تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

وذكره أبو المعين النسفي في كتابه «التبصرة» قائلا : كان أبو نصر العياضي يحرص أشد الحرص على جهاد أعداء الله الكفرة ، وكان من أشجع أهل زمانه وأربطهم جأشا وأشدهم شكيمة ، وكان في العلم بحرا لا يدرك قعره ، أما في الفروع والأصول فلا يدانيه غيره ، ومن نظر في كتابه المصنف في مسألة الصفات ، وما أتى فيه من الدلائل على صحة قول أهل الحق وبطلان قول المعتزلة عرف تبحره في ذلك.

وقال أبو القاسم الحكيم السمرقندي : ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحد من أهل البدع والأهواء ، وأولى الجدال والمراء في الدين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه ـ إلا تلقاها أبو نصر العياضي مبتدئا بما يفحمه ويقطعه.

وقد تفقه أبو نصر العياضي على الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني ، تلميذ سليمان بن موسى الجوزجاني ، وتفقه عليه جماعة منهم ولداه (١).

٢ ـ أبو بكر أحمد الجوزجاني :

الجوزجاني من رجال القرن الثالث الهجري ، روى عنه أبو منصور الماتريدي (٢) ، وقد تتلمذ أبو بكر أحمد الجوزجاني على أبي سليمان الجوزجاني ، وكان في أنواع العلوم في الذروة العالية ، ومن مصنفاته : (الفروق) ، و (التمييز) ، و (التوبة) وغيرها.

٣ ـ محمد بن مقاتل الرازي :

محمد بن مقاتل هو قاضي الري ، روى عن أبي مطيع ، وقال الذهبي : إنه حدث عن وكيع وطبقته.

وقيل : تفقه على أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي (٣).

٤ ـ نصير بن يحيى البلخي :

وقد تفقه على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي (٤).

ونظرة عامة إلى شيوخ الماتريدي تبين لنا أنهم جميعا يرجعون في علمهم إلى الإمام أبي حنيفة ، فأبو بكر الجوزجاني ونصير البلخي تفقها على الإمام سليمان بن موسى بن

__________________

(١) ينظر : الجواهر المضية (١ / ١٧٧).

(٢) ينظر : الطبقات السنية (خ) ص ١٧٧٠.

(٣) ينظر : الفوائد البهية (٢ / ١٢٥) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٤) ينظر : المصادر السابقة.

٨١

سليمان الجوزجاني الذي تفقه بدوره على أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني تلميذي أبي حنيفة ، كما أن محمد بن مقاتل الرازي ونصيرا البلخي قد تفقها على الإمامين : أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة ، وأخذ محمد بن مقاتل أيضا عن محمد بن الحسن (١).

ويدلنا ذلك على أن أساتذة الماتريدي وشيوخه يتبعون في الفقه مذهب أبي حنيفة ، ومن ثم فهو يعتبر متخرجا من مدرسة أبي حنيفة وعلى يد أعلام المذهب الحنفي ، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتبع المذهب الحنفي في الفقه ، وبلغ فيه شأوا عظيما بين أقرانه.

وفيما يلي نبين في عجالة أبرز الصلات بين أبي حنيفة والماتريدي ، وهي صلات علمية ومذهبية وكلامية.

وأول هذه الصلات ما نراه عند الماتريدي من آراء أبي حنيفة الكلامية ، فقد كان لأبي حنيفة آراء كلامية ، فلقد روي عنه في علم الكلام موقفان :

الأول : يروى أن أبا حنيفة نظر في علم الكلام في مبدأ طلبه للعلم ، وبلغ في معرفة أصوله ومذاهبه مبلغا عظيما حتى غدا يشار إليه بالبنان ، فمضى عليه زمن يخاصم عنه ويناضل ؛ حتى دخل البصرة ؛ لأن أكثر الفرق بها ، وأخذ ينازع تلك الفرق ؛ لأنه كان يعد الكلام أرفع العلوم وأفضلها ؛ لكونه في أصول الدين (٢).

أما الموقف الثاني : فيتمثل في انصراف الإمام أبي حنيفة عن الكلام وانشغاله بالفقه الذي ذاع صيته فيه ، واشتهر به ، ولقد ذكر عنه أنه نهى عن الخوض في علم الكلام والاشتغال به ، وأنه ذكر أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يشتغلون بعلم الكلام مع أنهم عليه أقدر وبه أعرف ، بل نهوا عنه أشد النهي ، ولم يخوضوا إلا في الشرائع وأبواب الفقه وتعليم الناس ، ومن ثم انصرف أبو حنيفة عن الكلام إلى الفقه.

ويمكن القول : إن الماتريدي قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية التي دونها في رسائله : كالفقه الأكبر ، والفقه الأوسط ، والعالم والمتعلم ، ورسالته إلى أبي مسلم ، وهي رسائل صغيرة ، اشتملت ـ وخاصة رسالة الفقه الأكبر ـ على بيان عقيدة أهل التوحيد ، وما يصح الاعتقاد عليه ، وبعض الأدلة لبعض القضايا الكلامية ، ونفى الإرجاء.

__________________

(١) ينظر : إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٢) ينظر : الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم للهيثمي المكي (ص ٢٧) ، وإشارات المرام للبياضي (ص ١٩).

