تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، كما قال : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، فأوجب الإخراج ، من حيث أخرج ، كما أوجب القتل من حيث قتل.

[و] قيل : لم يخرج من الحرم إذا لم يخرج منه ، كما لم يقتل فى الحرم إذا لم يقتل فيه.

أو نقول بالإخراج للقتل ، قصد ما لم يسغ فعله فيه كان كالصيد يخرج ، يلزم فيه ما يجب بالقتل ؛ فمثله فى موضع الحظر.

وبعد فإنه لو أخرج لم يأمن بالحرم ، بل زيد فى عقوبته ؛ إذ الإخراج عقوبة ، فقد زيد عليه ، مع ما لم يجز فى الكفار ـ الذين نهوا عن قتلهم ـ إخراجهم للقتل ، كذلك القاتل.

وذهب الآخر : إلى أنه يخرج ؛ لإقامة الحد عند أبى حنيفة ـ رحمه‌الله ـ وإن لم يرتكب فيه.

وإخراج المرتكب له ، أقل فى الحكم من إقامته عليه. غير أنه غلط ؛ لأنّ إخراجه للقتل يرفع من الحد ؛ لأنه يصل إلى قتله ، ولما فى القتل عقوبة واحدة ، وفى الإخراج عقوبتان. ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة ـ وهى القتل ـ إذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أحق.

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

اختلف فى (مَقامِ إِبْراهِيمَ) :

منهم (١) من جعل الحرم كله مقامه ـ يصلى إليه ـ لمقامه هنالك بأولاده.

ومنهم (٢) من جعل المسجد مقامه ؛ لأنه كان مكان عبادته فهو المصلى.

ومنهم (٣) من جعل ما ظهر من مقامه ـ وهو موضع ركوبه ونزوله ـ لما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليمانى ، فقال عمر : «يا رسول الله! ألا تتخذ مقام إبراهيم مصلى؟!» فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٤).

وعندنا : القبلة البيت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤ ،

__________________

ـ والنجوم الزاهرة (٢ / ١٠٧) ، وتاريخ الخميس (٢ / ٣٧١) والفوائد البهية فى تراجم الحنفية ص (٩٤) ، ومفتاح السعادة (٢ / ٢٣٤) ، وتاريخ الأدب العربى (٣ / ٢٤٥) ، والأعلام للزركلى (٩ / ٢٥٢).

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٠) ، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٢٢٣).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢).

(٣) قاله أبو جعفر ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٩٩٠).

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير كما فى الدر المنثور (١ / ٢٢٤).

(٤) أخرجه البخارى (٩ / ٢٠) كتاب التفسير ، باب قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (٤٤٨٣) ، ـ

٥٦١

١٥٠] ، وقوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧] أى : مقاما لقيام العبادات.

وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ).

فيه الأمر ببنائه.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ).

يحتمل التطهير لوجهين :

أحدهما : عن الأصنام والأوثان التى كانت هنالك ، وعبادة غير الله والأنجاس.

ويحتمل : التطهير عن كل أنواع الأقذار ، وعن كل أنواع المكاسب ، على ما روى فى جملة المساجد.

وقوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

قيل (١) : الطائف : هو القادم ؛ سمى طائفا لدخوله بطوافه.

وقيل : الاستحباب الطواف ؛ لذلك قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ الطواف للقادم أفضل من الصلاة (٢). والصلاة للمقيم أفضل.

__________________

ـ وأحمد (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٣٦) ، والترمذى (٥ / ٧٤) ، كتاب التفسير ، باب (ومن سورة البقرة) (٢٩٦٠) ، وابن ماجه (٢ / ٢٣٩) ، كتاب إقامة الصلاة ، باب القبلة (١٠٠٩) والنسائى فى الكبرى (٦ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠) ، كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

(١) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٩) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٤).

(٢) ويسمى طواف القادم : طواف الورود ، وطواف الوارد ، وطواف التحية ؛ لأنه شرع للقادم والوارد من غير مكة لتحية البيت. ويسمى أيضا : طواف اللقاء ، وأول عهده بالبيت ، وطواف القدوم سنة للآفاقى القادم من خارج مكة عند الحنفية والشافعية والحنابلة ، تحية للبيت العتيق ؛ لذلك يستحب البدء به دون تأخير ، وسوى الشافعية بين داخلى مكة المحرم منهم وغير المحرم فى سنية طواف القدوم. وذهب المالكية إلى أنه واجب ، من تركه لزمه الدم. ووجوب طواف القدوم عند المالكية على كل من أحرم من الحل ، سواء كان من أهل مكة أو غيرها ، وسواء كان إحرامه من الحل واجبا كالآفاقى القادم محرما بالحج ، أم ندبا كالمقيم بمكة الذى معه نفس متسع من الوقت وخرج من الحرم فأحرم من الحل ، وسواء كان أحرم بالحج مفردا أم قارنا ، وكذا المحرم من الحرم إن كان يجب عليه الإحرام من الحل ، بأن جاوز الميقات حلالا مخالفا للنهى. وهو واجب على هؤلاء ما لم يكن أحدهم مراهقا ، وهو من ضاق وقته حتى خشى فوات الوقوف بعرفات. والأصل فيه فعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت فى أول حديث جابر قوله : «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا» ، وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «إن أول شىء بدأ به حين قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة أنه توضأ ثم طاف ...» الحديث. فاستدل المالكية بذلك على الوجوب بقوله : «خذوا عنى مناسككم». وقال الجمهور : إن القرينة قامت على أنه غير واجب ؛ لأن المقصود به التحية ، فأشبه تحية المسجد ، فيكون سنة.

