تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

أحدهما : أن هؤلاء لم يعبدوا العجل ، وإنما عبد آباؤهم ؛ فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء.

والثانى : لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضا ؛ لأنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك ؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله ؛ كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، والله أعلم.

وتصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذى عصوا فيه ؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب ، أو لما لم يكونوا يرون التخليد فى النار أبدا ، أو لما هم عند أنفسهم ، كما أخبر الله عنهم ، بقوله : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وكقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨].

يقولون : إنا لا نعذّب أبدا ، إنما نعذّب تعذيب الأب ابنه أو الحبيب حبيبه ؛ يعذّب فى وقت قليل ، ثم يرضى ، ويدخل الجنة.

ولكن عقوبة الكفر أبدا ، والتخليد فيها لا لوقت ، وكذلك ثواب الإيمان للأبد لا لوقت ؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده للأبد لا لوقت ؛ فعلى ذلك جزاؤه للأبد لا لوقت.

وأما من ارتكب ذنبا من المسلمين ؛ بشهوة تغلبه فى وقت ، فيرتكبه ، ثم يتركه ـ فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب فى وقت ؛ لأنه لم يرتكبه للأبد ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ).

والعهد يحتمل : هل عندكم خبر عن الله تعالى بأنكم لا تعذبون أبدا ، ولكن أياما معدودة؟ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.

والثانى : أتخذتم عند الله عهدا ، أى لكم أعمال صالحة عند الله فوعدكم بها الجنة ، فهو لا يخلف وعده.

أى : ليس لكم واحد من هذين ، لا خبر عن الله بأنه لا يعذبكم ، ولا أعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.

وقوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

هذا إكذاب من الله ـ عزوجل ـ إياهم بذلك القول ، كأنه قال : بل تقولون على الله ما لا تعلمون ؛ ألا ترى أنه قال : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)؟!

يقول : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يعنى : شركا (وَأَحاطَتْ بِهِ) ، أى : مات عليها.

٥٠١

(فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.

وقيل : (وَأَحاطَتْ بِهِ) : بقلبه.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

قد ذكرنا عهد الله وميثاقه أنه يكون على وجهين : عهد خلقة وفطرة ، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : لا تجعلون الألوهية إلا لله.

ويحتمل : نفس العبادة ، أى : لا تعبدون غير الله ، من الأصنام والأوثان وغيرهما.

وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى).

برّا بهما ، وعطفا عليهما ، وإلطافا لهما ، وخفض الجناح ، ولين القول لهما ؛ كقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ...) الآية [الإسراء : ٢٣ ، ٢٤] ، وكقوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥].

فإن قيل : إن الأمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع ، لا على الوجوب ، واللزوم.

٥٠٢

غير أن الإحسان يجوز أن يكون الفعل الحسن نفسه ؛ كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] استوجبوا هذا بالفعل الحسن ، لا بالإحسان إلى الله تعالى ، وفعل الحسن فرض واجب على كل أحد.

والثانى : أن الإحسان إليهم يجوز أن يكون من حق الله عليهم ، وحقّ الله عليهم لازم ، وعلى ذلك صلة القرابة والمحارم ، والإنفاق عليهم من حق الله عليهم ، وهو لازم.

فهذا ينقض على الشافعى (١) قوله : إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين ، ولا يتكلم فى الآباء والأمهات بالقرابة ، ولا سموا بهذا الاسم ؛ فدل : أنه أراد به غير الوالدين ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ).

يحتمل : على النفل من الصدقة والفرض جميعا.

وقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

يحتمل وجوها :

يحتمل : لا تكتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ولكن أظهروها.

ويحتمل : الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

ويحتمل : المراد به الكلّ ، كل شىء وكل قول ؛ أى : لا تقولوا إلا حسنا. والله أعلم.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

يحتمل : الإقرار بها ، والقبول لها.

ويحتمل : إقامتها فى مواقيتها ، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.

ويحتمل : أن كونوا فى حال تكون لكم الصلاة والتزكية.

__________________

(١) هو : محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد المطلبى ، أبو عبد الله ، الشافعى الإمام العلم ، وقال قتيبة : الشافعى إمام ولد سنة خمسين ومائة روى عن مالك وإبراهيم بن سعد وابن عيينة ومحمد بن على بن شافع وخلق ، وعنه : أبو بكر الحميدى وأحمد بن حنبل والبويطى وأبو ثور وحرملة وطائفة ، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ، والموطأ وهو ابن عشر سنين ، قال الربيع : كان الشافعى يختم القرآن ستين مرة فى صلاة رمضان ، وقال بحر ابن نصر : كنا إذا أردنا أن نبكى قلنا بعضنا لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبى يقرأ القرآن ، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس من بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته ، وقال ابن مهدى : كان الشافعى شابا ملهما. وقال أحمد : ستة أدعو لهم سحرا أحدهم الشافعى. وقال : إن الشافعى للناس كالشمس للعالم. وقال أبو عبيد : ما رأيت أعقل من الشافعى.

وتوفى فى آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين ، رضى الله عنه.

