تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

أولها : انقسام البيت الساماني على نفسه طمعا في السيادة.

ثانيها : رجال الدولة السامانية الذين كانت لهم مطامع خاصة ، فسعوا إلى تحقيق هذه المطامع على حساب الدولة.

ثالثها : ضعف أمراء آل سامان حتى أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجال الدولة.

وترتب على ضعف الدولة السامانية ازدياد نفوذ الترك الذين كانوا مجرد خدم وأتباع ، فتمكنوا من القضاء على الدولة السامانية وبسطوا نفوذهم كذلك على كثير من البلدان الإسلامية(١).

وبرغم ضعف الدولة السامانية بعد الأمير إسماعيل ، فإنها ظلت قائمة حتى منتصف القرن الرابع الهجري ، فقد تولى الأمير أحمد بن إسماعيل الحكم بعد أبيه ، وحاول المحافظة على ملك الدولة السامانية قدر جهده ، لكنه لم يستطع تخليص طبرستان من الأمير الحسن بن علي الزيدي الملقب بالأطرش الذي تغلب عليها وعلى بلاد الديلم ، وهدى الله على يديه نفرا كثيرا ممن لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد ، فالتفوا حوله ، وطردوا والي السامانيين من بلادهم (٢).

وتوفّي أحمد بن إسماعيل سنة ٣٠١ ه‍ إثر مؤامرة دبرت له ، وولي من بعده ابنه نصر ، وكان صغيرا فتنافس أمراء البيت الساماني على الوصول إلى الحكم ، فشق عليه عمه إسحاق بن أحمد عصا الطاعة ، فاستقل بسمرقند ، واستقل أبو صالح منصور بن إسحاق في نيسابور ، ولكن نصرا عاجلهم وقضى على ثورتهم. كما هزم العلويين الذين زاد خطرهم في طبرستان وقتل قائدهم ، فاستطاع الأمير نصر بسبب هذه الانتصارات استعادة نفوذ الدولة السامانية على بلاد ما وراء النهر (٣).

وتوفي الأمير نصر ، فبدأ الانهيار الكامل للدولة السامانية ، فاستقل الأمراء ، كلّ بجهة معينة ، فواجه الأمير نوح بن نصر الذي خلف والده مصاعب كثيرة ، منها خروج أبي إسحاق أحمد في بخارى ، وأبو علي الأصفهاني في نيسابور.

وأخطر ما واجهه غزو ركن الدولة البويهي لبلاد الري واستيلاؤه عليها ، ولكن القائد الساماني أبا علي طرد منها البويهيين ، لكنه انقلب على سادته واستقل بها ، بل طمع في

__________________

(١) ينظر : السابق ، الصفحة نفسها.

(٢) ينظر : السابق ص ١٧.

(٣) ينظر : الكامل في التاريخ حوادث (٣٠١ ، ٣٠٢ ، ٣٠٦) ، وتاريخ بخاري لفاميري ص ١١٣ ، ١١٤.

٤١

إقليم خراسان. ومن ثم بدأ انحسار النفوذ الساماني فما عاد يتجاوز بلاد ما وراء النهر (١).

ومع ازدياد نفوذ البويهيين وضعف أمراء الدولة السامانية ازداد الانحسار ، فألقى الأمراء السامانيون بأنفسهم في أحضان الدولة الغزنوية الناشئة ، حتى آل أمر دولتهم جميعه إلى هذه الدولة ، فسقطت بذلك الدولة السامانية بعد ما حكمت بلاد ما وراء النهر وما جاورها قرابة قرن ونصف (٢).

على أنه ينبغي أن نسجل للدولة السامانية عدة أمور تعد في ميزان فضائل هذه الدولة وأمرائها :

أولها : أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في عهد الدولة السامانية ؛ حتى كانت بخارى ، وسمرقند ، وبلخ تحت حكمهم منارات للعلوم الدينية ، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب.

ثانيها : انتشار الرخاء في عهدهم ، واتباعهم سبيل الحق في حكمهم ؛ حتى مدحهم المقدسي الذي رحل إلى بلادهم ، فقال : إنهم أحسن سيرة ، وهذا فضلا عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله ، فقد كان من رسومهم ألا يكلفوا أهل العلم تقبيل الأرض بين أيديهم.

وقال في وصف أهل خراسان في العهد الساماني : إنهم من أشد الناس تمسكا بالحق ، وهم بالخير والشر أعلم.

كما أقر بعلمهم الكثير ، وحفظهم العجيب ، واستقرار الأمور في خراسان ، وانتشار الرخاء فيها (٣).

ثالثها : عدم قصر عنايتهم على العلوم الدينية ، بل اهتم أمراء الدولة السامانية بالعلوم الطبيعية والأدبية ، فقد نبغ علماء وشعراء في بلاط هذه الدولة ، فنبغ الرودكي ، أول شاعر غنائي في فارس ، ومؤسس الملحمة التعليمية التي تعد من أخصب فروع الأدب الفارسي. وابن سينا الفيلسوف الطبيب الذي بدأ يظهر إنتاجه في عصر منصور بن نوح الساماني ٣٥٠ ه‍ وبخاصة كتابه القانون في الطب (٤).

__________________

(١) ينظر : الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٨.