٨٢

ولا يغيب عنا في هذا المقام مناظرات أبي حنيفة مع المخالفين في العقيدة.

ولما انصرف أبو حنيفة إلى الفقه استفاد منه الماتريدي أيضا ، غير أن هناك قضايا كلامية كثيرة نشبت ولم يبد أبو حنيفة فيها رأيا أو جاءت بعد عصره ، فخاض فيها الماتريدي ونقد آراء المخالفين ، وعالج قضايا لم تكن موجودة مثل قضية المعرفة ، كما كتب بحثا تفصيليّا عن الصفات وإثبات التوحيد ، واستخدام العقل في ذلك ، كذلك كان علم الكلام غير مقبول عند أهل السنة قبل الماتريدي ، فجاء الماتريدي وأسس منه علما قائما على سوقه يلقى تأييدا ويجد قبولا لدى علماء أهل السنة (١).

وخلاصة القول : إنه إذا كان يرجع لأبي حنيفة الفضل في القيام بأول محاولة لإقامة مذهب كلامي على اعتقاد أهل السنة ، فإن للماتريدي فضل إقامة مذهب متكامل أيده بالحجة والبرهان للتعبير عن اعتقاد أهل السنة ، ولكن يبقى الماتريدي منتسبا إلى أبي حنيفة ومدرسته.

ثانيّا : تلاميذه :

قد تتلمذ على يد الشيخ أبي منصور الماتريدي كثيرون ، صاروا شيوخا وعلماء كبارا ، وأسهموا في نهضة الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في العالم الإسلامي.

ومن هؤلاء الذين تخرجوا بأبي منصور الماتريدي :

١ ـ إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد ، أبو القاسم القاضي الحكيم السمرقندي.

قال عنه أبو سعد السمعاني : روى عن عبد الله بن سهل الزاهد ، وعمرو بن عاصم المروزي ، وتفقه بأبي منصور الماتريدي (٢).

وقد تولى إسحاق قضاء سمرقند أياما طويلة ، وحمدت سيرته ، ولقب ب «الحكيم» ؛ لكثرة حكمته ومواعظه (٣).

وروى عنه عبد الكريم بن محمد الفقيه السمرقندي في جماعة (٤).

وقد توفي ـ رحمه‌الله ـ في شهر المحرم يوم عاشوراء ، سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

__________________

(١) ينظر : مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (٢ / ١٥٤ ـ ١٥٧).

(٢) ينظر : الجواهر (١ / ٣٧١ ، ٣٧٢) ، والطبقات السنية (٢ / ١٥٨).

(٣) ينظر : السابقان.

(٤) ينظر : السابقان.

٨٣

بسمرقند ، ودفن بها (١).

وذكر صاحب الطبقات السنية آخر يسمى إسحاق بن محمد أبو القاسم المعروف ب «الحكيم السمرقندي» ، ثم قال : أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام ، ثم قال : ذكره في الجواهر ، وقال : أظنه الذي قبله (٢).

والراجح أنهما شخص واحد ؛ لأمرين :

الأول : تطابق الاسمين.

الثاني : أن الشيخ المأخوذ عنه في كلتا الحالتين هو الماتريدي.

وقد جمع صاحب الفوائد البهية في ترجمة الحكيم السمرقندي بين ما ورد فيها في الجواهر المضيّة وما جاء في الطبقات (٣).

٢ ـ عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو محمد الفقيه البزدوي النسفي. قال عنه في الطبقات : تفقه على الإمام أبي منصور الماتريدي ، وسمع من منصور أبي طلحة البزدوي صاحب البخاري ، وبالبصرة من أبي علي اللؤلؤي ، وحدث ، وكان زاهدا مفتيا ، روى عنه أهل سمرقند.

وقد توفي ـ رحمه‌الله ـ في شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمائة (٤).

٣ ـ أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري :

قال عنه في الجواهر : صاحب أبي القاسم إسحاق بن محمد المعروف ب «الحكيم» (٥) ، وأستاذهما أبو منصور الماتريدي ، وعنه أخذ علم الكلام والفقه (٦). ولم نعرف له سنة وفاة.

ثالثا ـ أقرانه :

ومن أقران الماتريدي الذين صاحبوه في أثناء رحلته لطلب العلم وزاملوه :

١ ـ علي بن سعيد ، أبو الحسن الرّستغفنيّ ، وهو من كبار مشايخ سمرقند ، ومن

__________________

(١) ينظر : السابقان.

(٢) ينظر : الطبقات السنية (٢ / ١٥٩).

(٣) ينظر : الفوائد البهية (ص ٤٤).

(٤) ينظر : الطبقات السنية (٤ / ٣٧٨).

(٥) سبقت ترجمته في أوائل التلاميذ رقم (١).

(٦) ينظر : الجواهر (٤ / ٦٥).

٨٤

أصحاب الماتريدي الكبار ، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب أهل الطبقات ، وهو منسوب إلى إحدى قرى سمرقند.

ولعلي بن سعيد عدة مؤلفات ، منها : «إرشاد المهتدي» ، و «الزوائد والفوائد» (١).

وقد وقع خلاف بينه وبين الماتريدي حول مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق : فهو عند أبي منصور يكون مخطئا في الاجتهاد ، وعند أبي الحسن يكون مصيبا فيه (٢).

