تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به ، فقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] ، وقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم فى البذل لما طلب منهم ، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شىء يعدهم عليه ، فعلى ذلك قال ـ عزوجل ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالذى ذكر ، يدلهم على أن ذلك منه ؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم ، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم ، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم ، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذى ذكر ليطيبوا أنفسهم به ، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم ، فيضجرون عند الابتلاء بذلك ، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول ، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به ، مع ما كان فى ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم ، فقدم الله فى ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذى جرى به الوعد ، وذلك كقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) [الحديد : ٢٢] ، الآية ، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.

والأصل فى هذا : أن جميع ما ذكر البلوى به فى التحقيق ليس بحق للعبد ، بل هو امتنان من الله وإفضال منه ، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية ، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه ، وإذا سكن العبد على هذا الذى جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه ، وطابت به نفسه ، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت ، ثم هو نعمة على غيره ولغيره ، فيكون المأخوذ منه فى الحقيقة لغيره ، وإن كان الله عزوجل ذكره فى الابتلاء والمصائب ، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عزوجل. ولا قوة إلا بالله.

ثم بين الله عزوجل ما يكرمهم ؛ إذا خضعوا لحكمه (١) ورضوا لقضائه ، مع ما دل عليه أيضا بقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...) الآية [الأحزاب : ٣٦] ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ، وقال فى موضع آخر : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرا ، ومعلوم أن كان ذلك حقّا لله عليهم ، بالسابق من نعمه ، مع عظم مننه ، لكنه سمى ما أفضل به أجرا له ، مع ما كان العبد

__________________

(١) فى ط : خنعوا لحكمه.

٦٠١

يعمل لنفسه ، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لو لا الإنعام منه جل ثناؤه.

ثم وعد له فى حال فعله بخصال ثلاثة :

إحداها : أن عليه صلاته. وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيما لما بذل عبده له ، وخضع لحكمه عليه ، وهو أن قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ...) الآية [البقرة : ٣٠] ، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة ، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع.

ويحتمل : مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران : ١٥٧] (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١] وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] إلى ما ذكر من الإفضال. والله الموفق.

ويحتمل ثناؤه ذكرهم فى أخبار عباده ، كقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٥٤] ، وقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...) الآية [آل عمران : ١٦٩]. مع ما يرجى له من زيادة الهدى فى الدنيا بقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] ، وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].

والثانية : الرحمة. قد يرجع [إلى ما ذكرنا ، وجائز أن تكون](١) رحمته هى التى أكرمته بذلك الاسترجاع.

ويحتمل : النعمة ، أو رحمة يلقيها فى قلوب العباد حتى يحبونه بها ، أو خلف يعطيه فى الدنيا.

والثالثة : ثم شهد الله لهم بالهداية ، وذلك يحتمل : أن يكونوا اهتدوا لدينه ، ولما من عليهم فى المصيبة من التسليم لله.

ويحتمل : الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] للاسترجاع. وقد روى عن نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم» (٢) ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) أخرجه الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس بلفظ : «أعطيت أمتى شيئا لم يعطه أحد من الأمم ، أن يقولوا عند المصيبة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)» وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٨٦).

٦٠٢

فهو على ما بينا من القول به ، وأما حق التسليم فقد كان فى توقيت وقت الصبر ، ثم روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الصبر عند الصدمة الأولى» (١). وقد روى عن أنس ، رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما من مصيبة وإن طال عهدها فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها كلما استرجع» (٢).

فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة ، أو رجع عما كان فرط منه وتاب.

والأول فى غير ذلك. والله الموفق.

ثم فى الآية وجوه من المعتبر :

أحدها : ما يلزم العبد من المصائب ، وما يستوجبه إذا وفى بما عليه.

والثانى : فى ذلك بيان أن الصحة ، والأمن ، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم فى الحكمة ، لكنها إنعام من الله ، وله الابتلاء بأخذه ؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر فى ذلك. والله الموفق.

والثالث : أن الله تعالى ذكر أنه بلا العباد بالذى ذكر ، ومعلوم أن ذلك يجرى على أيدى العباد بهم ، فأضاف ذلك إلى نفسه. ثبت أن له فى ذلك تدبيرا حتى يبلوهم به. والله أعلم.

وفيه أن الله تعالى قال : ونبلوكم بكذا ، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك ، وكذلك قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢١٤] ، ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ذلك بالله ، وتبين أيضا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضى القرار فى الطبع ، لم يحتمل أن يجيزهم به لو لا الأمر به وطاعة الله فى ذلك.