ينظر : تهذيب التهذيب (٩ / ٢٥) ، وتاريخ بغداد (٢ / ٥٦) ، والثقات (٩ / ٣٠) ، والخلاصة (٢ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨).

٥٠٣

وقوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ).

يحتمل الوجوه التى ذكرناها فى الصلاة.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).

الآية ظاهرة.

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ).

قد ذكرنا الميثاق والعهد فى غير موضع.

وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ).

يحتمل وجهين :

أى : لا تسفكون دماء غيركم ، فيسفك دماءكم ؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءكم.

ويحتمل : لا يسفك بعضكم دماء بعض ؛ كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أى : يسلم بعضكم على بعض.

وذكر نقض العهد فى هؤلاء وإن كان فى أوائلهم ؛ لوجهين :

أحدهما : لما رضى هؤلاء بفعل آبائهم.

والثانى : بقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٢٢ ، ٢٣].

وقوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ).

يحتمل أيضا وجهين :

يحتمل : ولا يخرج بعضكم بعضا.

ويحتمل : لا تخرجوا غيركم من ديارهم ، فتخرجون من دياركم ؛ على ما ذكرنا فى قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

يحتمل : ثم أقررتم وأنتم تشهدون بالعهد والميثاق ، وتشهدون أنه فى التوراة.

وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ).

يعنى : يا هؤلاء.

وقوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ).

يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما فى قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وقوله : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ).

أى : تعاونون عليهم ، يعاون بعضكم بعضا بالإخراج ، وهو الظلم والعدوان.

وقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ).

٥٠٤

أى : ذلك الإخراج محرم عليكم.

وقوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ ...).

الآية ـ وإن كانت مؤخرة فى الذكر ـ فهى مقدمة ؛ كأنه قال : لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم.

وقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).

آمنوا بالمفاداة من الأسارى ، وكفروا بالإخراج وسفك الدماء.

ويحتمل : الإيمان ببعض ما فى التوراة ، وكفروا ببعضها ، وهو نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ؛ إذ لم يكن على موافقة مرادهم.

ويحتمل : أن فادوا أسراهم من غيرهم ، وسبوا ذرارى غيرهم.

وقوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ).

قيل (١) : الخزى فى الدنيا إجلاء بنى النضير من ديارهم ، وإخراجهم إلى الشام.

وقيل (٢) : مقاتلة بنى قريظة ، وسبى ذراريهم ، وذلك لحرب وقع بينهم ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). ولكن لا يعاقبون فى الدنيا ، بل يردون إلى أشد العذاب فى الآخرة ، وإن استوجبوا ذلك فى الدنيا ؛ كقوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ ...) الآية [إبراهيم : ٤٢].

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وعيد. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

يحتمل : أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه وبعثه ، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به ، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.

ويحتمل : ابتداء اختيار الضلال على الهدى ، والحياة الدنيا على الآخرة ، من غير أن آمنوا به ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٦).

(٢) ينظر السابق.

٥٠٥

وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).

يعنى : التوراة ، وهو ظاهر.

وقوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ).

وقيل (١) : وقفينا : أردفنا ، وهو من القفا ، قفا يقفو.

وقيل (٢) : أتبعنا رسولا على أثر رسول ؛ كقوله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) [المؤمنون : ٤٤] واحدا على أثر واحد.

وقوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ).

قيل (٣) : البينات : الحجج.

وقيل (٤) : العجائب التى كانت تجرى على يديه ، من خلق الطين ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإنباء ما يأكلون وما يدخرون.

وقيل : البينات : الحلال والحرام.

ثم الرسل فى أنفسهم حفظوا حججا ؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبا بدليل وبيان على صدقهم ؛ لأنهم فى أنفسهم حجة.

وأما سائر الناس فليسوا بحجج فى أنفسهم ، فلا بد لكل قول يقولون أن يأتوا بدليل يدل على صدقهم ، وبيان يظهر الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والصدق من الكذب. وبالله التوفيق.

وقوله : (وَأَيَّدْناهُ) : قويناه.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٧).

(٢) ينظر السابق.

(٣) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٨).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٤٨٦).

٥٠٦

(بِرُوحِ الْقُدُسِ).

اختلف فيه :

قيل (١) : روح القدس : جبريل.

وفى الأصل : القدوس ، لكن طرحت الواو للتخفيف (٢).

وتأييده : هو أن عصمه على حفظه ؛ حتى لم يدن منه شيطان ، فضلا أن يدنو بشيء ، والله أعلم.

وقيل : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعنى بالروح : روح الله.

ووجه إضافة روح عيسى إلى الله ـ عزوجل ـ : أن تكون أضيفت تعظيما له وتفضيلا (٣) ، وذلك أن كل خاص أضيف إلى الله ـ عزوجل ـ أضيف ؛ تعظيما لذلك الشىء ، وتفضيلا له ، كما يقال لموسى : كليم الله ، ولعيسى : روح الله ، ولإبراهيم : خليل الله ، على التعظيم والتفضيل.

