومن ذلك الطمطمانيّة من لغة حمير : كقولهم : طاب امهواء : أي طاب الهواء (١).

ومن ذلك العجعجة في لغة قضاعة ، حيث يجعلون الياء المشدّدة جيما ، يقولون في تميميّ : تميمج ؛ وقال أبو عمرو بن العلاء : قلت لرجل من بني حنظلة ممن أنت! قال فقيمجّ ، فقلت : من أيهم؟ قال : مرّجّ ، أراد فقيميّ ومرّيّ ، ولذلك اشتهر إبدال الياء جيما مطلقا في لغة فقيم (٢) .

ومن ذلك شنشنة اليمن ، تجعل الكاف شينا مطلقا ، فيقولون ( لبّيش اللهم لبّيش ) أي لبّيك اللهمّ لبّيك (٣).

وكلامنا هذا لا يعني الدفاع عن لهجة قريش والتعريض بالأخريات من أخواتها وإن كانت تلك الألفاظ شاذّة في قرائتنا ولغتنا اليوم ، فشذوذها شيء وعدم كونها فصيحة شيء آخر.

نعم ، إنّ القرآن تارة أخذ بلغة قريش ، وأخرى بلغة تميم وإن كان في الأعمّ الأغلب يأخذ بلغة قريش ، فلو أخذنا الثاء مثلا فهي عند تميم تقابل الفاء عند الحجازيّين ، فالأثاثي في لغة تميم تقابل الأثافي عند قريش ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة ( وَفُومِها ) بالفاء على لغة أهل الحجاز ، وهو الثوم عند تميم.

وهناك فروقات كثيرة أخرى بين لغتي تميم وقريش لا يسعنا حصرها بل نشير إلى بعضها إجمالاً : ـ

فمن تلك المفارقات أن قريش تفتح عين الفعل الماضي ، فتقول : زهد ، حقد ،

__________________

(١) انظر المزهر ١ : ٢٢٣ ، مقدمة التاج : ٢٣.

(٢) أمالي القالي ٢ : ٧٧.

(٣) المزهر ١ : ٢٢٢.

٢٤

وأما تميم فتكسرها غالبا فتقول : ـ زهد ، حقد.

وإذا ضمّت قريش عين المضارع وقالت : يفرغ فروغا ، فتحتها تميم وقالت : يفرغ فراغا.

وتقول قريش : برأت من المرض فأنا براء ، وتقول تميم : برئت فأنا بريء كما هي لغة سائر العرب.

وتقول قريش : أوصدت الباب ، وتميم : آصدته.

وتقول قريش : وكّدت توكيدا ، وتميم : أكّدت تأكيدا.

وتقول قريش : لات الشيء يليته ، إذا نقصه حقّه ، وتميم : ألاته يليته. و ...

ومن تلك المفارقات أنّ الصيغة الدالّة على أسماء الزراعة هي ( فعال ) بكسر الفاء على لغة الحجاز ( قريش ) فتقول : حصاد وقطاف ، بينما هي ( فعال ) بالفتح في لغة تميم ، وقد جاءت بلغة تميم في القرآن في قوله تعالى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ).

ولغة الحجاز حج بالكسر ، ولغة تميم حج بالفتح.

والحجاز : مرية بالكسر ، وتميم : مرية بالضم.

والحجاز : كراهة ، وتميم : كراهية.

والحجاز : رضوان بالكسر ، وتميم : رضوان بالضم.

والحجاز : قلنسية ، وتميم : قلنسوة.

ومن ذلك أنّ لهجة تميم تنبر الهمزة ـ أي تحقّقها ـ وتلتزم النطق بها ، بعكس أهل الحجاز الّذين لا ينبرونها إلاّ إذا أرادوا محاكاة التميميّين قال أبو زيد : أهل الحجاز وهذيل وأهل مكّة والمدينة لا ينبرون (١) ...

__________________

(١) لسان العرب ١ : ١٤.

٢٥

هذا ، وإنّ القرآن نزل بنبر الهمزة ، وهو يدلّ على أنّه كان يتّخذ لحن تميم في بعض الأحيان تخفيفا منه على القبائل ومراعاة للهجاتها ، وأنّه لم يلزم أحدا بتحقيق الهمزة وإن التزمه في الوحي ، فمالت قراءات أكثر الحجازيّين إلى التسهيل لا النبر كما هي الحال في قراءة نافع وأبي جعفر من أشهر قراء المدينة ، فإنهما يقرآن ( وبيس المهاد ) ( واصبح فواد أمّ موسى فارغا ) ( خاسياً وهو حسير ).