ينظر : المسلك المتقسط فى المنسك المتوسط ص (٥١ ـ ٥٢)

٥٦٢

والعاكف : المقيم.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) منهما جميعا.

وقيل (١) : العاكفون : المجاورون ؛ يعنى : من أهل مكة والقادمين إليها.

وقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً).

قد ذكرنا الوجه فى قوله : (آمِناً).

وقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

لما علم أن المكان ليس بمكان ثمر ولا عشب دعا ، وسأل ربه : أن يرزق أهله عطفا على أهله ، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.

ثم خص المؤمنين بذلك ؛ لوجوه :

أحدها : أنه لما أمرهما بتطهير البيت عن الأصنام والأوثان ظن أنه لا يجعل لسوى أهل الإيمان هنالك مقاما ؛ فخص لهم بالدعاء ، وسؤال الرزق.

والثانى : أنه أراد أن يجعل آية من آيات الله ؛ ليرغّب الكفار إلى دين الله ، فيصيروا أمة واحدة ؛ فكان كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) الآية [الزخرف : ٣٣].

ووجه آخر قيل : لما كان قيل له : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلعله (٢) خشى أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.

وفى ذلك : أن لا بأس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه.

ويحتمل الدعاء المبهم للكفرة : القبح ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير الله.

وقوله : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).

بالنعم ؛ لأن الدنيا دار محنة ، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق ، ولا إلى الولى من العدو فى الدنيا.

وأما الآخرة فهى دار جزاء ، ليست بدار محنة ؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.

ومعنى قوله : (قَلِيلاً) لأن الدنيا كلها قليل.

ثم الامتحان على وجهين : امتحان بالنعم ، وامتحان بالشدائد.

__________________

(١) قاله مجاهد وعكرمة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٢٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٤).

(٢) فى ط : فعله.

٥٦٣

وقد قرئ (١) : «فأمتعه» على معنى دعاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ «ومن كفر فأمتعه» بالجزم.

فإن قيل : لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم.

وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل ، ويعلم أن المؤمن هو المفضّل بالعقل.

كيف لا وقع فضل ما به يمتحن ـ وهو النعم ـ لأن العقل الذى به يدرك الحق واحد ، لا تفاضل فيه لأحد.

ثم العقل الذى به يمتحن واحد ؛ فهما متساويان ـ فيما به درك الحق ـ إلا أن أحدهما يدركه فيتبعه ، والآخر يدركه فيعانده. فهو ـ من حيث معرفته ـ ذو عقل ، أعرض عنه ؛ فيسمى معاندا ، إذ من لا عقل له يسمى مجنونا.

وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ).

ذكر الاضطرار ، وهو كقوله : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) [الدخان : ٤٧] وهو السوق ، وكقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) [مريم : ٨٦] إنهم يساقون إليها ، ويدعّون ، لا أنهم يأتونها طوعا واختيارا.

وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

أى : بئس ما صاروا إليه.

وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).

أمرا برفع البيت وببنائه ؛ ففعلا ، ثم سألا ربهما : أن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأمور بعبادة ، أو قربة ـ إذا فرغ منها ، وأداها ـ أن يتضرع إلى الله ، ويبتهل ؛ ليقبل منه ، وألا يرد عليه ؛ ليضيع سعيه.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائهم. (الْعَلِيمُ) بما نووا وأضمروا.

وقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ).

والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أنه يتوجه إلى وجوه :

أحدها : هو الخضوع له والتذلل.

والثانى : هو الإخلاص.

ثم اختلف أهل الكلام فى الإسلام :

فقال بعضهم : إنه يتجدد فى كل وقت ؛ لذلك سألوا ذلك ، وهو كقوله ـ تعالى ـ

__________________

(١) ينظر : اللباب (٢ / ٤٥٧) ، والسبعة (١٧٠) ، وإتحاف الفضلاء (١ / ٤١٧) ، والعنوان (٧١) ، وشرح الطيبة (٤ / ٦٨).

٥٦٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] معناه : آمنوا بالله فى حادث الوقت ؛ لأنه تارك فعل الكفر فى كل وقت ؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان.

وعلى ذلك : يخرج تأويلنا فى الزيادة بقولهم : زادتهم إيمانا يتجدد له ، ويزداد فى حادث الوقت.

وقال آخرون : كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام.

وقد ذكرنا أن العصمة لا ترفع خوف الزوال.

ومثل هذا : الدعاء والسؤال ـ على قول المعتزلة ـ يكون عبثا ؛ لأنه لا يملك إعطاء ما سألوا عندهم ، بل هم الذين يملكون ذلك ، فيخرج السؤال فى هذا ـ عندهم ـ مخرج اللعب والعبث ، فنعوذ بالله من السرف فى القول والزيغ عن الهدى.

ثم الإيمان : هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد فى كل وقت ، فلا وقت يخلو القلب عنه فى حال سكون ، أو حال حركة ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

يحتمل : أن الأمة المسلمة هى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك : أنّه لم يكن من أولاد إسماعيل رسول سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألا : أن يجعل من ذريتهما رسولا ، وأمة مسلمة ، خالصة له.

وإنما الرسل كانوا من أولاد إسحاق ومن نسله ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا).

وقيل فى قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) : يريد الإراءة إلى يوم القيامة ، يدل عليه قراءة عبد الله : «وأرهم مناسكهم» ، وفى قراءة غيره (١) على ضم الرؤية إلى نفسه.

