الطّراز الأوّل

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني

الطّراز الأوّل

المؤلف:

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-479-5
الصفحات: ٤٥٦

العرب عن مطايب الجزور ما واحدها؟ فقال مطيب.

وهنا تبدو مسلكية السيّد المصنّف ومنهجيته في التوفيق بين الأصول اللغوية والصرفية ومباني الاشتقاق وبين ما قيل أو يقال خلافه ، فمع تصريح الاصمعي والكسائي وغيرهما من أئمّة اللغة بصحة مفرد لهذا الجمع مسموع مطابق لأصول الاشتقاق (١) لا ضرورة للمصير إلى عدم وجود مفرد لها ، أو ذكر مفرد لها على غير قياس.

* وفي مادة « فقأ » ، قال : « الفقء ، كفلس : حفرة في وسط الحرّة ، أو نقرة في صخرة تجمع الماء. الجمع : فقآن كرغفان ».

قال الصاغاني في العباب والتكملة : شمر : الفقء ، كالحفرة أو الجفرة ـ شك أبو عبيد ـ في وسط الحرة ، وجمعه فقآن.

وفي الجمهرة : الفقء : نقر في صخرة يجتمع فيه ماء المطر. والجمع فقآن (٢).

وفي التهذيب : قال شمر : الفقء كالجفرة في وسط الحرّة ، وجمعها فقآن (٣). فهؤلاء كلّهم صرحوا بأنّ جمع الفقء فقآن.

وفي نسخة من التهذيب كما في هامشه : وجمعها « فقاء » بضم الفاء. وقال المحقّق : وصواب هذه « فقاء » بالكسر ككلب وكلاب.

ونقل ابن منظور أن الفقء كالفقيء ، وأنّ جمع الفقيء فقآن ، فقال بعد ان ذكر ما قاله أبو عبيد من معنى الفقء بمعنى الحفرة والفقيء كالفقء ... وجمع الفقيء فقآن.

واقتصر في القاموس على ذكر المفرد فقال : والفقء نقر في حجر أو غلظ يجمع

__________________

(١) انظر شرح الشافية ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٤.

(٢) الجمهرة ٢ : ٩٦٧ و ١١٠١.

(٣) التهذيب ٩ : ٣٣١.

٢٤١

الماء كالفقيء. فشرحه الزبيدي في التاج قائلا : وجمع الفقيء فقآن.

وهنا اجتمعت عندنا ثلاثة آراء :

أوّلها : أنّ جمع الفقء : فقآن.

وثانيها : أن جمع الفقء : فقاء.

وثالثها : أمّ « فقآن » جمع الفقيء لا الفقء.

فأمّا ما ذكره ابن منظور وذهب إليه الزبيدي ، من إرجاع الفقء إلى الفقيء ، وتصريحهما بأنّ الفقآن جمع الفقيء ، فذلك لما تقرر من كون « فعلان » من جموع الكثرة الغالبة في « فعيل » ، كرغيف ورغفان ، وكثيب وكثبان وقليب وقلبان (١).

وأمّا ما في نسخة من التهذيب وتصويبها بالكسر « فقاء » جمع الفقء ، فذلك لأنّ الغالب فى جمع قلة « فعل » ـ في غير باب « بيت » ـ و « ثوب » أفعل ، وفي جمع كثرته فعول ... وفعال (٢).

وأمّا ما ذكره السيّد المصنّف من أنّ جمع الفقء فقآن ، فهو مضافا إلى تصريح شمر وأبي عبيد به ، ومصير ابن دريد والصاغاني والأزهري إليه ، مع كل ذلك نراه مطابقا للمسموع عن العرب.

قال سيبويه : القياس في « فعل » ما ذكرناه ، وما سوى ذلك يعلم بالسمع ... فالمسموع في قلّة فعل ـ غير الأجوف ـ أفعال ، وفي كثرته فعلان كجحشان ورئلان ، وفعلان كظهران وبطنان ، قال سيبويه : وفعلان بالكسر أقلّهما (٣).

__________________

(١) انظر شرح الشافية ٢ : ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) انظر شرح الشافية ٢ : ٩١.

(٣) شرح الشافية ٢ : ٩١.

٢٤٢

وهنا يظهر منهج السيّد في توفيقه بين المسموع والأصول اللغوية والصرفية في الاشتقاق ، فلذلك لم يذهب السيّد المصنف إلى ما في اللسان من التكلّف في ردّ « فقآن » إلى فقيء ، لأن « فعلان » من جموع فعل المسموعة أيضا ، وقد نقله من علمت فلا معدل عنه.

ولا يخفى عليك أنّ هذا بخلاف « المساوئ » فإنّ كونها لا واحد لها يحتاج إلى دليل ، مع أنّه مفقود فهي دعوى مجرّدة يدحضها وجود مفرد صحيح الاشتقاق مصرّح به ، وأمّا كونها جمعا لـ « سوء » على غير قياس فهو الرأي الآخر الّذي لا يصار إليه ما دام هناك مصرّحون بوجود مفرد لها مطابق للقياس الصرفي والأصل اللغوي.

فها هو يأخذ السماع أوّلا إذا كان صحيحا ، كما أنّه يأخذ بالقياس في موارده ، ويحكمه ، وإذا تعدّدت الآراء ، أو تعدّد المسموع ، أثبت المسموع الذي يطابق قواعد الصرف وأصول اللغة.