وأيضا أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد ، وكذلك قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] فعلى ذلك الرجاء والطمع وجملته أن أمر

__________________

(١) أخرجه البخارى (٣ / ١٧٧) كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور (١٢٨٣) ، ومسلم (٢ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨) كتاب الجنائز ، باب فى الصبر على المصيبة (١٥ / ٦٢٦).

(٢) أخرجه الحكيم الترمذى كما فى الدر المنثور (١ / ٢٨٧) ، ولفظه : «ما من نعمة وإن تقادم عهدها فيجدد لها العبد الحمد إلا جدد الله له ثوابها ، وما من مصيبة وإن تقادم عهدها فيجدد لها العبد الاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها وأجرها».

وله شاهد من حديث على بن الحسين :

أخرجه أحمد (١ / ٢٠١) ، وابن ماجه (١٦٠٠) ، وأبو يعلى (٦٧٧٧ ، ٦٧٧٨) ، وابن حبان فى المجروحين (٣ / ٨٨).

٦٠٣

الدنيا محمول كله على أسباب ، لا أنها توجب ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها ، فيكون الخوف والرجاء فى التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا. والله الموفق.

وأيضا : أن يعلم أن المصائب فى الدنيا ليست كلها عقيب الآثام ، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات ، أيضا لا يدل على وهن عقد المصائب ، ولا زلة بلى بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل ، عليهم‌السلام ، ولكن على وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى يريد أن يحمى وليه لذات الدنيا لينالها موفرة فى الآخرة.

والثانى : أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر ، فيبتلوا ، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا بالله. وإنما كذلك جعلت لمحنة.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨)

قال دل : قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

دل أن صعودهما من اللازم فى نسكه ، وكذلك صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا وقال : «نبدأ بما بدأ الله» (١) ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) الآية ، ولم يقل : بينهما. فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما ، مع ما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] ، وفى ترك صعودهما إحلال شعائر الله ، إذ قد بين الله أنهما (من شعائر الله). وما روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بينهما على ناقته ، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما ، فهو عندنا للعذر فعل ذلك ، وإلا فإنه قد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه صعدهما واستقبل البيت وقال : نبدأ بما بدأ الله.

دليل ذلك ما روى عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعذر به.

ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعى ؛ لما فيه من فعل السعى ، والراكب لا يسعى.

__________________

(١) طرف من حديث جابر الطويل : أخرجه مسلم (٢ / ٨٨٦) كتاب الحج (١٤٧ / ١٢١٨) ، وأبو داود (٢ / ١٨٢) كتاب الحج ، باب صفة حجة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٩٠٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٢٢) كتاب المناسك ، باب حجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٠٧٤).

٦٠٤

وقال الشافعى : روى عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة على ناقته ليرى الناس (١).

وقال : خبر جابر أولى من خبر ابن جبير ؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير. وذلك عن ابن جبير عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، وهو أولى ؛ لأن العذر كامن لا يعرف بالنظر من بعد ، وإنما يعرف بالتأمل ، أو بالخبر من عند ذى العذر ، وعلى هذا خرج خبر ابن عباس ، رضى الله عنه ، على أن خبر جابر لو صح على ما يروى فهو لما ذكر أنه «يرى الناس» فكأنه أراد أن يعلمهم ، وذلك كالتعليم منه ، والتعليم عليه لازم ، فهو بتركه يلام عليه ، فذلك عذر. والله أعلم.

والثانى : أنه يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه ، أنه كيف كان يفعله؟ فكان ذلك لمكان الدلالة للخلق بذلك هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة ، أن الأولى يفعلون ما يفعل الحاج ، لا على فعل الحج ، ولكن على التعليم ؛ فعلى ذلك أمر المروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله أعلم.

ثم اختلف فى الطواف بينهما بعد ما قيل : إن الجناح فيه لوجهين :

أحدهما : ما قيل (٢) : كان بالصفا صنم وبالمروة صنم فيخرجوا لمكانهما.

وقيل (٣) : كان بينهما أصنام ، لذلك كان يخرجهم.

ثم قال الشافعى : إن السعى بينهما مفروض (٤) ، حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٩٢٦) ، كتاب الحج ، باب جواز الطواف على بعيره وغيره (٢٥٤ / ١٢٧٣) ، وأحمد (٣ / ٢١٧ ، ٣١٣) ، وأبو داود (١ / ٥٧٩) كتاب الحج ، باب الطواف الواجب (١٨٨٥) ، والنسائى (٥ / ٢٤١) كتاب المناسك ، باب الطواف بين الصفا والمروة على الراحلة.

