تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

نحن بصددها تحديدا ، عصر الماتريدي.

ولا ريب أن تدوين القراءات وتأصيل مسائلها عامل مهم أورث حركة التشريع الإسلامي شيئا غير قليل من القوة والازدهار.

٢ ـ علم التفسير :

سيأتي بمشيئة الله تعالى الكلام عن بيان مفهوم علم التفسير عند الحديث عن التفسير ومناهج المفسرين وكذلك سيأتي الحديث عن نشأة علم التفسير وتطوره ، إلا أننا نقول هاهنا في عجالة سريعة إن علم التفسير نشأ في أول أمره فرعا من فروع الحديث ، حيث كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر القرآن لأصحابه ويبين لهم معانيه الخافية عنهم ، ثم عني الصحابة من بعده بتفسير القرآن ، وأثرت عنهم آراء كثيرة في التفسير وأقوال كانت أساسا صالحا قامت عليه المدارس التفسيرية فيما بعد.

وقد تطور علم التفسير في عصر التابعين ، فجاءت طبقة جمعت الأقوال التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين ، شأنهم في ذلك شأن المحدثين ، كما رحل بعض العلماء لجمع روايات التفسير من الأمصار المختلفة.

ولم يلبث علم التفسير أن انفصل عن علم الحديث ، في العصر العباسي ، وقام المفسرون بترتيب الروايات التفسيرية وفق ترتيب السور والآيات ، ويذكر ابن النديم : أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفراء صاحب كتاب «معاني القرآن» المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍ ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه ، فقام الفراء بذلك فوضع كتابا في التفسير (١).

ثم وضع ابن جرير الطبري بعد ذلك تفسيرا ، عماده الروايات التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين ، بيد أنه أضاف إلى تفسيره شيئا من التفسير بالرأي.

فمنذ ذلك التاريخ غدا القرآن الكريم معينا خصبا لكثير من العلوم ، فعلماء النحو اعتمدوا عليه في استنباط القواعد النحوية ، وألفوا كتبا في إعراب المشكل من آياته ، وعني أهل اللغة بتفسير مفرداته وشرح معانيه ، كما عوّل عليه الفقهاء في بناء آرائهم وتأسيس مذاهبهم الفقهية ، وصنفت كتب في تفسير آيات الأحكام ، وأخذ العلماء يفسرون القرآن ،

__________________

(١) انظر : الفهرست ص ٩٩.

٦١

كل بما يتفق مع رأيه ، حتى علماء الكلام أوّلوا بعض الصفات بما يتفق مع آرائهم (١).

٣ ـ الحديث وعلومه :

علم الحديث هو علم يشتمل على أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها.

ولم يدون الحديث النبوي الشريف تدوينا منظما إلا منذ مطلع القرن الثاني الهجري وقبل هذا التاريخ كان الصحابة يكتبون منه ما استقامت لهم سبل الكتابة وتيسرت أسبابها ، غير أن تدوينهم كان تدوينا خلا من النظام والترتيب.

ومن أشهر من كتب الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص ، حتى قال فيه أبو هريرة : «ما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد أكثر مني حديثا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب» (٢).

ثم رأى عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أن يجمع حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمعا منظما ويدونه تدوينا مستوعبا ، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم : «أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسننه فاكتبه ؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء» (٣).

ومنذ ذلك التاريخ بدأت عناية المسلمين بتدوين الحديث تقوى وتشتد ، وبرز في ميدان جمع الأحاديث أسماء كثيرة نذكرها بكل إجلال وتقدير ، وتوزع هؤلاء على الأمصار الإسلامية المختلفة :

ففي مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة ١٥٠ ه‍.

وفي المدينة محمد بن إسحاق المتوفى سنة ١٥١ ه‍ ، ومالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ ه‍.

وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة ١٦٠ ه‍ وحماد بن سلمة المتوفى سنة ١٧٦ ه‍.

وفي الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة ١٦١ ه‍.

وفي الشام الأوزاعي المتوفى سنة ١٥٧ ه‍.

__________________

(١) انظر : ضحى الإسلام (٢ / ١٣٨) ، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد أنيس عبادة (٢ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٢) انظر : تاريخ أبي زرعة الدمشقي (٥٥٦) ، الاستيعاب (٣ / ٩٥٧) ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (١٥ / ٣٥٨).

(٣) انظر : الفكر السامي (٢ / ١١٠).

٦٢

وفي اليمن معمر بن راشد المتوفى سنة ١٥٣ ه‍.

وفي خراسان عبد الله بن المبارك المتوفى سنة ١٨١ ه‍.

وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة ١٧٥ ه‍.

وكانت طريقتهم في التدوين تعتمد على وحدة الموضوع في أبواب منفصلة يحتوي كل باب على الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد ، فجمعت أحاديث الصلاة في باب ، والزكاة في باب آخر ، وهكذا.

ومن أشهر هذه المصنفات موطأ الإمام مالك.

ثم جاءت طبقة أخرى من علماء الحديث انتهجت نهجا آخر ، فكتبت السنة على طريقة المسانيد ، وأساسها وحدة الراوي وإن اختلف الموضوع ، ومن أشهر المسانيد مسند الإمام أحمد.