ومن هنا نرى السيّد المدني يعرض عن النقل الذي لا يوافق الاصول إذا كان ذلك النقل غير ثابت عن الاثبات ، فمع ما قدمنا من اعتماده على كتب الاثر والحديث واخذه اللغات منها ، نراه لا يعبأ بما يخالف الاصول من النقل غير الثبت ، بل يجزم بأنّه من خطأ الرواة.

قال في الاثر من مادة « وجأ » : « ضحى بكبشين موجوئين ، ولا تقل : موجأين ـ كمكرمين ـ فانه من خطأ الرواة ». فحكم بخطأ الرواة حين رووا ما يخالف قواعد الاشتقاق الصرفي ؛ لان اسم المفعول من « وجأ » موجوء ، وهذا ما جاءت به الروايات الصحيحة عن الرواة الضابطين.

وأمّا ما نقلوه بلفظ « موجأين » فانه لا يستقيم ؛ لانه يقتضي كونه مشتقا من « أوجأه » وهو غير وارد في كلام العرب ، فتكون الرواية الثانية من خطأ الرواة لا محالة.

٢٤٣

ك ـ دقته في اقتناص المعاني وحسن فصله لها.

ومما لوحظ في منهج السيّد المصنّف في تدوين طرازه الأول هو دقته في اقتاص المعاني اللغوية ، وتقريره للمعاني وفق ما ورد من استعمالات العرب ، وإن لم ينصّ اللغويون على ذلك ، أو نصّوا على غيره.

* ففي مادة « جمأ » قال : « وبعير مجمأ ـ كمصعب ـ إذا كانت أسنانه داخلة ؛ قال :

إلى مجمآت الهام صعر خدودها

[ معرّقة الإلحى سباط المشافر ]

والذي قاله الصاغاني في العباب هو : والإجماء : أن تكون غرّة الفرس أسيلة داخلة ؛ وفرس مُجمَأ الغرّة ، قال :

إلى مجمَآت الهام صعر خدودها

معرّقة الإلحى سباط المشافر

ونقل مثله في هامش بعض نسخ التكملة.

وقال الزبيدي شارحا عبارة القاموس : ( وفرس أجمأ ومجمأ : أسيلة الغرّة ) داخلتها ( والاسم الإجماء ) قال :

إلى مجمآت الهام صعر خذودها

معرّفة الإلحى سباط المشافر

والسيّد المصنّف كان قد ذكر من قبل أن الإجماء هو إسالة غرة الفرس ، فهي مجمئ كمحسن ، وأجماء كحمراء : أسيلتها.

وقد شرح هنا هذا البيت الشعري واقتضى معنى « مجمأ » وصفا للناقة لا للفرس ، لأنّ البيت ظاهر في إرادة وصف شدّة تحمّل هذه البعران للسير والتعب ، خصوصا وانّ المشافر مختصة بالبعير ، وتقابلها الجحفلة للفرس ، وإن كانت المشافر قد تستعمل للفرس مستعارة من استعمالها للابل ، ويؤيد فهم السيّد المصنّف أيضا ،

٢٤٤

وصفها بـ « معرّقة الإلحى » حيث وصفها بانها معروقة الإلحى من السير والتعب ، حتّى أنّ مشافرها سباط بارزة من الضعف.

* وفي مادة « هنأ » قال : « واستهنأه : استمرأه ، واستعطاه ، واستطعمه ، واستكفاه » ؛ قال عديّ بن زيد :

نحسن الهنء إذا استهنأتنا

و دفاعا عنك بالأيدي الكبار (١)

فهنا جاء السيّد المصنّف بهذا الشعر شاهدا على معنى الاستكفاء ، أي نحسن الاستكفاء إذا استكفيتنا ، وهذا التفسير لهذه اللقطة لعلّه متعيّن في هذا البيت ، لأنّ عجزه يدلّ على ذلك « ودفاعا عنك بالأيدي الكبار » ، فإنّ البيت يراد منه الاستنصار والدفاع ، فلذلك استشهد به السيّد المصنّف على هذا المعنى ، وعدل عمّا فعله بعضهم من الاستشهاد بهذا البيت على معنى الاستعطاء ، وفسّروا « الايدي الكبار » بالمنن والعطايا.

ففي لسان العرب : واستهنأ الرجل : استعطاه. وانشد ثعلب :

نحسن الهنء إذا استهنأتنا

و دفاعا عنك بالأيدي الكبار

يعني بالأيدي الكبار المنن.

وفي القاموس والتاج ( واستهنأ ) الرجل ( : استنصر ) أي طلب منه النصر ، نقله الصاغاني ( و ) استهنأه أيضا ( استعطى ) أي طلب منه العطاء ، انشد ثعلب : نحسن الهنء ... الخ.

وفي الافعال للسرقسطي : هنأتُ الرجل ... أعطيته ، وأنشد أبو عثمان لعدي بن زيد :

__________________

(١) كتب العجز في هامش نسخة « ش ».

٢٤٥

ننجد الهنء إذا استهنأتنا

و دفاعا عنك بالأيدي الكبار

قوله « ننجد » نكثر ، ومنه نأقة نجود وهي الغزيرة (١).

