تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

قيل (١) : الشهادة التى عنده : علمهم أنهم كانوا مسلمين ، ولم يكونوا على دينهم.

وقيل (٢) : الشهادة التى عندهم بالإسلام : أنه دين الله وأنه حق.

وقيل (٣) : الشهادة التى كانت عندهم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بيّنه الله فى كتابهم وأخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فكتموه وكذبوه.

وقيل (٤) : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) فى قول اليهود لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وما ذكر من الأنبياء كانوا هودا أو نصارى ؛ فيقول الله ـ عزوجل ـ : لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك. وقد علم الله أنكم كاذبون.

وقيل (٥) : (وَالْأَسْباطِ) : بنو يعقوب ؛ سموا أسباطا ؛ لأنه ولد لكل رجل منهم أمّة.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

خرج على الوعيد ، أى : لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون.

ويجوز أن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون ، بل على علم بما يعملون خلقهم ؛ ليعلم أن ليس له فى شىء من عمل الخلق له حاجة ؛ ليخلقهم على رجاء النفع له ، ولا قوة إلا بالله.

خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه.

وقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية.

قد ذكرنا هذا فيما مرّ.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة بنحوه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٦٠).

(٣) ينظر التخريج السابق.

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣٨).

(٥) تقدم.

٥٨١

وقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها).

هذا ـ والله أعلم ـ وعد كان وعده عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس ، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئا.

ألا ترى إلى قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] ، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرا منه وتحكما عليه.

وليس لأحد على الله التخيير والتحكم عليه فى الأحكام والشرائع ولا فى غيرها ، فدل أنه على الوعد له ما فعل. والله أعلم.

ثم فيه إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة.

[والقول منهم نقل أنه علم ذلك بالله واختلف فى قوله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) قيل : هو اليهود ، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة](١)

وذلك أنهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام ؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها.

وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور ، كبان بنى بناء ثم نقضه لجهل منه به.

لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره.

ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام.

وأما النسخ عندنا : فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى ، بل تجديد حكم فى وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه ، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذى وصفوا. وبالله التوفيق.

وإن كانت الآية فى غير اليهود من أهل مكة ، على ما يقول بعض أهل التفسير ، فقالوا : لما رجع محمد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا. فقال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).

قل يا محمد : لله المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحى ، يأمر بالتوجه إلى أى ناحية شاء شرقا وغربا ، فالطاعة له فى الائتمار لأمره ، والقبول لدعائه ، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لهوى هووا ولتمنّ تمنوا ؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعا لهواهم ، لا اتباعا لأمر أمروا به.

وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم ؛ فأخبر الله تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون بالله حيث ما أمروا توجهوا نحوه.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٥٨٢

وقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

هذا على المعتزلة ؛ لأنه أخبر عزوجل أنه (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، ولا جائز أن يهدى وهو لا يهتدى. وهم يقولون : شاء أن يهدى ولكن لم يهتدوا.

قوله : (مَنْ يَشاءُ) على (١) أن مشيئة الهداية ليست للكل على ما قالت المعتزلة : أن هدايته بيان وذلك للجميع.

وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب ؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة فى الكتاب ، بل عملوا على سنة الأولين الماضين ، وهذا على الشافعى ؛ لأنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة إلا بعد عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا عمل به صار سنة ، فهو نسخ السنة بالسنة ، لا نسخ بالكتاب.

فهذا منه قبيح فاحش.

وفيه نبذ الكتاب وهجره ، وقد نهينا عنه ، والتحكم على الله عزوجل ؛ لأنه لم يجعل الكتاب من القدر ما يقع فيه الزجر على ما كان عليه آنفا لو لا علمه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنعوذ بالله من السرف فى القول والزيغ عن الهدى.

ولكن لم يعرف ما النسخ وما قدره ، ولو علم لما قال بمثله. وهو عندنا : ما ذكرنا (٣) من بيان منتهى الحكم إلى وقته ، ولله جل جلاله نصب الأحكام والشرائع فى كل وقت ، يبين ذلك مرة بالكتاب ، وتارة على لسان المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبالله التوفيق.

وكما (٤) جعل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعمل به ، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة. فكذلك فى غيره من الناس. والله أعلم.

وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

(وَكَذلِكَ) ، لا يتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا على العطف على ما سبق من الخطاب ، وهو ـ والله أعلم ـ معطوف على قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ ...) الآية [١٣٦] ، كأنه قال : كما وفقكم على الإيمان بما ذكر ، وهداكم للإسلام ، كذلك جعلكم (أُمَّةً وَسَطاً) يعنى عدلا ، (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

__________________

(١) فى ب : إلى.

(٢) فى ب : عمله.

(٣) فى أ : ذكر.

(٤) فى ب : ولما ..

٥٨٣

ثم اختلف فى قوله : (عَلَى النَّاسِ) :

قيل : «على» بمعنى «اللام» أى للناس. وهذا جائز فى اللغة سائغ ، كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أى للنصب.

وقيل : (عَلَى) بمعنى «على» ، أى أن يشهدوا (١) على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة ، ويشهد الرسول لهم بالعدالة.

وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر ، ورد شهادتهم علينا (٢) ؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ ، ثم شهد أولئك بأنهم لم يبلغوا ، لكان فيه تناقض. فدل أن شهادتنا تقبل عليهم ، ولا تقبل شهادتهم علينا. والله أعلم.

ويحتمل قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الذين أبوا إجابة الرسل. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أن جحدتم الرسالة ، وذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) الآية [١٤٣] ، أضاف الله إليه جعلهم (أُمَّةً وَسَطاً). ثبت أن لله فى فعل ذلك فعل به ذكر مننه. والله أعلم.

قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، فالوسط : العدل. أخبر ـ عزوجل ـ أنه جعل هذه الأمة عدلا ، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها.

ففيه الدلالة على [جعل إجماع (٣) هذه الأمة](٤) حجة ؛ لأنه وصفها بالعدالة ، وصيرها

__________________

(١) فى أ : تشهدوا.

(٢) الأصل أن يكون الشاهد مسلما ؛ فلا تقبل شهادة الكفار ، سواء أكانت الشهادة على مسلم أم على غير مسلم ؛ لقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. وقوله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، والكافر ليس بعدل وليس منا ، ولأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى فلا يؤمن منه الكذب على خلقه. وعلى هذا الأصل جرى مذهب المالكية والشافعية والرواية المشهورة عن أحمد. لكنهم استثنوا من هذا الأصل شهادة الكافر على المسلم فى الوصية فى السفر فقد أجازوها ؛ عملا بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ). وأجاز الحنفية شهادة الذميين بعضهم على بعض ، وإن اختلفت مللهم ، وشهادة الحربيين على أمثالهم. وأما المرتد فلا تقبل شهادته مطلقا.

ينظر : البحر الرائق (٧ / ١٠٢ ، ١٠٤) ، المبسوط (١٦ / ١٣٣ ، ١٣٥).

(٣) الإجماع فى اللغة يراد به تارة : العزم ، يقال : أجمع فلان كذا ، أو أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، وتارة يراد به : الاتفاق ، فيقال : أجمع القوم على كذا ، أى : اتفقوا عليه ، وعن الغزالى أنه مشترك لفظى. وقيل : إن المعنى الأصلى له العزم ، والاتفاق لازم ضرورى إذا وقع من جماعة.

والإجماع فى اصطلاح الأصوليين : اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عصر ما بعد عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر شرعى ، والمراد بالأمر الشرعى : ما لا يدرك لو لا خطاب الشارع ، سواء أكان قولا أم فعلا أم اعتقادا أم تقريرا. ينظر : المستصفى (١ / ١٧٣).

وجمهور أهل السنة على أن الإجماع ينعقد باتفاق المجتهدين من الأمة ، ولا عبرة باتفاق غيرهم مهما كان مقدار ثقافتهم ، ولا بد من اتفاق المجتهدين ولو كانوا أصحاب بدعة إن لم يكفروا ـ

٥٨٤

من أهل الشهادة. فإذا اجتمعوا على شىء وشهدوا به ، لزم قبول ذلك ، والحكم بما شهدوا ، والشهادة فيه أنه من عند الله وقع لهم ذلك.

والثانى : قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ، أخبر الله عزوجل أن فيهم صدقة ، يلزم اتباعهم.