ومن الفروق بين تميم وقريش أيضا أنّ تميما تجنح كثيرا إلى إدغام المثلين أو الحرفين المتجاورين المتقاربين ، فالأمر من ( غض ) في لغة أهل الحجاز ( اغضض ) بالفكّ كما جاء في قوله تعالى : ( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) ـ أي اخفض الصوت ـ وأهل نجد يقولون ( غضّ صوتك ) بالإدغام.

وتميم تقول ( إن تمسّكم حسنة ) و ( من يحلّ عليه غضبي ) ( ولا تمنّ تستكثر ) وهي جميعا في القرآن بلهجة قريش مفكوكة الإدغام.

كانت هذه نماذج من اختلاف اللهجات عند العرب وإن لم يكن هدفنا جمع فتات ذلك ، حيث إنّ كتب اللغة كفيلة بجمع هذا المتناثر من اللهجات عند القبائل وتدوينه كي يؤمن من الدخيل.

نعم ، إنّ علماء اللغة من أجل المحافظة على أصالة القرآن والحديث النبوي ولغة العرب ، جدّوا في جمع تلك المواد اللغوية في مصنّفاتهم ، فمنهم من جمعها على حسب الموضوعات ، وآخر جمعها على آخر الكلمة ( لام الفعل ) ، وثالث جمعها وفق احرف الهجاء في أوّل الكلمة ( فاء الفعل ) ، و و و ... ، وكلّ اتّبع أسلوبا يختصّ به ، وإليك ذلك على نحو التفصيل الأوّلي :

٢٦

مناهج اللغويين في التدوين

كان يسرّني وأنا أقدّم لهذا الكتاب أن أقوم بدراسة مفصّلة عن اللّغة فقها وتاريخا واشتقاقا ، ثمّ الإشارة إلى مناهج اللغويين ، والتأكيد على منهجية المؤلف بأبعادها المختلفة بما فيها من الجدة والإبداع على نحو الخصوص ، لكن المشاغل والبحوث الأخرى حالت دون تحقيق ما أصبو إليه ، وحدث بنا إلى أن نكتفي بما يهمّ هذه التقدمة ،

مراحل من التطور المعجمي

من الثابت أنّ المعجم العربيّ لم يدوّن بهذه الصورة منذ قديم الزمان ، بل قد مر بمراحل متعدّدة حتّى وصل إلى ما نحن فيه :

منها : تفسير الرسول لغريب كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستشهاد الصحابة بالشعر على ما يريدونه.

ومنها : التصنيف الموضوعي والمعنوي للأشياء ، مثل تدوين القدماء على أساس موضوعي ، وتأليفهم في مواضيع مثل ( النبات ، الحشرات ، الخيل ، الإبل ، ... ) وما شابه ذلك.

وكان النضر بن شميل ( ت ٢٠٤ ) هو أوّل من اعتنى بالتدوين اللغوي في

٢٧

النبات ، إذ خصّ الزرع ، والكرم ، والبقول ، والأشجار ، والرياح ، والسحاب ، والأمطار بالجزء الخامس من مجموعته اللغوية المسماة بـ ( الصفات ) (١).

وتبعه في ذلك أبو عمرو الشيباني ( ت ٢٠٦ ) بكتاب النخلة ، وأعقبهم الأصمعي ( ت ٢١٣ ) بكتابه النخلة (٢) ، ثمّ ألّف ابن الأعرابي ( ت ٢٣١ ) كتاب صفة النخل ( وله صفة الزرع والنبت والبقل كذلك ) ، وبعده ألّف أبو حاتم السجستاني ( ت ٢٥٥ ) كتاب النخلة ، والزبير بن بكار ( ت ٢٥٦ ) كتاب النخل.

وقد توقفت الكتابة عن النخل والنخلة في القرن الرابع حتّى جاء ابن سيدة ( ت ٤٥٨ ) وجعل للنخل كتابا في السفر الحادي عشر من كتابه « المخصّص » ، ثمّ تلاه أبو عيسى بن إبراهيم الربعي ( ت ٤٨٠ ) إذ عقد بابا للنخيل في كتابه « نظام الغريب » ، هذا عن النخل والنخيل.