وفي القرن الثالث الهجري جاءت طبقة أخرى ، وجدت أمامها ثروة عظيمة من الأحاديث ، فاتبعت أسلوب الانتقاء والاختيار ، فألفت ما عرف بالصحاح ، وأفردت الحديث عن غيره من فتاوى الصحابة وأقوالهم ، وفي طليعة كتب الصحاح : صحيح البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ ه‍ ، وصحيح مسلم المتوفي سنة ٢٦١ ه‍ ، وحذا حذو البخاري ومسلم الإمام أبو داود المتوفى سنة ٢٧٥ ه‍ ، وأبو عيسى الترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ ه‍ ، وابن ماجه المتوفى سنة ٣٠٣ ه‍ وغيرهم.

ووجد بجانب المحدثين فريق من العلماء توفروا على نقد رواة الحديث ، وجرح بعضهم وتعديل البعض الآخر ، وعرفوا بعلماء الجرح والتعديل.

قال الذهبي : أول من زكى وجرح من التابعين ـ وإن كان قد وقع ذلك قبلهم ـ الشعبي وابن سيرين ؛ حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين.

وذلك لأن الصحابة كانوا عدولا ، وكبار التابعين الآخذين عنهم كانوا ثقات ، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد ، كالحارث الأعور ، والمختار الكذاب.

فلما مضى القرن الأول ، وجاء القرن الثاني ، كان من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين كان ضعفهم من قبل تحملهم وضبطهم ، فتراهم يرفعون الموقوف ، ويرسلون كثيرا ، ولهم غلط كأبي هارون العبدي.

٦٣

فلما كان آخر عصر التابعين ـ وهو حدود الخمسين ومائة ـ تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة.

وقال صالح جزرة : أول من تكلم في الرجال شعبة ، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ، ثم أحمد وابن معين.

قال السيوطي : يعني أنه أول من تصدى لذلك ، وإلا فقد سبقهم من الصحابة والتابعين من علمت.

وألف في الجرح والتعديل أئمة في الحديث.

منهم من ألف في الضعاف كالبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني وغيرهم.

ومنهم من ألف في الثقات كابن حبان.

ومنهم من ألف فيهما كالبخاري وابن أبي خيثمة ، وابن أبي حاتم.

ومن أشهر علماء الجرح والتعديل : يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة ١٨٩ ه‍ ، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة ١٩٨ ه‍ ، ويحيى بن معين المتوفى سنة ٢٣٣ ه‍ ، وأحمد بن حنبل المتوفى ٢٤١ ه‍ (١).

٤ ـ علم الفقه :

علم الفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

ظهرت فكرة كتابة بعض الأحكام الفقهية منذ عصر النبي ... وعصر الخلافة الراشدة ، غير أننا لا نستطيع أن نقول : إن علم الفقه ظهر في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام ؛ لأن هذه الكتابات ـ وإن سلمنا بوجودها ـ لا تمثل ظاهرة عامة جديرة بأن تؤسس علما مهما كعلم الفقه له أصوله وقواعده ، وغاية الأمر أن هذه الكتابات دليل على أن مسائل علم الفقه شغلت المسلمين منذ طور مبكر ، وأنها كذلك إرهاص مؤذن لنشأة علم الفقه في مرحلة تالية ، وإن كانت هي بذاتها لا تمثل علما ولا ترقى إلى رتبته ، كما نفهم نحن مصطلح العلم من ضرورة أن يتاح له منهج في الدرس ومادة مجموعة ومسائل مرتبة وعلماء يتوفرون عليه.

إن فكرة التدوين الفقهي المنظم وليدة القرن الثاني الهجري ، حيث تدلنا المصادر

__________________

(١) ينظر في كل ذلك : تاريخ التشريع للخضري ص (١٥١ ـ ١٥٣) ، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى (٢ / ٥٢ ـ ٥٥) ، وتاريخ التشريع الإسلامي ومصادره للدكتور محمد سلام مدكور ص (٢٠٦ ـ ٢٠٨).

٦٤

التاريخية على أن فقهاء المدينة قاموا بجمع فتاوى ابن عمر وعائشة وابن عباس ومن بعدهم من كبار التابعين الذين ظهروا بالمدينة.

وكذلك جمع فقهاء العراق فتاوى عبد الله بن مسعود ، وقضايا علي بن أبي طالب وفتاواه ، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.

وقد وضعت بعض المؤلفات الفقهية في هذا العصر ، فقد ألف أبو حنيفة (الفقه الأكبر) وإبراهيم النخعي (فتاوى الشيوخ وآراؤهم) ، وغيرهما.

وكانت هذه المؤلفات تجمع بين الفقه والحديث.

وهناك من ألف من الفقه مجردا عن الحديث : كمحمد بن الحسن في كتبه الستة التي جمع فيها مسائل الأصول في مذهب إمامه أبي حنيفة وهي : المبسوط ، والجامع الصغير ، والجامع الكبير ، والزيادات ، والسير الصغير ، والسير الكبير ، ومثل : المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك.

وبجانب هذين النوعين من التدوين وجد تدوين المسائل الفقهية مصحوبا بأدلتها من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، مثل كتاب الأم الذي رواه الربيع عن الإمام الشافعي.

واستمر الفقه في التطور والازدهار حتى أصبح علما قائما على سوقه (١).