فالسيّد المصنّف هنا يذهب إلى أن الاستهناء في هذا البيت هو بمعنى الاستكفاء ، لا الاستعطاء ، فلو أنّهم فعلوا كالصاغاني في تكملته لكان أوضح وأجود وأبعد عن اللبس ، حيث استشهد على معنى الاستعطاء ببيت لابي حزام العكلي ، فقال : والاستهناء الاستعطاء ، قال أبو حزام العكلي :

ألزّي مستهنيء في البديء

فيرمأ فيها ولا يبذؤه

وكذلك لو اقتصروا على استشهادهم ببيت عروة بن الورد :

ومستهنى ، زيد أبوه ، فلم أجد

له مدفعا فاقني حياءك واصبري (٢)

لكان أجود ، وقد ذكروا هذا البيت مستشهدين به على معنى الاستعطاء ، فكانّ السيّد المصنّف لا يرتضي استشهادهم ببيت عدي بن زيد على معنى الاستعطاء ، ولذلك فسّره بالاستكفاء والاستنصار فدقق في شرح البيت واقتنص منه المعنى واستشهد به على الاستكفاء لا الاستعطاء.

* وفي مادة « ودأ » قال السيّد المدني : « المودّأ ، كمعظّم : القبر ، وبهاء : المهلكة والمفازة ».

فأمّا كون المودّأة بهاء بمعنى المهلكة والمفازة ، فمما لا كلام فيه ، وقد أطبق على نقله أهل أصل اللغة بلا نزاع.

وأمّا « المودّأ » بمعنى القبر كما نقله السيّد المصنّف ، فلم يذكروه ، واقتصروا

__________________

(١) الأفعال ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) كما في اللسان ، والتهذيب ٦ : ٤٣٢ عند قولهم « استهنأ فلان بني فلان فلم يهنئوه » أي سألهم فلم يعطوه.

٢٤٦

على نقل ما قاله ابن الاعرابي من أنّ المودّأة هي حفرة الميت.

ففي التهذيب : أبو عبيد عن أبي عمرو : الأرض المودّأة المهلكة ، وهي في لفظ المفعول به ... قال : وقال ابن الاعرابي : المودّأة حفرة الميت ...

وقال ابن شميل : يقال : تودّأت على فلان الأرض وهو ذهاب الرجل في أباعد الأرض حتّى لا يدري ما صنع ... وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم ، يقال : تودّأت عليه الأرض فهي مودّأة ، قال : وهذا كما قيل : أحصن فهو محصن ، وأسهب فهو مسهب ، وألفج فهو ملفج ، وليس في الكلام مثلها. (١)

وفي العباب : أبو عبيد : المودّأة المهلكة والمفازة ، قال : وهي على لفظ المفعول به. أبو زيد : ودّأت عليه الأرض توديئا ، إذا سوّيت عليه الأرض ؛ قال رجل من بني ضبة يرثي أخاه أبيّا :

أأبيّ إن تصبح رهين مودّا

زلج الجوانب قعره ملحود

وفي التكملة : وقال ابن الأعرابي : المودّأة حفرة الميت.

وفي الصحاح : أبو عبيد : المودّأة المهلكة والمفازة ... أبو زيد : ودّأت عليه الأرض توديئا ، إذا سوّيت عليه الأرض ، قال الشاعر الضبي يرثي أخا أبيّا : أأبيّ إن تصبح ... البيت.

وفي لسان العرب : قال ابن شمّيل : يقال : تودّأت على فلان الارض ، وهو ذهاب الرجل في أباعد الأرض حتى لا تدري ما صنع ... وتودّأت عليه الأرض غيّبته وذهبت به ... وودّأت عليه الأرض توديئا : سوّيتها عليه. قال زهير بن مسعود الضبي يرثي أخاه أبيّا :

__________________

(١) التهذيب ١٤ : ٢٣٤.

٢٤٧

أأبىّ إن تصبح رهين مودّا

زلج الجوانب قعره ملحود ...

أبو عمرو : المودّأة : المهلكة والمفازة ، وهي في لفظ المفعول به ... وقال ابن الاعرابي : المودّأة حفرة الميت ، والتودئة الدفن.

وفي التاج شارحا متن القاموس : ( و ) قال أبو عمرو ( المودّأة كمعظّمة : المهلكة والمفازة ) جاءت على لفظ المفعول به ، ... وقال ابن الاعرابي : المودّأة : حفرة الميت ، والتودئة الدفن ، وانشد :

لو قد ثويت مؤدّا لرهينة

زلج الجوانب راكد الأحجار

( وودّأ عليه الأرض توديئا : سوّاها ) عليه ، قال زهير بن مسعود الضبيّ يرث أخاه أبيّا :

أأبيّ إن تصبح رهين مودّإ

زلج الجوانب قعره ملحود ...

فكلماتهم صريحة في أنّ المودّأة هي المفازة والمهلكة ، وأنّها جاءت على لفظ المفعول ، لأنّ القياس يقتضي أنّ تكون « مودّئة » على صيغة الفاعل ، وأما حفرة الميت ، فان الوحيد الذي نقلها هو أبو عبيد عن ابن الأعرابيّ.

فهل هي من قولهم « ودّأتنا الأرض غيّبتنا » وقولهم « تودأت عليه الأرض فهي مودّأة » وجاءت على لفظ المفعول؟ أم من قولهم : « ودّأت عليه الأرض توديئا سوّيتها عليه فهي مودّأة » اسم مفعول على القياس؟

ظاهر استعمالاتهم وكلماتهم أنّها من الثاني ، لأنّهم أنشدوا عنده قول زهير بن مسعود الضبي في رثاء أخيه أبيّ كما في اللسان وغيره.