٢ ـ محمد بن أسلم بن مسلمة بن عبد الله بن المغيرة بن عمرو بن عوف الأزدي ، وكنيته : أبو عبد الله ، ولي قضاء سمرقند في أيام نصر بن أحمد بن أسد بن سامان الكبير (٣).

وقد توفي في شهر ربيع الآخر ، سنة ثمان وستين ومائتين (٤).

٣ ـ محمد بن اليمان ، وكنيته : أبو بكر ، الملقب بالسمرقندي الإمام ، قال عنه في الجواهر : من طبقة الماتريدي. صاحب كتاب «معالم الدين» ، وله كتاب «الرد على الكرامية» (٥).

ومن خلال دراسة شيوخ الماتريدي وتلاميذه وأقرانه نتبين أن بيئة الماتريدي كانت غاصّة بالعلماء الكبار من ذوي القدر والسبق ، كما يتضح لنا طبيعة الحياة العلمية والفكرية والثقافية الحافلة التي كان يعيشها هذا العالم الجليل أبو منصور الماتريدي ، ومدى ما بلغته من نضج وازدهار.

* * *

__________________

(١) ينظر : الجواهر (٢ / ٥٧٠) ، وتاريخ جرجان (الزيادات التي استدركها السهمي من تاريخ أسترآباذ) (ص ٤٨٨).

(٢) ينظر : الجواهر (٢ / ٥٧١).

(٣) هو نصر بن أحمد بن أسد بن سامان ، صاحب سمرقند والشاش وفرغانة ، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائتين. ينظر : الكامل (٧ / ٤٥٦) ، والنجوم الزاهرة (٣ / ٨٣ ، ٨٤).

(٤) الجواهر المضية (٣ / ٩٢) الطبقات السنية برقم (١٨٩٧).

(٥) ينظر : الجواهر (٣ / ٤٠٠) ، تاج التراجم (٦٨) الفوائد البهية (٢٠٢).

٨٥

الفصل الرابع

قيمة الماتريدي العلمية

تبين لنا مما سبق أن الماتريدي تعلم على أيدي علماء كبار ينتسبون إلى أبي حنيفة ، وأنه قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية ، ولكنه لم يكن مجرد شارح ومفصل لطريقة أبي حنيفة ، بل كان مبتكرا ، له منهجه الخاص به ومذهبه المغاير للمذاهب الكلامية الشائعة آنذاك ، ومن ثم فإن علم الكلام استوى على سوقه على يد الماتريدي.

ولكي نتعرف قيمة الماتريدي العلمية لا بد أن نعرض لأمرين :

أولا : مصنفاته :

لم يكن الماتريدي متكلما فحسب ، بل كان فقيها مفسرا ، ولعل أبرز ما يدل على علمه الواسع تلك الآثار والمصنفات الجليلة التي خلفها لنا ، وهي على النحو الآتي :

١ ـ مصنفاته في التفسير والتأويل :

وفي هذا المجال ذكرت له كتب الطبقات كتابا يسمى : «تأويلات أهل السنة» ذكره بهذا العنوان صاحب كتاب كشف الظنون (١) وهو الكتاب الذي نقدم له ونقوم بتحقيقه.

وقد عنونت له نسخة كوبريلي ب «تأويلات أبي منصور الماتريدي في التفسير» ، ويقول السمرقندي في مقدمة شرح هذا الكتاب : كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ إمام الملة أبي منصور محمد بن أحمد الماتريدي السمرقندي (٢).

وذكره أصحاب التراجم والطبقات تحت عنوان «تأويلات القرآن» ، وتحمله نسخ موجودة في تركيا وألمانيا ودمشق والمدينة المنورة وطشقند والمتحف البريطاني (٣).

وذكر صاحب كشف الظنون كتابا آخر يحمل عنوان : (تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد) ، جاء في وصفه له أنه أخذه عنه أصحابه المبرزون تلقفا ؛ ولهذا كان أسهل تناولا من كتبه ، جمعه الشيخ الإمام علاء الدين محمد بن أحمد ابن أبي أحمد السمرقندي صاحب «تحفة الفقهاء» في ثمانية مجلدات (٤).

__________________

(١) ينظر : كشف الظنون لحاجي خليفة (طبعة استانبول) (١ / ٣٣٥).

(٢) ميكروفيلم ، بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم (٣١٢٩).

(٣) انظر : تاريخ المخطوطات العربية لفؤاد سزكين.

(٤) ينظر : كشف الظنون (١ / ٣٣٦).

٨٦

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) غير كتاب (تأويلات الماتريدية) عند حاجي خليفة صاحب كشف الظنون.

وبمراجعة بعض نسخ التأويلات المنسوبة للماتريدي تبين لنا :

١ ـ أن نسخة دار الكتب المصرية التي تحمل عنوان (تأويلات أهل السنة) (١) ينقص منها الورقة الأولى ، ولكن الثانية توافق ما يقابلها من نسخة كوبريلي.

٢ ـ أن نسخة مكتبة علي باشا كاملة غير أنها لا تذكر شيئا عن المؤلف ، وتحمل اسم (تأويلات القرآن) ، وتبين من المراجعة أن نسختي دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة علي باشا مأخوذتان عن كتاب واحد ، والخلاف فقط في التسمية.