وقد كتب أبو زيد الأنصاري ( ت ٢١٥ ) كتابا في التمر ، ومحمّد بن حبيب ( ت ٢٤٥ ) ، والحسين بن خالويه ( ت ٣٧٠ ) كتابا في الشجر ، وقد ألّف أبو حاتم السجستاني ( ت ٢٥٥ ) في الكرم خاصة.

ونسب إلى أبي عبيدة ( ت ٢١٠ ) كتابا في النبات والشجر ، وقيل أنّه ألّف كتاب الزرع كذلك.

وقد عقد أبو عبيد القاسم بن سلاّم كتابا في « الغريب المصنف » للشجر والنبات ولم يتعرض للإنسان.

وقد الف النضر بن شميل ( ت ٢٠٤ ) وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني ( ت

__________________

(١) الفهرست لابن النديم : ٥٣.

(٢) الفهرست لابن النديم : ٥٥ وقد شك البعض في انتساب هذا الكتاب للاصمعي ودافع عنه آخر.

٢٨

٢٠٦ ) ، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري ( ت ٢١٥ ) ، والأصمعي ( ت ٢١٦ ) ، وابن زياد الكلالي ( ت ٢١٥ ) ، ونصر بن يوسف ـ تلميذ الكسائي ـ وأحمد بن حاتم ( ت ٢٣١ ) ، وأبو يوسف يعقوب بن السكيت ( ت ٢٤٦ ) ، وأبو عكرمة الضبي ( ت ٢٥٠ ) ، والجاحظ ( ت ٢٥٥ ) ، وأبو حاتم سهل بن محمّد السجستاني ( ت ٢٥٥ ) ، والرياشي ( ت ٢٥٧ ) ، كتبا في الإبل.

وكان أبو عبيد القاسم بن سلاّم قد عقد بابا للإبل في الغريب المصنف.

وهكذا نرى أنّ العلماء العرب كتبوا عن بقية أنواع الحيوان ولم يقتصروا على ذكر أسماء الإبل ، بل كتبوا في سائر الحيوانات كالخيل والبغال و .. وإن كانت الكتابة في الإبل هي الأكثر.

وقد ألّف قطرب ( محمّد بن المستنير ) ( ت ٢٠٦ ) ، ومعمّر بن المثنى أبو عبيدة ( ت ٢٠٩ أو ٢١٣ ) ، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري ( ت ٢١٤ ) ، وأبو زياد يزيد بن عبد الملك الكلالي ( ت ٢١٥ ) ، والأصمعي ( ت ٢١٦ ) ، وابن السكّيت ( ت ٢٤٣ ) والسجستاني ( ت ٢٥٥ ) ، وأبو محمّد ثابت بن أبي ثابت ( ت ٢٢٢ ) ـ ورّاق أبي عبيدة القاسم بن سلام ـ كتبا في الفروق.

وقد كان لهذه المصنفات دور في المعاجم اللفظية التي دوّنت ، إذ خدموا اللغويين الرّحّل إلى البادية بجمعهم تلك الألفاظ والأسماء.

ومنها : التصنيف اللفظي لكلام العرب ، وهو ما نريد بسط الكلام فيه ، إذ اختلفت المناهج والمعاجم ، فطائفة رتّبت المعاجم اللفظية على مخارج الحروف وتقاليب الكلمة ، وأخرى على القافية ولام الفعل ، وثالثا على حروف الهجاء والأبجدية.

وقد توخى البعض ضمن انتخابه لاحد المناهج هدفا اخر ؛ كالاخذ بالصحيح

٢٩

فقط ، أو الجمع بين عدة أصول ، أو الاستدراك ، أو الاستدراك مع النقد وغيرها. وسيأتي توضيحه لاحقا.

وأما المناهج ، فهي :

١ ـ منهج التقاليب

كان باني هذا المنهج ومؤسّسه الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت ١٧٥ ) الّذي أحصى اللغة العربية بتنقله في البادية ، فهو الرائد العربي الأوّل الّذي جمع اللغة.

ومن المعروف أن قوام مدرسة الخليل هي ترتيب المواد على الحروف حسب مخارجها ، وتقسيم المعجم إلى كتب ، وتفريع الكتب إلى ابواب بحسب الأبنية ، وحشد الكلمات في الأبواب ، وقلب الكلمة إلى مختلف الصيغ الّتي تأتي منها.

وإليك الحروف حسب ما رتبها الخليل.

١ ـ خمسة أحرف حلقية ، وهي الّتي مبدأها من الحلق : ( ع ، ح ، ه‍ ، خ ، غ ).