(٢) قاله الشعبى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٤١ ، ٢٣٤٢ ، ٢٣٤٤) ، وزاد السيوطى فى الدر (١ / ٢٩٢) سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٦٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٢).

(٤) ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد إلى أن السعى ركن من أركان الحج لا يصح بدونه ، حتى لو ترك الحاج خطوة منه يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه ، ويخطو تلك الخطوة.

وهو قول عائشة وعروة بن الزبير.

وذهب الحنفية إلى أن السعى واجب فى الحج وليس بركن ، وهو مذهب الحسن البصرى وسفيان الثورى.

وركن السعى عند الجمهور سبعة أشواط ، حتى لو ترك شيئا منها لم يتحلل من إحرامه ، أما الحنفية فإن ركن السعى أكثر أشواط السعى ، والثلاثة الباقية ليست ركنا ، وتنجبر بالفداء.

والمشى للقادر واجب فى السعى عند الحنفية والمالكية ، سنة عند الشافعية والحنابلة.

ينظر : فتح القدير (٢ / ١٥٦ ـ ١٥٨) ، والمسلك المتقسط (١١٥ ـ ١٢١) ، وشرح الرسالة ـ

٦٠٥

أقصى بلاد المسلمين أمر بالعود ليضع قدمه موضعها ويخطو تلك الخطوة.

واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : «إن الله كتب عليكم السعى بين الصفا والمروة فاسعوا» (١). وهو يأتى مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط ، ومرة يحتج بامرأة لا يعرف ولا يذكر اسمها.

والوجه فيه إن ثبت وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله. وهو أن يقال : (كتب) أى حكم ، كقوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦] ، وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء : ٢٤] ، قيل : به حكم الله عليكم.

وقال آخرون : ليس بفرض ولا لازم.

واحتجوا بما ذكر فى حرف أبىّ : «لا جناح عليه أن لا يطوف بينهما» ، ولا يذكر ذلك فى شىء واجب.

والثانى : إن هذه اللفظة لفظة رخصة ، ولا يرخص بترك ما هو فرض أو لازم.

ثم الجواب عن الحرف الأول أن اللاءات ربما تزاد وتنقص ، ولا يوجب زيادتها ونقصانها تغير حكمها ، كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أى : لا تضلوا. ومثل هذا كثير فى القرآن.

والثانى : ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام. فبين عزوجل أن لا حرج عليهم فى ذلك ، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج فى تركه.

وأما عندنا : فهو لازم ؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به ، والأصل عندنا : أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم ؛ كالطواف ، وسجدة التلاوة ، وكالوتر ، والأضحية وغيره.

وقد روى عن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أنها قالت : «ما تم حج امرئ قط إلا بالسعى». فهو وصف [بالنقصان لا وصف](٢) بالفساد ، وفرق بين التمام من النقص وبين

__________________

ـ وحاشية العدوى (١ / ٤٧٠ ـ ٤٧٢) ، وشرح المنهاج (٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧) ، شرح المهذب (٨ / ٧١) ، والمغنى (٣ / ٣٨٥ ـ ٣٩٠).

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤٢٢) عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبى تجزئة قالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكرته.

وله شاهد من حديث ابن عباس : أخرجه الطبرانى فى الكبير (١١ / ١٨٤) (١١٤٣٧) ، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد (٣ / ٢٥١) : وفيه المفضل بن صدقة وهو متروك.

(٢) سقط فى ط.

٦٠٦

الجواز من الفساد.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

قيل : (شاكِرٌ) ، أى يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير.

وقيل : يقبل القليل ويعطى الجزيل. وهو واحد.

عامل الله عزوجل بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له فى أموالهم وأنفسهم ؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل ، وإعطاء الجزيل من الثواب ؛ وحيث طلب منهم الإقراض ، ووعد لهم العظيم من الجزاء ، كمن لا حق له فيها ، بقوله : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ، وحيث خرج القول منه فى الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيه ، بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) [البقرة : ١٥٥] ، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه ، وذلك من غاية اللطف والكرم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

قيل : (الْبَيِّناتِ) هى الحجج ، أى كتموا ما أنزل الله من الحجج التى كانت فى كتبهم.

وقيل (١) : كتموا ما بين فى كتبهم من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته.

وجائز أن يكون (الْبَيِّناتِ) ما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام.

وقوله : (وَالْهُدى).

قيل : الصواب والرشد.

وقيل : (وَالْهُدى) ما جاءت به أنبياؤهم من شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ودينه وأمروا من هديه من

__________________

(١) قاله الربيع وقتادة والسدى ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٣٧٩ ، ٢٣٨٠ ، ٢٣٨١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٥ ، ٢٩٦).