والثالث : ما قال عزوجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥] ولا يجوز الوعيد فى مثله إذا لم يكن ذلك هو الحق عند الله.

والرابع : قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] ، أمر عزوجل عند التنازع الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر. والله أعلم.

وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، روى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال : يسأل الله تعالى يوم القيامة الأمم عن تبليغ الأنبياء رسالته إليهم ، فينكرون. ثم يأتى بهذه الأمة يشهدون عليهم بالتبليغ. فذلك قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، ويشهد الرسول عليهم يعنى لهم بالعدالة والتزكية. والله أعلم.

__________________

ـ ببدعتهم ، فإن كفروا بها كالرافضة الغالين فلا يعتد بهم ، وأما أصحاب البدعة غير المكفرة أو الفسق فإن الاعتداد بخلافهم أو عدم الاعتداد فيه خلاف وتفصيل بين الفقهاء والأصوليين.

وذهب قوم إلى أن العبرة باتفاق الخلفاء الراشدين فقط ؛ لما ورد عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ، عضوا عليها بالنواجذ». وهذا خبر آحاد لا يفيد اليقين ، وعلى فرض التسليم فإنه يفيد رجحان الاقتداء بهم لا إيجابه.

وقال قوم : إن الإجماع هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم ، وهذا ظاهر مذهب مالك فيما كان سبيله النقل والتواتر ، كبعض أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كالأذان والإقامة وتحديد الأوقات وتقدير الصاع والمد ، وغير ذلك مما يعتمد على النقل وحده لا على الاجتهاد ، وما سبيله الاجتهاد فلا يعتد عنده بإجماعهم.

وقد اتفق الأصوليون على أن الإجماع ممكن عقلا ، وذهب جمهورهم إلى أنه ممكن عادة ، وخالف فى ذلك النظّام وغيره. وخالف البعض فى إمكان نقله. ينظر : إرشاد الفحول للشوكانى ص (٧٣).

والإجماع حجة قطعية على الصحيح ، وإنما يكون قطعيا حيث اتفق المعتبرون على أنه إجماع ، لا حيث اختلفوا ، كما فى الإجماع السكوتى وما ندر مخالفه. ينظر : شرح جمع الجوامع وحاشية البنانى عليه (٣ / ٢٢٤).

(٤) فى ب : جعل هذه الإجماع.

(١) أخرجه ابن جرير بنحوه (٢٢٠٣).

٥٨٥

قال الشيخ ـ رضى الله تعالى عنه ـ : وفى قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، وجهان :

أحدهما : على الكفرة. وفى ذلك دليل قبول شهادة المسلمين عليهم ، ورد شهادتهم عليهم ، لما يتناقض فيزول منفعة الشهادة عليهم.

والثانى : ليكون من شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شهود على من يكون بعدهم.

وفى ذلك دليل من تأخر الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، عن الخلاف لهم ، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إذا خالفتموه وعصيتموه.

وقوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

فهذا ـ والله أعلم ـ لما كانوا فى المتابعة على قسمين :

منهم من تبعه لما وافق هواه.

ومنهم من تبعه لما علم أنه الحق من عند الله عزوجل ؛ ليبين (١) لهم ويقع علم ذلك عندهم : من المتبع له بهواه ، ومن المتبع له بالأمر والطاعة له.

وقيل أيضا فى قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) ، قيل : ليعلم من يتبع الرسول ما قد علم أنه يكون كائنا ، وليعلم ما قد علم أنه يوجد موجودا.

وقيل : إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم. معناه ـ والله أعلم ـ إلا ليكون المتبع له ، والمنقلب على عقبيه.

ثم الأصل فى هذا ونحوه من قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١] ، أنا لا نصف الله تعالى بالعلم فى الخلق ، قال : غير الحال التى الخلق عليها ؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على غير الحال التى عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : يعلم من الساكن فى حال السكون حركة ، أو السكون فى حال الحركة ، أو يعلم من الجالس قياما ، أو القائم (٢) جلوسا.

وكذلك لا يجوز أن يقال : يعلم من العدم موجودا ، أو من الوجود معدوما فى حال وجوده ؛ لأنه وصف بعلم ما ليس ، وهو محال. وبالله العصمة.