٢ ـ حرفان لهويان ، ومبدأهما من اللهاة ، وهي : ( ق ، ك‍ ).

٣ ـ ثلاثة أحرف شجرية ، ومبدأها من شجر الفم ـ أي مفرج الفم ـ وهي : ( ج ، ش ، ض ).

٤ ـ ثلاثة أحرف أسلية ، ومبدأها من أسلة اللسان ـ أي مستدق طرفه ـ وهي ( ص ، س ، ز ).

٥ ـ ثلاثة أحرف نطعيّة ، ومبدأها من نطع الغار الأعلى ، وهي : ( ط ، د ، ت ).

٦ ـ ثلاثة أحرف لثوية ، ومبدأها من اللثة ، وهي ( ط ، ذ ، ث ).

٧ ـ ثلاثة أحرف ذلقية ، ومبدأها من ذلق اللسان ـ وهو تحديد طرفي ذلق اللسان ـ وهي : ( ر ، ل ، ن ).

٣٠

٨ ـ ثلاثة أحرف شفوية ، ومبدأها من الشفة ، وهي : ( ف ، ب ، م ).

٩ ـ أربعة أحرف هوائية ، لعدم تعلّقها بشيء وهي : ( و، أ ، ي ، همزة ) ، وبذلك تكون الحروف في اللغة العربية عند الخليل ٢٩ حرفا اذ عدّ الألف اللينة والهمزة كلاّ على حده ، فزاد على الثمانية والعشرين المعهودة.

وقد نظم ابو الفرج سلمة بن عبد الله المعافري ما رتبه الخليل في العين بقوله :

يا سائلي عن حروف العين دونكها

في رتبة ضمّها وزن وإحصاء

العين والحاء ثمّ الهاء والخاء

والغين والقاف ثمّ الكاف أكفاء

والجيم والشين ثمّ الضاد تتبعها

صاد وسين وزاي بعدها طاء

والدال والتاء ثمّ الظاء متصل

بالظاء ذال وثاء بعدها راء

واللام والنون ثمّ الفاء والياء

والميم والواو والمهموز والباء

وقد سار على منهج الخليل كثير من اللغويين كابن دريد ( ت ٣٢١ ) في الجمهرة ، وابن فارس ( ت ٣٩٥ ) في المجمل ، والقالي ( ت ٣٥٦ ) في البارع ، والأزهري ( ت ٣٧٠ ) في التهذيب ، والزبيدي ( ت ١٢٠٥ ) في مختصر العين ، والصاحب بن عباد ( ت ٣٨٥ ) في المحيط ، وابن سيدة ( ت ٤٨٥ ) في المحكم وغيرهم.

وهذا لا يعني أن هؤلاء كانوا مقلّدين للخليل في كلّ دقيقة من دقائق ما طرحه ، بل خالفوه فيما رسمه من منهج وأضافوا إلى ما قدّمه من موادّ لا تنقص من قدر هذا الإمام ، لأنّ هذه الإضافات منهم لا تتعدى في الغالب إلاّ التكميل والتوثيق ، أمّا الابتكار فكان من حصّة الخليل فقط ، إذ أنّه سعى لحصر مفردات اللغة ـ كما حصر العروض من قبل بطريقة رياضية وحسابية ـ كما هو الملاحظ فيما قدمه من إحصاء لأبنية الثنائي والثلاثي والرباعي في كتابه.

٣١

فابن دريد مثلا انتهج منهج الخليل لكن بشيء من التعديل في العرض ، إذ قسّم الخليل كتابه إلى أربعة أبواب : الثنائي المضاعف ، والثلاثي الصحيح ، واللفيف ، وجعل الباب الرابع للرباعي والخماسي ، وأمّا ابن دريد فبنى معجمه على أساس من الأبنية طبقا لأحرف الهجاء ، أي أنّه اقتفى منهج الخليل في التقاليب ، لكنّه خالفه بذكره الحرف الذي يلي الحرف المخصّص به الباب فمثلا : لو جاء بـ ( الخاء والدال ) لأردفه بـ ( الخاء والذال ) ، فالخاء والراء ...

وهكذا في جميع الموارد ، فيكون ( ر ، ج ، ع ) مذكورا عنده في الجيم ، لأنّ الجيم أسبق من الراء في الترتيب الألفبائي ، وهذا لا يتّفق مع نسق الخليل الذي يجمع مقلوبات كلّ كلمة في نفسها ، فمثلا ( ضرم ) يذكرها في الضاد مع تقاليبها ( ضمر ، مرض ، مضر ، رضم ، رمض ) ، وإذا جاء إلى كتاب الراء والميم أغفل ذكر الرضم والرمض والمرض لأنّه ذكرها في كتاب الضاد.