والمنسك : هو القربة. وأفعال الحج سميت (٢) مناسكا.

ثم لا يحتمل : أن يسألا ذلك ، من غير أمر سبق منه ـ عزوجل ـ بذلك ؛ لأنه ليس من الحكمة سؤال : إيجاب فضل عبادة ، أو قربة بغير أمر ؛ فدل أنه قد سبق منه بذلك أمر ، لكنه لم يبين لهما ، فسألا : تعليم ماهيتها وكيفيتها ، فعلمهما جبريل ذلك.

ففيه : دلالة تأخير البيان عن (٣) وقت قرع السمع الخطاب ؛ ألا ترى أنه أمر بالنداء للحج ولم يعلم.

والثانى : أن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فدل

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (١ / ٣٩٠) ، والكشاف (١ / ٩٤) ، ومعانى القرآن للفراء (١ / ٧٩).

(٢) فى ط : سمى.

(٣) فى ط : من.

٥٦٥

أن الأمر به قد سبق.

والثالث : قوله ـ فى نفس الحج ـ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

ثم لا يحتمل : لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج ؛ لما لم يأمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض.

لكنها أوجبت شكرا لما أنعم عليه ؛ فدل أن الحج كان واجبا قبل الخروج ، وقد تأخر الإمكان ؛ فمثله البيان ، والله أعلم.

واحتج بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، النساء : ٧٧ ، ١٠٣] : أن ظاهره يوجب خضوعا ، لزم به ما أداه السمع على تأخر ما بينه (١) ، وكذلك الزكاة ، وكذا ظاهر قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

واحتج أيضا بقول القائل وسؤاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أوقات الصلاة ففعله فى يومين ، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال ، لكنه أخر ؛ فدل أن البيان يجوز تأخره عن وقت قرع الخطاب السمع.

ثم فى تأخير البيان محنة المخاطب به ، أمر فى تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب ، والله أعلم.

وذكر فى أمر الحج ـ عند كل نسك من المناسك ـ معانى لها ، لكنها ذكرت لأحوال كانت فى شأن آدم وأمر إبراهيم ، وأمر محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد كان الحج قبلهم.

وقد ذكر فى أمر الرّمل (٢) أنه كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ؛ ليعلم به قوتهم ؛ حتى

__________________

(١) فى أ : ماهيته.

(٢) الرمل : هو إسراع المشى مع تقارب الخطا وهز الكتفين من غير وثب. والرمل سنة فى كل طواف بعده سعى ، فعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : «قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ، ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلى الحجر ، وأمرهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا». لكن الرمل ظل سنة فى الأشواط الثلاثة الأولى بتمامها ؛ فقد فعله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجته ، وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس فى دين الله أفواجا ، كما فى حديث جابر : «فرمل ثلاثا ومشى أربعا». وسار على ذلك الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم الرمل كالاضطباع سنة فى حق الرجال ، أما النساء فلا يسنّ لهن رمل ولا اضطباع. واستثنى الحنابلة من سنية الرمل أهل مكة ومن أحرم منها أيضا ، فلا يسن لهم الرمل عندهم.

ينظر : مختصر الخرقى بشرح المغنى (٣ / ٣٧٦) ، الفروع (٣ / ٤٩٩).

٥٦٦

قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : «علام أهز كتفى ، وليس أحد إزاءه؟! لكنى أتبع رسول الله ، عليه‌السلام» أو كما قال ، رحمه‌الله.

وقد ذكر ذلك فى قصة إبراهيم عليه‌السلام : أنه رمل ، ولم يكن فى وقته من كان الفعل لأجله ، وكذلك غيره من الأنبياء ، صلى الله عليهم وسلم.

إلا أنّا نقول : جعل الله كذلك ؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك فى وقت قد جعل ذلك نسكا ، فحفظ ذلك على حق النسك ، وإن لم يكن المعنى مقارنا له فى كل وقت ، على ما قيل : «إن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١) ـ بمعنى جعل الله أجله ذلك بما علم أنه يصل الرحم ـ فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك.

وكما يكتب شقيّا أو سعيدا فى الأزل للوقت الذى فيه يكون كذلك ، ونحو ذلك ، والله الموفق.

ثم الأصل : أن الله ـ جل ثناؤه ـ جعل على عباده فى كل الأنواع التى يتقلب فيها البشر للمعاش ، أو لأنواع اللذات ؛ لتكون العبادة منهم فى كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكرا لما مكن من مثله ، لما يتلذذ به ويتعيش ؛ إذ كل لذة ، وكل ما يتعيش به نعمة خصّ الله بها صاحبها ، بلا تقدّم سبب يستوجبها العبد ؛ فلزمه ـ فى الحكمة ـ الشكر لمن أسدى إليه تلك النعمة.

وعلى ذلك : نجد التقلب ـ من حال القيام ، إلى حال القعود ، والاضطجاع ـ أمرا عامّا فى البشر ، من أنواع اللذات ، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة ، نحو الصلوات.

وعلى ذلك : معنى الرق ، والعبودة لازم لا يفارق ، فمثله الاعتراف به ، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت.

وعلى ذلك : أمر إعطاء النفس شهواتها ، من المطاعم ونحو ذلك ؛ لا يعم الأوقات عموم التقلب من حال إلى حال ؛ إذ لا يخلو عنها المرء وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام فى خاص الأوقات.

ثم لم يمتد ما بين الأوقات امتدادا متراخيا ، فعلى ذلك : جعل العفو عن الصيام ، لم يجعل كذلك ، بل فى سنة ، مع ما قد يدخل الصيام فى كثير من الأمور.