(٢) ينظر : السابق ص ١٩.

(٣) ينظر : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي ص ٢٩٤ ، وما بعدها.

(٤) ينظر : تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص ١١٤ ـ ١١٦.

٤٢

ونسجل أيضا في هذا المقام أن الماتريدي صاحب التفسير المحقق بين أيدينا عاش في سمرقند ، ويمكننا القول : إنه عاش عمره كله في ظل الدولة السامانية ، وما من شك في أنه تأثر بأحداثها ، ونعم بخيرها ، واستقرارها الفكري والعلمي ، برغم ما حصل فيها من أحداث سياسية مضطربة في بعض المراحل ، فكان ذلك من عوامل نبوغه في العلوم الدينية المختلفة ، كما سنعرف في الباب الثاني من هذه الدراسة.

* * *

٤٣

الفصل الرابع

نظام الحكم في الدولة العباسية

يقصد بنظام الحكم : أجهزة الدولة المختلفة التي تصرف أمورها ، وتدبر شئونها ، وتكون بمثابة حلقة الوصل بين الرعية وبين الحكام ، وذلك حتى تنضبط حركة الحياة ويتمكن الناس من القيام بالوظائف المنوطة بهم على نحو تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض على الوجه المرضي.

والحديث عن نظام الحكم في أي عصر من عصور التاريخ ذو شعب ثلاث :

١ ـ النظام السياسي.

٢ ـ النظام الإداري.

٣ ـ النظام القضائي.

ولإعطاء القارئ صورة عن نظام الحكم في الدولة العباسية في الفترة محل الدراسة نعرض لهذه الأنظمة الثلاثة في شيء من الإيجاز :

أولا : النظام السياسي :

ويتمثل هذا النظام فيما يلي :

أ ـ الخلافة :

عرف صاحب الأحكام السلطانية الخلافة بقوله : «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» (١).

كما عرفها ابن خلدون بأنها «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» (٢).

ومن البين أن التعريفين ينطويان على معنى الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية.

__________________

(١) الماوردي ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، مطبعة الحلبي ، الطبعة الثالثة ١٣٩٣ ه‍ ، ١٩٧٣ م ص ٥.

(٢) مقدمة ابن خلدون.

٤٤

وقد كانت الخلافة في الدولة العباسية وراثية ، تنتقل من الآباء إلى الأبناء.

والخلفاء العباسيون يقتفون في ذلك أثر الأمويين الذين ابتدعوا مبدأ توريث الخلافة ، بعد أن كانت شورى يتداولها المسلمون فيما بينهم دون قصرها على بيت دون بيت أو أسرة دون أسرة.

وامتاز نظام الحكم في العصر العباسي الأول بغلبة النزعة الاستبدادية عليه ، فالخليفة العباسي يملك السلطات كلها في يده ، على الرغم من أن أصحاب الدواوين أو البارزين من أصحاب البيت العباسي كانوا بمثابة مستشارين غير رسميين (١).

ودرج الخلفاء العباسيون على نظام تولية العهد أكثر من واحد ، فقد عهد السفاح بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم إلى أخيه عيسى بن موسى ، وكذلك فإن المهدي عهد بالخلافة إلى ولديه الهادي ثم لهارون الرشيد ، وأما هارون الرشيد فولى عهده أولاده الثلاثة : الأمين والمأمون والمؤتمن ، وقسم البلاد بينهم (٢).

ولا ريب أن هذا النظام في ولاية العهد قد أثمر العداوة والبغضاء بين أبناء البيت العباسي بدافع المنافسة والرغبة في الظفر بمنصب الخلافة.

وقد آل أمر الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل «٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍» إلى حالة من الوهن والضعف ، بسبب ازدياد نفوذ الأتراك ثم البويهيين والسلاجقة ، وغدا الخلفاء العباسيون ألعوبة في يد هؤلاء ، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الثاني من هذه الدراسة.

وعلى الرغم من ضعف الخلافة في عصر إمرة الأمراء وبني بويه ، فقد استمر الخلفاء العباسيون يولون العهد أبناءهم ، غير أن الأتراك والبويهيين من بعدهم كانوا لا يحفلون بهذا النظام إذ كان لا يتفق مع مصالحهم.

ب ـ الوزارة :

اقتبس العباسيون نظام الوزارة من الفرس ، والحق أن الوزارة كاختصاص ومهام ولقب قد استحدثت في العصر العباسي ، وإن عرفت كاختصاص فقط دون اللقب في العصر الأموي ، فكان عبد الحميد بن يحيى بن سعيد كاتب مروان بن محمد يقوم في الخلافة مقام الوزير من حيث تقريب الخليفة له واعتماده عليه في المشورة والرأي (٣).

__________________

(١) السابق (٢ / ٢٥٥).

(٢) السابق (٢ / ٢٥٦).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ص ٢٥٣.

٤٥

ولم تتضح مهام الوزارة وأعمال الوزير في صدر الدولة العباسية ، ولكنها لم تلبث أن تحددت وصيغت الصياغة النهائية في أواخر العهد العباسي.

وكان أكثر وزراء الدولة العباسية من الفرس أو الترك ، واشتهر من وزراء العصر الأول البرامكة وبنو سهل ، ومن وزراء العصر الثاني بنو الفرات وبنو وهب وبنو الجراح (١).