وبما أنّه كذلك فصل السيّد المصنّف « المودّأ » بمعنى القبر عن المودّأة بمعنى المفازة والمهلكة ، لأنّ اللفظة الأولى على القياس ، والثانية على لفظه المفعول ، مع أن حقّها ان تكون على لفظة الفاعل.

٢٤٨

ويؤيد ما فعله السيّد المدني من فصل المعنيين ، أنّ ما ورد بمعنى القبر ـ والذي عبر عنه ابن الاعرابي بحفرة الميت ـ ورد في الشعر بلا هاء ، « رهين مودّإ » ، فكأنّ ابن الأعرابي أنّث وقال « المودّأة » باعتبار « الحفرة » وإن كان أصل ما عن العرب هو « المودّأ » بمعنى القبر.

ويؤيّد ذلك ما في شرح حماسة أبي تمام للخطيب التبريزي ، حيث روى البيت :

أأبيّ إن تصبح رهين قرارة

زلخ الجوانب قعرها ملحود

وقال في شرح ما نحن فيه : يعني بـ « قرارة » القبر ، والقرار والقرارة واحد ، ودخول الهاء وسقوطها في أسماء المواضع كثير ، نحو دار ودارة ومكان ومكانة ومرقب ومرقبة ، فإذا دخلت الهاء كان أخصّ. (١)

* وفي مادة « أوب » قال : « الأوب ، كثوب : المطر ، والسحاب ، والريح ... ».

ولم تذكر المعاجم المتداولة المطر من معاني الأوب ، وذكرت في مقابل ذلك النّحل من معاني الأوب ، في حين لم يذكره السيّد المصنّف في طرازه.

وقد أخذ اللغويون تفسير الأوب بالنّحل من خلال تفسيرهم بيت شعر للمتنخل الهذلي ، قاله يصف عزّ هضبة ومنعتها :

ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّتها

إلاّ السحاب وإلاّ الأوب والسّبل

قال السكّري في شرحه : والأوب : رجوع النّحل ، والسّبل : القطر حين يسيل. (٢)

__________________

(١) شرح الحماسة ٣ : ٤٤.

(٢) شرح أشعار الهذليين ٣ : ١٢٨٥.

٢٤٩

وفي التكملة : الأوب : السحاب ، والأوب الريح ، والأوب جماعة النّحل ، قال المتنخّل الهذلي ـ واسمه مالك بن عويمر ـ يرثي ابنه أثيلة :

ربّاء شمّاء لا يدنو لقلّتها

إلاّ سحاب وإلاّ الأوب والسّبل

وفي اللسان : الاوب النحل ، وهو اسم جمع ؛ كأنّ الواحد آيب ، قال الهذلي : ربآء شمّاء ... البيت ، وقال أبو حنيفة : سمّيت أوبا لإيابها إلى المباءة ، قال : وهي لا تزال في مسارحها ذاهبة وراجعة ، حتّى إذا جنح الليل آبت كلّها ، حتّى لا يتخلّف منها شيء.

وذكر الفيروزآبادي في القاموس النحل من معاني الاوب ، وشرح عبارته الزبيدي مستدلاّ بقول الهذلي آنف الذكر ، ثمّ نقل قول أبي حنيفة في ذلك.

فواضح أنّ الجميع أخذوا المعنى من قول المتنخل الهذلي ، مفسّرين للأوب بالنحل ، لكن السيّد المصنّف لم يرتض هذا التفسير لأنّه لا يتلائم مع معنى البيت الشعري تماما ، وإن كان له وجه فضعيف ، ولذلك أعرض المصنف رحمه‌الله عنه ، لأنّ مجرّد رجوع النحل إلى بيوتها ليلا يصحح وصفها بالأوب ، ولكن لا يصححّ وصف العلوّ والشمم في الجبال ، لأنّ النحل لا يرجع إلى خصوص الاماكن المرتفعة من الهضاب ، بل يرجع إلى بيوته اينما كانت ، فإذن يكون مراد الشاعر في وصفه عن الهضبة ومنعتها غير ما ذكروه ، إذ كون الاوب بمعنى المطر انسب واوفق بهذا الوصف ، لأنّ المكان العالي المرتفع لا يصله إلاّ السحاب والمطر والسّبل ، ووصفه بذلك هو عين المبالغة في علوّه.

فالمطر يسمّى أوبا ويسمّى رجعا ، قال الزمخشري : سمّي المطر رجعا ، كما سمّي أوبا ، قال :

ربّاء شماء لا يأوي لقلّتها

إلاّ السحاب وإلاّ الاوب والسّبل

٢٥٠

تسميةً بمصدري رجع وآب ، وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثمّ يرجعه إلى الأرض ، وأرادوا التفاؤل فسمّوه رجعا وأوبا ، ليرجع ويؤوب ، وقيل لأنّ الله يرجعه وقتا فوقتا. (١)

وقال القرطبي في تفسيره : وقد يسمّى المطر أيضا أوبا كما يسمّى رجعا ، قال :

ربّاء شماء لا يأوي لقلّتها

إلاّ السحاب وإلاّ الاوب والسّبل (٢)

والذي يؤيّد ما ذهب إليه السيّد المدني ، قول إمام البلاغة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في خطبته الشقشقية : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السّيل ، ولا يرقى إليّ الطير (٣) ...