٦٠٧

تصديقه وقيل : كتموا الإسلام ومن دين الله كتموا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل.

[وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) اختلف فى الناس.

قيل : هم اليهود كتموا بعد ما بين لهم](٢).

وقيل : بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه.

ويحتمل : البيان بالحجج والبراهين.

ويحتمل : البيان بالخبر ، أخبر المؤمنين بذلك.

وقوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) ، قال بعض أهل الكلام : اللعن : هو الشتم من الله تعالى ، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه ؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذموما به فى المعروف مما جبل عليه الخلق. ونقول : اللعن : هو الطرد فى اللغة ، طردهم الله عزوجل عن أبواب الخير.

وقوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، يعنى الداعين عليهم باللعن ، سموا بذلك «اللاعنين».

ويحتمل : تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر.

وقيل (٣) : (اللَّاعِنُونَ) هم البهائم ، إذا قحطت السماء ، وأسنت الأرض قالت البهائم : منعنا القطر بذنوب بنى آدم ، لعن الله عصاة بنى آدم.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا).

قيل (٤) : (تابُوا) عن الشرك ، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم ، و (وَبَيَّنُوا) صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن الكتمان ، و (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالكتمان ، و (وَبَيَّنُوا) ما كتموا.

وقوله : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

قيل : يتوب عليهم : يقبل توبة من يتوب.

وقيل : يتوب عليهم ، أى : يوفقهم على التوبة.

وقيل : (الرَّحِيمُ) : هو المتجاوز عن ذنبهم فى هذا الموضع.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) بدل ما بين المعقوفين فى أ ، ط : اختلف فى (بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ)

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٨٥ ، ٢٣٨٦ ، ٢٣٨٧ ، ٢٣٨٨) ، وعن عكرمة (٢٣٨٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٦).

(٤) انظر تفسير البغوى (١ / ١٣٤).

٦٠٨

وقيل : الكاشف عن كربهم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

قيل : لعنة الله ، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها.

ولعنة الملائكة قوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٥٠] جوابا لما سألوهم من تخفيف العذاب ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر : ٤٩] ، وكقوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧] ، فتقول لهم الملائكة : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ، هذا ما قيل من لعنة الملائكة.

وقيل : لعنة الناس أجمعين ، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة الماء بقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠] هذا لعنة الناس. والله أعلم.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

قيل : لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا ، كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣].

وقيل (١) : لا ينظرون ولا يؤجلون.

وقيل : لا يناظرهم خزان النار بالعذاب.

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

وقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

ذكر هذا الاسم ؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلها ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ، وكقوله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] ؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذى يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته ، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذى أعداد وأزواج وأشكال ، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٠٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٨).

٦٠٩

الخلق وجميع معايبهم. يقال : فلان واحد زمانه. يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته ، لا بحيث العدد ، إذ بحيث العدد مثله كثير.

وقوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، فيه إثبات إله واحد ، وفى قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفى غيره من الآلهة.

فإن قيل : لم كان هذا دليلا؟ وهو فى الظاهر دعوى.

قيل له : دليل وحدانيته فى قوله :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

خلق السموات وجعل فيها منافع ، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق ، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما ؛ إذ لا منفعة للخلق فى منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف فى الأرض بالكواكب ، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر ، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار ؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر ، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن ، ولكنه اتصل ، دل أنه فعل واحد ، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.

وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد ؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار ، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل.

وفيه ذهاب عيش الخلق ، وفى ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد.

والثانى : أنه جعل للخلق فى الليل والنهار منافعا ، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما ، كقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧٣]. فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.

وفيه دلالة حدوث العالم ؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. [فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء](١) بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثا.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين فى ط : ودل أنه جهل هذه الأشياء.

٦١٠

والثانى : أن كل واحد منهما ، أعنى الليل والنهار ، يصير بمجيء الآخر مغلوبا ، فلو لا أن كان ثم لغير فيه تدبير ، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا ، فدل أن لهما محدثا ، وأنه واحد.

فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت ؛ لأن الليل يأتى على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شىء ، وكذلك النهار يأتى على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شىء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد فى النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه ، وإن لم يبق له أثر ، على ما قدر من إيجاد ما أتلف ، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار ، ومن النهار بالليل ، وإن لم يبق له أثر.

وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، وقيل : اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا.

وقيل : اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما ، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد فى الآخر ، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان ، وبالله التوفيق ، ولتغير التدبير ، ولا يجرى كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه فى العام الأول.

وقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) فالآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه عزوجل جعل الفلك التى تجرى فى البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين ؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فلكا ، ولكن يسمى خشبا ، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه ، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات ؛ فدل أن له فيها صنعا وتقديرا حيث صار من عجيب آياته.

ثم فيه أعجوبة ، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله ، وأراهم من عظم آياته مما يجريه فى البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم ؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.

وفيه أيضا دلالة وحدانيته ؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر ، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما ؛ فدل أن محدثهما واحد.

ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.

وفى ذلك دلالة النبوة ؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر ، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء ، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح ، وفى الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.

٦١١

وقوله : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) ، وفيه دلالة فضل العلوى على السفلى ؛ لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبا ، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفا : منه ما هو عذب ومنه ما هو أجاج ، ومنه ما هو مر. فدل ذا [على] فضل العلوى على السفلى.

وقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، قد ذكرنا هذا أن فيه دلالة البعث.

وقوله : (وَبَثَّ فِيها) ، قيل : خلق.

وقيل : بسط.

وقيل (١) : فرق.

(مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).

قيل : جعل فيها من كل جوهر الدابة.

منها : ما جعل مأكولا منتفعا بها من كل أنواع المنافع ؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم فى الجنة.

ومنها : ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها ، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا فى النار.

وقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يحتمل وجهين :

يحتمل : تصرفها مرة للعذاب ، ومرة للمنافع ؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق : بها تجرى السفن فى البحار ، وبها تنشر السحاب فى الهواء ، وبها تنتفى الأشياء ، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك. ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شىء وإن لطف ، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرّا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير الله فيه تدبير.

ويحتمل : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) صرفه (٢) إياها مرة صباء ، ومرة دبورا ، ومرة جنوبا ومرة نسيما ، ومرة يمينا ، ومرة شمالا للمنافع.

ثم فيه دلالة أنها من الأجسام ، لا من الأعراض ؛ لأنه جل وعزّ جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام فى ناحيتها ، وذلك صفة الأجسام ، لا صفة الأعراض ، لكن لا ترى للطافتها ؛ فدل أنها من الأجسام ما لا يرى ولا يمس ، كالهواء لا يرى ولا يمس وهو من الأجسام ، وكالذرة التى فى الشمس ترى ولا تمس.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦٩) ، والبغوى (١ / ١٣٥).

(٢) فى ب : عرفه.

٦١٢

ثم دلهم عزوجل أن الذى سخر السحاب بالرياح التى جعلها فى الهواء ، وبما فيها من المنافع التى تقدم ذكرها ، على أن مدبرهما واحد ؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض فى التدبير والصنعة ، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر ، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر.

وفى اتساق التدبير واتقان (١) الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذى دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته ، وألزمتكم العبودية له بما أودع له فى كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته ؛ ولهذا قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج ؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة فى خلق هذه الأشياء : مم خلقت ، ولما ذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوى (٢) عليه خلقها وغير خلقها.

ثم فيه دلالة أن ما خلق من السموات والأرض ، والليل والنهار ، والرياح والسحاب ، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته ، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (يَتَّخِذُ) يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً).

وقيل : (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) فى التسمية. يعنى : يتخذ الجواهر التى تصاغ أو تنحت ونحو ذلك ، مما يتعلق كونهم بصنيعهم ، يسفههم بهذا ، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة ، وسلم لهم كل خير ، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا بالله.

وقيل : (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) ، أى أشباها فى التسمية ، أو أعدالا فى العبادة ، أو شركاء فى الحقوق كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا

__________________

(١) فى أ ، ط : واتفاق.

(٢) فى أ : لا يستوى.

٦١٣

هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ...) الآية [الأنعام : ١٣٦] ، يسفههم بما عبدوا ما قد صنعوه بالصناعة أو النحت ، وزينوا بأنواع الزينة ، وعلموا أنه لا يملك شيئا ، وأعرضوا بذلك عن عبادة من عرفوه بشهادة جميع العالم به [لهم وعلموا أنه لا يملك شيئا مما عبدوه ضرّا ولا نفعا](١) ، بل لو كان يجوز العبادة لغير الله لكان أولئك الذين اتخذوا أولى من المتخذين.

ثم بين عظم سفههم : علمهم بجهلها بعبادتهم ، وعجزها عن الدفع عنها ، ثم قاموا بنصرها والدفع عنها سفها بغير علم.

وقوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

قيل (٢) : يحبون عبادة الأنداد وطاعتهم [كحبهم عبادة](٣) الله وطاعته ؛ لأنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وقيل : يحبون عبادة الأنداد كحب المؤمنين عبادة ربهم.