وأرهبت قوة الدولة العباسية وحزم خلفائها الوزراء ، فلم يستبدوا بأمر دون الخليفة ، ولم ينفردوا برأي دون الرجوع إليه ، بل كان الواحد منهم يتجنب أن يسمى وزيرا بعد أن مات أبو الجهم على يد المنصور ، فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ويأبى أن يسمى وزيرا على الرغم من منزلته عند الخلفاء (٢).

ولم يتردد الخلفاء العباسيون الأوائل في البطش بأي وزير يرون في تضخم نفوذه خطرا على كرسي الخلافة ، ومقتل أبي سلمة الخلال على يد السفاح ، وأبي الجهم على يد المنصور ، ونكبة البرامكة في عهد الرشيد أمثلة صادقة على قوة الخلافة ، وتضاؤل نفوذ الوزراء إلى جوار الخلفاء.

ولقد عرف العصر العباسي شكلين من أشكال الوزارة :

الأول : وزارة تنفيذ : وهي التي تقتصر مهمة الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة وعدم التصرف في شئون الدولة من تلقاء نفسه.

الثاني : وزارة تفويض : وهي أن يكل الخليفة الوزارة إلى شخص يثق فيه ، ويفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شئونها دون الرجوع إليه.

ومن أشهر وزراء التفويض : آل برمك وآل سهل والفضل بن الربيع (٣).

ولما ضعفت الخلافة العباسية ودب الوهن في أوصالها ، تزايد نفوذ الوزراء وتعاظم خطرهم ، وقويت المنافسة على كرسي الوزارة.

ولم يكد البويهيون يستولون على بغداد سنة ٣٣٤ ه‍ حتى استبدوا بالسلطة دون الخلفاء العباسيين وقضوا على نفوذ الوزراء وحلوا محلهم ، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء اشتهر بعضهم كأبي الفضل محمد بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٠).

(٢) السابق (٢ / ٢٥٧).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، وانظر أيضا في أشكال الوزارة : الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٢ ـ ٢٩.

(٤) ينظر : حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٢٥٥).

٤٦

ج ـ الكتابة :

اقتضى تطور منصب الوزارة وتشعب أعماله استحداث نظام جديد يعاون موظفوه الوزير في الإشراف على الدواوين وإدارة شئونها ، وهو نظام الكتابة.

ووجد في هذا العصر كاتب للرسائل ، وكاتب للخراج ، وكاتب للجند ، وكاتب للشرطة.

ومهمة كاتب الرسائل : إذاعة المراسيم والبراءات وتحرير الرسائل السياسية وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة ، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية وختمها بخاتمه ، كما كان يجلس مع الخليفة في مجلس القضاء للنظر في المظالم وختم الأحكام بخاتم الخليفة.

واشتهر من كتاب الدولة العباسية : يحيى بن خالد البرمكي ، والفضل بن الربيع والفضل بن سهل والحسن بن سهل ، وأحمد بن يوسف ومحمد بن عبد الملك بن الزيات (١).

د ـ الحجابة :

استحدث الأمويون وظيفة سياسية جديدة في بلاطهم هي الحجابة ، ومهمة الحاجب : حجب الخليفة عن الناس ، وتنظيم دخول الرعية عليه وفقا لمنازلهم الاجتماعية ، ومراتبهم في الدولة.

ولعل الأمويين قد خافوا على أنفسهم من الرعية بعد حادثة الخوارج مع علي ومعاوية وعمرو بن العاص (٢).

وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في اتخاذ الحجاب ، بيد أن مرتبة الحاجب قد ارتقت وزادت مكانته في بلاط العباسيين ، فأصبح يستشار في كثير من أمور الدولة ، ويستبد بالنفوذ دون الوزير ويلزم أصحاب الدواوين بالرجوع إليه (٣).

ثانيّا : النظام الإداري :

أ ـ تعيين الولاة :

امتاز النظام الإداري في العصر العباسي الأول بالمركزية التي غدا معها ولاة الأقاليم

__________________

(١) ينظر في كل ما سبق : تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٣ ، ٢٦٤).

(٢) ينظر في نظام الحجابة : السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٥٩ ـ ٢٦٢.

(٣) ينظر تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٢٦٧).

٤٧

مجرد عمال لا ولاة ينفردون بالسلطة المطلقة ، وهو ما يفرق بين النظام الإداري العباسي والأموي ، حيث كان ولاة الدولة الأموية يتمتعون بنفوذ كبير وسلطة لا يغلها استبداد الخليفة ، فلا غرو أن اقتصرت وظيفة الوالي في بداية تاريخ الدولة العباسية على الصلاة وقيادة الجند (١).

ودرج الخلفاء العباسيون على اختيار العمال أو الولاة من بين أفراد البيت العباسي أو من بين كبار القادة ، «غير أن هؤلاء وأولئك آثروا البقاء في بغداد أو في سامراء ، وأنابوا عنهم نوابا يحكمون هذه الولايات باسمهم. ولم يكن هذا التقليد شديد الخطر على الدولة العباسية وهي في قوتها ، على أنه لما ضعفت السلطة المركزية ساءت الحالة في هذه الولايات ، وجنح بعض نواب الولاة إلى الاستقلال ، فظهرت في مصر الدولتان الطولونية والإخشيدية ، وظهرت في المشرق الدول : الطاهرية ، والصفارية والسامانية» (٢).