وإذا أضيف الجمل إلى الله ـ عزوجل ـ فإنما تضاف ؛ تعظيما له ـ عزوجل ـ وتنزيها ؛ كقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] أضيف ذلك إليه ؛ تعظيما وتنزيها ، والله الموفق.

والأصل فى ذلك : أن خاصية الأشياء إذا أضيف ذلك إليه أضيف تعظيما لتلك الخاصية. وإذا أضيف جمل الأشياء إلى الله ، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له.

وقوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

فى ظاهر هذه الآية أنهم كذبوا فريقا من الرسل ، وقتلوا فريقا منهم.

ويقول بعض الناس : إنهم قتلوا الأنبياء ولم يقتلوا الرسل ؛ لقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، ولقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] أخبر أنه ينصرهم ، ومن كان الله ناصره فهو لا يقتل.

ومنهم من يقول : إنهم قتلوا الرسل والأنبياء.

فنقول : يحتمل قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) فى رسول دون رسول ، فمن نصره الله فهو

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٤٨٨) ، وعن السدى (١٤٨٩) ، والضحاك (١٤٩٠) ، والربيع (١٤٩١). وانظر الدر المنثور (١ / ١٦٧).

(٢) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٢ / ٢٦٦) ، والدر المصون (١ / ٢٩٤) ، والمحرر الوجيز (١ / ١٧٦) ، والبحر المحيط (١ / ٤٦٧).

(٣) فى أ : وتخصيصا.

٥٠٧

لم يقتل. أو كان ما ذكر من النّصرة لهم كان بالحجج والآيات.

ثم فى الآية دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته ؛ لأنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل ، وقتل بعضهم ، فسكتوا عن ذلك ، فلو لا أنهم عرفوا أنه رسول ـ عرف ذلك بالله ـ وإلا لم يسكتوا عن ذلك.

وقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ).

يعنى : فى أكنة عليها الغطاء ؛ فلا نفهم ما تقول ، ولا نفقه ما تحدّث.

يدّعون زوال الخطاب عن أنفسهم ؛ كراهية لما سمعوا.

وأكذبهم الله تعالى بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أى : طردهم الله ؛ بكفرهم ، وعتوهم ، وتفريطهم فى تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتنادهم إياه ، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئا مما يخاطبون به ـ على ما يزعمون ـ ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها.

وقيل فى قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) : يعنى : أوعية ، تفهم وتعى ما يقال ، ويخاطب ، ولكن لا تفهم ما تقول ، ولا تفقه ما تحدث ، فلو كان حقّا وصدقا لفهمت ولفقهت عليه.

يدّعون إبطال ما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، وذلك نحو ما قالوا لشعيب : (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) [هود : ٩١].

وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل (١) : فقليلا أى بقليل ما يؤمنون من التوراة ؛ لأنهم عرفوا نعته وصفته ، وحرفوه ، فلم يؤمنوا به.

وقيل : فقليلا ، أى : قليل منهم يؤمنون بالرسل ، صلى الله عليهم وسلم.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ).

فلو لا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب ، غير مخالف له ، وإلا لأظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك ، ولتكلفوا على إطفاء هذا النّور ودفعه ؛ فدل سكوتهم عن ذلك ، وترك اشتغالهم بذلك ، أنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة ؛ ففيه آية نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

__________________

(١) قاله معمر ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥١٩).

٥٠٨

(يَسْتَفْتِحُونَ) : يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قبل أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقولون : اللهم انصرنا بحق نبيّك الذى تبعثه ، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين.

وقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ).

يقول : اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم.

وذلك أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان إيمانهم به نجاتهم فى الآخرة ، فكفروا به ، وذلك هلاكهم ، وبالله التوفيق.

وقيل (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) : باعوا به أنفسهم بعرض يسير من الدنيا ، بعذاب فى الآخرة أبدا.

وقوله : (بَغْياً).

قيل (١) : حسدا منهم ؛ وذلك أنهم قد هووا أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولاد إسرائيل ؛ لأنهم كانوا أمّته ، فلما بعث من أولاد إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ والعرب كانت من أولاده كفروا به ، وكتموا نعته حسدا منهم.

وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

يعنى : النبوة والكتاب على محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (٢) : (بَغْياً) أى : ظلما ، ظلموا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكذيبهم إياه.

وقوله : (فَباؤُ).

قد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

يحتمل وجهين :

قيل : استوجبوا الغضب من الله ؛ بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أثر غضب ؛ بكفرهم بعيسى ، وبما جاء به.

وقيل : إنما استحقوا اللّعنة على أثر اللّعنة ؛ بعصيان بعد عصيان ، وبذنب على أثر الذنب. والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ).

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٣٩) وعن السدى (١٥٤٠) وأبى العالية (١٥٤١).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٩٤).

٥٠٩

وقوله : (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا).

يعنى التوراة ، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة ؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان فى الإيمان بها إيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل عليه ، وإيمان بجميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ والرسل ، وبجميع ما أنزل عليهم ؛ لأن فيها الأمر بالإيمان بجميع الرسل وبكتبهم ؛ لأنه قال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ، وموافقا له.

فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب ، وبعضها موافق لبعض.

وقوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ).

قيل (١) : وراء التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان ؛ كأنه قال : كفروا بالذى وراءه وهو الحق ؛ إذ هما موافقان لما معهم ، غير مخالف له.

ويحتمل : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعنى : وراء موسى بعيسى وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كأنه قال : من ورائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فإن قالوا : إنا لم نقتل الأنبياء ، ونحن مؤمنون.

قيل لهم : إنكم ـ وإن لم تتولوا القتل ـ فقد رضيتم بصنيع أولئك ، واتبعتم لهم ، مع ما قد همّوا بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ؛ ولذلك أضيف إليهم.

وقيل : أخبر ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية سفههم ، وعتوهم ، ومكابرتهم فى تكذيبه.

وذلك : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا اليهود إلى الإيمان به ، وبما أنزل عليه. فقالوا : ائتنا بالآيات والقربان ، كما كانت الأنبياء ـ من قبل ـ يأتون بها قومهم.

يقول الله ـ عزوجل ـ : قد كانت الأنبياء من قبل تجىء ـ بما تقولون ـ إلى آبائكم ؛ من الآيات والقربان ، فكانوا يقتلونهم.

فيقول الله ـ عزوجل ـ لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن قل لهم : لم تقتلون؟

يقول : لم قتل آباؤكم أنبياء الله قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاءوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم (٢) فى التوراة : ألا تؤمنوا (٣) لرسول حتى يأتيكم (٤) بقربان تأكله النار ، وقد جاءوا به. فلم قتلوهم؟!

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٦٠) ، وعن الربيع (١٥٦١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٧٢).

(٢) فى أ : إلينا.

(٣) فى أ : نؤمن.

(٤) فى أ : يأتينا.

٥١٠

فهو ـ والله أعلم ـ أنهم أخذوا هذه المحاجة من أوائلهم ، وإن علموا بما ظهرت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه مبعوث ، وأنتم تقلدونهم ، فتقلدونهم ـ لو أوتيتم ـ كما قلدتموهم ، وإن علمتم بما عاينتم ؛ إذ لا حجة لكم. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

والبينات : ما ذكرنا ـ فيما تقدم ـ من الآيات المعجزة ، والحجج العجيبة ، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته ، وصدق ما يدعوهم إليه ، مما يدل كله أنه من عند الله.

ثم ـ مع ما جاءهم موسى بها ـ عبدوا العجل واتخذوه إلها ، وكفروا بالله.

يعزّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لئلا يظن أنه أول مكذّب من الرسل ، ولا أول من كفر به ؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون ، ويستقبلونه بما يكره ، وبالله التوفيق. كقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠].

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم ما فيه مقنع ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : (وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا).

يحتمل وجهين :

يحتمل : اسمعوا ، أى : أجيبوا.

ويحتمل : اسمعوا : أطيعوا ، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة.

وأما إضافة الطاعة إلى الله ـ عزوجل ـ فإنه غير جائز ؛ إذ لا يجوز أن يقال : أطاع الله. وأما السمع فإنه يجوز ؛ لقوله : «سمع الله لمن حمده» (١).

__________________

(١) أخرجه البخارى (٢ / ٢٨٣) ، كتاب الأذان ، باب فضل «اللهم ربنا لك الحمد» (٧٩٦) ، وطرفه فى (٣٢٢٨) ، ومسلم (١ / ٣٠٦) ، كتاب الصلاة ، باب التسميع والتأمين (٧١ / ٤٠٩) ، عن أبى هريرة.

٥١١

(قالُوا سَمِعْنا) قولك ، (وَعَصَيْنا) أمرك.

لكن قولهم : (وَعَصَيْنا) لم يكن على أثر قولهم : (سَمِعْنا) ، ولكن بعد ذلك بأوقات ؛ لأنه قيل : لما أبوا قبول التوراة ؛ لما فيها من الشدائد والأحكام ، رفع الله الجبل فوقهم (١) ، فقبلوا ؛ خوفا من أن يرسل عليهم الجبل ، وقالوا : أطعنا ، فلما زايل الجبل ، وعاد إلى مكانه ، فعند ذلك قالوا : (وَعَصَيْنا) ، وهو كقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٦٤] فالتولى منهم كان بعد ذلك بأوقات.

وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

قيل (٢) : أشربوا ، أى : جعل فى قلوبهم حبّ عبادة العجل بكفرهم بالله عزوجل.

وقيل : سقوا حبّ العجل.

وقيل : إن موسى لما أحرق العجل ، ونسفه فى البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل.

وقيل (٣) : لما أحرق ونسف فى البحر جعلوا يلحسون الماء حتى اصفرت وجوههم.

وقيل : إنهم لما رأوا فى التوراة ما فيها من الشدائد ، قالوا عند ذلك : عبادة العجل علينا أهون مما فيها من الشرائع.

وكله يرجع إلى واحد ، وذلك كله آثار الحب.

وقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قيل (٤) : قل يا محمد : بئسما يأمركم إيمانكم بالعجل الكفر بالله عزوجل.

وقيل : إن اليهود ادعوا أنهم مؤمنون بالتوراة ؛ فقال : (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) أى بالتوراة ؛ إذ كفرتم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد وجدتم فيها نعته وصفته.

وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وذلك أن أعداء الله ـ تعالى ـ كانوا يقولون : إن الجنة لنا فى الآخرة ، بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وكقولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] ، وكقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ؛

__________________

(١) فى أ : عليهم.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥٦٤) ، وعن أبى العالية (١٥٦٥) ، والربيع (١٥٦٦).

وانظر الدر المنثور (١ / ١٧٢).

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥٦٧) ، وعن السدى (١٥٦٨).

(٤) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٩٥).

٥١٢

فقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لهم : إن كانت لكم الدار الآخرة ـ كما تزعمون ـ وأنكم أبناء الله وأحباؤه ـ كما تقولون ـ (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وذلك أن المرء لا يكره الانتقال إلى داره ، وإلى بستانه ، بل يتمنى ذلك ، وكذلك المرء لا يكره القدوم على أبيه ، ولا على ابنه ، ولا على حبيبه ، ولا يخاف نقمته ولا عذابه ، بل يجد عنده الكرامات والهدايا.

فإن كان كما تقولون ، فتمنوا الموت ؛ حتى تنجوا من غم الدنيا ، ومن تحمل الشدائد التى فيها إن كنتم صادقين فى زعمكم : بأن الآخرة لكم ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه.

فإن قيل : إنكم تقولون : إن الآخرة للمؤمنين ، ثم لا أحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له : تمنّ الموت ، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك ، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟

قيل : لوجهين :

أحدهما : أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله ما جعلوا هم لأنفسهم ؛ فكان فى تمنيهم صدق ما ادعوا لأنفسهم ، وفى الامتناع عن ذلك ظهور صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثانى : ما ذكرنا أنهم ادعوا : أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وفى تمنيهم الموت ردهم ، وصرفهم إلى الحبيب ، والأب الذى ادعوه ، ولا أحد يرغب وينفر عن حبيبه وأبيه ؛ فدل امتناعهم عن ذلك : على كذبهم فى دعاويهم. وبالله نستعين.

فإن سألونا عن قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأجل الذى جعل لهم ، وفى ذلك : تقديم الآجال عن الوقت الذى كان أجلا ، وقال الله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤].

قيل : إن الله علم منهم ـ فى سابق علمه ، وأزليته ـ أنهم لا يتمنون جعل أجلهم ذلك. ولو علم منهم أنهم يتمنون الموت لكان يجعل أجلهم ذلك فى الابتداء ، وكذلك هذا الجواب ؛ لما روى : «أن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١).

إنه كذلك يحتمل فى الابتداء ، لا أن يجعل أجله إلى وقت ، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأجل أو ينقص ، فيتمنى الموت عن الأجل المجعول المضروب له ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً).

فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه أخبر ـ عزوجل ـ أنهم لا يتمنون أبدا ،

__________________

(١) تقدم.

٥١٣

فكان كما قال ؛ فدل أنه من عند الله علم ذلك.

وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

من الذنوب ، والعصيان ، والتكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحسد له.

وهم ـ والله أعلم ـ قد عرفوا عن صنيعهم ، وما لهم من عند الله من العذاب والجزاء ، لكنهم قالوا ذلك ؛ على التعنت ، والمكابرة ، والسفه ؛ لذلك لم يتمنوا ، والله الموفق.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

هو على الوعيد ؛ كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) [إبراهيم : ٤٢].

ويحتمل : عليم بالظالمين ؛ بما يفضحهم بالحجج ، ويظهر كذبهم فى الدنيا ؛ لئلا يظن أحد أنه عن غفلة بما يعملون ، بل خلقهم على علم منه بما يعملون. خلقهم ؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلقهم ، وأن ذلك لا يضره.

وقوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعنى اليهود.

(أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ).

وعلى كراهية الموت.

فدل حرصهم على حياة الدنيا أنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون.

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ).

يعنى : المجوس (١).

__________________

(١) والمجوسية بالفتح نحلة. وفى الحديث : «فأبواه يمجسانه».

ويقول الشهرستانى : (المجوسية يقال لها الدين الأكبر ، والملة العظمى).

وأطلق العرب اسم المجوس على قرصان النورمان ، والسكاندينافيين الذين حاولوا فى القرون الوسطى اقتحام السواحل أو الحدود فى بلاد الغرب الإسلامى.