ثم للناس فى الأموال معاش ، وبها تلذذ :

لكن منها قوت لا بد منه ؛ فالارتفاق بمثله لازم ، لا يحتمل جعل القربة فيه ، سوى أن جعل ذلك لعينه قربة ؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.

__________________

(١) تقدم.

٥٦٧

ومنها فضل ، به جعلت قرب التصدق ؛ لأنه له بحق التلذذ ، لا بحق ما لا بد منه.

وكذلك نوع تقلب الأحوال فى النفس التى هى بحق الضرورة ، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.

وكذلك أمر الصيام : لم يجعل عما لا بد منه للقوة ، ولكن فضل قوة فى الاحتمال.

لكن الزكاة (١) هى من حقوق ما يجوز أن يكون هى لغير من عليه ، ففرض عليه البذل إلى غيره.

وحقوق الأفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذى له به يجب أن يكون لغيره فيجب عليه ؛ فجعل فرض ذلك الفعل فى نفسه. وهى تجب للأحوال لوجهين :

أحدهما : أن فيها حقوقا شائعة ، على نحو النفقات ، فأخرت هى إلى الحول ؛ تخفيفا ، أو لما هى تجب فيما له حكم الفضل.

والفضل : ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدّد فى أوقات ـ لا أنها تتتابع ـ لا يظهر فى مثله الفضل إلا بمدة بينة أكثرها حول.

ثم فرض الحجّ جعل فى العمر مرة (٢) ؛ لأنه فى حق الأسفار المديدة ، التى لا يختار مثلها للذات إلا فى النوادر ، فلم يوجب مثله إلا خاصّا ؛ فأوجب فى جميع العمر مرة.

__________________

(١) فى أ : الزكوات.

(٢) الحج فرض عين على كل مكلف مستطيع فى العمر مرة ، وهو ركن من أركان الإسلام ، ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع :

ـ أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧]. فهذه الآية نص فى إثبات الفرضية ، حيث عبر القرآن بصيغة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) وهى صيغة إلزام وإيجاب ، وذلك دليل الفرضية ، بل إننا نجد القرآن يؤكد تلك الفرضية تأكيدا قويا فى قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه جعل مقابل الفرض الكفر ، فأشعر بهذا السياق أن ترك الحج ليس من شأن المسلم ، وإنما هو شأن غير المسلم.

ـ وأما السنة فمنها حديث ابن عمر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج». وقد عبر بقوله : «بنى الإسلام ...» فدل على أن الحج ركن من أركان الإسلام. وأخرج مسلم عن أبى هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت نعم ، لوجبت ولما استطعتم ...». وقد وردت الأحاديث فى ذلك كثيرة جدا حتى بلغت مبلغ التواتر الذى يفيد اليقين والعلم القطعى اليقينى الجازم بثبوت هذه الفريضة.

ـ وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج فى العمر مرة على المستطيع ، وهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ويكفر جاحدها.

ينظر : الشرح الكبير للدردير (٢ / ٢) ، مغنى المحتاج (١ / ٤٥٩) ، شرح منتهى الإرادات (١ / ٤٧٢).

٥٦٨

وقد أوجب فى الأموال فى كل سنة (١) ؛ لأن أرباب الأموال قد يتقلبون فى البلاد النائية رغبة فى فضول اللذات ؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك.

وعلى ذلك أمر الجهاد ـ على أن الجهاد كالذى لا بد من الأقوات ـ إذ فى ترك ذلك خوف غلبة الأعداء ، وفيها تلف الأبدان والأديان ، والأموال ففرض على قدر ما فرض من الأقوات ؛ لما بينت من الخلل ، ثم كانت أحوال أهل السفر تكون على غير المعروف من أحوال المقيمين ـ فى حق الرّزانة والوقار ، وحق الانبساط والنشاط ـ فعلى ذلك : فرائض الأمرين ـ نحو الجهاد ـ فيه أنواع : ما عدّ فى غيره من اللعب ، وكذلك أمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمى الجمار والرمل والسعى ونحو ذلك.

فجعل ذلك فى حق الأسفار سنّة ، وإن كان مثل ذلك عدّ فى غير ذلك عبثا ؛ إذ قد بينا مخرج العبادات ، على ما عليه أحوال العباد بأنفسهم ، لو لا العبادات ، والله أعلم.

ثم جعل ذلك فى أمكنة متباعدة الأطراف ؛ إذ هو بحق أمر الأسفار يجب فى المعهود ؛ فجعل فى النسك ، بنفسه بالذى به يقطع الأسفار ، ولا قوة إلا بالله.

ووجه آخر : من المعتبرات : أن العبادات جعلت أنواعا :

منها ما يبلغ القيام بحقها العام فصاعدا ، وهذه لم يجز أن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.