ب ـ الدواوين :

كلمة الديوان كلمة فارسية تعني السجل يكتب فيه ما يختص بشئون الإدارة. ثم أصبحت تدل على المكان الذي يعمل فيه الكتاب على اختلاف مهامهم (٣).

وتشبه الدواوين في نظامها وأعمالها الوزارات في العصر الحاضر.

وأول من دون الدواوين في الدولة الإسلامية هو عبد الملك بن مروان. ثم كثرت الدواوين في العصر العباسي لتنظيم شئون الدولة ، ومنها : ديوان الخراج ، وديوان الجند ، وديوان الموالي والغلمان ، وديوان البريد ، وديوان زمام النفقات ، وديوان الدية ، وديوان الرسائل ، وديوان الحوائج ، وديوان المنح ، وديوان الأكرة للإشراف على الترع والجسور وشئون الري (٤).

ويرجع الفضل في تنظيم إدارة الدواوين في العصر العباسي الأول إلى خالد بن برمك ، كما يرجع الفضل في إنشاء ديوان الزمام إلى المهدي لجمع ضرائب العراق ، وهو أول من أحدث هذا الديوان (٥).

__________________

(١) ينظر السابق (٢ / ٢٦٥).

(٢) ينظر : السابق (٢ / ٢٦٧).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، وانظر في سبب التسمية الأحكام السلطانية ١٩٩.

(٤) ينظر : تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٨).

(٥) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٦٥.

٤٨

ج ـ البريد :

أولى الخلفاء العباسيون نظام البريد عناية كبيرة وحفاوة بالغة تتلاءم مع ما عسى أن يقدمه صاحب البريد من معلومات عن الأمصار والولاة ، فهو بمثابة جهاز المخابرات في الدول الحديثة.

وكان لديوان البريد محطات على طول الطريق ، وظل الحمام الزاجل مستخدما في نقل الرسائل حتى عهد الخليفة المعتصم.

وكان البريد خاصّا بأعمال الدولة لا لنقل رسائل الجمهور ، ومن ثم كان مصلحة من مصالح الدولة الخاصة ، فكان صاحب البريد يراقب العمال ، ويتجسس على الأعداء ، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها رئيس قلم المخابرات في وزارة الدفاع الآن ، وكانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل الأخبار إلى الخليفة من عماله في الأقاليم ، ثم توسعوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينا للخليفة ينقل أوامره إلى ولاته كما ينقل أخبار ولاته إليه (١).

٤ ـ الشرطة :

اعتمد الخلفاء على الشرطة في حفظ الأمن ، ونشر الاستقرار والضرب على أيدي المجرمين والمفسدين.

وألحقت الشرطة في أول الأمر بالقضاء ؛ لأنها تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية وصاحبها يتولى إقامة الحدود ، ثم لم تلبث أن غدت نظاما مستقلا (٢).

وكان صاحب الشرطة يختار من علية القوم وذوي العصبية والناس ؛ حتى يكون قادرا على ضبط المجرمين وإقامة الحدود ، وتنفيذ العقوبات.

وصاحب الشرطة يختار له مساعدين يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه.

ثالثا : النظام القضائي :

ويشتمل على : القضاة ، والنظر في المظالم ، والحسبة.

أ ـ القضاة :

عرف منصب القضاء في الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية. وكان القاضي يصدر في أحكامه عن كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عن رأيه

__________________

(١) د / حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٩ ، ٢٧٠).

(٢) السيد عبد العزيز سالم ، ص ٢٧٩.

٤٩

واجتهاده.

فلما كانت الدولة العباسية ، وتقررت المذاهب الفقهية المختلفة ، غدا كل قاض يصدر في أحكامه عن مذهب منها ، ويعوّل في الفصل بين الناس عليه. كما استحدثت الدولة العباسية منصب «قاضي القضاة» ، وأول من تلقب بهذا اللقب أبو يوسف في عهد هارون الرشيد.

وكان القضاة في العصر العباسي ينظرون في القضايا المدنية والدعاوى والأوقاف ، وتنصيب الأوصياء ، وأحيانا المظالم والقصاص وبيت المال (١).

ب ـ النظر في المظالم :

ويختص صاحب المظالم بالنظر في القضايا التي عجز القضاة عن الفصل فيها ، وكان يتولى النظر في المظالم ـ أحيانا ـ الخلفاء أنفسهم ، فكان بعض خلفاء بني العباس يجلس لهذا الأمر ؛ ليحكم في المظالم.

كما كان يرأس محكمة المظالم ـ إن لم يكن رئيسها هو الخليفة ـ الوالي أو من ينوب عنه.

وكان صاحب المظالم يعين للناس يوما يقصدونه فيه ، أو أسبوعا كاملا يفرغ لهم فيه.

وتنعقد محكمة المظالم في الأعم الأغلب في المسجد ، وكان يحضرها خمس جماعات لا بد من حضورهم هم :

أ ـ جماعة الحماة أو الأعوان : ومهمتهم التغلب على من يلجأ إلى العنف أو يحاول الفرار.