٥ ـ علم أصول الفقه :

لم يكن استنباط الأحكام في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدر الإسلام بحاجة إلى أكثر من الرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وإلى أصحابه بعد مماته ، ولكن لما بعدت الشقة بين الناس والعهد النبوي احتاج المسلمون إلى وضع العلوم وتأسيس مناهجها ، ومن هذه العلوم أصول الفقه.

وقد أخذ الإمام الشافعي على عاتقه مهمة جمع قواعد علم أصول الفقه المبثوثة في بطون الكتب ، والموجودة في سنة النبي وآثار الصحابة ، ومن قبل ذلك وبعده من القرآن الكريم.

والسبب الذي دفع الشافعي إلى كتابة علم أصول الفقه هو ما ذكره ابن خلدون حينما

__________________

(١) ينظر : تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره للدكتور محمد يوسف موسى (٢ / ٥٨) ، وتاريخ التشريع ومصادره للدكتور محمد سلام مدكور ص (٢٠٩ ـ ٢١١).

٦٥

قال : «لما وجد ـ أي الشافعي ـ الخلاف والنزاع مستمرا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق ، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي ، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر ، وأنهم أصحاب حجاج ولسن ، وأهل جدال وشغب ، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم ، والحط من قدرهم وقيمتهم ، والرد على رأيهم ومذهبهم ، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين ، وبخاصة من كان موجودا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل ، وضعف البحث والنظر ، وفساد الاستدلال والجدل ، وأنهم غير قادرين ـ القدرة التامة ـ على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم ، والرد على خصومهم ، والصمود في وجوههم ؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه ، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، وما إلى ذلك من المباحث.

لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك .. وضع مؤلفا جامعا في أصول الفقه ، يعين على فهم حقائقه ، وإدراك دقائقه ، ويكوّن القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع ، وبيان كيفية إثباتها» (١).

وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم ، من هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب «الناسخ والمنسوخ».

٦ ـ تدوين علم النحو واللغة :

كان لاتساع الفتوحات الإسلامية ، ودخول الكثير من العجم في الإسلام ، واختلاطهم بالعرب ـ الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية ، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي ، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس ، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته ب «علم النحو».

وقيل : إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو.

وقيل : إنه تعلم أصوله عن الإمام علي (٢) ، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم ، ومن ثم ، وضع علم النحو.

وكانت مدرسة البصرة هي أولى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورا ، تلتها مدرسة

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٣٩٧) وما بعدها.

(٢) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٥٠٢) ، والفهرست لابن النديم (ص ٦٠ ، ٦١).

٦٦

الكوفة ، وقد ألف تلاميذ المدرستين تآليف كثيرة ، وتتابع الناس يكتبون في هذا العلم ؛ حتى انتهى الأمر إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد ، فهذب الصناعة ، وكمل أبوابها ، وأخذ عنه سيبويه ، فكمل تفاريعها ، واستكثر من أدلتها وشواهدها ، ووضع فيها كتابه المشهور (١).

وممن كتب في هذا الفن : الأصمعي ، وأبو عبيدة ، وأبو عمرو بن العلاء ، وجميع من ذكرت من علماء البصرة ، ومن أشهر علماء الكوفة الذين كتبوا في هذا الفن : الكسائي والفراء (٢).

وكما تسرب اللحن إلى تركيب الجملة تسرب أيضا إلى الألفاظ ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه ، ومن ثم وجدت الحاجة إلى معاجم تحفظ المفردات اللغوية ، حتى لا تندرس ، فيترتب على ذلك جهل بالقرآن والحديث.

ولذلك شمر علماء اللغة عن سواعدهم ، وبدءوا يجمعون الكلمات العربية ، ويحددون معانيها ، فرحلوا إلى البادية واستقوا اللغة من منابعها الأولى ، كما أخذوا عن عرب البدو الذين وفدوا إلى الحضر ، وكان من أهم مصادرهم : القرآن الكريم ، والشعر العربي الجاهلي والإسلامي الموثوق به.

وقد تم جمع اللغة على مراحل ثلاث :

المرحلة الأولى : جمع المفردات كيفما اتفق.

المرحلة الثانية : جمعت فيها الكلمات المتقاربة نوعا من التقارب ، أو ما لها موضع واحد.

المرحلة الثالثة : جمع المعاجم ، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري حين وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي منهج كتاب العين الذي حصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي ، والثلاثي ، والرباعي ، والخماسي ، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف عليه ، واعتمد فيه على ترتيب المخارج ، فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده حتى وصل إلى الحروف الشفوية ، وجعل أحرف العلة آخرا ، وبدأ من حروف الحلق بالعين ؛ ولذلك سمى كتابه ب «العين».

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٢).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٢٩٤).

٦٧

وفي القرن الثالث الهجري انتشرت المعاجم الواسعة التي سار فيها أصحابها على طريقة الخليل بن أحمد من حيث ترتيب حروف المعجم على المخارج الصوتية والابتداء بحروف الحلق (١) ، ثم انتشرت المعاجم بعد ذلك في القرون التالية مصطنعة مناهج جديدة أكثر تيسيرا ، وموجود بين أيدينا الكثير منها الآن.

٧ ـ الأدب :

تطور الأدب كثيرا في العصر العباسي ، وبخاصة الشعر ؛ حيث وجد شعراء مجددون في معاني القصيدة وديباجتها كأبي تمام ؛ مما أدى إلى وجود نهضة أدبية وشعرية يمكن أن يقال عنها : إنها فاقت العصور السابقة.