ويتضح من هذا أن هاتين النسختين هما كتاب واحد ، فالاختلاف بينهما لا يعدو الاختلاف في الاسم ، وهو للماتريدي.

أما (تأويلات الماتريدية) الذي ذكره صاحب كشف الظنون ، وذكر أن تلامذته تلقفوه عنه ، فهو على ما ذكر حتى وإن أسند في بعض نسخه إلى الماتريدي ؛ لأنه أسهل تناولا من كتبه المصنفة ، كما يؤكد ذلك مراجعة نسخة دار الكتب المصرية على الجزء الأول من نسخة (تأويلات الماتريدية).

أما ما ذكره الشيخ علاء الدين في مقدمته من أن الكتاب المسمى ب (تأويلات القرآن أو تأويلات أهل السنة) ليس مما صنفه الماتريدي بنفسه وإنما أخذه عنه أصحابه تلقفا ، فهذا يخالف ما ذكرناه سابقا ، ويخالف ما يقرره الواقع ، وما تكشفه الموازنة بين أسلوب الكتاب وكتاب التوحيد الذي اتفق المؤرخون جميعا على أنه من تأليف الماتريدي ، أضف إلى هذا أن وحدة المنهج ووحدة الأسلوب تكشفان عن أن الكتاب من عمل واحد لا جماعة.

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) الذي نقوم بتحقيقه هو لأبي منصور الماتريدي السمرقندي.

٢ ـ مصنفاته في علم الكلام :

صنف الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ عدة كتب في مجال علم الكلام ذكرتها المصادر (٢) ،

__________________

(١) مخطوط تحت رقم (٦) تفسير.

(٢) ينظر : تاج التراجم (٢٤٩ ، ٢٥٠) ، والفوائد البهية في تراجم الحنفية (١٩٥) ، معجم المؤلفين (١١ / ٣٠).

٨٧

منها :

ـ كتاب : (التوحيد) مخطوط بمكتبة جامعة كامبردج ، رقم ٣٩٨ ، ٣٦٥١ وقد طبع بمطبعة الجامعة بتحقيق الدكتور / خليف.

ـ كتاب : (المقالات) مخطوط في مكتبة كيرولو باستانبول ، رقم ٨٥٦ ، وهناك نسخة ناقصة منه بمكتبة إيمنينول باستانبول. أيضا.

ـ كتاب : (الرد على القرامطة).

ـ كتاب : (بيان وهم المعتزلة).

ـ كتاب : (رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي).

ـ كتاب : (رد أوائل الأدلة للكعبي).

ـ كتاب : (رد وعيد الفساق للكعبي).

ـ كتاب : (رد تهذيب الجدل للكعبي).

ـ كتاب : (رد الإمامة لبعض الروافض).

ولقد زاد بروكلمان كتاب (الأصول) في قائمة كتب الماتريدي ، وذكر أنه لمؤلف مجهول ، وذكر أيضا أن كتابي (التوحيد) و (المقالات) هما كتاب واحد ، بيد أنه أشار في الهامش إلى أنهما كتابان مستقلان في فهارس المرتضى (١).

ولم يحفظ لنا الزمان من هذه الكتب سوى كتاب (التوحيد) وكتاب (المقالات) ، وكتاب (التوحيد) صحيح النسبة إلى الماتريدي ، ذكرته كل كتب التراجم قديما وحديثا.

٣ ـ مصنفاته في الفقه وأصوله :

ذكرت كتب الطبقات للماتريدي في هذا المجال كتابين : كتاب (الجدل) ، وكتاب (مآخذ الشرائع) (٢).

وهذان الكتابان لهما أهميتهما ومكانتهما في أصول الفقه بين أتباع المذهب الحنفي ، فيذكر الإمام علاء الدين الحنفي في ميزان الأصول : أن تصانيف أصحابنا قسمان :

قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان ؛ لصدوره ممن جمع الأصول والفروع ، مثل

__________________

(١) ينظر : تاريخ الأدب العربي (٤ / ٤٢ ، ٤٣).

(٢) ينظر : تاريخ التراجم (٢٥٠) ، الفوائد البهية (١٥٩) ، مفتاح السعادة (٣ / ٢٢) ، معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

٨٨

(مآخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما.

وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني وحسن الترتيب ، ويذكر الإمام علاء الدين أنه قد هجر القسم الأول ؛ لقصور الهمم والتواني ، واشتهر القسم الآخر (١).

ولم يقع لنا شيء من هذين المؤلفين ، غير أن بعض كتب الأصول قد نقلت عنهما ، فقد جاء في كتاب كشف الأسرار على أصول البزدوي في أثناء الحديث عن خبر الواحد إذا خالف عموم الكتاب أو ظاهره ، وبيان الآراء في صحة تخصيص هذا العموم به : «وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي والإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين : لما أفادت عمومات الكتاب وظواهرها اليقين كالنصوص ، والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به. فأما من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند ، فيحتمل أن يجوز تخصيصها به» (٢).

وجاء في بدائع الصنائع في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم : ١٧ ـ ١٨] : «قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي : إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس ، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا ، لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور» (٣).