وقيل : إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدث ـ بفتح الدال ـ أى : يسند علمه إلى المحدث بذكر الوقت ؛ لئلا يفهم بذكره قدم المعلوم فى

__________________

(١) فى أ : فامتحنهم الله عزوجل ليبين.

(٢) فى أ ، ط : النائم.

٥٨٦

الأزل.

وإذا وصفنا الله بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق مع ذلك نصفه بالذى نصفه به فى الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

يعنى : تحويل القبلة ، لكبيرة : ثقيلة ، على من كان اتباعه لهواه ، دون أمر أمر به ، إلا على الذى يتبع أمر الله فيها ويعتقد طاعته فإنها ليست بثقيلة عليه ولا كبيرة.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

قال بعض أهل التفسير (١) : إن قوما صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا على ذلك ، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا : ضاعت صلواتهم التى صلوا إليها ، إشفاقا عليهم.

لكن هذا بعيد لا يحتمل ؛ لأن الذى اعتقد الإسلام من الصحابة ، رضى الله تعالى عنهم ، وعرف موقع أمر الله وأمر رسوله ، لا يجوز أن يخطر ببالهم [هذا ، أو يعملون لو خطر ببالهم](٢) حتى يسألوا عن ذلك ، بل كانوا أعلم بالله من أن يجد عدو لله فيهم ذلك ؛ ولأنهم قوم يأتمرون بأمر الله وطاعته ، ويموتون على التصديق ، وعلموا أنهم مؤمنون ، ثم يشككون (٣) فى أحوالهم ، لكن إن كان ثم سؤال فهو من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ فى الأحكام والشرائع ، فكانوا يحتجون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ينهى عن التفرق والاختلاف ، ثم يدعوهم إلى ذلك. أو قوم من الكفرة آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفرطوا فى التكذيب له والخلاف والمعاداة ، فأرادوا الإسلام ، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، لما كان منكم فى حال الكفر.

ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

أخبر أنه (رَحِيمٌ) يتجاوز عمن تاب.

أو قوم علموا ألا تناسخ فى الدين ولا اختلاف فيه ؛ فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها

__________________

(١) قال ابن عباس : لما وجه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله ، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أخرجه أحمد (١ / ٢٩٥ ، ٣٠٤) ، وأبو داود (٤٦٨٠) ، والترمذى (٢٩٦٤) ، وابن جرير (٢٢٢٤) ، وابن حبان (١٧١٧) ، والحاكم (٢ / ٢٦٩).

(٢) سقط فى أ ، ط.

(٣) فى أ : يشكون.

٥٨٧

يوجب اختلافا فى الدين وتفرقا فيه.

فنقول : إن الإيمان فى الأصل الذى لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة ، بل يقع على الائتمار. فالإيمان من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس ، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة. فلا تفرق ولا اختلاف فى الإيمان ، إذ فى الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار. وبالله التوفيق.

ثم قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) تأويله : أى لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس. ولو كان على الصلاة فهو لوجهين :

أحدهما : أنها إنما قامت بالإيمان ، فهو سبب لها ، وقد يذكر الشىء باسم سببه.

والثانى : أن اليهود عرفوه إيمانا ، فورد الخطاب على ما عندهم معروف ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ، لا أن كان ثم آلهة ، لكن لما عندهم ، وكذلك قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، لا أن كان ثم خالق سواه ، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقا ، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول. والله أعلم.

قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٤٨)

وقوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ).

قد ذكرنا أنه يخرج على الوعد له.

قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

قال بعض المفتون (١) : إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود. ولكن هذا بعيد ؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين ، فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

__________________

(١) ورد فيه حديث عن البراء بن عازب : أخرجه ابن ماجه (١٠١٠) ، وهو قول ابن عباس : أخرجه ابن مردويه عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٦٩) ، وقول قتادة والربيع والسدى : أخرجه ابن جرير عنهم (٢٢٣٥ ، ٢٢٣٦ ، ٢٢٣٧ ، ٢٢٣٨) ، وفى أ ، ط : المفسرين.

٥٨٨

إلا أن يقال : كره كراهة الطبع والنفس ، وأما كراهة الاختيار ، فلا يحتمل.