قال ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه‌السلام « ينحدر عني السيل » : يعني رفعة منزلته عليه‌السلام ، كأنّه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان ، قال الهذلي :

وعيطاء يكثر فيها الزليل

وينحدر السيل عنها انحدارا (٤)

وهنا تتجلى دقة السيّد المصنّف في اقتناص المعاني ، وإثبات ما هو الصحيح الموافق لكلام العرب ، دون النقل المجرّد بلا تدقيق ولا تحقيق ، ولذلك لم يتابعهم في تفسيرهم الاوب بالنحل.

وتتضح هذه الميزة في منهجيته في تدوين اللغة بما لا يقبل الشك ، حيث صرّح برفضه لتفسيرهم « الجأب » ، في مادة « جأب » حيث قال :

__________________

(١) الكشاف ٤ : ٧٣٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ : ١٠.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٣١ / الخطبة ٣.

(٤) شرح النهج ١ : ١٥٢.

٢٥١

« وظبية وبقرة جأبة المدرى ، أي ملساء القرن أو غليظته ، قيل : وهو كناية عن صغر سنّها ، لأنّ القرن أوّل ما يطلع يكون غليظا ثمّ يدقّ ، ويأباه قول طرفة :

جأبة المدرى خذول مغزل

تنفض الضّال وأفنان السّمر

فإن المغزل ذات الغزال ، ولا ظبية تكون مغزلا أوّل ما يطلع قرنها ».

والسيّد المصنّف أشار هنا إلى تغليط من ذهب إلى أنّ الجأبة المدرى هي الظبية حين يطلع قرنها.

ففي التهذيب : أبو عبيد ، عن أبي عبيدة : جأبة المدرى من الظباء ـ غير مهموز ـ حين طلع قرنه. ويقال : الملساء اللينة القرن. وقال شمر : جأبة المدرى أي جائبته ، أي حين جاب قرنها الجلد فطلع. (١)

وفي الصحاح : ويقال للظبية حين طلع قرنها : جأبة المدرى ... قال بشر :

تعرّض جأبة المدرى خذول

بصاحة في أسرّتها السّلام

وصاحة : جبل ، والسلام : شجر ، وإنّما قيل : جأبة المدرى ، لأنّ القرن أول ما يطلع يكون غليظا ثمّ يدقّ ، فنبّه بذلك على صغر سنها.

وفي القاموس : والظبية أوّل ما طلع قرنها جأبة المدرى ، لأنّ القرن أوّل طلوعه غليظ ، ثمّ يدق. وشرحها الزبيدي بعين ما نقلناه عن الصحاح.

ونقل ابن منظور في اللسان عين ما في الصحاح.

وفي المحيط : والجأبة : الظبية التي قد تمّت وأسنّت وطلع قرنها (٢). فذهب

__________________

(١) التهذيب ١١ : ٢٢٠.

(٢) المحيط ٧ : ٢٠١.

٢٥٢

إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنّه القرن أول ما يطلع.

وقال الزمخشري في الاساس : وظبية وبقرة جأبة المدرى : شديدة القرن ، قال طرفة يصف ظبية ذات غزال :

جأبة المدرى خذول مغزل

تنفض الضّال وأفنان السّمر

وهنا تبدو دقّة السيّد المصنّف في اقتناص المعاني وفصل بعضها عن بعض ، ولذلك لاحظ ما نقله الازهري والجوهري عن أبي عبيدة وشمر ، وما نقله الصاحب والفيروزآبادي وابن منظور وغيرهم ، ثمّ لاحظ ما نقله الزمخشري ، فخرج بنتيجة لغوية متّزنة من خلال الشاهد الشعري واستعمالاته ، فتخطى تصريحات من صرّحوا أن معناها القرن اول ما يطلع وإن كانوا من عمالقة اللغة ، لأنّ ما اعتمدوا عليه من الشواهد يغلّطهم ويحكي غير ما توهّموه ، فإنّ شعر بشر وشعر طرفة ، كلاهما فيه أنّ الظبية الموصوفة « خذول » وهي من الظباء والبقر التي تخذل صواحبها وتنفرد مع ولدها (١) ، ومعنى هذا أنّ عندها ولدا ، فكيف يستقيم هذا مع قولهم إنّها مكنى عليها بالصغر وبدو طلوع قرنها؟! وإذا قلنا إنّ الخذول هي مطلق المتخلّفة عن القطيع المنفردة عن صواحبها ، فهنا يبقى قول طرفة « مغزل » أي انها ذات غزال ، وهذا لا محالة دليل على كبر سنّها واستواء قرنها ، لا إنّ قرنها طالع توّا. وهذا ما فات على الكثير من اللغويين ولم ينبهوا عليه ، التفت إليه السيّد المصنّف ونبه عليه مصرّحا بذلك ، وأبان عن منهجه في فهم اللغة وتدوينها.

* ومن حسنى فصله للمعاني بعد اقتناص الصحيح منها ، قوله في مادة « فطأ » :

« ورجل أفطأ : أفطس أو دونه ؛ وذلك إذا كان في أنفه تطامن كأنّه فطس. وهو بيّن

__________________

(١) انظر مادة « خذل » من لسان العرب ١١ : ٢٠٢.