٤ ـ كتب أخرى :

ذكر فؤاد سزكين أن للماتريدي رسالة فيما لا يجوز الوقف فيه في القرآن (٤) ، وهي رسالة صغيرة الحجم ، مودعة بدار الكتب المصرية برقم ٣٨٤ قراءات ، وعدد صفحاتها خمس ، وتدور حول بيان المواضع التي لا يجوز الوقف عليها في قراءة القرآن ، وفيما لو تعمد الواقف عليها الوقف بأنه يكفر ، ولو وقف ساهيا فسدت صلاته ، وقد بينها الماتريدي ـ إن صحت نسبتها إليه ـ في اثنين وخمسين موضعا في القرآن.

وهذه الرسالة لم يذكرها أحد للماتريدي سوى سزكين ، ومع هذا فلا يستبعد أن تكون له ؛ لأن الماتريدي كان دائم الاهتمام بالقرآن وتأويله وبيان أحكامه.

__________________

(١) ينظر : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (١١٣ ، ١١٤).

(٢) ينظر : كشف الأسرار على أصول الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي (٣ / ٩).

(٣) ينظر : بدائع الصنائع (١ / ٨٩ ، ٩٠).

(٤) ينظر : تاريخ التراث العربي (الترجمة العربية) (٤ / ٣٧٨).

٨٩

وذكر له بروكلمان أيضا كتاب (مقتطفات في الوعظ) (١) ، ولم يذكره للماتريدي أحد سوى بروكلمان فيما نعلم من كتب الطبقات.

٥ ـ كتب نسبت إلى الماتريدي :

ومن الكتب المنسوبة إلى الماتريدي :

١ ـ كتاب : «شرح الفقه الأكبر» (٢) وهو مطبوع في حيدرآباد سنة ١٣٦٥ ه‍ ، ذكره فيننسك ، وذكر أنه راجع بعض النسخ المخطوطة لهذا الشرح فلم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي ، ورجح أن السبب في هذه النسبة وقوع بعض أقوال الماتريدي فيه ، وأيد هذا الشيخ أبو زهرة في كتابه عن أبي حنيفة ، واستند في ذلك إلى الخلاف مع آراء الأشعرية ، والمذهب الأشعري لم يتم إلا بعد الجيل الذي تلا وفاة الأشعري. ومن ثم يترجح أن نسبة هذا الشرح إلى الماتريدي نسبة غير صحيحة.

٢ ـ كتاب العقيدة ، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية مخطوطة تحت رقم (١٤٧) تيمور عقائد ، وينفي نسبته للماتريدي السبب السابق نفسه في نفي نسبة كتاب (شرح الفقه الأكبر) إليه ؛ إذ اشتمل الكتاب على الخلاف بين الأشعرية والماتريدية.

٣ ـ كتاب (شرح الإبانة) (٣) ، وهي نسبة غير صحيحة ؛ لافتقارها إلى السند ، كذلك لم نر أحدا نسب هذا الكتاب إلى الماتريدي من أصحاب كتب الطبقات ، سواء القدماء أو المحدثون ، كذلك لم يرد أن كتاب (الإبانة للأشعري) وصل إلى بلاد ما وراء النهر في عصر الماتريدي.

إذن فنسبة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذا الكتاب إلى الماتريدي غير صحيحة.

وهذه الكتب التي ذكرتها كلها مخطوطة باستثناء كتاب التوحيد ، بل إن معظم هذه الكتب مفقود.

ثانيا : ثناء العلماء على الماتريدي :

ليس غريبا ـ بعد هذا كله ـ أن يثني العلماء على الماتريدي ثناء عظيما ، ولقد رأينا كيف لقبوه بألقاب هو لها أهل ، فقد لقبوه ـ كما ذكرنا ـ بإمام الهدى ، وإمام المتكلمين ، ومصحح عقائد المسلمين وغيرها.

__________________

(١) ينظر : تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية) (٤ / ٤٣).

(٢) ينظر : معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٣) ينظر : العقيدة الماتريدية (رسالة دكتوراه مخطوطة) للدكتور علي أيوب (٢٦٠).

٩٠

ولن نحصي ما أثنى عليه به العلماء ، ومن ثم نقتطف بعض الومضات الكاشفة عن تقدير العلماء له والمبرزة لمكانته العالية عندهم.

ففي الفواكه الدواني يأتي الماتريدي وأبو الحسن الأشعري على رأس علماء أهل السنة ، فيقول : «كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي» (١).

قال صاحب النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب الوزاني عند كلامه عن الماتريدي : «وكان معاصرا للأشعري ، وسبقه إلى نصرة أهل السنة» (٢).

والفرقة الناجية ـ كما يرى بعض العلماء ـ هم الأشاعرة مع الماتريدية الذين تابعوا في الأصول علم الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي (٣).

ويراه بعضهم رئيس مشايخ سمرقند ، قال صاحب كشف الأسرار : «وهو مذهب مشايخ سمرقند ، رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم‌الله» (٤).

وقال عنه التميمي : إنه قد فاق الأقران وتجمل به الزمان ، وشاعت مؤلفاته ، وسارت مصنفاته ، واتفق الموافق والمخالف على علو قدره وعظمة محله ، فإنه كان من كبار العلماء الأعلام الذين بعلمهم يقتدى وبنورهم يهتدى.

قال التفتازاني : إن المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري ، أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة.

وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ، وهو محمد بن محمد ، كان يلقب بإمام الهدى (٥).

ويقول أبو معين النسفي في التبصرة : ولو لم يكن في الحنفية إلا الإمام أبو منصور الماتريدي الذي غاص في بحور العلم ، واستخرج دررها وأتى حجج الدين ، فزين

__________________

(١) ينظر : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (١ / ١٥).

(٢) ينظر : الفواكه الدواني (٢ / ١٠٣) ، حاشية الجمل على المنهج (٥ / ٣٨٧) ، وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي (٢ / ٤٩٢) ، والزواجر عن اقتراف الكبائر (١ / ١٦٥).

(٣) ينظر : فتوح الوهاب (السابق) (٥ / ٣٨٧) ، ورد المحتار على الدر المختار (١ / ٤٣) ، وبدائع الصنائع (١ / ٣٧ ، ١٣٥).

(٤) ينظر : كشف الأسرار (١ / ٢٩٧).

(٥) ينظر : الروضة البهية ص ٤٠٣.

٩١

بفصاحته ، وغزارة علومه ، وجودة قريحته غررها ، حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم السمرقندي أن يكتب على قبره حين توفي : هذا قبر من حاز العلوم بأنفاسه واستنفد الوسع في نشره وأقياسه ، فحمدت في الدين آثاره ... اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية ما يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين ؛ ولهذا كان أستاذه أبو نصر العياضى لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر ، وكان كل من رآه من بعيد نظر إليه نظر المتعجب وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ)(١) [القصص : ٦٨].

ويذكر أيضا أنهم قالوا في تقديره : كان من أكابر الأئمة وأوتاد الملة.

وقال الكفوي في ترجمته : إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين ، نصره الله بالصراط المستقيم ، فصار في نصرة الدين القويم ، صنف التصانيف الجليلة ، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.

قال صاحب الروضة البهية : اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين : أحدهما : الإمام أبو الحسن الأشعري ، والثاني : الإمام أبو منصور الماتريدي ، فكل من اتبع واحدا منها اهتدى وسلم من الزيغ والفساد في عقيدته (٢).

وقال العلامة الدردير : واشتهر الأشاعرة بهذا الاسم ـ أي أهل السنة ـ في ديار خراسان والعراق والحجاز والشام وأكثر الأقطار. وأما ديار ما وراء النهر فالمشهور فيها بهذا الاسم هو أبو منصور الماتريدي وأتباعه المعرفون بالماتريدية ، وكلام الفريقين على هدى ونور (٣).

وفي مفتاح السعادة : إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان : أحدهما : حنفي ، والآخر : شافعي ، أما الحنفي : فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي إمام الهدى ... وأما الآخر الشافعي : فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين ، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين ، والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري(٤).

ويرى الشيخ محمد زاهد الكوثري : أنه إذا أطلق أهل السنة فالمراد بهم الأشاعرة

__________________

(١) ينظر : تبصرة الأدلة (١ / ٣٩٢).

(٢) ينظر : الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (١١٧٢).

(٣) ينظر : شرح الخريدة البهية ص (١٠٢).

(٤) ينظر : مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ج ٢ ص ١٥١.

٩٢

والماتريدية ، وعند التحقيق والاستقراء ثلاث طوائف :

الأولى : أهل الحديث ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية من الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

الثانية : أهل النظر العقلي وهم الأشعرية ، والحنفية ، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.

الثالثة : أهل الوجدان والكشف ، وهم الصوفية ومبادئهم هي مبادئ أهل النظر والحديث في البداية ، والكشف والإلهام في النهاية (١).

وقد ذكر العلامة البغدادي : أن أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث ، وأخرج من هؤلاء الحشوية الذين يشترون لهو الحديث ، ومن أهل السنة فقهاء هذين الفريقين ـ الرأي والحديث ـ وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث.

ويقول الزبيدي عن الماتريدي في شرحه على الإحياء : وحاصل ما ذكروه أنه كان إماما جليلا مناضلا عن الدين مجليا لعقائد أهل السنة ، قطع المعتزلة وذوى البدع في مناظراتهم ، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم (٢).

وقال عنه صاحب إشارات المرام العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي ـ من علماء القرن الحادي عشر الهجري ـ : «وحقق الأصول في كتبه بقواطع الأدلة ، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية».

فالماتريدي على هذا محقق مدقق ، قال الكوثري يصف تدقيقه وتحقيقه : إلى أن جاء إمام أهل السنة فيما وراء النهر أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي المعروف بإمام الهدى ، فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها ، فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد (٣).

يدلنا هذا كله على مكانة الماتريدي العالية ، وقدمه الراسخة في العلم ، وذيوع شهرته ، ومحبة العلماء له ، واقتدائهم به ، وأخذهم عنه ، فرحم الله ـ تعالى ـ الشيخ الماتريدي لقاء ما قدمه للعقيدة الإسلامية الصحيحة من جهود مشكورة في الذب عنها ، ودحض شبه المغرضين حولها.

__________________

(١) ينظر : تعليق الكوثري على إشارات المرام للبياضي ص ٢٩٨.

(٢) ينظر : إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٣) ينظر : مقدمة إشارات المرام (ص ٦ ، ٧).