هذا ، وقد استحسن البعض طريقة ابن دريد ، واعتبرها البعض الآخر تعقيدا في المنهج ، وتهجّم عليه ثالث كالأزهري ونفطويه ، بل هجاه الأخير بأبيات ، هي :

ابن دريد بقره

وفيه عيّ وشره

ويدّعي من حمقه

وضع كتاب الجمهره

وهو كتاب العين إلاّ

أنّه قد غيّره

وجاء ابن فارس ( ت ٣٩٥ ) فلم يستسغ طريقتي الخليل وابن دريد ، وان كان ممّن تأسّى بالأخير في الاشتقاق ، لأنّ ابن دريد كان قد ردّ في كتابه « الاشتقاق » أسماء قبائل العرب وعمائرها ، وأفخاذها وبطونها ، وأسماء ساداتها وشعرائها وفرسانها وحكّامها إلى أصول لغوية اشتقّت منها هذه الأسماء ، فتأثّر ابن فارس به في كتابه المقاييس وغيره.

٣٢

قال في مقدمة كتابه ( مجمل اللغة ) :

إنّي لمّا شاهدت ( كتاب العين ) الّذي صنفه الخليل بن أحمد ووعورة ألفاظه ، وشدّة الوصول إلى استخراج أبوابه ، وقصده إلى ما كان يطلّع عليه أهل زمانه الّذين جبلوا على المعرفة ولم يتصعب عليهم وعورة الألفاظ ، ورأيت كتاب ( الجمهرة ) الذي صنّفه أبو بكر بن دريد قد وفي بما جمعه الخليل وزاد عليه ، لأنّه قصد إلى تكثير الألفاظ ، وأراد إظهار قدرته وأن يعلم الناظرون في كتابه أنّه قد ظفر بما سقط عن المتقدمين ، وإن كان قصب السبق مسلّما لهم ، لأنّ بناء المتأخّر على ما قدّموه (١).

ولا يخفى عليك أنّ ابن فارس لم يرتّب كتابه ( معجم مقاييس اللغة ) على أوائل الحروف وتقاليبها كما صنع ابن دريد في الجمهرة ، وكذا لم يتّخذ منهج الخليل أصلا وإن لم ينكر أنّ قد اعتمد العين وكتابي أبي عبيدة ـ غريب الحديث ، والمصنف الغريب ـ وكتاب المنطق لابن السكّيت والجمهرة لابن دريد فيما استنبطه من مقاييس اللغة (٢).

وأمّا الأزهري في التهذيب ، والقالي في البارع ، والصاحب في المحيط ، فانهم قد اتّبعوا الخليل في منهجه لكنّهم اختلفوا معه في الترتيب وسعة الاستشهاد بالشعر وضيقه ، وكيفية الاتيان بأسماء البلدان والأماكن وما شابه ذلك ، فقال الأزهري في مقدّمة التهذيب :

__________________

(١) مجمل اللغة ١ : ١٤١.

(٢) معجم مقاييس اللغة ١ : ٥.

٣٣

( ... ولم أر خلافا بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد ، وأن ابن المظفّر [ يعني ليثا ] أكمل الكتاب عليه بعد تلقّفه إياه عن فيه ، وعلمت أنّه لا يتقدّم أحد الخليل فيما أسّسه ورسمه ، فرأيت أن أحكيه بعينه لتتأمّل وتردّد فكرك وتستفيد منه ما بك الحاجة إليه ).

حتّى ختم كلامه بالقول :

« وقد سمّيت كتابي هذا تهذيب اللغة لأنّي قصدت بما جمعت فيه نفي ما أدخل من لغات العرب من الألفاظ الّتي أزالها الأغبياء عن صيغها ، وغيّرها الغتم عن سننها ، فهذّبت ما جمعت في كتابي من التصحيف والخطأ ، وبقدر علمي ، ولم أحرص على تطويل الكتاب بالحشو الّذي لم أعرف أصله ، والغريب الّذي لم يسنده الثقات إلى العرب (١).