ثم لأن فعل الحج قد يمتد ذلك ، ويجاوز ، لم يجعل ذلك وقتا له ، وإنما جعل العمر ، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر ، وما تقدمه وما تأخره ، ثم فى العمر أحوال ، لا تحتمل إضافتها إلى الأعوام ؛ لأن ما يضاف إلى عام

__________________

(١) وذلك بأن يتم على المال بيد صاحبه سنة كاملة قمرية ، فإن لم تتم فلا زكاة فيه ، إلا أن يكون بيده مال آخر بلغ نصابا قد انعقد حوله ، وكان المالان مما يضم أحدهما إلى الآخر ، فيرى بعض الفقهاء ، أن الثانى يزكى مع الأول عند تمام حول الأول ، ودليل اعتبار الحول قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا زكاة فى مال حتى يحول عليه الحول». ويستثنى من اشتراط الحول فى الأموال الزكوية : الخارج من الأرض من الغلال الزراعية ، والمعادن ، والركاز ، فتجب الزكاة فى هذين النوعين ولو لم يحل الحول ؛ لقوله تعالى فى الزروع : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) ، ولأنها نماء بنفسها فلم يشترط فيها الحول ، إذ إنها تعود بعد ذلك إلى النقص ، بخلاف ما يشترط فيه الحول فهو مرصد للنماء.

والحكمة فى أن ما أرصد للنماء اعتبر له الحول ؛ ليكون إخراج الزكاة من النماء لأنه أيسر ؛ لأن الزكاة إنما وجبت مواساة ، ولم يعتبر حقيقة النماء ؛ لأنه لا ضابطه له ، ولا بد من ضابط ، فاعتبر الحول.

ينظر : المغنى (٢ / ٦٢٥) ، الشرح الكبير للدردير (١ / ٤٥٦ ، ٤٥٧).

٥٦٩

فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجودا بحق الأعوام. فجعل ذلك وقته ، والله أعلم.

ثم الزكاة (١) هى تجب للأموال ؛ صونا لها ؛ لكسب عدد ، وفضل غنى ، ولكن على ذلك تكتب لأحوال الحياة لا لما يخلف ؛ فلم يمتد أمرها إلى العمر ؛ على أنها جعلت حقّا للفقراء. ومتى أريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره ، ويجب فيه ما يجب فى الأول ؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش ؛ إذ الله ـ بفضله ـ قدر أقوات الخلق ، ثم فضل الخلق فى الأملاك ، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئا ، وبعضهم يجاوز ما ينال أضعاف عمره.

ثبت أن ذلك له بما يقتضى به كفاية الفقراء ؛ فلا بد أن يجعل لذلك مدة يتوسع فى ذلك الفريقان جميعا.

ثم كانت الأقوات ـ التى هى مجهولة للخلق جميعا ـ تتجدد فى كل عام على ذلك ؛ إذ جعلت أقوات الفقراء فى أموال الأغنياء ، جعلت فى كل عام.

على أنه إذ جعلت أقوات الخلق فى بركات السماء والأرض ، جعلها الله متجددة بتجدد الأعوام ، ولا قوة إلا بالله.

والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأبدان ، فعلى ما يختلف قواهما ، اختلف فى الأمر بهما والترك ، وفى أنواع الرخص.

لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات ، ولا مدافعة اللذات ؛ إذ لا سبيل إلى مثلها متتابعا لما يصير اللذة ألما ، والشهوة وجعا ؛ فيبطل حق التتابع ، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس.

والصيام يضاد ذلك ، ويضر فى البدن.

فجعل عبادة الصلوات فى كل يوم ، وعبادة الصيام فى أوقات متراخية ؛ إذ هى تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إقامة الأبدان ، وفى الصيام خوف فنائها ؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام ، ولا قوة إلا بالله.

وإن شئت قلت : إن الله أنعم على البشر بما هو غذاء وقوام ، وبما هو لذة وشهوة ، ثم أنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق ـ وهى الأموال ـ فألزمهم فى كل نوع من هذه الأنواع عبادات.

__________________

(١) فى أ : الزكوات.

٥٧٠

وعلى ذلك : وقع كل نوع منها لفوت النعمة ، التى هى المرغوبة المختارة فى الطبيعة ، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه ، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها ، ونعم الأموال بأنواع الكد والجهد.

فعلى ذلك : خفف حقوق الأموال ؛ فلم يجعل إلا فى الفضل الذى لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك ، ففى ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب ، مع اليسر الذى أخبر الله أنه يريد بهم ذلك ، لا العسر ، والله أعلم.

وقوله : (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

دل سؤال التوبة أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قد يكون منهم الزلات والعثرات ، على غير قصد منهم.

ثم فيه الدليل على أن العبد قد يسأل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها ؛ لأنهم سألوا التوبة مجملا. ولو كان سبق منهم شىء علموا به وعرفوه لذكروه ؛ فدل سؤالهم التوبة مجملا على أن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.

وقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : من المسلمين ؛ لأنه أخبر أن عهده لا يناله الظالم.

ويحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : من جنسهم ، من البشر ؛ لأنه أقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم ، كقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ...) الآية [الأنعام : ٩].

ويحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : أى من قومهم ، ومن جنسهم ، وبلسانهم ، لا من غيرهم ، ولا بغير لسانهم ـ والله أعلم ـ كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ) [التوبة : ١٢٨].

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ).

قيل : الآيات هى الحجج.

وقيل : الآيات هى الدين.

ويحتمل : يدعوهم إلى توحيدك ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ).

يعنى القرآن : ما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، ونحو ذلك.

وقوله : (وَالْحِكْمَةَ)

٥٧١

قيل (١) : الفقه ، يقول : يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه.

وقيل : الحكمة ما فيه من الأحكام من الحلال والحرام.

وقيل (٢) : الحكمة : هى السنة هاهنا.

وقيل : الحكمة : هى الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض ، وبالله التوفيق.

وقال (٣) الحسن : الحكمة : هى القرآن ؛ أعاد القول به. يعنى تكرارا.

وقال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : الحكمة : الفقه.

وقوله : (وَيُزَكِّيهِمْ).