ولم ينل الأدب العناية في جمعه وتأليفه مثلما نالت اللغة ، فقد كان جمع الأدب والشعر في العصور الإسلامية الأولى قائما على الانتقاء والاختيار لا الاستقصاء والشمولية ؛ ولعل السبب في ذلك أنه لا يستطيع فرد أو أفراد أن يقوموا بذلك (٢).

وقد دون عدد من الكتب في الأدب ونقده في العصر العباسي ؛ ككتابي أدب الكاتب ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ، والكامل للمبرد ، والبيان والتبين للجاحظ ، والنوادر لأبي علي القالي ، وتعتبر هذه الكتب أركانا في الأدب وعلومه (٣).

٨ ـ التاريخ والجغرافيا :

كان الاعتماد في التاريخ ـ في بادئ الأمر ـ على السماع ، فكان العرب يتناقلون أخبارهم وسير أجدادهم شفويّا ، ولكن لما جاء القرن الثاني الهجري أخذ البحث في التاريخ وتدوينه يأخذ جانبا من اهتمام العلماء ، وانصرف اهتمام المؤرخين في أول الأمر إلى السيرة النبوية ، فكتب ابن إسحاق سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك في منتصف القرن الثاني الهجري ، وفي أواخر هذا القرن وضع هشام بن محمد الكلبي والواقدي كثيرا من المصنفات والرسائل التاريخية شملت العصور المختلفة ، ثم جاء ابن هشام أواخر هذا القرن وبداية القرن الثالث فكتب سيرته الشهيرة المتناقلة بين الناس.

وفي القرن الثالث تطور التاريخ تطورا كبيرا ، فوجدت المصنفات الكبيرة ، واتسعت

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٣ ، ٥٠٤) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٣٥٣) ، وضحى الإسلام (٢ / ٢٥٢).

(٢) ينظر : ضحى الإسلام (٢ / ٢٧٤).

(٣) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٨).

٦٨

مادته باتساع حوادث الدولة الإسلامية ، فوجدت مؤلفات في الحوادث ، ومؤلفات في الأنساب ، ومؤلفات في تاريخ الأمم والملوك ، ومؤلفات في تاريخ الأديان : كاليهودية ، والنصرانية ، ومؤلفات في التراجم.

ومن أشهر المؤلفات في القرن الثالث : كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد المتوفي سنة ٢٣٠ ه‍ ، وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة المتوفي سنة ٢٧٦ ه‍ ، وكتاب فتوح البلدان للبلازري المتوفي سنة ٢٧٩ ه‍ ، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري المتوفي سنة ٢٨٢ ه‍ ، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري المتوفي سنة ٣١٠ ه‍ (١).

ومعنى هذا أن القرن الثالث الهجري شهد نهضة في علم التاريخ لم تشهدها القرون السابقة وربما القرون اللاحقة ؛ حيث الاعتماد على هذه المصنفات والمؤلفات في الغالب الأعم.

أما في مجال الجغرافيا فقد بدأ التدوين فيه متأخرا عن التاريخ ، ويعتبر أبو القاسم عبيد الله بن خرداذبه الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري ، وهو فارسي الأصل ـ يعتبر من أقدم علماء الجغرافيا ، وقد ألف كتاب : المسالك والممالك. ثم تلاه اليعقوبي المتوفي سنة ٢٨٢ ه‍ ، وألف في ذلك كتاب : البلدان (٢).

٩ ـ علم الطب :

كان لاختلاط العرب بالعجم أثر في تنمية المعارف ، وبخاصة بعد عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة المأمون ، ومن العلوم التي نقلها المسلمون عن الأمم الأخرى بفضل حركة الترجمة ، علم الطب ، فنبغ عدد غير قليل من الأطباء في عصر الرشيد ، والمأمون ، والمعتصم ، وبخاصة عصر الواثق ، وكانت مهنة الطلب يزاولها في بداية الأمر غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم ، فاشتهر عصر الرشيد بختيشوع المتوفى سنة ٢٤٤ ه‍ ، وفي عهد المعتصم يحيى بن ماسويه المتوفى سنة ٢٤٢ ه‍.

وفي عهد الواثق بدأ التأليف الفعلي لعلم الطب ، فقد طلب من حنين بن إسحاق المتوفي سنة ٢٧٠ ه‍ وضع كتاب في الطب ، فألف كتابا ذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء وغيرها من المسائل الطبية. ثم بدأت المصنفات تترى بعد ذلك ، وبنيت المستشفيات في بغداد وغيرها.

__________________

(١) ينظر : ضحى الإسلام (٢ / ٣٤١) ، وتاريخ الإسلام (٢ / ٣٠٢ ، ٣٠٣).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٤٠٤).

٦٩
٧٠

الباب الثاني

ترجمة الماتريدي

ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته.

الفصل الثاني : البيئة التي نشأ فيها الماتريدي.

الفصل الثالث : شيوخه وأقرانه وتلاميذه.

الفصل الرابع : قيمة الماتريدي العلمية.

٧١
٧٢

الفصل الأول

اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته

اسمه وكنيته :

الماتريدي هو : محمد بن محمد بن محمود بن [محمد](١) أبو منصور الماتريدي.