وكان الأزهري قد قال قبلها :

« ولم أودع كتابي هذا من كلام العرب إلاّ ما صحّ لي سماعاً منهم ، أو رواية عن ثقة أو حكاية عن خطّ ذي معرفة ثاقبة ، اقترنت إليها معرفتي ، اللهمّ إلاّ حروفا وجدتها لابن دريد وابن المظفّر في كتابيهما فبيّنت شكّي فيهما وارتيابي بهما وستراها في مواقعها من الكتاب ووقوفي منها » (٢).

__________________

(١) مقدمة التهذيب للازهري ١ : ٥٤.

(٢) مقدمة التهذيب للازهري ١ : ٥٤.

٣٤

نعم ، إنّ الأزهري قد خالف الخليل في المهموز وأحرف العلّة ؛ إذ حشد الخليل ما كان معتّلا بحرف أو حرفين مع المهموز دون تفريق ، وجعلهما في باب اللفيف ، وأراد الأزهري إفراد المهموز وعزله عن المعتل لكنّه لم يوفّق لذلك.

وصنع الصاحب بن عبّاد صنيع الأزهري في باب اللفيف ، إذ افتتح الباب بالصحيح ، ثمّ ما كان مبدوءا بالهمزة ، ثمّ ما كان أوّله واوا ، ثمّ ما كان أوّله ياء ، ولكنّه لم يتّبع هذا المنهج في الثلاثي المعتل.

والأزهري جعل الأبنية ستة بخلاف الخليل ـ الذي جعلها أربعة ـ :

١ ـ كتاب الثنائي المضاعف.

٢ ـ كتاب الثلاثي الصحيح.

٣ ـ كتاب الثلاثي المهموز.

٤ ـ كتاب الثلاثي المعتل.

٥ ـ كتاب الرباعي.

٦ ـ كتاب الخماسي ، إلاّ أنّه كان يذكر الكلمة بما يرادفها من أنواع القلب كما صنع الخليل.

وقد عنى الأزهري بالبلدان والمواضع والمياه عناية فائقة ، حتّى عدّ كتابه من أصح المصادر في هذا السبيل ، لكون المنقول فيه حكاية عن حسّ لا عن حدس ، ولو جمعت هذه المفردات في كتاب لأضافت إلى المكتبة العربية والإسلامية كتابا آخر في البلدان.

هذا بعض الشيء عن الأزهري وكتابه.

وأمّا القالي ، فقد بدأ معجمه ( البارع ) بالهمزة ، ثمّ الهاء ، ثمّ العين ، وذكر التقاليب المذكورة.

٣٥

فالقالي قد اتّبع الخليل في منهجه ، لكنّه خالفه في ترتيب الأبنية ، فالأبنية عند القالي ستّة أبواب : الثنائي المضاعف ، ويسميه : ( الثنائي في الخط ، والثلاثي في الحقيقة ) ، وأبواب الثلاثي الصحيح ، وأبواب الثلاثي المعتل ، وأبواب الحواشي ، وأبواب الرباعي ، وأبواب الخماسي ، وكان ( البارع ) أوّل معجم عربيّ ألّف في الأندلس وطالت كتابته ( من سنة ٣٣٩ إلى ٣٥٦ ).

وأمّا الصّاحب بن عباد ، فهو الآخر قد سار على منهج الخليل في ( العين ) سواء فيما يتعلّق بتسلسل الحروف مقسّمة على مخارجها الصوتية ، أو بترتيب الأبواب داخل كلّ حرف ابتداء بـ « باب المضاعف الثنائي » ، ثمّ باب الثلاثي الصحيح ، ثمّ باب الثلاثي المعتل ، ثمّ باب اللفيف ، ثمّ باب الرباعىّ ، ثمّ باب الخماسي.

وقد كان الصاحب قد عني في كتابه « المحيط » بذكر المجاز كثيرا وأغفل عن الشواهد وأسماء من نقل عنهم الغريب والنوادر ، وقد وصفه القفطي بقوله : كثّر فيه الألفاظ وقلّل الشواهد ، فاشتمل من اللغة على جزء متوفّر (١).

ومما يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ الصاحب بن عبّاد كان من تلاميذ ابن فارس ـ كما تتلمذ عند غيره ـ وقد توّج ابن فارس هذه العلاقة بينهما بتسمية كتابه الجليل في فقه اللغة بـ ( الصاحبي ) نسبة للصاحب بن عباد (٢).

كانت هذه إشارة سريعة لأهمّ كتب التقاليب ، والآن مع كتب منهج القافية :

__________________

(١) انباه الرواة ١ : ٢٠١.

(٢) انظر مقدمة الصاحبي : ٢.