ويقال : إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها ، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس ، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها ، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها ، أو أن يقال : «قبلة ترضاها» ؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل ، فلا شك أنه كان يرضاها. وهذا جائز فى الكلام. يقول الرجل لآخر : أعطيك شيئا ترضاه ، وإن لم يظهر منه الكراهية فى ذلك ، ولا التردد.

وقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وقد ذكرنا القول فى القبلة ، والاختلاف فيه فيما تقدم.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

يحتمل قوله : (أَنَّهُ الْحَقُ) على وجهين :

أحدهما : أى علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق ، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم.

والثانى (١) : أى علموا بما بيّن له فى كتبهم أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه حق.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

وهو على ما ذكرنا أنه على الوعيد والتهديد. والله أعلم.

وقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه ؛ لأنها لو كانت فى أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعوى الكذب عليه ؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن. فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد ، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصا. وكان ظاهرا فى أهل الإسلام وأهل الكفر جميعا المعنى الذى وصفنا لك. فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه فى موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له. ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحى عن الله عزوجل.

وفيه أن كثرة الآيات وعظمها فى نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه.

وقوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

__________________

(١) زاد فى أ : يحتمل.

٥٨٩

فيه الوعد له بالعصمة فى حادث الوقت وما يتلوه.

ويحتمل قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، أى وما لك أن تتابعهم فى القبلة ، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة.

وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهى.

ويحتمل : أن يكون المراد من الخطاب غيره.

وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم ، فعلى ذلك معرفة الرسل ، عليهم‌السلام ، إنما تكون بالدلائل والأعلام ، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب فى رسول الله ظاهرة ، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق ، دليله قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

والكتمان أبدا إنما يكون بعد العلم بالشىء ؛ لأن الجاهل بالشىء لا يوصف بالكتمان.

وروى عن عبد الله بن سلام ، أنه قال : أعرفه أكثر مما أعرف ولدى ؛ لأنى لا أدرى ما أحدث النساء بعدى (١).

وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك.

وقيل : (لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] : لا يؤمنون ؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه ، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته فى كتبهم ، كما قال الله عزوجل : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧].

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

يحتمل : أن يكون الخطاب له والمراد غيره.

ويحتمل : هو ، وإن كان يعلم أنه لا يمترى ؛ لما ذكرنا فى غير موضع أن العصمة لا

__________________

(١) أخرجه الثعلبى من طريق السدى الصغير عن الكلبى عن ابن عباس عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٧١).

٥٩٠

تمنع النهى عن الشىء.

وقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).

قيل فيه بوجوه :

قيل : «هو موليها» [يعنى الله موليها](١) ومحولها.

وقيل : «هو» يعنى المصلى ، هو موليها.

وقيل (٢) : ولى ـ أقبل وأدبر ـ (هُوَ مُوَلِّيها) هو مستقبلها.

ويقال فى قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة.

وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٣) : بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات.

وقيل : (فَاسْتَبِقُوا) هو اسم الازدحام ، يقول : يبادر بعضكم بعضا بالخيرات.

ويحتمل : أى استبقوا فى أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة. والله ورسوله أعلم.

وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً).

قيل : أينما كنتم يقبض الله أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة.

وقيل : (أَيْنَ ما تَكُونُوا) أى فى أى حال كنتم ـ عظاما ناخرة أو بالية أو رفاتا ـ يجمعكم الله ويحييكم ، ولا يتعذر عليه ذلك ، وهو كقوله : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٤٩ ـ ٥١] ، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه ، ولا يشتد من الإحياء والإماتة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا

__________________

(١) سقط فى أ ، ط.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩١ ، ٢٢٩٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٧٢).

(٣) قاله الربيع بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٣) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٢٦).

٥٩١

وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١٥٢)

وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

نقول ـ والله أعلم : حيثما كنت من المدائن والبلدان (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، شطره : تلقاءه ونحوه وجهته.

وهذا يبطل قول من يقول : إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت ، وبعد من أهل الآفاق ، حيث أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وبالله العصمة والتوفيق.

وقال الشيخ رحمه‌الله تعالى : ذكر المسجد ، ومعناه موضعا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية ، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.

وقوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

قيل (١) : (وَإِنَّهُ) تحويل القبلة ، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ).