وأصل نسبته : ماتريت أو ماتريد وهي محلة من سمرقند (٢) ، وأحيانا تضاف نسبته إلى سمرقند ، فيقال : أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (٣) ، وكنيته : أبو منصور.

ألقابه :

لقّب الماتريدي بألقاب كثيرة نذكر منها : «إمام الهدى» ، و «إمام المتكلمين» ، و «مصحح عقائد المسلمين» ، و «رئيس أهل السنة» ، وهي ألقاب تومئ إلى ما له من مكانة مرموقة في نفوس مؤرخيه على قلتهم (٤) ، كما تدل على منزلته العلمية الممتازة بين أصحابه.

نسبه :

قيل : إن نسب الماتريدي يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، وهذه النسبة تشريف له ، ودليل على علو قدر أسرته وشرف نسبه ؛ إذ إنها تنتهي إلى أبي أيوب الأنصاري ، وهو الذي نزل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر إلى المدينة (٥).

لهذا يذكره البياضي فيقول : الإمام أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي الأنصاري (٦).

وترجح هذه النسبة لدينا ؛ لأن أحد شيوخ الماتريدي وهو أبو نصر العياضي من نسل ابن عبادة الأنصاري ، وكذلك جاء في كتاب السمعاني أن أم القاضي الإمام أبي الحسن

__________________

(١) هذه الزيادة بعد محمود نص عليها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين فقال : وجدت لها فى بعض المجاميع زيادة محمد بعد محمود.

(٢) ينظر : تاج التراجم (ص ٢٤٩) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠) ، وديوان الإسلام (٤ / ١٧٣).

(٣) ينظر : معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠) ، وديوان الإسلام (٤ / ١٧٣).

(٤) ينظر : الجواهر المضيّة لمحيي الدين أبي محمد عبد القادر القرشي (مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند) (٢ / ٥٦٢) ، وتاج التراجم (٢٤٩) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٥) ينظر : إمتاع الأسماع للمقريزي (١ / ٤٧).

(٦) إشارات المرام (ص ٢٣).

٧٣

علي بن الحسن وهو من سلالة أبي أيوب الأنصاري كانت بنت الإمام أبي منصور الماتريدي ، ولا شك أن شرفاء العرب كانوا يراعون الكفاءة في الزواج في البلاد النائية (١).

والحقيقة أن كتب التراجم لا تعطينا شيئا عن أسرة الماتريدي غير ما ذكره الدكتور خليف في مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي ، فقد ذكر أن الأستاذ «تربتون» ذهب إلى أن مؤلف كتاب «نقض المبتدعة عن السواد الأعظم على طريقة الإمام أبي حنيفة» ـ هو أبو القاسم إسحاق بن محمد الماتريدي (٣٤٢ ه‍) وربما يكون شقيق الماتريدي ، وأنه تتلمذ على يد الإمام الماتريدي ، ولا يستبعد الدكتور خليف أن يكون تتلمذ على يده ، لكنه يستبعد أن يكون شقيقه ، ويرى أن المقصود هو القاضي أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (٢).

ولعل الذي ذهب إليه الدكتور خليف هو الأقرب إلى الصواب ؛ إذ إن المؤرخين لا يذكرون شيئا عن هذه القرابة ، ولا يعني مجرد الاشتراك في النسبة (الماتريدي) أنهما شقيقان ؛ لأنها نسبة إلى الموطن وليست إلى العائلة أو القبيلة ، ولقد عرف أكثر من شخص بالماتريدي ، مثل القاضي الماتريدي الحسين الذي كان رفيقا لأبي شجاع وإليه انتهت رئاسة أصحاب الإمام (٣).

إذن فالباحث عن أسرة الماتريدي يجد صعوبة بالغة ، وقد لا يهتدي إلى شيء ذي قيمة ؛ نظرا لإهمال المصادر التاريخية لذلك وسكوتها عنه.

مولده :

لم تذكر المصادر التاريخية شيئا نطمئن إليه عن تاريخ مولد الماتريدي ، ولكن نستطيع أن نتلمس مولده في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، وعلى وجه التحديد في عهد المتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍) ، وبهذا يكون مولده متقدما على مولد أبي الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة على الأقل ؛ إذ ولد الأشعري سنة ٢٦٠ ه‍ ، وقيل : سنة ٢٧٠ ه‍ (٤).

ويرجح كون مولده في عهد المتوكل أن هناك شيخين من شيوخه هما : محمد بن

__________________

(١) ينظر : الأنساب للسمعاني (ص ٤٩٨).

(٢) مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي للدكتور فتح الله خليفة.

(٣) ينظر : الجواهر المضية لأبي الوفاء القرشي (٢ / ٣٤٤).

(٤) ينظر : وفيات الأعيان (٢ / ٤٤٦).

٧٤

مقاتل الرازي ، ونصير بن يحيى البلخي ، مات الأول منهما سنة ٢٤٨ ه‍ ، وتوفي الثاني سنة ٢٦٨ ه‍ (١) ؛ أضف إلى هذا أن من أقرانه من توفي سنة ٢٦٨ ه‍ وهو محمد بن عبد الله بن المغيرة بن عمرو الأزدي (٢).