٢٥٣

الفطأة ، محرّكة. والأفطأ أيضا : الأقعس ، وتفاطأ تقاعس ».

وهذه العبارة واضحة جدّا في أنّ الأفطأ تارة ياتي بمعنى الأفطس ، وتارة اخرى بمعنى الأقعس ، وأما عبارات أكثر اللغويين ففيها من الخلط والمزج ما لا يهتدى معه إلى المراد من نقولاتهم بسهولة :

ففي الصحاح : الفطأة : الفطسة. رجل أفطأ بيّن الفطأ وفطئ البعير ، إذا تطامن ظهره خلقة.

وفي العباب : الفطأة ـ بالتحريك ـ الفطسة ، ورجل أفطأ بيّن الفطإ ، وكان مسيلمة الكذاب أفطأ. وفطئ البعير إذا تطامن ظهره خلقة.

وفي المحيط : بعير أفطأ الظهر ، أي متقاعس جدّا ، والفعل فطئ يفطأ فطأ ، وهو الأفطس (١). وهذه العبارة توهم لأوّل وهلة أنّ قوله « هو الأفطس » يرجع إلى معنى المتقاعس ، مع انه أراد بالضمير « هو » الإنسان ، لأنّهم دأبوا كما رايت وترى. على التمثيل للقعس بالبعير وللفطس بالإنسان.

وفي العين : الفطأ في سنام البعير ، بعير أفطأ الظهر ، فطئ يفطأ فطأ ، وتفاطأ فلان ، وهو أشدّ من التقاعس (٢).

وفي المقاييس : يقال للرجل الأفطس : الأفطأ. ويقولوا : فطئ البعير : إذا تطامن ظهره خلقة (٣).

وفي القاموس بشرح التاج : ( الفطأ محرّكة ، والفطأة بالضمّ ) الفطسة ، هو ( دخول الظهر ) وقيل : دخول وسط الظهر ( وخروج الصدر ، فطئ كفرح ) فطآء ( فهو

__________________

(١) المحيط ٩ : ٢٢٥.

(٢) العين ٧ : ٤٥٩.

(٣) المقاييس ٤ : ٥١٠.

٢٥٤

أفطأ ) أفطس ، والأنثى فطآء ( والفطأ ) محرّكة ( الفطس ) ورجل أفطأ بيّن الفطاء.

وهذه العبارة موهمة ، خالطة بين الفطس في الأنفس ، والقعس في الظهر ، على أنّ كل عباراتهم توهم اختصاص القعس بالبعير ، واختصاص الفطس بالإنسان ، مع أنّه ليس كذلك ، ولعلّ عبارة اللسان أوضح من الجميع واكثرها تبيينا للمعنيين والفصل بينهما ، وإيضاح عموم استعمالهما للإنسان وغيره ، حيث قال :

الفطأ : الفطس ، والفطأة : الفطسة. والأفطأ : الافطس. ورجل أفطأ بيّن الفطإ ، وفي حديث عمر : أنّه رأى مسيلمة اصغر الوجه أفطأ الأنف دقيق الساقين.

والفطأ والفطأة : دخول وسط الظهر ، وقيل : دخول الظهر وخروج الصدر. فطئ فطأ ، وهو أفطأ ، والأنثى فطآء ، واسم الموضع الفطأة ، وبعير أفطأ الظهر كذلك.

وتفاطأ فلان ، وهو أشدّ التقاعس.

فهذه عباراتهم كلها ، فيها التشبيه والتطويل وعدم الوضوح الذي ربّما اوقعهم فيه اجترازهم لكلمات من قبلهم أو اعتمادهم على فهم السامع في تلك الازمان ، وأما عبارة السيّد المصنف فهي على اختصارها وقصرها وافية بالمطلب على احسن وجه ، مفصّلة بين الأفطا بمعنى الأقعس ، والأفطأ بمعنى الأفطس ، رافعة توهّم اختصاص الاقعس بالبعير.

هذا كله مع تعبيره بالأقعس ، عادلا عن التعبير بدخول الظهر وخروج الصدر.

وبالتالي فإنه اقتنص المعاني وفصلها عن بعضها ، ورفع التوهم ، ووفي المطلب بأحسن وجه ، بحيث لا ترى مثله في معاجم اللغة.

* ومثل ذلك قوله في مادة « كرثأ » : « الكرثئ ، كحصرم : قيض البيض ، والنبت الكثيف الملتف ، والغيم العظيم المتراكم ، واحدته بهاء ».

فإذا لاحظنا ما نقله السيّد المصنّف ، وقارنّاه مع ما في المعاجم اللغوية تبين لنا

٢٥٥

مقدار براعته واقتناصه للمعاني وفصله لها بما لا يدع مجالا للخلط والالتباس ، فإن اللغويين ذكروا هذه المفردات التي نقلها المصنّف في « كرثأ » و « كرفأ » (١) ، ففي مادة « كرثأ ».

قال الصاغاني في التكملة : أهمله الجوهري. وقال الاصمعي : الكرثئ ـ بالثاء المنقوطة بثلاث ـ السحاب المرتفع المتراكم ، وقشر البيض الأعلى الذي يقال له القيض ، لغة في الكرفئ بالمعنيين ، وكأنّهم أبدلوا الثاء من الفاء ، كقولهم : جدف وجدث ، الكرثأة : النبت المجتمع الملتف ...