وقد عرفت المجوسية بأنها ديانة الفرس ؛ لأن معظم الفرس كانوا يدينون بها منذ ظهرت فى بلادهم خصوصا (الزرادشتية). التى كانت الدين الرسمى (للدولة الساسانية) التى تأسست عام ٢٢٦ ق. م. وإن كانت بدايتها أسبق من نشأة هذه الدولة بكثير ، فشأن المجوسية شأن غيرها من أديان قديمة جابت أرجاء المعمورة فى مصر واليونان والصين والهند والعراق وغيرها ، لكنها لم تقتصر على بلاد الفرس وحدها ، حيث إن بعض العرب دانوا بها فى هجر وحضرموت وعمان ، وقيل : إن بعض العرب كان يدين (بالمزدكية) وممن تمجس من العرب (زرارة بن عدس) وابنه (حاجب) و (الأقرع بن حابس) وغيرهم. ـ

٥١٤

__________________

ـ ولم يرد ذكر المجوس فى القرآن الكريم إلا فى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج : ١٧].

ويقرر ابن خلدون أنهم ـ أى المجوس ـ من أقدم الأمم ، فيقول :

هذه الأمة ـ أى المجوس ـ من أقدم أمم العالم ، وأشدهم قوة وآثارا فى الأرض ، وكانت لهم دولتان عظيمتان طويلتان :

الأولى : الكينوية ، والثانية : الساسانية الكسروية.

ثم يحدد ملكهم فيقول (إن مدة ملكهم من ـ كيومرث ـ أبيهم إلى الملك يزدجرد أيام عثمان رضى الله عنه أربعة آلاف سنة ومائتان وإحدى وثمانون سنة).

ولقد مرت المجوسية بمراحل أربعة تمايزت كل منها عن سابقتها :

الأولى ـ من نشأتها حتى ظهور زرادشت.

الثانية ـ المجوسية فى عهد زرادشت.

الثالثة ـ المجوسية بعد زرادشت وحتى ظهور الإسلام.

الرابعة ـ المجوسية بعد ظهور الإسلام.

وللمجوسية عقائدها الفاسدة :

فهم يعتقدون أن للعالم إلهين اثنين ، أو أصلين يقتسمان الخير والشر ، ويسمون الأول (النور) والآخر (الظلمة) ، وبالفارسية (يزدان) و (أهرمن).

ويقول ابن حزم (والمجوس لا يقرون بنبوة أحد من الأنبياء إلا زرادشت.

ويقول السكسكى فى معرض حديثه عن المجوس : (إنهم ينكرون نبوة آدم ونوح عليهما‌السلام).

وقالوا : لم يرسل الله عزوجل إلا رسولا واحدا لا ندرى من هو؟

وللمجوس كتاب مقدس يسمى (الأوفستا) أو الأبستاق يزعمون أنه نزل على نبيهم (زرادشت) من الإله وعمل (زرادشت) تفسيرا له سماه (زندا) والمجوس تؤمن باليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار والصراط بيد أنه كان إيمانا شائها ، وهم يرون أن البعث للأرواح دون الأجساد فهم يعتقدون أن الروح ألبست الجسد من أجل محاربة (أهرمن) وجنوده من الشياطين ، فإذا قضى عليهم فإن الروح تخلص من الجسد فيكون البعث بها فقط ، ولهم مراء عجيبة فى مصير الروح بعد مفارقتها الجسد ، وبعض فرق المجوس تعتقد فى التناسخ ، شأنها فى ذلك شأن معظم الأديان الوضعية القديمة.

ومن فرق المجوس فرقة تسمى التناسخية تقول : بتناسخ الأرواح فى الأجساد والانتقال من شخص إلى شخص آخر. والمجوسية تؤمن بالمهدى فيذكر الشهرستانى عن (زرادشت) قوله فى كتابه (زند أوستا) سيظهر فى آخر الزمان رجل اسمه (أشيزريكا) ومعناه الرجل العالم يزين العالم بالدين والعدل ، ثم يظهر فى زمانه (بتياره) فيوقع الآفة فى أمره ، وملكه عشرون سنة ثم يظهر بعد ذلك (أشيزريكا) على أهل العالم ويحيى العدل ، ويميت الجور ويرد السفن المغيرة إلى أوضاعها الأولى وتنقاد له الملوك ، وتتيسر له الأمور ، وينصر الدين والحق ، ويحصل فى زمانه الأمن ، وسكون الفتن ، وزوال المحن.

وللمجوسية شعائرها الضالة التى فيها :

ـ عبادة النار. ـ

٥١٥

أى : هم أحرص الناس على حياة الدنيا من المجوس ؛ لأن المجوس لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة ، وهم يؤمنون بها ؛ فهم ـ مع إيمانهم بالبعث ، وتصديقهم بالقيامة ـ أحرص على حياة الدنيا من المجوس الذين لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة.

وقيل : إنّه على الابتداء.

ولا يتنافى بقول : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعنى : المجوس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ؛ لأنهم يقولون فيما بينهم : ألف سنة تأكل النيروز والمهرجان ، ويقولون بالفارسية : هزارساله بزه.

فأخبر الله ـ تعالى ـ أن طول العمر فى الدنيا لا ينجيه من العذاب فى الآخرة ، ولا يباعده عنه.

وهو قوله : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ، وهو كقوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ

__________________

ـ تعظيم الملوك ورفعهم إلى مرتبة الألوهية.

ـ الصلوات والزمزمة.

ـ شرب الخمر.