ويعني هذا أن الماتريدي قد ولد قبل عام ٢٤٨ ه‍ بوقت يسمح له بتلقي العلم عن شيخه الذي مات في تلك السنة.

ومن خلال ما سبق يمكننا القول : إن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، أي ما بين سنة ٢٣٣ ه‍ وحتى سنة ٢٤٠ ه‍ ؛ لأنه كما سبق أن قررنا منذ قليل ـ اعتمادا على رواية وفيات الأعيان ـ أنه ولد قبل الأشعري ببضع وعشرين سنة ، وقيل في إحدى الروايات : إن الأشعري ولد سنة ٢٦٠ ه‍ ، وبضم هذه الرواية إلى الرواية الأخرى التي ذكرت أن وفاة شيخه محمد بن مقاتل كانت سنة ٢٤٨ ه‍ يتبين لنا صحة ما ذهبنا إليه ، فقد يكون سنه على أقصى تقدير يوم وفاة شيخه خمسة عشر عاما ، وعلى أدنى تقدير ثماني سنوات ، ولا يعقل أن يكون الماتريدي قد بدأ في تلقي العلم قبل الثامنة من عمره ؛ لأنه وقتها يكون صغيرا جدّا ، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يكون على أيدي الشيوخ الكبار أمثال الشيخ محمد بن مقاتل ، بل يكون على أيدي شيوخ صغار ؛ حيث يبدأ الطفل في حفظ القرآن الكريم أولا ، وشيئا من الحديث والشعر العربي ، وعلى أقصى تقدير بعض مبادئ العلوم.

وفاة الماتريدي وضريحه :

اتفقت معظم كتب التراجم على أن الماتريدي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة (٣) ، بينما ذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة (٤) ، ويقطع بهذا بعض المؤرخين المحدثين (٥) ، أما طاش كبرى زاده فيذكر أنه مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة (٦) ، ولكن الصحيح المشهور هو الأول وهو ما أجمع عليه أصحاب الطبقات ، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

__________________

(١) ينظر : الطبقات السنية للتميمي (٢ / ٥٦٠).

(٢) ينظر : الجواهر المضية (٢ / ٣٣) ، والطبقات السنية (٢ / ٤٠٣).

(٣) ينظر : ديوان الإسلام (٤ / ١٧٣) ، وتاج التراجم (ص ٢٥٠) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٤) ينظر : كشف الظنون (طبعة استانبول) (٢ / ٤٠٦).

(٥) ينظر : رجال الدعوة في الإسلام لأبي الحسن الندوي (طبعة دمشق) (ص ١٣٦).

(٦) ينظر : طبقات الحنفية (ص ٢٢).

٧٥

الفصل الثاني

البيئة التي نشأ فيها الماتريدي

عرفنا في الفصل السابق أن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة ، ومعنى هذا أن الماتريدي عاش في الفترة ما بين أواخر النصف الأول من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع ، وكان ذلك في مدينة سمرقند التي تقع في إطار الدولة السامانية ، والتي أشرنا إلى طرف من تاريخها في الفصل الثالث من الباب الأول ، وقد رأينا أن نتمم ذلك بهذه الدراسة الموجزة لمدينة سمرقند التي نشأ فيها الماتريدي.

تاريخ سمرقند :

وسمرقند ـ بفتح السين والميم ـ ويقال لها : سمران : بلد معروف مشهور ، قيل : إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر.

قال أبو عون : سمرقند في الإقليم الرابع ، طولها تسع وثمانون درجة ونصف ، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف.

وقال الأزهري : بناها شمر أبو كرب ، فسميت شمر كنت ، فعربت فقيل : سمرقند.

وقيل : إن سمرقند من بناء الإسكندر ، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا ، وفيها بساتين ومزارع وأرجاء ، ولها اثنا عشر بابا ، من الباب إلى الباب فرسخ ، وعلى السور آزاج ، وأبرجة للحرب ، والأبواب الاثنا عشر من حديد ، وبين كل بابين منزل للنواب ، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض ، وفيه أبنية وأسواق (١).

صفة سمرقند :

وأيّا من كان الذي بنى مدينة سمرقند ، فإنها مدينة عظيمة ، من أعظم مدن أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقا ، وهي بلد ثري جليل عتيق ، ومصر بهي رشيق ، رضي كثير الرقيق ، وماء غزير بنهر عميق ، بناء قوي سني وثيق ، ودرس كثير لأهل الفريق ، وعيش هني إليها الطريق ، وحمل المتاع من كل فج عميق ، وعلوم كثيرة وصدر نفيق ، وخيل ورجال ومال دقيق ، ذو رساتيق جليلة ومدن نفيسة وأشجار وأنهار ، وتجار ، في الصيف

__________________

(١) ينظر : الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية للدكتورة فاطمة محجوب (دار الغد العربي) (ص ٣٩١ ، ٣٩٢) نقلا عن معجم البلدان لياقوت الحموي (٣ / ٢٤٦).

٧٦

جنة ، أهل جماعة وسنة ، ومعروف وصدقة ، وحزم وهمة ، غير أن في أهلها وهوائها بردا ، جفاة مع الغرباء ، بلية في الشتاء ، يشغبون على الأمراء ، وفيهم نفخ وعجب ومراء ، جيدة الجواري ردية الغلمان (١).