قال ابن عباس (٤) ـ رضى الله عنه ـ : يأخذ زكاة أموالهم ـ فذلك يزكيهم ـ كقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣].

وقيل : يزكيهم إلى ما به زكاة أنفسهم.

وقيل : يزكيهم بعمل الصالح.

فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال : أليس الله ـ عزوجل ـ أضاف التزكية والهداية إلى رسوله ، ولم يكن منه ـ حقيقة ـ فعل التزكية والهداية ، ولا خلق ذلك منه ـ كيف لا قلتم أيضا ـ فيما أضاف ذلك إلى نفسه : أن ليس فيه منه خلق ذلك ، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان ، على ما لم يكن فى إضافة ذلك إلى رسوله سوى الدعاء والبيان؟!

قيل : كذلك على ما قلتم : أنه أضاف ذلك إلى رسوله بقوله : (وَتُزَكِّيهِمْ) [التوبة : ١٠٣] ، وبقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ، وقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ، غير أنه جعل إلى نفسه فضل هداية ، لم يجعل ذلك لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثبت زيادة تزكية ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه‌السلام ؛ كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، وكقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].

فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على : أنّ له فضل فعل ، ليس ذلك لرسوله ، وهو خلق فعل الاهتداء ، وفعل التزكية ، وبالله التوفيق.

وبعد : فإن الرسول لا يحتمل أن يملك قدرة فعل أحد يقدره عليه لو أراده (٥) بما

__________________

(١) قاله مالك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٤). وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٣). وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٣) قال مجاهد : فهم القرآن ، كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٦).

(٤) أخرجه ابن جرير بنحوه (٢٠٨٦) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٥) فى أ : أرادهم.

٥٧٢

أقدرهم الله على الفعل ، حتى قدروا ؛ فجاز أن يكون له عليه قدرة.

وفى تحقيقها جواز خلق ذلك له ، ومثله فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتمل ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

أى : لا شىء يعجزه ، والعزيز بذاته ، وكل شىء دونه غير عزيز ، ذليل.

وقيل (١) : العزيز : المنيع.

وقيل (٢) : العزيز : المنتقم من أعدائه.

والحكيم : هو المصيب فى فعله. والحكيم فى أمره ونهيه. والحكيم هو الذى أحكم كل شىء جعله دليلا (٣) على وحدانيته.

ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال : سميت العرفات عرفات ؛ لما قيل له : عرفت. ومنّى ؛ لما قيل له : تمنّه. ورمى الجمار ؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى.

فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب ، وتنفر عنها الطباع ، ألا ترى أنه ذكر فى قصة آدم فعل ذلك جملة ؛ فزال المعنى الذى ذكر فى إبراهيم عليه‌السلام؟!

ثم قد ذكر فى الخبر أن الملائكة قالت لآدم : حججناها قبلك بألفى عام ؛ فثبت أنهم قد فعلوا هذا كله.

ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل ، وهو أن الحج قصد لزيارة ذلك المكان ؛ فأمر بمختلف الأفعال الواقع بها الزيارة.

كالصلاة : إنها الخضوع لعينه ؛ ولذلك أمر فيها بإحضار الأفعال المختلفة من حال الخضوع.

ثم المرء قد يخضع مرة بالقيام ، ومرة بالركوع ، ومرة بالسجود. أمر بإحضار مختلف الأفعال التى فيها الزورة.

غير أن الصلاة تخالف الحج ؛ فلأن أفعالها فعل المعاش أمر فيها بإحضار حالة تذكره الخضوع ، والوقوف لله ، مفرقا بين تلك الحالة وحالة المعاش ؛ ولهذا تقضى فى كل مكان.

ثم أفعال الحج فى ظاهرها إلى أفعال المعاش ، وما إليه وقع القصد ـ لا عينها ـ غير

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٢) ينظر التخريج السابق.

(٣) زاد فى أ : به.

٥٧٣

أن فيه تكلف المعاش ؛ ولهذا ما لا يقضى فى كل مكان.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

وقوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ).

ثم اختلف فى الملة ؛ قيل : الملة : الدين.

وقيل : الملة السنة.

وقيل : الإسلام.

وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

بما يعمل من عمل السفه.

ويحتمل : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أى بنفسه ؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض.

وقيل (١) : جهل نفسه فيضعها فى غير موضعها.

وقوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا).

بالنبوة والرسالة والعصمة.

ويحتمل : ما جزاهم فى الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم فى الآخرة.

وقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

فى المنزلة والثواب.

ويحتمل (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : لمن المرسلين.

ويحتمل : أن يكون بشّره فى الدنيا : أنه كان من الصالحين فى الآخرة ؛ فيكون ـ فى ذلك ـ وعد له بصلاح الخاتمة ، كما وعد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر.

وفى ذلك أيضا : وعد بصلاح الخاتمة ـ والله أعلم ـ فأخبر بما كان بشّره. ويجوز : تفاضلهم فى الآخرة ، على ما كانوا عليه.

__________________

(١) قاله ابن كيسان والزجاج كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٧).

٥٧٤

وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

قيل (١) : أخلص.

ويحتمل : أن يكون أمرا بابتداء إسلام ، على ما ذكرنا من تجدده فى كل وقت يهمد (٢).

ثم يحتمل : أن يكون وحيا أوحى إليه ، أن قل كذا ، فقال به. فإن كان وحيا فهو على أن يسلم نفسه لله.

ويحتمل : أن يكون إسلام القلب ـ بتغاضى (٣) الخلقة بالإسلام ـ فإن كان على هذا ؛ فهو على الإسلام دون توحيده.