٣٦

٢ ـ منهج القافية

وهي منهجيّة تنظر إلى الحرف الأخير من الكلمة وتجعله بابا ، أمّا الحرف الأوّل منها فتجعله فصلا ، وذلك لثبوت لام الكلمة وعدم تغيّرها في جميع الحالات.

إذ أنّا نعلم بأنّ ميزان الكلمة هو ( الفاء ، والعين ، واللام ) ، والتغيير يلحق بما قبل لام الكلمة كما هو المشاهد في أفعل ، وفعّل ، وفاعل ، وانفعل ، وافتعل ، وافعلّ ، وتفاعل ، وتفعّل ، واستفعل ، وافعوعل ، وافعوّل ، وافعّال.

وهذه هي أوزان مزيد الفعل الثلاثي المجرّد ، ويظهر منها أنّ التغيير تناول الفاء والعين ، فتارة يتقدم الفاء حرف ، وتارة حرفان ، وتارة ثلاثة ، وكذلك العين ، فإنّها قد تنفصل عن الفاء وقد تنفصل عن اللام ، وقد تضعّف.

وأمّا لام الكلمة ( لام الفعل ) فتبقى ثابتة لا تتغير مهما اختلفت صورة الكلمة إلاّ في حالات قليلة ، ومتى ما لحقها التغيير والتضعيف انتقلت إلى أوزان أخرى ولا تعتبر من الثلاثي ، بل تصير رباعية أو خماسية.

وقد انتهج هذا المنهج الجوهري في كتابه ( الصحاح ) وعدّ عند العلماء الرائد الأول لهذه المدرسة وإن ادّعى بعضهم أنّ الفارابي ( خال الجوهري ) (١) هو المؤسس لهذا المنهج قبله ، بل ذهب الدكتور كرنكوKrenkow إلى أبعد من ذلك حيث اتّهم الجوهري بسرقة مواد كتاب الفارابي (٢) وإدخالها في الصحاح.

__________________

(١) للفارابي كتاب ( ديوان الادب ) وقد تناوله ابو سعيد محمّد بن جعفر بن محمّد الغوري ـ احد ائمّة اللغة ، وزاد عليه في ابوابه وجعله في عشرة مجلدات ، وكذا هذبه الحسن بن المظفر النيسابوري (٤٤٢) وسماه ( تهذيب ديوان الادب ).

(٢) انظر مقالته في مجلة الجمعية الاسيوية الملكية المطبوعة سنة ١٩٢٤ بعنوان ( بواكير المعاجم العربية حتّى عصر الجوهري ).

٣٧

وهذا بهتان وفحش عظيم ، لأنّ التقاءهما في نقطة أو نقاط لا يعني أنّه سرق من الاول ، ولو صح هذا الكلام لكان الأزهري سارقا لكتاب العين.

وقد استدرك بعض الأعلام على الصحاح ، ونقده آخرون كالهروي ( ت ٤٣٣ ) وياقوت الموصلي ( ت ٦١٨ ) وابن القطّاع ( ت ٥١٥ ) وابن برّي ( ت ٥٨٢ ) والصغاني ـ الصاغاني ( ت ٦٥٠ ) ، والقفطي والبطليوسي ( ت ٦٤٢ ) ، وابن الحاج الأشبيلي ( ت ٦٥١ ) والتبريزي ( ت ٥٠٢ ) والشاطبي ( ت ٦٨٤ ) ، والصفدي ( ت ٧٦٤ ) والسيوطي ( ت ٩١١ ) ، والقرافي ( ت ١٠٠٨ ) ، والقرشي ( كان حيا ٦٨١ ) وابن الخواري ( وكان حيا ٥٨٠ ) والفيروزابادي ( ت ٨١٦ ) ، وابن الصائغ ، والشريف والقرماني ، والقارضي ، والهمداني والاويسي والتنوخي ( ت ٧٢٣ ) وغيرهم.

وقد كان ابن بري والصغاني هما أشهر من استدرك على الصحاح ، لأنّ الصغاني ألّف كتابه ( التكلمة والذيل والصلة ) ليستدرك على الجوهري ما فاته من مواد اللغة في صحاحه ، أو ما وقع فيه من وهم أو خطأ ؛ لقوله :

( هذا كتاب جمعت فيه ما أهمله أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري رحمه‌الله في كتابه ، وذيّلت عليه وسميّته كتاب التكملة والذيل والصلة ، غير مدع استيفاء ما أهمله واستيعاب ما أغفله ) ...