وفي العباب : الكرثأة : النبت المجتمع الملتفّ ... الأصمعي : الكرثئ بالكسر السحاب المرتفع ... إلى آخر ما نقله في التكملة عن الأصمعي.

وفي المحيط : الكرثئ : لغة في الكرفئ ، وهو من السحاب المتراكم ، وقيل : الخفيف الجائل من السحاب ، وكذلك الكرثأة ... والكرثأة النبت المجتمع الملتف (٢).

وفي اللسان : الكرثئة : النبت المجتمع الملتف ... والكرثئ من السحاب.

وقد اختصر الفيروزآباديّ كلماتهم فقال : الكرثئ كزبرج : السحاب المرتفع المتراكم ، وقيض البيض ، وبهاء ـ وقد يفتح (٣) ـ النبت المجتمع الملتفّ.

__________________

(١) وحكم بعضهم بزيادة الهمزة فذكروها في « كرث » و « كرف » فلا تغفل.

(٢) المحيط ٦ : ٢٣٩.

(٣) فات على السيّد المصنّف أن يذكر هذه اللغة ـ أعني الفتح ـ في معنى النبت المجتمع الملتفّ. ولغة الفتح منقولة أيضا في « الكرثأة » بمعنى السحاب المتراكم ، وقد فاتت على السيّد المصنّف ، كما فاتت على الفيروزآبادي في هذا الموضع ، مع أنّها منقولة في المحيط ٦ : ٢٣٩. هذا ولعلّ السيّد المصنّف لم يذكر لغة الفتح « الكرثأة » لأنّه يرى أنّها مصدر قياسي من « كرثأ » فالتسمية بها تسمية بالمصدر ، وليست هي لغة مستقلة.

٢٥٦

وعبارته واضح في أنّه يخصّ لغة « الكرثأة » بالهاء والفتح بالنبت الملتف ، جمعا لظاهر عباراتهم في مادة « كرثأ » غافلا عن انها مبدلة من مادة « كرفأ » التي صرّحوا فيها بانّ لغة الهاء والكسر اعني « الكرثئة » واردة بمعنى السحاب وقيض البيض أيضا ، وأنّ الهاء فيها للوحدة.

ففي مادة « كرفأ » من التهذيب ، قال : أبو عبيد ، عن الأصمعي : الكرفئ واحدتها كرفئة ، وهي قطع متراكمه من السحاب ، وهي الكرثئ أيضا بالثاء (١).

وفي الصحاح : الكرفئ السحاب المرتفع الذي بعضه فوق بعض ، والقطعة منه كرفئة. ونقلها عنه في اللسان والتاج.

وفي لسان العرب : الكرفئ : قشر البيض الاعلى ، والكرفئة قشرة البيضة العليا ...

والكرفئ من السحاب مثل الكرثئ.

واستدركها الزبيدي على القاموس في مادة « كرفأ » فقال : الكرفئة قشرة البيض العليا اليابسة.

وقال أبو الفرج في الأغاني : قال الأصمعي : الكرفئة وجمعها كرفئ : قطع من السحاب بعضها فوق بعض (٢).

فتصريحاتهم هذه تدل على أنّ « الكرفئة » بالافراد واردة بمعنى السحاب وقيض البيض أيضا ، وأنّ الهاء للافراد ، وأن الجمع هو الكرفئ ، وبما أنّ الثاء مبدلة عن الفاء ، فيكون حكمهما واحد ، وقد التفت السيّد المصنّف إلى ذلك وقرّره ، مستفيدا من الإبدال ، وقرّر المعاني على ما هي عليه وأحسن تفصيلها ، في حين اننا لا نجد ذلك في المعاجم إلاّ بشقّ الأنفس.

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ١٩٣.

(٢) الاغاني ١٥ : ٩٣.

٢٥٧

ل ـ ذكره للفوائد اللغوية والنحوية والصرفية ، وجمعه للأقوال ، وآراؤه فيها.

ومن الميزات التي امتاز بها معجم « الطراز » ، هي ما اهتمّ به المصنّف فى منهجه ، من جمعه وتتبّعه للفوائد اللغوية والنحوية والصرفية ووجوه الاشتقاق ، وإسقاطها على مواضعها المختصة بها ، فهو لطول باعه وسعة اطلاعه في هذه المجالات ، ينتخب المباني من الكتب المختصّة ويطبّقها في منهجه في تدوينه للّغة ، بحيث تأتي الفائدة المذكورة مطبقة في موضعها ، وحاكية عن منهج ورأي السيّد المصنّف فيها.

هذا في مجال ، وفي مجال آخر في هذا المضمار يحرص السيّد المصنّف على ذكر الاختلافات الموجودة في الموضع المختلف فيه ، واستعراضها ، ربّما يعرضها عرضا بحتا ، وربّما ظهر خلالها ترجيحه للرأي الذي يذهب إليه من بينها.

وفي مجال ثالث في هذا الإطار يظهر السيّد المصنّف شخصيته متكاملة متينة خلال طرحه لآرائه بصراحة وقوّة ، ذاكرا ما يرتأيه ، وإن فاتهم شيء في ذلك ذكره مصرّحا بذلك.