وقيل : (وَإِنَّهُ) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) [ويحتمل يعنى : القرآن هو الحق من ربك](٢).

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على ما ذكرنا.

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

خاطب الكل ، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا ، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.

وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)

تأويل هذا الكلام ـ والله أعلم ـ أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة ، والنصارى ناحية المشرق بهواهم ، فأنزل الله عزوجل : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٣٤).

(٢) سقط فى أ ، ط.

٥٩٢

مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢] ، وقال : فأينما تولوا وجوهكم شطره ، فثم وجه الله. فيقطع عذرهم وحجاجهم بما بين فى كتب لهم أنه يحولهم. وذلك معنى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ثم اختلف فى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

قيل : أراد ب «الناس» أهل الكتاب ، وأراد ب «الذين ظلموا» غيرهم من الكفرة.

وتأويله : لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة ، ولا الذين ظلموا.

وقيل : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) يعنى أهل الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقولوا : ليس هذا الوصف فى كتبهم أنه يصلى إلى بيت المقدس وقتا ثم يتحول إلى الكعبة ، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يقول : إلا من ظلم منهم عليكم فى الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا : ليس هذا الوصف. ومثل هذا جائز فى الكلام ، يقول لآخر : ليس لك على حجة إلا أن تظلمنى بلا حجة.

وقال الفراء : هذا كما يقول الرجل لآخر : الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدى عليك ، صواب فى المعنى ، خطأ فى العربية. وذكر بيتا يدل على الجواز.

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان (١)

بمعنى : ولا دار مروان.

وقيل أيضا : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) على القطع من الأول والابتداء بهذا ، أى : لا تخشوا الذين ظلموا فى الضرر لكم ، ولكن اخشونى فى ترككم إياها ، وأن يقال : لا تخشوهم بالقتال والغلبة ، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء ، وعلى هذا يخرج قوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) يعنى الأمن من الأعداء ، [ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله : (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] قيل : هو الأمن من الأعداء](٢) أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام ، والنصر ، وغيره.

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) القبلة.

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الإرشاد والصواب.

__________________

(١) البيت للفرزدق فى الكتاب (٢ / ٣٤٠) ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى تذكرة النحاة ص (٥٩٦) ، والجنى الدانى ص (٥١٩) ، والمقتضب (٤ / ٤٢٥).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

٥٩٣

وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

(كَما) حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام ؛ إذ هو حرف عطف ونسق ، وهو ـ والله أعلم ـ كما أرسلنا إليكم رسولا ، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.

ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير : كأنه قال : فاذكرونى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، وذلك فى القرآن كثير.

قال الفراء : يحتمل : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم ، فيكون فيه جوابه ؛ لذلك جزم ، وهذا كقول الرجل : كما أحسنت فأحسن.

وقوله : (وَيُزَكِّيكُمْ) ، قال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : يأخذ زكاة أموالكم (١) ، ففيه زكاتهم (٢).

وقيل : (وَيُزَكِّيكُمْ) يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها ، وهو التوحيد ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) هو القرآن.

(وَالْحِكْمَةَ) ، قيل فيه بوجوه :

قيل : «الحكمة» : الفقه.

وقيل : «الحكمة» : الحلال والحرام.

وقيل (٣) : «الحكمة» : السنة.

وقيل (٤) : «الحكمة» المواعظ.

وقيل : «الحكمة» : هى الإصابة ؛ ومنه سمى الحكيم حكيما ؛ لأنه مصيب.

وقال الحسن : (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : واحد ، وهو على التكرار ؛ كقوله : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ١] ، وهما واحد.

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من التوحيد والشرائع ، والمحاجة مع الكفرة ،

__________________

(١) فى ط : أموالهم.

(٢) تقدم

(٣) انظر تفسير البغوى (١ / ١٢٨).

(٤) ينظر : التخريج السابق.

٥٩٤

وما أكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنعم عليهم من أنواع النعم.

وقوله : (رَسُولاً مِنْكُمْ) : خاطب العرب ، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم ، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك ، كقوله : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٧] ، فمنّ عليهم بذلك ، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم ، وكفى بهم فضلا ، وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢].

وقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

قيل (١) : (فَاذْكُرُونِي) قيل : بالطاعة فى الدنيا ، (أَذْكُرْكُمْ) فى الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.

وقيل (٢) : اذكرونى فى الرخاء والسعة ، أذكركم فى الضيق والشدة.

وقيل : اذكرونى فى الخلوات ، أذكركم فى ملأ الناس وأذكركم فى ملأ من الملائكة.

ويحتمل : اذكرونى بالشكر بما أنعمت عليكم ، أذكركم بالزيادة عليها. والله أعلم.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) ، أى : وجهوا شكر نعمتى إلىّ ، ولا تشكروا غيرى.

ويحتمل : (وَاشْكُرُوا لِي) : أى وجهوا العبادة إلىّ ، (وَلا تَكْفُرُونِ) : ولا تعبدوا غيرى. والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره ، إذا لم يبق له أحد يذكر به من

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣١٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٧٣).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢٨).

٥٩٥

نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هؤلاء : إن ذكرهم قد انقطع ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم مذكورون فى ملأ الملائكة.

وقال الحسن (١) : إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان ، وتعرض أرواح الكفرة على النيران ، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك ، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم.

أخبر عزوجل : أن أرواح الشهداء فى الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه فى الأجساد فى دنياهم هذه.

وقيل (٢) : إن الشهيد حى عند ربه ، كما عرف فى اللغة : أن الشهيد هو الحاضر ، أخبر عزوجل أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.

وقيل : إن الحياة والموت على ضروب :

فمنها : الحياة الطبيعية ، والحياة العرضية ، والموت الطبيعى ، والموت العرضى.

فالحياة العرضية هى اليقظة ، وهى الحياة بالدين ، كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] ، وكقوله فى الحياة بالعلم ، إنه ميت بالجهل.

والحياة الطبيعية : هى التى بها قوام النفس.

والموت الطبيعى : هو الذى به فوات النفس.

والشهادة : هى التى بها اكتساب الحياة فى الآخرة ، سمى به (حياة). والله أعلم.

ويحتمل قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) ، أى لا تقولوا (أموت) ، لما ينفر طبعكم عن الموت ، ولكن قولوا (أَحْياءٌ) لترغب أنفسكم فى الجهاد ، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين ، مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. والله أعلم.

وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

وقوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٣٠).

(٢) قاله أبو العالية بنحوه ، أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقى فى الشعب كما فى الدر المنثور (١ / ٢٨٤) ، ووردت آثار فى هذا المعنى فانظرها فى تفسير ابن جرير (٢ / ٤٢ ، ٤٣).

٥٩٦

وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) وما ذكر فيه تذكير من الله عزوجل للخلق ؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر ، من المصائب.

وفى كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار «شىء» ، من نحو (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) و (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) والله أعلم ؛ لأن الله عزوجل أخبر فى غير آية من القرآن : أنه خلقهم للموت والفناء ، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] وقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨) [الكهف]. أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء ، فمن عرف أن ذلك كله [لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص فى الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله](١) دون ما ذكر ، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم ، بل للإفضال والإحسان ، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد ، فكأنها فى غير تلك المدة لغيرهم لا لهم ، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.

ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين :

على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.

ويحتمل لا على جهة العبادة ، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذى فيه عبادة ، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة فى القحط ما أصاب أهل مكة سنين ، وكذلك قوله : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) ، يحتمل : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها ، وكذلك (وَالْأَنْفُسِ) يحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك (وَالثَّمَراتِ).

ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره ؛ لأنهم كلهم عبيده ، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء ، فالبعض منه كذلك ، ليخف ذلك عليهم. والله أعلم.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التى امتحنهم بها عزوجل ، ولم يجزعوا عليها ، وقالوا : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). فيه الإقرار بوحدانيته عزوجل ، وبالبعث بعد الموت.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

٥٩٧

وقيل (١) : إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم ؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة ؛ ألا ترى أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه ، ولكن قال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره ؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. والله أعلم.

وروى عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضى به» (٢).

ثم الصبر : هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت ؛ إذ هو كله لله عزوجل مستعار عند الخلق ، والجزع على فوت ما لغيره محال ؛ ألا ترى إلى قوله عزوجل : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣]. نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا ؛ إذ هو فى الحقيقة ليس لنا ، وأن نفرح بما أتانا ؛ إذ هو فى الحقيقة لغيرنا. والله الموفق.