ب ـ جماعة الحكام : ومهمتهم الإحاطة بما يصدر من الأحكام لرد الحقوق إلى أهلها ، والعلم بما يجري بين الخصوم.

ج ـ جماعة الفقهاء : الذين يرجع إليهم صاحب المظالم فيما أشكل عليه.

د ـ جماعة الكتاب : ويقومون بتدوين أقوال الخصوم.

ه ـ الشهود.

ويختلف اختصاص صاحب المظالم عن اختصاص القاضي في عدة أمور :

أولها : صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يقيمها الأفراد على الولاة وعمال

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (١٩٢ ، ١٩٣).

٥٠

الخراج.

ثانيها : صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي.

ثالثها : صاحب المظالم يحكم في القضايا التي تتعلق بإقامة العبادات كالحج والأعياد والجمع والجهاد (١).

ج ـ الحسبة :

وضع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب نظام الحسبة في الإسلام ، ويعني هذا النظام : النظر فيما يتعلق بالنظام العام من أمور تقتضي الفصل فيها على وجه السرعة.

ومن وظائف المحتسب أنه : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحافظ على الآداب العامة ، ويشرف على نظام السوق ، ويستوفي الديون ويراقب المكاييل والموازين تجنبا للتطفيف ، ويعاقب العابثين ... إلخ (٢).

بيد أن مصطلح الحسبة لم يستخدم أو يتداول في العصر العباسي بالرغم من تطبيق مفهومه.

* * *

__________________

(١) ينظر : الأحكام السلطانية للماوردي ص ٨١ ـ ٨٣.

(٢) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٣١٦) ، الأحكام السلطانية ص ٢٤١.

٥١

الفصل الخامس

الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي

لا مرية في أن الأوضاع الاجتماعية في عصر من العصور تؤثر تأثيرا كبيرا في أفراد المجتمع عامتهم وخاصتهم على السواء ، ولعل أكثر الطبقات الاجتماعية تأثرا بهذه الأوضاع هم العلماء ؛ فهم أكثر اتصالا بحياة الناس وأشد اهتماما بشئونهم ورغبة في معرفة مشاكلهم والقضاء عليها.

ومرادنا من دراسة الحالة الاجتماعية : بيان طبقات المجتمع من حيث : الجنس ، والدين ، وما يربط هذه الطبقات بعضها ببعض من صلات وأواصر دينية أو اقتصادية أو اجتماعية.

كما تعني دراسة الأوضاع الاجتماعية عناية فائقة بمظاهر الحياة في المجتمع (١).

وتنتظم دراستنا للحالة الاجتماعية للفترة التاريخية التي نحن بصددها مبحثين اثنين هما :

المبحث الأول : سكان الدولة العباسية.

المبحث الثاني : مظاهر الحياة الاجتماعية.

* * *

__________________

(١) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٣٤).

٥٢

المبحث الأول

عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي

تنوع سكان الدولة العباسية تنوعا كبيرا ، واختلفت عناصرهم وطبقاتهم أشد ما يكون الاختلاف ، وانصهرت جميعها في بوتقة المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي. وهذه العناصر هي :

١ ـ العنصر العربي :

وقد أفاضت الدولة الأموية على العرب تميزا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية ، حيث آثرتهم بالمناصب السياسية وقصرتها عليهم ، ونظرت بعين الازدراء للعناصر الأخرى ، وحرمتها من المشاركة السياسية الفاعلة.

أما الدولة العباسية فقامت على أكتاف الموالي من الفرس ، وبرزت إلى الوجود بفضل مناصرتهم وتأييدهم ، فلا غرو أن قدمهم العباسيون وآثروهم بالمناصب وأجروا عليهم الأعطيات السخية ، وفي المقابل تأخر العرب وصارت منزلتهم دون منزلة الفرس بكثير ، وحسبك دليلا على صحة ذلك أن المعتصم «٢١٨ ـ ٢٢٥ ه‍» أخرج العرب من ديوان العطاء.

ولقد عبر الجاحظ عن هذه الحالة في عبارة موجزة فقال :

«دولة بني العباس أعجمية خراسانية ، ودولة بني مروان عربية أعرابية».

٢ ـ العنصر الفارسي :

وقد أشرنا قبل قليل إلى تميز مكانة الفرس لدى الخلفاء العباسيين ، فأسندوا إليهم المناصب الهامة ، واعتمدوا عليهم اعتمادا كبيرا في تصريف شئون دولتهم.

وتخبرنا المصادر التاريخية أن أول من استعملهم هو الخليفة أبو جعفر المنصور ، فاستن بسنته في استعمالهم الخلفاء العباسيون من بعده حتى بلغ نفوذهم ذروته في عهد هارون الرشيد ، فكان مدبر أمر دولته آل برمك وأصولهم ساسانية.

وكذلك انتصر المأمون للفرس وأدناهم إليه واعتمد عليهم في حرب أخيه الأمين ، فلما انتصر على أخيه وآل أمر الملك إليه بفضل نصرة الفرس له قربهم أكثر ، فازدادوا نفوذا وتدخلا في شئون الخلافة العباسية.