ـ الولع بالغناء والمعازف.

ـ استحلال المحارم.

وللمجوسية فرق يحددها الإمام الشهرستانى على النحو والترتيب التاليين :

ـ الكيومرثية.

ـ الزروانية.

ـ الزرادشتية.

ثم يفرق بينهم وبين الثنوية فيحصر فرق الثنوية فى :

ـ المانوية.

ـ المزدكية.

ـ الديصانية.

ـ المرقيونية.

ـ الكينوية.

ـ والصيامية.

ـ والتناسخية.

ينظر : لسان العرب لابن منظور مادة (مجس) ، تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الزبيدى (٤ / ٢٤٦) ، مختار الصحاح لمحمد بن أبى بكر الرازى مادة (مجس) ، الملل والنحل للشهرستانى (١ / ٣٣) ، الدين والفلسفة والعلم أ / محمود أبو الفيض ص (١٠٩) ، تاريخ العرب قبل الإسلام جواد على (٦ / ٢٣٤) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣٠٨) ، موسوعة الفرق الإسلامية (١ / ١١٠) وما بعدها ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسى (١ / ٣٤) ، (البرهان فى عقائد أهل الأديان للسكسكى تحقيق / على بن ناصر عسيرى ص (٥١٠) ، قصة الحضارة لويل ديورانت (٢ / ٤٢٦).

٥١٦

مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) (٢٠٧) [الشعراء].

وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

هو على الوعيد أيضا.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٩٨)

وقوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ).

وذلك أن اليهود قالوا : لو كان الذى ينزل (١) على محمد بالوحى ميكائيل لاتّبعناه ، ونؤمن به ؛ لأن ميكائيل هو الذى ينزل بالغيث والرحمة ، وجبريل هو المنزل بالعذاب والحرب والشدائد ، فهو عدو لنا ؛ لذلك لا نتّبعه.

وفى جهة العداوة بينهم وبين جبريل وجه آخر ، وهو أن قالوا : إن جبريل أرسل بالوحى والرسالة فى أولاد إسرائيل ، لكنه أنزلها على أولاد إسماعيل ؛ عداوة لنا وبغضا ؛ لذلك نصبوا العداوة بينه وبينهم ـ والله أعلم بذلك ـ فأكذبهم الله ـ تعالى ـ بزعمهم ، فقال : (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ، لا كما تقول اليهود. وما ينزل من العذاب والشدائد ، إنما ينزل بأمره ، لا من تلقاء نفسه وذاته.

ثم كان إظهارهم عداوة جبريل ، لاعتقادهم عداوة الله ـ عزوجل ـ لكنهم لم يجترئوا على عداوة الله ـ على التصريح ـ فدل أنه على الكناية عن عداوة الله تبارك وتعالى.

ويدل هذا على أن الروافض طعنوا فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث طعنوا.

وقوله : (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ).

تقول الباطنية : إن القرآن لم ينزل على رسول الله ـ عليه‌السلام ـ بالأحرف التى نقرؤها ، ولكنه إلهام ، نزل على قلبه ، ثم هو يصوره ويرسمه ذا الحروف ، ويعبر به ، ويعربه بالمعربة التى نقرؤها.

فلو كان على ما يقولون لزال (٢) موضع الاحتجاج عليهم بما أتى به معجزا ؛ كقوله :

__________________

(١) فى أ : نزل.

(٢) فى أ : تقول لزوال.

٥١٧

(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] إذ كان لهم أن يقولوا : أنزل على لسان العجمى ، لكنه غيّر ذلك بلسانه.

وكذلك قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] مخافة النسيان والذهاب.

وكذلك قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤].

فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم ، وفساد مذهبهم ، وبعدهم عن دين الله المستقيم.

وقوله : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

هدى من الضلالة ، وبشرى للمؤمنين بالجنة.

وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الآية.

يحتمل وجهين :

يحتمل : من كان عدوّا لله ، أو ملائكته ، أو رسله.

ويحتمل : افتتاح العداوة به دون هؤلاء على التعظيم لهم ، وفضل المنزلة عند الله ، وحسن المآب لديه ؛ كقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] معنى إضافة ذلك إليه : على التعظيم له ، والإفضال لله ، لا على جعل ذلك لله مفردا.

فعلى ذلك : معنى افتتاح العداوة به ـ على ما ذكرنا ـ والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

وقوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ).

بيّن فيها الحلال والحرام ، وما يؤتى وما يتّقى ، وما ينهى وما يؤمر.

٥١٨

ويحتمل : الآيات التى أنزلها عليه لينصر بها على المعاندين له ، والمكابرين ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

يقول : كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم.

يحتمل : العهود التى أخذت عليهم ـ فى التوراة ـ أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يكفروا به بعد الإيمان.

أو أخذ عليهم : ألا يكتموا نعته ، وصفته ، الذى فى التوراة لأحد ، فنبذوا ذلك ، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التى أخذت عليهم.