وقد استقى الصاغاني كتابه هذا من نحو ألف كتاب في غريب الحديث واللغة والنحو والصرف ، إذ قال في آخر كتاب التكملة :

( فمن رابه شيء ممّا في هذا الكتاب فلا يتسارع إلى القدح والتزييف ، والنسبة إلى التصحيف والتحريف ، حتّى يعاود الأصول الّتي استخرجت منها ، والمآخذ الّتي أخذت على تلك الأصول ، وإنها تربي على ألف مصدر من كتب غريب الحديث : كغريب أبي

٣٨

عبيدة ، والقتيبي ، والخطّابي ، والحربي ، والفائق للزمخشري والملّخص للباقرجي ، والغريب للسمعاني ، وجمل الغرائب للنيسابوري ؛ ومن كتب اللغة والنحو ودواوين الشعراء وأراجيز الرجاز ، وكتب الأبنية وتصانيف محمّد بن حبيب : كالمنمق والمؤتلف ، وما جاء على اسمين أحدهما أشهر من صاحبه ، وكتاب الطير ، وكتاب النخلة ؛ وجمهرة النسب لابن الكلبي ، وأخبار كندة له ، وكتاب افتراق العرب له ، وكتاب المعمّرين له ، وكتاب أسماء سيوف العرب المشهورة له ، وكتاب اشتقاق أسماء البلدان له ، وكتاب ألقاب الشعراء له ، وكتاب الأصنام له ؛ والكتب المصنفة في أسماء خيل العرب ، وكتاب أيام العرب ، وكتب المذكر والمؤنث ، والكتب المصنفة في أسامي الأسد ، وفي الأضداد ، وفي أسامي الجبال والمواضع والبقاع والأصقاع ، والكتب المؤلفة في النبات والأشجار ، وفيما جاء على فعال مبنيا ، والكتب الّتي صنفت فيما اتفق لفظه وافترق معناه ، والكتب المؤلفة في الآباء والأمهات والبنين والبنات ، ومعاجم الشعراء لدعبل والآمدي والمرزباني ، والمقتبس له و ... ).

ولم يكتف الصغاني بهذا بل سعى لتصحيح ما وقع فيه الجوهري من أوهام وأغلاط وتصحيف وتحريف من الكلمات والأعلام وأسماء المواضع والشواهد ، وأكمل الشواهد الشعرية الناقصة ، وصحّح نسبة كبيرة منها.

وأمّا ابن برّي المقدس المصري ( ت ٥٨٢ ) فقد أراد بكتابه ( التنبيه والإيضاح عمّا وقع من الوهم من كتاب الصحاح ) الإشارة إلى أخطاء الجوهري في الصحاح ،

٣٩

وهذا الكتاب كان لأستاذه عليّ بن جعفر بن عليّ بن جعفر بن عليّ السعدي المعروف بابن القطاع الصقلي ( ت ٥١٥ ) أولا ، ثم بنى عليه ابن بري ولكنه لم يكمله لإدراكه المنية وهو في باب الشّين فصل الواو ( وقش أو ومش ) فبقي الكتاب ناقصا ، لكنّه بقي ـ والحق يقال ـ أنّه أحد المصادر اللغوية الّتي لا غنى عنها.

وقد اتبع هذه المدرسة جمع من اللغويين كمحمّد بن الحسن في الراموز والصغاني في كتبه الأخرى كالعباب ومجمع البحرين ، ثمّ الفيروزآبادي في القاموس والزبيدي في تاج العروس.

لقد أراد الفيروزآبادي بقاموسه أن يناقش الجوهري ويخطئه فيما قاله من موارد الغلط في صحاحه ، وذلك بعد فراغ الفيروزآبادي من كتابه الكبير في اللغة الموسوم بـ ( اللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب ).

قال في مقدمة القاموس :

ولمّا رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك ، غير أنّه فاته نصف اللغة أو أكثر ، إما بإهمال المادّة ، أو بترك المعاني الغريبة النادّة ، اردت أن يظهر للناظر بادى بدء فضل كتابي

هذا عليه ... إلى أن يقول :

« ثمّ إني نبّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري رحمه‌الله خلاف الصواب ، غير طاعن فيه ولا قاصد بذلك تنديدا له وإزراء عليه وغضا منه ، بل استيضاحا للصواب واسترباحا للثواب ».

ثمّ يقول :

« واختصصت كتاب الجوهري من بين الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لتداوله واشتهاره

٤٠