وليس غريبا أن تكون سمرقند بهذا الوصف ، فقد ذكر أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن مدينة خلف نهر جيحون تدعى سمرقند ، ثم قال : لا تقولوا : سمرقند ، ولكن قولوا : المدينة المحفوظة ، فقال أناس : يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال : أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة ، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبحون ويهللون ، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها ، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي : يا دائم ، يا دائم ، يا الله يا صمد ، احفظ هذه المدينة ، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة وخارج المدينة ماء حلو عذب ، من شرب منه شرب من ماء الجنة ، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وخارج المدينة على ثلاث فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ، ويدعون الله بالذكر لهم ، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيات وحية تخرج على صفة الآدميين ، تنادي يا رحمان الدنيا ورحيم الآخرة ، ارحم هذه المدينة المحفوظة ، ومن تعبد فيها ليلة تقبل الله منه عبادة سبعين سنة ، ومن صام فيها يوما فكأنما صام الدهر ، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا ، ومن مات في هذه المدينة فكأنما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة.

وزاد حذيفة بن اليمان في رواية : ومن خلفها قرية يقال لها : قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد كل شهيد منهم في سبعين من أهل بيته (٢).

وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني (٣) ، بيد أني لم أعثر له على إسناد ولم أجده في كتب الحديث المعتمدة.

وللحق فقد كثر الواصفون لسمرقند حتى لقد استهوت الشعراء واستحفزت قريحتهم ، منهم أحد ظرفاء العراق الذي كتب :

وليس اختياري سمرقند محلة

ودار مقام لا اختيار ولا رضا

__________________

(١) ينظر : السابق (ص ٣٩١) نقلا عن كتاب أحسن التقاسيم للمقدسي (ص ٣٣٨ ، ٣٣٩).

(٢) ذكر أيضا ياقوت الحموي في معجم البلدان (٣ / ٢٨٢) وعزاه للسمعاني في الأفانين.

(٣) ينظر : الموسوعة الذهبية (ص ٣٩٤ ، ٣٩٥).

٧٧

ولكن قلبي حلّ فيها فعاقني

وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا

وإني لممن يرقب الدهر راجيا

ليوم سرور غير مغرى بما مضى

وقال البستي :

للناس في أخراهم جنة

وجنة الدنيا سمرقند

يا من يسوي أرض بلخ بها

هل يستوي الحنظل والقند (١)

دخول الإسلام سمرقند :

وأول من دخل سمرقند من المسلمين وفتحها هو سعيد بن عثمان عند ما ولي خراسان من جهة معاوية سنة خمس وخمسين من الهجرة ، فقد عبر النهر ونزل عليها محاصرا ، لكنه تركها ، ومن ثم قال يزيد بن مفرغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها :

لهفي على الأمر الذي

كانت عواقبه الندامه

تركي سعيدا ذا الندى

والبيت ترفعه الدعامه

فتحت سمرقند له

وبنى بعرصتها خيامه

وتبعت عبد بني علا

ج تلك أشراط القيامه (٢)

وفي سنة سبع وثمانين من الهجرة عبر قتيبة بن مسلم الباهلي النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند ، وهي غزوته الأولى ، ثم غزا ما وراء النهر عدة غزوات في سنين سبع ، وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام ، فأخرجت إليه الأصنام وأمر بتحريقها ، فقال سدنتها : إن فيها أصناما من أحرقها هلك ، فقال قتيبة : أنا أحرقها بيدي ، وأخذ شعلة نار وأحرقها ، فاضطرمت ، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال (٣).

ويمكن أن نقول : إن الماتريدي عاش في عصر الدولة السامانية التي وليت سمرقند ما بين ٢٦١ ـ ٣٨٩ ه‍ ، وكان ملوكها أحسن الملوك سيرة وإجلالا للعلم وأهله (٤) كما أشرنا من قبل.

لقد نشأ الماتريدي في هذه المدينة التي تتمتع بخصائص ومميزات ، سواء من ناحية طبيعتها ، أو أهلها ، أو حتى حكامها ، وهذه أمور تساعد على تحصيل العلم والبروز فيه ،

__________________

(١) ينظر : الموسوعة الذهبية (٣٩٤) ، وانظر : ميزان الأصول (١ / ٢١).

(٢) ينظر : الكامل لابن الأثير (٤ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦) ، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (٣ / ٢٧٩) ، وميزان الأصول (١ / ٢٢).

(٣) المرجعان السابقان ، وانظر : الموسوعة الذهبية (ص ٣٩٣) ، والبداية والنهاية (٨ / ٧٩).

(٤) ينظر : أحسن التقاسيم للمقدسي (ص ٣٣٨ ـ ٣٣٩) ، وظهر الإسلام لأحمد أمين (ص ٢٥٩).

٧٨

وقد استفاد الماتريدي من مميزات نشأته في هذه البيئة فبرز في علوم شتى ، أهمها : العقيدة ، والتفسير فكان واحد عصره وإمام دهره.

موقع سمرقند الجغرافي وحدودها :

تقع سمرقند في القارة الآسيوية ، وكانت عاصمة لبلاد الصغد فيما وراء النهر ، وتقع خلف نهر جيحون على الضفة الجنوبية منه ، وتقع بخارى على الضفاف السفلى من هذا النهر ، ويتبع سمرقند مدن : كرمانة ، ودبوسية ، وأشروسنة ، والشاس ، وتخسانجكث.