وقوله : (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) ، فهو على إضمار «الشىء» فى كل حرف ، إذ هو بحق العطف على ما تقدم ؛ فكأنه قال : بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا بالله.

ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين :

أحدهما : أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.

والثانى : أن يبلوه بالذى ذكر لا على عبادة يدفع إليه ؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد ، وفيه الخوف ، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به ، فيخاف عند ذلك على نفسه.

والجوع : أن يبلوه بالصيام الذى فيه ذلك ، أو بقلّة الإتراب وغلاء الأسعار.

ونقص من الأموال : يكون فى الجهاد ، والحج ، والزكوات ، والمؤن المجعولة فى الأموال ، ويكون فى الخسران فى التجارات ، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.

والأنفس : يكون بالجهاد ، ومحاربة الأعداء ، ويكون بأنواع الأمراض.

والثمرات : ترجع إلى قلة الإنزال ، وقصور الأيدى عما به ينال ، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.

ثم الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا ، لا بالكل. دل أنه ـ عز

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٣٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٣٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٨٦).

٥٩٨

وجل ـ لم يقطع عليهم كل المخارج ، بل جعل لهم فى كل نوع من ذلك مسلكا وإن كان فى ذلك نقصا وضررا ، وجائز بلوغ ذلك تمام ما فى كل نوع ، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء ، وعلى ذلك جميع الفعال ذى المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء ، وكذلك هم فى أنفسهم. ولا قوة إلا بالله.

ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذى يسهل بمثله البذل لمن لا حق له ، فكيف ومن له كليته ذلك ؛ فقال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة ؛ إذ جعل التوحيد داخلا فى ذلك الحرف.

وفيه التبرى من أن يكون له فى حكم الله تدبيرا ورأى ، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.

وقوله : (إِنَّا لِلَّهِ) ، كأنه قال : ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير ، وأبدا يكون الحكم فى كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.

وقوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا ، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق ، بل فى التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.

وفى ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئا مما به قوامه إلى مكان قراره ، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.

فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه ، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة ، وجعل كل شىء منها زائلا فانيا لينال به الدائم الباقى.

فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذى أنشئ وما له يسعى ، فيعلم أنه بلغ فى تجارته غايتها من الربح ، وأنه باع الشىء الفانى بالباقى ، مع ما كان كل شىء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك ، فأبدل المأوى بالذى لا آفة فيه. فيجب فى التدبير ألا يعد ذا مصيبة ، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح ، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التى لعلها يرغب فيها كل أحد ، لا أن ينفر عنها. والله المستعان.

فإن قال قائل : هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة ؛ إذ قال يعقوب : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] الآية. فهو والله أعلم ، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن

٥٩٩

قولوا ذلك ، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه ، بل حققه بقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف : ٨٣] وقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [يوسف : ٨٦].

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف ، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد ، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ، قيل : الصلاة من الله عزوجل يحتمل وجوها :

يحتمل (١) : الرحمة والمغفرة.

ويحتمل : الصلاة منه ـ مباهاته الملائكة ؛ جوابا لهم لما قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.

وقيل : الصلاة منه : الثناء عليهم. وأى كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم.

[وقوله (وَرَحْمَةٌ) قال بعضهم الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار ، وقيل : الرحمة : النعمة وهى الجنة](٢)

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

شهد الله عزوجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله تعالى ، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة ؛ كقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد : ٢٢].

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) يبلوهم بالذى كان به عالما ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهى بحق المحنة ، وهو كما يستخبر عما هو به خبير ، مع ما كانت المحنة فى الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهى ، فاستعملت فى الأمر والنهى ، وإن كان لا يخفى عليه شىء ، بل هو كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام : ٧٣]. ثم له جعل الغيب شاهدا ، فجرت به المحنة ، ليعلم ما قد علمه غائبا شاهدا ، إذ هو موصوف بذلك فى الأزل. وبالله التوفيق.

ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله فى الحقيقة ، لكنه بفضله

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٤٥) ، والبغوى (١ / ١٣١).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٦٠٠