٥٣

٣ ـ العنصر التركي :

ازداد نفوذ الفرس في الدولة العباسية ، وأصبحوا يمثلون خطرا كبيرا على سلطة الخلفاء العباسيين ، فلم يجد العباسيون مناصا من الاعتماد على عنصر جديد يثقون في ولائه ومناصرته لهم ، فاستعان المعتصم بالعنصر التركي وأدخله إلى المجتمع العباسي. غير أن هذا العنصر استبد بالأمور دون الخلفاء منذ عصر المتوكل «٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍» ، وغدا الترك أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة ، والخلفاء ألعوبة في أيديهم.

٤ ـ المولدون :

نشأ نتيجة الاختلاط بين العناصر السابقة عنصر جديد لم يكن موجودا من قبل ، وهذا العنصر هو المولدون ، وكان لهؤلاء مميزات وصفات مختلفة في أجسامهم وعقولهم وأفكارهم ، وأثر لا ينكر في الحياة الاجتماعية والعلمية.

٥ ـ اليهود والنصارى :

وعلى الرغم من أن هؤلاء كانوا قلة في المجتمع العباسي إلا أنهم تمتعوا بكافة الحقوق في ظل التسامح الديني الذي دعا إليه الإسلام ، فكانوا يقيمون شعائرهم الدينية في حرية كاملة ، ويعيشون في طوائف منفصلة عن بعضها مختلطين مع المسلمين ، فلم يكن لهم في المدن الإسلامية أحياء مخصصة إلا إذا آثروا الحياة في أحياء خاصة بهم ، فتتكون تلقائيّا لهم أحياء خاصة.

طبقة الرقيق :

كثرت هذه الطبقة في المجتمع العباسي كثرة ظاهرة ، فنشأت أسواق خاصة بهم في بغداد ، وامتلأت قصور الخلفاء والأغنياء والحكام بالجواري. كما عني العباسيون بتهذيبهن وتعليمهن ضروبا من الفنون لا سيما الشعر والغناء.

ونعم الرقيق في ظل الدولة العباسية بكافة حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها سائر طبقات المجتمع من الأحرار ، وحسبك دليلا على صدق ما نقول أن كثيرا من أمهات الخلفاء العباسيين كن من الرقيق.

وكان ذلك بفضل ما أرساه الإسلام من مبادئ العدل والمساواة دون تمييز بين عربي وعجمي أو حر وعبد ، فالكل سواء في الحقوق الإنسانية (١).

__________________

(١) انظر فيما سبق : ضحى الإسلام (١ / ٥) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٣٤).

٥٤

هذا عن العناصر السكانية في المجتمع العباسي عامة أما بلاد ما وراء النهر ـ مسقط رأس الماتريدي ـ فإن غالبية السكان فيها كانوا من الفرس والترك ، وثمة طوائف عربية استوطنت هذه البلاد على أثر الفتوحات الإسلامية ، فاندمجوا مع سكان البلاد الأصليين ، الذين دخل منهم في الإسلام من دخل ، وبقى منهم على دينه من بقي ، متمتعا في ظل الإسلام بكافة الحقوق الإنسانية.

* * *

٥٥

المبحث الثاني

مظاهر الحياة الاجتماعية

امتازت الحياة الاجتماعية في عصر الماتريدي بمظاهر عدة ، لعل أبرزها :

ـ ظهور حركة الشعوبية.

ـ ظاهرة الزندقة.

ـ غلبة اللهو والترف على المجتمع.

أولا : الشعوبية :

نشأت ظاهرة الشعوبية كنتيجة طبيعية للصدام السياسي والحضاري بين العرب والموالي ، فتعصب العرب لجنسهم واحتقروا الموالي ، وتعصب الموالي ـ الفرس والترك ـ لأرومتهم ، ورأي الفرس أنهم ذوو سابقة في الحضارة والمدنية وأن العرب طارءون على هذه الحضارة.

وغلبت هذه النزعة من العصبية على الدولة العباسية وأذكى نيرانها مساندة العباسيين للموالي وتقديمهم إياهم على العرب.

وبلغت الشعوبية ذروة خطورتها في القرن الثالث الهجري ، حيث نشط الفرس في الهجوم على العرب والتفتيش عن مثالبهم ، وتجريدهم من كل ميزة وفضيلة ، وربما ساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين لم يتعصبوا للعرب كجنس بقدر ما تعصبوا للإسلام كدين يسوي بين الناس في الحقوق والواجبات ، ولا يرى للعرب فضلا على سائر الأجناس إلا بالتقوى.

وثمة نزعات ثلاث تألفت ظاهرة الشعوبية من مجموعها :

النزعة الأولى : وتذهب إلى أن العرب خير الأمم ؛ لأنهم ظلوا ينعمون بالاستقلال والحرية ، بالرغم من أنهم كانوا يتاخمون أكبر دولتين : الفرس والروم ، كما أنهم يتمتعون بصفات أخلاقية امتازوا بها عن غيرهم ، كالكرم والوفاء والنجدة ، بالإضافة إلى أن الإسلام ـ وهذا هو العامل الأهم ـ نزل بأرضهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، وهم حاملو لواء دعوته إلى الناس ، فكل من أسلم ففي عنقه للعرب منة لا تقدر.