٩٣
٩٤

الباب الثالث

الفرق والمذاهب الإسلامية

ويشتمل على الفصلين الآتيين :

الفصل الأول : الفرق السياسية.

الفصل الثاني : المذاهب الاعتقادية.

٩٥
٩٦

الفصل الأول

الفرق السياسية

السياق التاريخي لنشأة الفرق الإسلامية :

إن الحديث عن الفرق الإسلامية ومذاهبها السياسية وآرائها العقدية يمت بأوثق الأسباب للأحداث السياسية التي ألمت بالمجتمع الإسلامي منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما شجر بين المسلمين من وجوه الخلاف حول بعض المسائل التي طرأت بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعظم مسألة نشب فيها الخلاف ووقع التخاصم والنزاع بسببها بين المسلمين هي مسألة الإمامة أو الخلافة العظمى ، بحيث يصح لنا أن نزعم أن مدار الخلاف بين المسلمين وما انبنى عليه من ظهور الفرق المتباينة في الأصول تباينها في الفروع ـ على الإمامة.

ومن الحق أن نقرر أن الفرق التي نزعت في أول أمرها منزعا سياسيّا ، وخرجت إلى الوجود من رحم الأحداث السياسية نفسها ، لم تلبث أن صارت لها آراء في الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية جميعا ، على نحو مثلت معه هذه الآراء مذاهب مستقلة لعلها أبقى أثرا وأعظم خطرا في التاريخ من المعتقدات السياسية التي غدت مسائل تاريخية لا يعول عليها كثيرا ولا يلتفت إليها إلا قليلا في واقعنا المعاصر.

ولا غرو في أن ترتبط المذاهب السياسية بالنظريات العقدية في ظل شريعة لا تفصل بين الدين والسياسة فصلا قاطعا ، على غرار الشرائع الأخرى ، فالدين ـ في شريعة الإسلام ـ لب السياسة وقوامها ، ووظيفة السياسة منوطة بحماية الإسلام والذود عن أصوله المقررة ، وحراسته من عبث العابثين وهجوم المغرضين ، وذلك ما سبق إلى الالتفات إليه ابن خلدون حين عرف الخلافة بأنها : «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا» (١).

وثمة أمر آخر نود الإلماح إليه والتنويه به ، وهو أن الخلاف بين الفرق الإسلامية لم يمس ركنا من أركان الإسلام ، أو أصلا من أصوله الثابتة التي نقلت إلينا بالتواتر فغدت

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون (٢ / ٥٧٨) تحقيق علي عبد الواحد وافي.

٩٧

معلومة من الدين بالضرورة لا يسع مسلما إنكارها أو التشكيك فيها ، «فلم يكن الاختلاف في وحدانية الله تعالى وشهادة أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا في أن القرآن نزل من عند الله القدير ، وأنه معجزة النبي الكبرى ، ولا في أنه يروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية كلها جيلا بعد جيل ، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم ، ولا في طريق أداء هذه التكليفات ، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة» (١).

وغني عن البيان أن شيئا من الخلاف بين المسلمين لم يقع إبان عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فقد كان المسلمون على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه ، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا» (٢).

ولا غرابة في ذلك ؛ إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوضح للصحابة ما تشابه عليهم من مسائل الدين ، ويجيب عما يطرح عليه من أسئلة جوابا يلقي في ضمير السائل برد اليقين ويقطع من نفسه وعقله دواعي الحيرة والاضطراب.

ويوشك الإجماع أن ينعقد على أن أول خلاف حقيقي واجه الجماعة الإسلامية ظهر بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو خلافهم حول الإمامة ، حيث سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للنظر في أمر الإمامة وتعيين من يخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما يوار التراب بعد جسده الطاهر ، وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج غير مدافع ، ولم يرتب الأنصار في أن الإمامة حق لهم ، ولا ينبغي أن تخرج عنهم إلى إخوانهم المهاجرين ، ولم يعدموا من الأدلة الواضحة والبراهين المفحمة ـ في نظرهم ـ ما يسوقونه بين يدي رأيهم ذاك ، «فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبث في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ، فما آمن منهم إلا قليل ، ولا منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ولا أعزوا الدين ، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به وأعزوا دينه ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءا وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب ، وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، وبهم قرير العين ، فهم أولى الناس أن يخلفوه» (٣).

بيد أن «نظرية الأنصار» تلك وجدت إنكارا ومعارضة من المهاجرين ؛ إذ لم يكد خبر السقيفة ينتهي إلى أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى قصدا نحو مجتمع الأنصار في

__________________

(١) الإمام محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية ، ص ١١.

(٢) أبو منصور عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق ، دار التراث ، القاهرة ، ص ٣٥.

(٣) أحمد أمين ، فجر الإسلام ، الهيئة العامة للكتاب ، ص ٤٠١.

٩٨

نفر من المهاجرين ، لإبداء الرأي في أمر الخلافة ، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش ، واحتج عليهم بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإمامة في قريش» (١) وأن العرب لا تذعن بالطاعة إلا لهم ، كما أنهم عشيرة الرسول وذوو رحمه ، فهم أول من آمن به ، واحتملوا في سبيل نصرته من العنت والمشقة شيئا كثيرا يسوّغ لهم أن يرثوا الأمر من بعده.