ثم فى الآية دلالة جعل القرآن حجة ؛ لأنه قال : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، ولو كان فى كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأتوا به معارضا ؛ لدفع ما احتج به عليهم ؛ فثبت أنهم كانوا كذبة فى دعاويهم ؛ حيث امتنعوا عن معارضته.

وقوله : (وَما يَكْفُرُ بِها).

أى : وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ).

أى : نعته الذى كان فى التوراة موافق لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (١) : لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة ؛ فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة والقرآن ، وأخذوا بكتاب السحر الذى كتبه الشياطين.

ويحتمل : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاءهم كان موافقا لما مضى من الرسل ، غير مخالف لهم ؛ لأن الرسل كلهم آمنوا به ، وصدق بعضهم بعضا.

وقوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ).

يحتمل : كتاب الله : التوراة ، على ما ذكرنا.

ويحتمل : كتاب الله ، القرآن العظيم. والله أعلم.

وقوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

أى : يعلمون ، ولكن تركوا العمل به ، والإيمان بما معهم ؛ كأنهم لا يعلمون ؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٦٤٧). وانظر الدر المنثور (١ / ١٨١).

٥١٩

أخبر : أنهم نبذوا نبذ من لا يعلم ، لا أنهم لم يعلموا ، ولكن نبذوه ، سفها ، وتعنتا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

قيل : تتلو : ما كتبت الشياطين من السحر (١).

__________________

(١) السحر لغة : كل ما لطف مأخذه ودق ، ومنه قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من البيان لسحرا» وسحره : أى خدعه ، ومنه قوله تعالى : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] أى المخدوعين. ويطلق السحر على أخص من ذلك ، قال الأزهرى : السحر : عمل تقرب به إلى الشيطان وبمعونة منه ، كل ذلك الأمر كينونة للسحر. قال : وأصل السحر : صرف الشىء عن حقيقته إلى غيره ؛ فكأن الساحر لما أرى الباطل فى صورة الحق ، وخيل الشىء على غير حقيقته ، قد سحر الشىء عن وجهه ، أى : صرفه. اه. وروى شمر : أن العرب إنما سمت السحر سحرا ؛ لأنه يزيل الصحة إلى المرض ، والبغض إلى الحب. وقد يسمى السحر : طبّا ، والمطبوب : المسحور ، قال أبو عبيدة : إنما قالوا ذلك تفاؤلا بالسلامة ، وقيل : إنما سمى السحر طبا ؛ لأن الطب بمعنى الحذق ، فلوحظ حذق الساحر فسمى عمله طبا. وورد فى القرآن العظيم لفظ (الجبت) ، فسره عمر وابن عباس وأبو العالية والشعبى بالسحر ، وقيل : الجبت أعم من السحر ، فيصدق أيضا على الكهانة والعرافة والتنجيم. أما فى الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء وغيرهم من العلماء فى تعريفه اختلافا واسعا ، ولعل مرد الاختلاف إلى خفاء طبيعة السحر وآثاره ؛ فاختلفت تعريفاتهم له تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقته : فمن ذلك ما قال البيضاوى : المراد بالسحر : ما يستعان فى تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يحصل إلا لمن يناسبه فى الشرارة وخبث النفس. قال : وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل والآلات والأدوية ، أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا هو على سبيل التجوز لما فيه من الدقة ؛ لأن السحر فى الأصل لما خفى سببه. اه. ونقل التهانوى عن (الفتاوى الحامدية) : السحر : نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية فى مطالع النجوم ، فيتخذ من ذلك هيكل على صورة الشخص المسحور ، ويترصّد له وقت مخصوص فى المطالع ، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ، ويتوصل بها إلى الاستعانة بالشياطين ، ويحصل من مجموع ذلك أحوال غريبة فى الشخص المسحور. وقال القليوبى : السحر شرعا : مزاولة النفوس الخبيثة لأقوال أو أفعال ينشأ عنها أمور خارقة للعادة. وعرفه الحنابلة بأنه : عقد ورقى وكلام يتكلم به ، أو يكتبه ، أو يعمل شيئا يؤثر فى بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.

وقد اختلف العلماء فى أن السحر هل له حقيقة ووجود وتأثير حقيقى فى قلب الأعيان ، أم هو مجرد تخييل؟ فذهب المعتزلة وأبو بكر الرازى الحنفى المعروف بالجصاص ، وأبو جعفر الأسترآباذي والبغوى من الشافعية : إلى إنكار جميع أنواع السحر وأنه فى الحقيقة تخييل من الساحر على من يراه ، وإيهام له بما هو خلاف الواقع ، وأن السحر لا يضر إلا أن يستعمل الساحر سما أو دخانا يصل إلى بدن المسحور فيؤذيه ، ونقل مثل هذا عن الحنفية ، وأن الساحر لا يستطيع بسحره قلب حقائق الأشياء ؛ فلا يمكنه قلب العصا حية ، ولا قلب الإنسان حمارا. قال الجصاص : السحر متى أطلق فهو اسم لكل أمر مموّه باطل لا حقيقة له ولا ثبات ، قال الله تعالى : (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] يعنى : موهوا عليهم حتى ـ

٥٢٠