النزعة الثانية : ترى أن العرب ليسوا بأفضل الأمم ، فالأمم كلها متساوية ، يؤيد ذلك قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣].

٥٦

ويمثل هذه النزعة وينتصر لها العلماء والصالحون من العرب والعجم جميعا.

النزعة الثالثة : يؤمن أصحاب هذه النزعة بأفضلية العجم على العرب ، ويفندون الحجج التي ارتكز عليها أصحاب النزعة الأولى في تفضيل العرب ، فيقولون : إن الإسلام ليس دينا عربيّا أنزله الله لهداية العرب وحدهم ، بل هو دين عام للناس أجمعين ، ودعوته موجهة لكل الأجناس ، وليس للعرب ما يمتازون به عن غيرهم.

وما افتخروا به من سجايا كريمة وشيم نبيلة كالكرم والوفاء والنجدة وغيرها ، ليست قصرا عليهم بل يشاركهم فيها سائر الأمم.

وقد أطلقت الشعوبية على هذه النزعة الأخيرة حتى غدت مرادفة لها ، فصنف العجم كتبا في مثالب العرب ومناقب العجم ، بل تجرأ الشعوبيون فوضعوا الأحاديث ونسبوها زورا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إثباتا لفضيلة العجم (١).

ثانيا : الزندقة :

لعل من الأسباب التي أدت إلى شيوع الزندقة وقوة تيارها في العصر العباسي : نشاط الحركة العلمية العقلية في هذا العصر ؛ إذ لم يقتصر البحث على العلوم الدينية النقلية من جمع أحاديث وتفسير للقرآن ، واستنباط للأحكام الشرعية ، بل تعداها إلى دراسة المنطق والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم التي تثير في النفس والعقل من الحيرة والشك أكثر مما تثبت فيهما من الإيمان واليقين.

وكذلك فإن كثيرا من الفرس ساءهم ألا يحققوا ما يطمحون إليه من مطامع ، ورأوا أن الإسلام ما دام قويا ، فلن يتحقق لهم ما يرنون إليه ؛ ولذلك عملوا على هدم الإسلام من داخله عن طريق نشر المبادئ المانوية والزرادشتية والمزدكية ، فكان ذلك عاملا مباشرا أسهم في ذيوع الزندقة وانتشار أفكارها الهدامة (٢).

وتعني الزندقة اعتناق الإسلام ظاهرا ، واعتناق أديان الفرس باطنا ، وخاصة مذهب ماني ، وإنما أظهروا الإسلام رغبة في إفساده وهدم تعاليمه ، أو لنيل الجاه والظفر بالسلطان.

واجتهد الخلفاء العباسيون في تعقب الزنادقة ومحاكمتهم ، كما شجعوا المتكلمين وأهل الجدل على تأليف الكتب للرد على الزنادقة ، وأمر الخلفاء بمناظرتهم واستتابتهم ، فإن تابوا وإلا قتلوا.

__________________

(١) انظر : ضحى الإسلام (١ / ٤٩).

(٢) انظر : السابق (١ / ١٣٨ ، ١٣٩).

٥٧

وأوصى الخليفة المهدي ابنه وولي عهده موسى الهادي ـ إذا آل إليه أمر الخلافة من بعده ـ بتعقبهم والقضاء عليهم.

واستحدث هارون الرشيد وظيفة جديدة سمى صاحبها ب «صاحب الزنادقة» مهمته امتحان كل من يتهم بالزندقة ومحاكمته إن ثبتت عليه التهمة.

وذكر الطبري والمسعودي أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة في البصرة ، فبعث إليهم ، وامتحنهم واحدا واحدا ، وأظهر لهم صورة ماني ، وأمرهم أن يتفلوا عليها ويبرءوا منها ، فلما أبوا أمر بهم فقتلوا (١).

وثمة نزعة إيمانية صادقة ظهرت كرد فعل لنزعة الإلحاد والزندقة ، حيث كثر العلماء المؤمنون الذين وقفوا حياتهم على خدمة الدين ، والتمسك بآدابه ومبادئه. وفي الحق أن هذه النزعة الإيمانية كانت هي الغالبة على المجتمع العباسي ؛ إذ كان الزنادقة قلة إذا قيسوا بالمؤمنين الأتقياء.

ثالثا : حياة الترف واللهو :

تدفقت الثروة وعم الرخاء في الدولة العباسية ، فانغمس كثير من الخلفاء والأمراء في حياة الترف والمجون ، بل أصبح الترف سمة امتازت بها حياة كثير من الناس في هذا العصر ، وقد تجلت مظاهر الترف واللهو في عدة أمور أبرزها :

أ ـ القصور المنيفة التي شيدت على أحسن طراز ، فقد كانت قصور الأمراء والخلفاء مضرب الأمثال في رونقها وبهائها ، وفخامة بنائها واتساعها ، والحدائق التي تحيط بها.

ب ـ شاع الغناء في هذا العصر ، وكثر المغنون ، حيث حفلت قصور الأمراء بالمغنين من الجواري ، واشتهر من المغنين عدد غير قليل لعل أبرزهم إبراهيم بن إسحاق الموصلي.