ولها حصن استدارة حائطه اثنا عشر فرسخا في أعلاه أبرجة للحرب ، وكان لها أربعة أبواب : باب مما يلي المشرق يعرف بباب الصين ، مرتفع من جهة الأرض ، ينزل إليه بدرج مطل على وادي الصغد ، وباب مما يلي المغرب ويعرف بباب النوبهار ، وباب مما يلي الشمال يعرف بباب بخارى ، وباب مما يلي الجنوب يعرف بباب كش (١).

سمرقند إداريّا :

خضعت سمرقند بعد الفتح الإسلامي لحكم الدولة الأموية ، ولما سقطت الدولة الأموية صارت إلى الدولة العباسية ، حتى جاء عصر الدويلات ، فتبادلت عليها ممالك عدة ، حتى خضعت لحكم السلاجقة كسائر بلاد ما وراء النهر ، ثم خضعت للمغول حتى أجلتها الروس بعد غزوها عام ١٨٧٥ م ، فأصبحت خاضعة من الناحية الإدارية للاتحاد السوفيتي سابقا ، وهي الآن أصبحت تابعة لجمهورية أوزبكستان (٢).

الحركة الثقافية في سمرقند :

تمتعت سمرقند بمكانة علمية وثقافية مرموقة ، فقد خرج منها علماء أفذاذ في تاريخ الإسلام ، كانت لهم بصمتهم الواضحة في الفكر الإسلامي ، بل والإنساني ، من أمثال : البخاري ، ومسلم ، وأبي زيد الدبوسي ، وآل البزدوي ، والكاساني ، وعبد الله النسفي ، وأبي الحسن الكرخي ، والجصاص الرازي ، وأبي بكر الشاشي وغيرهم (٣) من قادة الفكر الإسلامي ، ممن لا يتسع المقام لذكرهم.

هذه هي البيئة التي نشأ فيها الماتريدي ، وهي بيئة ـ من غير شك ـ تساعد على مدارسة العلم وتحصيله والنبوغ فيه ، ولقد كان لها أكبر الأثر في نبوغ صاحبنا الماتريدي.

__________________

(١) ينظر : تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان (١ / ١٦٦) ، ومعجم البلدان (٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) ، وصبح الأعشى (٤ / ٤٣٦).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام (٤ / ٣٤ ، ٣٥) ، والمعجم الجغرافي (ص ٩).

(٣) ينظر : صبح الأعشى (٤ / ٤٣٦).

٧٩

الفصل الثالث

شيوخه وتلاميذه وأقرانه

أولا : شيوخه :

إن المصادر التي تحدثت عن هذا الإمام في تلقيه للعلوم والمعارف إنما تحدثت عن الصلة القوية بمدرسة الرأي ، تلك المدرسة التي تتصل حلقاتها وتأثرها بالإمام المبجل أبي حنيفة (١) النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي المولود سنة ثمانين في حياة بعض الصحابة ، تلقى علومه على عطاء بن أبي رباح والشعبي والأعرج وابن دينار وخلق كثير ، قال فيه الإمام الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة ، وقال علي بن عاصم : لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم ، وتوفي شهيدا سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.

ولقد تتلمذ الشيخ أبو منصور الماتريدي على يد علماء كبار ، ذكرت منهم كتب التراجم أربعة علماء يحتلون مكانة بارزة بين أعلام الفقه الحنفي وبين علماء زمانهم وهم :

١ ـ أبو نصر العياضي :

أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عياض بن يحيى ابن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الفقيه السمرقندي.

قال في الجواهر المضيّة عن أبي منصور الماتريدي : تخرج بأبي نصر العياضي (٢) ، وأبو نصر العياضي ينتسب إلى الأنصار الذين ينتسب إليهم الماتريدي ، وهو من أهل العلم والجهاد ، لم يكن يضاهيه لعلمه وورعه وجلادته وشهامته أحد ، استشهد وخلّف أربعين رجلا من أصحابه كانوا من أقران الماتريدي ، وله ولدان فقيهان فاضلان : أبو بكر محمد ، وأبو أحمد (٣).

__________________

(١) ينظر : طبقات خليفة (١٦٧ ـ ٣٢٧) ، تاريخ البخاري (٨ / ٨١) ، التاريخ الصغير (٢ / ٤٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠) ، كتاب المجروحين (٣ / ٦١) ، تاريخ بغداد (١٣ / ٣٢٣ ـ ٤٢٤) ، الكامل في التاريخ (٥ / ٥٨٥ ـ ٥٤٩) وفيات الأعيان (٥ / ٤١٥ ـ ٤٢٣) ، تهذيب الكمال (١٤١٤ ـ ١٤١٧) تذكرة الحفاظ (١ / ١٦٨) ، ميزان الاعتدال (٤ / ٢٦٥) ، العبر (١ / ٣٢١) ، مرآة الجنان (١ / ٣٠٩) ، البداية والنهاية (١٠ / ١٠٧) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٤٩ ـ ٤٥٢).

(٢) ينظر : الجواهر المضية (٣ / ٣٦٠) ، وتاج التراجم (ص ٢٥٠).

(٣) ينظر : الجواهر المضية (١ / ١٧٧ ـ ١٧٨) ، وأعلام الأخيار ص ١١٦.

٨٠