وكما كان الأنصار أول من أعز الإسلام وانتصر له ، كانوا أول من حماه شر الفتنة ، وعواقب الخلاف ، فأذعنوا لإخوانهم المهاجرين منقادين ، ورجعوا إلى الحق طائعين «بعد

__________________

(١) ورد هذا الحديث من حديث أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وأبو برزة

حديث أنس بن مالك :

أخرجه أبو داود الطيالسي (٢ / ١٦٣ ـ منحة) رقم (٢٥٩٦) والبزار (٣ / ٢٢٨ ـ كشف) رقم (١٥٧٨) ، وأبو يعلى (٦ / ٣٢١) رقم (٣٦٤٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٧١) ، والبيهقي (٨ / ١٤٤) كتاب قتال أهل البغي : باب الأئمة من قريش ، كلهم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش إذا حكموا فعدلوا وإذا عاهدوا فوفوا وإذا استرحموا فرحموا».

وقال أبو نعيم : هذا حديث مشهور ثابت من حديث أنس.

وقال الحافظ في «تخريج أحاديث المختصر» (١ / ٤٧٤) : هذا حديث حسن وللحديث طرق أخرى عن أنس.

فأخرجه أحمد (٣ / ١٨٣) وابن أبي عاصم في «السنة» (١١٢٠) من طريق الأعمش عن سهل بن أبي الأسد عن بكير بن وهب الجزري عن أنس به.

وأخرجه أحمد (٣ / ١٢٩) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٤٦٧ ـ ٤٦٨) كتاب القضاء : باب الأئمة من قريش حديث (٥٩٤٢) من طريق شعبة عن علي بن أبي الأسد ثنا بكير بن وهب الجزري عن أنس به. وقد اختلف في اسم أبي الأسد وقد رجح أبو حاتم الرازي أن اسمه سهل :

فقال ولده في «العلل» (٢ / ٤٣٠ ـ ٤٣١) : سألت أبي عن حديث رواه أبو الجواب الأحوص بن جواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش عن سهل بن بكير الجزري عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الأئمة من قريش ... فسمعت أبي يقول : إنما هو الأعمش عن سهل بن أبي الأسد عن بكير الجزري عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ا. ه.

وأخرجه الطبراني في الكبير (١ / ٢٥٢) رقم (٧٢٥) من طريق ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس بن مالك به.

وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٥ / ٨) من طريق حماد بن أحمد بن حماد بن أبي رجاء المروزي قال : وجدت في كتاب جدي حماد بن أبي رجاء السلمي بخطه عن أبي حمزة السكري عن محمد ابن سوقه عن أنس به.

قال أبو نعيم : غريب من حديث محمد تفرد به حماد موجود في كتاب جده.

وأخرجه الحاكم (٤ / ٥٠١) من طريق الصعق بن حزن ثنا علي بن الحكم عن أنس مرفوعا بلفظ : الأمراء من قريش وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وأخرجه البزار (١٥٧٩) من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس بلفظ : الملك في قريش.

والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ١٩٥) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط ، أتم منهما والبزار إلا أنه قال : الملك في قريش ورجال أحمد ثقات.

٩٩

أن قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، من يبارزني؟ وبعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه ، واجتمعوا على إمامته ، واتفقوا على خلافته ، وانقادوا لطاعته» (١).

وثمة نظرية ثالثة ذهب بعض الباحثين إلى أن لها وجودا ظاهرا آنذاك ، وهي أن تكون الخلافة في بيت النبي ، وأولى الناس من قرابة النبي وأمسهم رحما به هو علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ فقدمته في الإسلام وسابقته في الذود عنه معروفة ذائعة ، ومكانه من النبي مكانه ، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة ، ووالد سبطيه الحسن والحسين ، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر.

على هذا النحو رأى القائلون بهذه النظرية أن بيت بني هاشم أحق بالخلافة من سواه ، وروي في ذلك أن عليّا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال : ما ذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال علي : «احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (٢).

يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته (٣).

ومهما يكن من أمر فقد آل أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وكانت بيعته بيعة حرة ؛ إذ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أن يحدد من يخلفه في هذا الأمر ، وخلا الكتاب من النص عليه أو تعيينه ، «صحيح أنه قد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أبا بكر بأن يؤم المسلمين في الصلاة أثناء مرضه الذي مات فيه ، وفهم البعض أن الصحابة قد اختاروه لهذا وقالوا : قد اختاره الرسول لأمر ديننا ، فأولى أن نختاره لأمر دنيانا ، ولكن هذا لا يعد عهدا ، وإن كان في جملته يشير إلى فضل أبي بكر ومقامه بين الصحابة ؛ إذ لو كان عهدا لاستشهد به في السقيفة وحسم النزاع» (٤).

ثم عهد أبو بكر ـ لما أحس بدنو أجله وخاف على المسلمين شر الفتنة وعاقبة الخلاف

__________________

(١) أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، ت : محمد محيي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية ، الطبعة الثانية (ص ٤١).

(٢) ينظر خبر السقيفة في : ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة (ص ١٩ ـ ٦٠).

(٣) أحمد أمين ، فجر الإسلام ص ٤٠٢.

(٤) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام ، دار الثقافة العربية ، (ص ٦٠).

١٠٠