وحذا الأمراء والوزراء حذو خلفاء الدولة العباسية في الانغماس في حياة اللهو والترف ، وقد أوجدت هذه الحالة جماعة متطوعة تنكر على الفساق ببغداد ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وأثمرت حياة اللهو كذلك حياة مقابلة لها هي حياة الزهد التي سلكها بعض الناس (٢).

* * *

__________________

(١) انظر : تاريخ الأمم والملوك للطبري (١٠ / ٤٤) ، ومروج الذهب (٢ / ٢٤٩).

(٢) ضحى الإسلام (١ / ١٠١) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٤٠).

٥٨

الفصل السادس

الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي

كان الإسلام محور الحركة العلمية وأساسها الأول حتى أواخر العصر الأموي ، فالعلوم التي يتدارسها المسلمون ويعنون بتدوينها وجمع مسائلها علوم دينية مادتها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وغايتها خدمة الإسلام ودعم أصوله وأركانه.

فمبنى الفقه على الكتاب والسنة الصحيحة ، ومدار الحديث على أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفعاله المأثورة عنه ، وأساس التاريخ سيرة النبي وغزواته.

أما العلوم الدنيوية : كالطب والكيمياء فحظ المسلمين من الاشتغال بها قليل ، واهتمامهم بها ضعيف ، وأكثر من برعوا فيها واهتموا بها من غير المسلمين.

أما الدولة العباسية فمعلوم لكل أحد أن الحركة العلمية نشطت في عصرها نشاطا كبيرا ، وتنازعت العلوم الدينية والعلوم العقلية اهتمام المسلمين وعنايتهم ، فكثر التدوين والتصنيف ورتبت مسائل العلوم ، وميّز كل علم عن غيره واستقل بموضوعه ومنهجه ، واستحدثت علوم جديدة كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه ، وعني المسلمون بترجمة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء عن اليونان والهند.

فلا غرو أن أثرى هذا النشاط الحركة العلمية في عصر الدولة العباسية ـ عصر الماتريدي ـ ثراء عظيما ، حتى عد هذا العصر بحق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية القائمة على العلم الديني والدنيوي على سواء.

ويمكننا أن نتلمّس ملامح الحركة العلمية ونقف على آثارها ونتائجها ببيان أهم العلوم التي دونت في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

العلوم المدونة في القرنين الثالث والرابع الهجريين

وعني المسلمون منذ مطلع القرن الثالث الهجري بتدوين العلوم وجمع مسائلها وترتيب أبوابها ، واتسعت دائرة اهتمامهم العلمي لتشمل إلى جانب العلوم الدينية العلوم العقلية ، وفيما يلي نعرض بإيجاز لأبرز هذه العلوم :

١ ـ علم القراءات :

القراءات : جمع قراءة ، وهي في اللغة : مصدر سماعي لقرأ ، وفي الاصطلاح : مذهب

٥٩

يذهب إلى إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه ، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئتها.

ونستطيع أن نقول : إن الدافع وراء اهتمام المسلمين بهذا العلم والتصنيف فيه خشية جماعة القراء من أن تتأثر قراءة القرآن باللكنة الأعجمية لا سيما بعد دخول الفرس في الإسلام أفواجا ، ومن ثم اهتم هؤلاء بضبط القراءات القرآنية وجعلوها علما كسائر العلوم.

وبرز في علم القراءات رجال كثيرون ، من أشهرهم :

١ ـ عبد الله بن عامر بدمشق ، توفي ١١٨ ه‍.

٢ ـ عبد الله بن كثير بمكة (توفي : ١٢٠ ه‍).

٣ ـ أبو بكر عاصم بن أبي النجود بالكوفة ، توفي ١٢٨ ه‍.

٤ ـ حمزة بن حبيب الزيات بالكوفة ، توفي ١٥٦ ه‍.

٥ ـ أبو عمر بن العلاء المازني بالبصرة (توفي : ١٦٤ ه‍).

٦ ـ نافع بن أبي نافع بالمدينة (ت : ١٦٧ ه‍) ، وأخذ عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش (توفي ١٩٧ ه‍) ، وهو الذي يقرأ له أهل المغرب.

٧ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي بالكوفة ، توفي ١٨٩ ه‍.

وهؤلاء هم المعروفون بالقراء السبعة الذين فاقوا غيرهم في الإتقان والضبط ، ويليهم في الشهرة :

٨ ـ أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني ، توفي ١٣٠ ه‍.

٩ ـ يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، توفي ٢٠٥ ه‍.

١٠ ـ خلف بن هشام البزار توفي ٢٢٩ ه‍.

وقراءات ما عدا هؤلاء العشرة قراءات شاذة.

والحق أن أول من تتبع وجوه القراءات ، وتقصى أنواع الشاذ منها ، وبحث أسانيدها وميز فيها الصحيح من الموضوع هارون بن موسى القاري ، (ت : ١٧٩ ه‍). أما أول من صنف في القراءات فهو أبو عبيد القاسم بن سلام (ت : ٢٤٤ ه‍).

وخليق بنا أن نسجل في هذا المقام الملاحظة التالية ، وهي أن أكثر القراء وأشهرهم وأبرز من دونوا في علم القراءات قد ظهروا في العصر العباسي ، وفي الفترة التاريخية التي

٦٠