ويحتمل : أن يكون إسلام خلقة ؛ كقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، بالخلقة.

وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] ؛ فدعاهم ، فأجابوه فى أصلاب آبائهم إجابة الخلقة وقت كونهم.

وقيل : يحتمل : أن يكون أمر بابتداء الإسلام ، كقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً ...) [الأنعام : ٧٦] إلى آخره. ثم قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٨٩] يكون جواب قوله : (أَسْلِمْ) والله أعلم.

وقوله : (وَوَصَّى بِها).

يعنى بالملة. والملة تحتمل ما ذكرنا.

وقوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وهو الإسلام ؛ ردّا على قول أولئك الكفرة : إن إبراهيم كان على دينهم ؛ لأن اليهود زعمت أنه كان على دينهم يهوديّا. وقالت النصارى : بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥].

فلما ادّعى كلّ واحد من الفريقين : أنه كان على دينهم ، أكذبهم الله ـ عزوجل ـ فى قولهم ، ورد عليهم فى ذلك فقال : قل يا محمد : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧] ؛ فعلى ذلك قوله : (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦١٠) والبغوى (١ / ١١٨).

(٢) فى أ : يهمه.

(٣) فى أ : بتقاضى.

٥٧٥

أخبر ـ عزوجل ـ أن دينه كان دين الإسلام ، وهو الذى اصطفاه له ، لا الدين الذى اختاروا هم من اليهودية والنصرانية ؛ لقوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) [النجم] أى ليس له.

وقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً).

يقول : أكنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟! أى : ما كنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت.

قيل (١) : ويحتمل : أن اليهود قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ فأنزل الله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أى : أكنتم شهداء وصية يعقوب بنيه؟! أى : لم تشهدوا وصيته ، فكيف قلتم ذلك؟!

ثم أخبر ـ عزوجل ـ عن وصية يعقوب بنيه فقال :

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ ...) الآية.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

يعنى : مخلصين بالتوحيد ، وبجميع الكتب والرسل ، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ثم يدعون : أن ذلك دين إبراهيم ، ودين بنيه.

ثم فى الآية دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عن الأخبار التى قالوا ، من غير نظر منه فى كتبهم ، ولا سماع منهم ، ولا تعلم ، دل : أنه بالله علم ، وعنه أخبر.

وقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

كان ـ والله أعلم ـ لما ادعوا أن إبراهيم ومن ذكر من الأنبياء كانوا على دينهم ؛ فقال عند ذلك : لا تسألون أنتم عن دينهم وأعمالهم ، ولا هم يسألون عن دينكم وأعمالكم ، بل كلّ يسأل عن دينه وما يعمل به.

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١١٨).

٥٧٦

وقوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) الآية.

فالآية تنقض على من يستثنى فى إيمانه ؛ لأنه أمرهم أن يقولوا قولا باتّا ، لا ثنيا فيه ولا شك.

وكذلك قوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ).

ثم يحتمل : أن يكون هذا ردّا على أولئك الكفرة ، حيث فرقوا بين الرسل ، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض. وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها ؛ فأمر الله ـ عزوجل ـ المؤمنين ، ودعاهم : إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم ، والكتب جميعا ، لا يفرقون بين أحد منهم ، كما فرق أولئك الكفرة.

ويحتمل : أن يكون ابتداء تعليم الإيمان من الله ـ عزوجل ـ لهم بما ذكر من الجملة.

ثم اختلف فى الحنيف :

قيل (١) : الحنيف : المسلم.

وقيل (٢) : الحنيف : الحجاج.

وقيل (٣) : كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج ، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم.

وقيل (٤) : الحنيف : المائل إلى الحق والإسلام.

وقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا).

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لا تقرأ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ؛ فإن الله ليس له مثل ، ولكن اقرأ : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ، أو (بما آمنتم به (٥)). وكذلك فى حرف ابن مسعود (٦) ـ رضى الله عنه ـ : (فإن آمنوا بما آمنتم به) ، تصديقا لذلك.

وعلى ذلك قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] إن الكاف زائدة ، أى : ليس

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦١٧) ، وقال آخرون : بل الحنيفية الإسلام.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٠٢) ، وعن عطية (٢٠٩٧ ، ٢٠٩٨) ، ومجاهد (٢٠٩٩ ، ٢١٠١) والحسن (٢١٠٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٧).

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن المنذر عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٥٧).

(٤) قاله ابن عباس كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٩).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢١١٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٨).

(٦) ينظر : اللباب (٢ / ٥٢٢) ، والدر المصون (١ / ٣٨٦) ، والبحر المحيط (١ / ٥٨١) ، والشواذ (١٠) ، والمحرر الوجيز (١ / ٢١٦).

٥٧٧

مثله شىء. وهو فى حرف ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ كذلك.

ويحتمل : آمنوا بلسانهم ، بمثل ما آمنتم بلسانكم ، من الرسل والكتب جميعا فقد اهتدوا.

ويحتمل بمثل ما آمنتم به : أى بلسان غير لسانهم فقد اهتدوا.

وقوله : (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ).

قيل (١) : الشقاق هو الخلاف.

وقيل : الشقاق هو الخلاف الذى فيه العداوة ، والله أعلم.

وقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

هذا وعيد من الله ـ عزوجل ـ لهم ، ووعد وعد نبيّه بالصبر له ؛ لأن أولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض ، فوعد له عزوجل النصر له بقتل بعضهم ، وإجلاء آخرين إلى الشام وغيره.

وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً).

قيل (٢) : دين الله.

وقيل (٣) : فطرة الله ؛ كقوله : «كل مولود يولد على الفطرة» (٤).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٢٨) ، وعن قتادة (٢١٢٠) وأبى العالية (٢١٢١) والربيع (٢١٢٢) وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٩).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣١ ، ٢١٣٢ ، ٢١٣٣) وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٩).

(٤) أخرجه البخارى (١١ / ٤٩٣) كتاب : القدر ، باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، الحديث (٦٥٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب : القدر ، باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٢٥ / ٢٦٥٨) ، وأبو داود (٥ / ٨٦) كتاب : السنة ، باب : فى ذرارى المشركين ، الحديث (٤٧١٤) ، والترمذى (٣ / ٣٠٣) كتاب : القدر ، باب : كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٣٢٢٣) ، ومالك (١ / ٢٤١) كتاب : الجنائز ، باب : جامع الجنائز ، الحديث (٥٢) ، وأحمد (٢ / ٢٣٣) ، والحميدى (٢ / ٤٧٣) رقم (١١١٣) ، وعبد الرزاق (٢٠٠٨٧) ، وأبو يعلى (١١ / ١٩٧) ، رقم (٦٣٠٦) ، وابن حبان (١٢٨ ، ١٣٠) ، وأبو نعيم فى الحلية (٩ / ٣٢٨) ، من حديث أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج الإبل جمعاء ، هل تحس فيها من جدعاء ، قالوا : يا رسول الله أرأيت الذى يموت وهو صغير ، قال : الله أعلم بما كانوا عاملين».

ولفظ مسلم مصدر بلفظ : «كل إنسان تلده أمه على الفطرة ، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم ، كل إنسان تلده أمه ، يلكزه الشيطان فى حضنيه إلا مريم وابنها».

وفى الباب عن جابر ، والأسود بن سريع ، وابن عباس ، وسمرة بن جندب.

حديث جابر : ـ

٥٧٨

وقيل : (صِبْغَةَ اللهِ) : حجة الله التى أقامها على أولئك.

وقيل (١) : (صِبْغَةَ اللهِ) : سنة الله.

ثم يرجع قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أى : دينا [وسنة](٢) وحجة تدرك بالدلائل التى نصبها وأقامها فيه ، ليس كدين أولئك الذين أسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل.

وقيل (٣) : إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فى ماء ليطهروهم بذلك ؛ فقال الله عزوجل : (صِبْغَةَ اللهِ) يعنى الإسلام هو الذى يطهرهم لا الماء.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).

قيل : موحدون.

وقيل : مسلمون مخلصون.

ويحتمل : ونحن عبيده.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ

__________________

ـ أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٣) من طريق أبى جعفر الرازى عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا».

وذكره الهيثمى فى المجمع (٧ / ٢٢١) ، وقال : رواه أحمد ، وفيه أبو جعفر الرازى وهو ثقة ، وفيه خلاف ، وبقية رجاله ثقات.

حديث الأسود بن سريع :

أخرجه أحمد (٣ / ٤٣٥) ، وابن حبان (١٦٥٨ ـ موارد) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٤٠) رقم (٩٤٢) ، والطبرانى فى الكبير (١ / ٢٨٣) رقم (٨٢٨) ، والطحاوى فى مشكل الآثار (٢ / ١٦٣) من حديث الأسود بن سريع بمثل حديث جابر.

وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٥ / ٣١٩) ، وقال : رواه أحمد بأسانيد والطبرانى فى «الكبير» و «الأوسط» ، وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح.

حديث ابن عباس :

أخرجه البزار فى مسنده (٢١٦٧ ـ كشف) ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٢١) بلفظ : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه».

وقال الهيثمى : رواه البزار ، وفيه ممن لم أعرفه غير واحد.

حديث سمرة بن جندب :

أخرجه البزار (٢١٦٦ ـ كشف) ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٢١) ، وقال : رواه البزار ، وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف ، ونقل عن يحيى القطان أنه وثّقه.

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) سقط فى ط.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه كما فى تفسير البغوى (١ / ١٢١).

٥٧٩

مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

وقوله : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ).

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : قالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أولى بالله منكم ، فأنزل الله ـ فى ذلك ـ : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ).

وقيل (١) : فى الله ، يعنى : فى دين الله. أى : أتحاجون وتخاصمون فى دين الله؟!

وقوله : (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).

أى : أتحاجّون فى الله مع علمكم وإقراركم أنه ربّنا وربكم بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧].

وقوله : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ).

قيل : لنا ديننا ولكم دينكم ؛ كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

ويحتمل : (لَنا أَعْمالُنا) لا تسألون أنتم عنها ، (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا نسأل نحن عن أعمالكم ؛ كقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٣٤ ، ١٤١].

[وقوله :] (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).

دينا وعملا ، لا نشرك فيه غيره.

وقوله : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

قيل : بل تقولون.

وقيل (٢) : على الاستفهام فى الظاهر : أيقولون ، لكنه على الرد والإنكار عليهم ، وذلك أن اليهود قالوا : إن إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه كانوا هودا أو نصارى. قال الله تعالى : قل يا محمد : أنتم أعلم بدينهم أم الله ، مع إقراركم أنه ربكم ، لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟!.

ومعنى الاستفهام : هو تقرير ما قالوه ، كالرد عليهم والإنكار.

وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) قاله البغوى بنحوه (١ / ١٢١).

٥٨٠