وقيل (٤) : يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم.

ثم قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) منهم لآلهتهم.

قيل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أى : أشد حبّا لأجل الله.

وقيل : أى أشد اختيارا لطاعته ، وأكثر ائتمارا وإعظاما وإجلالا لأمره من إعظامهم وإجلالهم آلهتهم. والله أعلم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أى لعبادته منهم لعبادة الأوثان من حيث لا يؤثر المؤمن على عبادة الله ، أعنى فى الاختيار لا فيما يوجد من ظاهر الأحوال فى الدارين جميعا ، وهم يتركون عبادة الأوثان بوجود ما هو أعجب منها أو بأدنى شىء من متاع الدنيا.

ثم المحبة ـ محبة الشهوة والميل إليها ، وهو فى الخلق ، لا يحتمل فى الله ، ومحبته ـ الطاعة وإيثار الأمر والإعظام ، فهو فى الله يحتمل.

وبعد فإن الحب يخرج على الثناء ، وعلى العبادة والطاعة ، وعلى التبجيل والتعظيم ، وقد يخرج على ميل القلوب ، فحب الكفرة هذا ، وهو حب الجسدانى به الذى يولده

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤١٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٣).

(٣) فى ط : كعبادة.

(٤) قاله الربيع ، وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤١٧ ، ٢٤١٨) ، وأخرجه عبد بن حميد عن عكرمة وقتادة كما فى الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

٦١٤

الشهوة أو يستحسنه البصر.

وحب الله من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد ، بل هو من الوجوه التى ذكرنا ، وقد كان حب الهيبة والرغبة ؛ إذ علموا النعم كلها من الله تعالى ، وعلموا أن السلطان والعزة لله ولا أحد ينال شيئا من ذلك إلا بالله ، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة ، وما له من السلطان الهيبة. فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التى لا تحصى وأفضاله التى لا تحاط ، والعلم بهما موجبا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام. فيكون حبه فى الحقيقة فى تعظيم أموره ، وحسن صحبة نعمه ، ومعرفة حقوقه ، لا فى توهم ذاته ، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك ، بل هو فيما ذكرت ؛ ولذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١] ، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان فى ذلك هلاكه ، وتعظيما لأمره وتبجيلا ، فكيف فيما نجاته وفوزه فى الدارين. والله الموفق.

وقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

قوله : (يَرَى) قرئ بالياء والتاء جميعا (١).

ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : ولو ترى الذين ظلموا يا محمد : شهدوا لك : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

ومن قرأ بالياء ، يقول : ولو يرى الذين ظلموا فى الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة لله جميعا.

[ويحتمل : لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة لله جميعا](٢)

ويحتمل : المراد من قوله : (يَرَى) ، أى : يدخل ، كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات : ٣٦] ، أى لمن يدخلها ويصليها.

وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ).

(الَّذِينَ اتُّبِعُوا) يعنى : الرؤساء ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعنى : الأتباع والسفلة ، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة ، وهو كقوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا

__________________

(١) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٣ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، المحرر الوجيز (١ / ٢٣٥) ، والبحر المحيط (١ / ٦٤٥) ، والدر المصون (١ / ٤٢٨).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

٦١٥

هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] ، وقوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٩] ، وكقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ، وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] ، وقوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ : ٣٢] ، وكقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].

وقيل (١) : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) ، يعنى : الشياطين ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعنى : الإنس.

وقيل : يبرأ الله كلا غدا أن أوثانهم لن تغنى عنهم شيئا ، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم ، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار.

وقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ).

قيل (٢) : (الْأَسْبابُ) الأرحام والأنساب ؛ كقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، وكقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧].

وقيل : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) يعنى العهود والأيمان التى كانت بينهم فى الدنيا.

وقيل (٣) : تواصلهم فى الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئا ؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون فى الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضا ؛ كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

وقوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) التى لم يريدوا الله بها.

(حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ، أى : حسرة عليهم وندامة.

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٢٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٣٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٢٥ ، ٢٤٢٦ ، ٢٤٢٧ ، ٢٤٢٨ ، ٢٤٢٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

٦١٦

وقيل : كل عمل عملوه أرادوا به غير وجه الله ، كان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة.

وقيل (١) : أعمالهم التى عملوها فى الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع الله لهم الجنة ، فينظرون إلى مساكنهم التى كانت لهم ، وبأسمائهم لغيرهم ، وبأسماء غيرهم لهم.