وهو بعد كل ذلك يوشّح فوائده تلك بالطرائف والنكت والملح والشوارد ، التي ينتقيها من كتب الأدب والشعر وموسوعات الشعراء وغيرها.

فأمّا ما يخص ذكره للفوائد اللغوية والنحويه والصرفية ، فاليك بعضها :

* قال في مادة « بأبأ » : « وبأبأته ، وبه ، بأبأة وبئباء : قلت له « بأبي أنت وأمّي » ، قال ابن جنّي : الباء من قولك « بأبي أنت » حرف جرّ ، فإذا اشتققت منه فعلا اشتقاقا صوتيّا استحال ذلك التقدير ، فقلت : بأبأت به بئباء ، وقد أكثرت من البأبأة ، فالباء الآن في تقدير

٢٥٨

الأصل وإن كنّا قد علمنا أنّها فيما اشتقّت منه زائدة للجرّ ، فالبئباء على هذا فعلال كالزّلزال ، والبأبأة فعللة كالقلقلة ».

فهنا تبنّى السيّد المصنّف ما قرره ابن جنّي من كون الباء في الأصل زائدة ، ثمّ دخولها في اشتقاق الفعل وصيرورتها من أصله ، وحلولها في فائه ، وقد علمنا مذهب السيّد المصنّف في اشتقاق هذه المتصرفات من قولهم « بأبي أنت » من خلال عرضه لرأي ابن جني ونقله له ساكتا عليه.

* وقال في مادة « بشأ » : « بشاءة ، كسحابة : موضع ، وهو في شعر خالد بن زهير الهذلي (١) ، ولا يعرف له مبدأ اشتقاق ولا تصرّف ، قال ابن جني في الخصائص : القياس فيما جاء من الممدود الذي لا يعرف له تصرّف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلا ، أن يعتقد فيها أنّها أصلية ».

* وقال في مادة « ثدأ » « وثندؤة الأنف : طرف أرنبته ، على التشبيه [ بالثندوة التي هي الثدي ] ، ووزنها فنعلة فالنون زائدة ، وقيل فعلوة ، والنون أصليّة. الجمع ثناد على النقص ».

* وقال في مادة « جيأ » : « فائدة يقال : جاء شيء ، ولا يقال : جاء جاء ، وإن كان الجائي أخصّ من « شيء » ؛ لأنّ « جاء » مسند ، والمسند إليه الفاعل ، ومعرفة المسند إليه سابقة على معرفة المسند ، فمتى عرف المجيء عرف الجائي ، فلا فائدة في الإسناد حينئذ ، والشيء قد لا يعرف مجيئه ، ولا يرد نحو « أتاني آت » ونحو قوله : « هريرة ودّعها وإن لام لائم » ، فإن التنكير في ذلك لمعنى خاص ، وكلامنا إنّما هو في « جاء جاء »

__________________

(١) وهو قوله :

رويدا رويدا والحقوا ببشاءة

إذا الجرف راحت ليلة بعذوب

٢٥٩

من غير إرادة شيء خاصّ ».

* وقال في الأثر من مادة « جيأ » : « في الدعاء « وذاهبا وجائيا » الأصل جايئا ـ بتقديم الياء على الهمزة ـ قلبت الياء همزة ك‍ « صائن » ، فصار « جائئا » بهمزتين ، فقلبت الثانية ياء لكسر ما قبلها ، أو هو على القلب ك‍ « شائك » فوزنه « فالع » ».

* وقال في الأثر من مادة « حدأ » : « فجاءت الحديّا بالوشاح. الحديّا كالثّريّا مصغّر حدأة. وروي « الحديّاة » بهاء ، وكلاهما على غير القياس. وروى الحديئة ـ بالهمز ـ وهو القياس ، فإن القيت حركة الهمزة على الياء وشددتها قلت : الحديّة ، كسميّة.

* وقال في مادة « حشأ » : « وحكي : حشأه ، أي أصاب حشاه على غير قياس. وذلك لان القياس في مثله أن يقال أحشأه ، كما تقول أجافه بمعنى أصاب جوفه ».

* وقال في مادة « خبأ » : « والمخبّأة ، بالتشديد : المحجوبة لم تتزوج بعد ؛ قال :

كأنّي إذ دخلت على ابن عمرو

دخلت على مخبّأة كعاب (١)

والخبء ، كفلس : ما خبئ ؛ تسمية بالمصدر ، كالخبأة والخبيء والخبيئة. فهو هنا ينبّه حتّى على ما قد يكون واضحا ، وهو أن التسمية بالخبء تسمية بالمصدر ».

* وقال في مادة « درأ » : « درأ الكوكب : طلع فدفع الظلام بضوئه ، ومنه : كوكب درّيء ـ كسجّين ومرّيق ـ وليس « فعّيل » بالضمّ سواهما وسوى مرّيخ للعظم الهش في جوف القرن على ما نقله أبو حيان في الارتشاف عن بعضهم ، الجمع دراريء » (٢).

* وقال في نفس المادة أيضا : وجاءهم السيل درءا ، ويضمّ : من بعد لم يشعروا

__________________

(١) الشعر لمدرك بن حصن كما في المعارف : ١٩٩. ولم يأتوا به شاهدا على المخبأة وأتى به السيّد المصنّف.

(٢) انظر ارتشاف الضرب ١ : ٩٠. وانظر العباب ١ : ٥٣ وادعاءه أنّها غير مهموزة.

٢٦٠