قال : وهذا عندى لا يصح أن يجعل الله لأحد نصيبا فى الجنة ثم يحرمه ، ولكن هذا على أصل الوعد ـ وعد من أطاع الله الجنة ، ومن عصاه النار ـ فهو على أن هؤلاء لو أطاعوا كان لهم نصيبا فى الجنة ، وهؤلاء لو عصوا كان لهم نصيبا فى النار.

أو يكون ذكر النصيب لهؤلاء فى الجنة هو الذى ادعوه لأنفسهم كما قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم فى الجنة ؛ كما قال الله تعالى : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا* وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) [مريم : ٧٩ ـ ٨٠].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١٦٩)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

قيل فيه بوجوه :

قيل (٢) : إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر ، والسوائب ، والوصائل ، والحوامى ، فيقولون : حرم الانتفاع بها ؛ فأنزل الله تعالى فقال : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) وانتفعوا بها ؛ فإن الله لم يحرمها عليكم ، كقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣].

وقيل : خلق فى الأرض ما هو حلال وما هو حرام ؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام.

وقيل : إن قوما يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس ، ويتناولون من الدرن والرثة ، فنهوا عن ذلك.

ولا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها ، ولكن ما تطيب النفس من التناول ؛ لأن

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٤٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٣٧).

(٢) قاله ابن جرير بنحوه (٢ / ٨٠) ، والبغوى (١ / ١٣٨).

٦١٧

النفس لا تتلذذ بالتناول من كل حلال ، ولكن إنما تطيب بما هو لها ألذ وأوفق (١). والله أعلم.

وعلى ذلك قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآيات [الأعراف : ٣٢ ـ ٣٣]. فيكون كأنه الذى فى الأرض حلالا وحراما ، ثم فما حل طيب دون ما حرم. فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه ؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله فى القلب ، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه ، والتعظيم لمن أكرمه بالذى طابت له به النفس. والله أعلم.

واختلف فى قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

قيل (٢) : آثار الشيطان.

وقيل : وساوس الشيطان.

وقيل : سبل الشيطان ؛ كقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

فهو يرجع إلى واحد.

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وذكر فى موضع آخر ، وسماه وليّا بقوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧]. فالوجه فيه أنه يريهم فى الظاهر الموالاة ولكنه يريد فى الباطن إهلاكهم ، فإذا كان كذلك فهو فى الحقيقة عدو.

وجائز أن يكون (أَوْلِياؤُهُمُ) [البقرة : ٢٥٧] أى هو أولى بهم إذ عملوا ما عملوا بأمره ، أو أولياؤهم بما وافقوهم (٣) فى الفعل ، وشاركوهم فى الأمر (٤) ، وكانوا فى الحقيقة لهم أعداء ، إذ ذلك هلاكهم. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] ؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه ـ وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك ـ فهو ضعيف ؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف ، يوصف بالضعف ـ والله أعلم ـ ويكون ضعيفا على من يتأمل مكايده ويتحفظ أحواله.

وقوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ).

قيل : يحتمل : أن يكون السوء هو الفحشاء ، والفحشاء هو السوء. لما أن كل واحد

__________________

(١) فى أ : وأرق.

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٣٨).

(٣) فى ب : والوهم.

(٤) فى أ : الشر.

٦١٨

منهما يشتمل على كل نوع من الآثام.

ويحتمل : أن يكون السوء ما خفى من المعاصى ، والفحشاء ما ظهر منها.

وقيل (١) : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى (٢) وشرب

__________________

(١) قاله ابن عباس كما فى تفسير البغوى (١ / ١٣٨).

(٢) الزنى لغة : الفجور. وهذه لغة أهل الحجاز ، وبنو تميم يقولون : زنى زناء. ويقال : زانى مزاناة ، وزناء : بمعناه.

وشرعا :

عرفه الحنفية بتعريفين : أعم ، وأخص. فالأعم : يشمل ما يوجب الحد وما لا يوجبه ، وهو وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهته ، قال الكمال بن الهمام : ولا شك فى أنه تعريف للزنى فى اللغة والشرع ؛ فإن الشرع لم يخص اسم الزنى بما يوجب الحد منه بل هو أعم. والموجب للحد منه بعض أنواعه ؛ ولذا قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر ...» الحديث. ولو وطئ رجل جارية ابنه لا يحد للزنى ، ولا يحد قاذفه بالزنى فدل على أن فعله زنى وإن كان لا يحد به. والمعنى الشرعى الأخص للزنى : هو ما يوجب الحد ، وهو وطء مكلف طائع مشتهاة حالا أو ماضيا ، فى قبل خال من ملكه وشبهته ، فى دار الإسلام ، أو تمكينه من ذلك ، أو تمكينها.

وعرفه المالكية بأنه : وطء مكلف مسلم فرج آدمى لا ملك له فيه بلا شبهة تعمدا.

وعرفه الشافعية بأنه : إيلاج حشفة أو قدرها فى فرج محرم لعينه مشتهى طبعا بلا شبهة.

وعرفه الحنابلة : بأنه فعل الفاحشة فى قبل أو فى دبر.

والزنى حرام ، وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك والقتل ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً* إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢]. قال القرطبى : قال العلماء : قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) أبلغ من أن يقول : ولا تزنوا ؛ فإن معناه : لا تدنوا من الزنى. وروى عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الذنب عند الله أكبر؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت : ثم أى؟ قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت : ثم أى؟ قال : «أن تزانى بحليلة جارك».

وقد أجمع أهل الملل على تحريمه فلم يحل فى ملة قط ؛ ولذا كان حده أشد الحدود ؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب. وهو من جملة الكليات الخمس ، وهى حفظ النفس والدين والنسب والعقل والمال.

ويتفاوت إثم الزنى ويعظم جرمه بحسب موارده : فالزنى بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنى بأجنبية أو من لا زوج لها ؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج ، وإفساد فراشه ، وتعليق نسب عليه لم يكن منه ، وغير ذلك من أنواع أذاه ؛ فهو أعظم إثما وجرما من الزنى بغير ذات البعل والأجنبية. فإن كان زوجها جارا انضم له سوء الجوار ، وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى ، وذلك من أعظم البوائق ، فلو كان الجار أخا أو قريبا من أقاربه انضم له قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم ، وقد ثبت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بواثقه» ، ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأة الجار. فإن كان الجار غائبا فى طاعة الله كالعبادة ، أو طلب العلم ، أو الجهاد ، تضاعف الإثم حتى إن الزانى بامرأة ـ

٦١٩

الخمر (١) وغيره.

__________________

ـ الغازى فى سبيل الله يوقف له يوم القيامة ، فيأخذ من عمله ما شاء ، قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين فى أهله فيخونه فيهم ، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء فما ظنكم؟!» أى : ما ظنكم أن يترك له من حسناته وقد حكم فى أن يأخذ ما شاء على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة. فإن اتفق أن تكون المرأة رحما له انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها ، فإن اتفق أن يكون الزانى محصنا كان الإثم أعظم ، فإن كان شيخا كان أعظم إثما وعقوبة ، فإن اقترن بذلك أن يكون فى شهر حرام ، أو بلد حرام ، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلوات وأوقات الإجابة تضاعف الإثم. ينظر : شرح القدير (٥ / ٣١) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ١٤١) ، حاشية الدسوقى (٤ / ٣١٣) ، مغنى المحتاج (٤ / ١٤٣).

(١) حرمة الخمر ثابتة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠ ، ٩١]. وتحريم الخمر كان بتدرّج وبمناسبة حوادث متعددة ؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها. وأول ما نزل صريحا فى التنفير منها قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعضهم ، وقالوا : نأخذ منفعتها ، ونترك إثمها. فنزلت هذه الآية : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فتركها بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعضهم فى غير أوقات الصلاة حتى نزلت : يا (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) الآية ؛ فصارت حراما عليهم ، حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر.

وقد أكد تحريم الخمر وكذلك الميسر فى الآية بوجوه من التأكيد : منها : تصدير الجملة ب (إنما). ومنها : أنه سبحانه وتعالى قرنهما بعبادة الأصنام. ومنها : أنه جعلهما رجسا. ومنها : أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتى منه إلا الشر البحت. ومنها : أنه أمر باجتنابهما. ومنها : أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة وممحقة. ومنها : أنه ذكر ما ينتج عنهما من الوبال ، وهو وقوع التعادى والتباغض من أصحاب الخمر والقمار ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ، أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟!

وأما السنة فقد وردت أحاديث كثيرة فى تحريم الخمر قليلها وكثيرها.

وقد قال جماهير العلماء : كل شراب أسكر كثيره حرم قليله ، فيعم المسكر من نقيع التمر والزبيب وغيرهما ؛ لما تقدم من الآية الكريمة ، وللأحاديث الشريفة التالية : عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل شراب أسكر فهو حرام». وقال عليه الصلاة والسلام : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام» ، وعن سعد بن أبى وقاص أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» ، وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، وقال عليه الصلاة والسلام : «كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» ، وعن أم سلمة قالت : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل مسكر ومفتر». فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر حرام ، ومنها ما يدل على تسمية كل مسكر خمرا ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر خمر» ، كما يدل بعضها على أن ـ

٦٢٠