تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

قال : يبين لنا معنى إضافة خصوصية الأشياء إلى الله ـ عزوجل ـ يخرج مخرج التعظيم لذلك الشىء المخصوص ، من ذلك : بيت الله ، ورسول الله ، وناقة الله ، هذا كله يخرج مخرج التعظيم لهذه الأشياء.

وإضافة كلية الأشياء إلى الله تعالى يخرج مخرج تعظيم الرب وإجلاله ، نحو ما قال : (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٦٤] ، و (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦ ، الأنعام : ١٠٢ ، الزمر : ٦٢ ، غافر : ٦٢] ، و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦ ، الأنبياء : ٥٦] ، و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١ ، الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣] ونحوه. هذا كله وصف تعظيم الرب وإجلاله.

وقد اختلف فى «الفوم» :

قيل : الفوم هو الثوم (١) ، وكذلك روى فى قراءة عبد الله (٢) أنه قرأه : وثومها (٣).

وقيل (٤) : الفوم البر.

وقوله : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

قيل فى «أدنى» بوجوه :

قيل (٥) : أدنى فى القيمة.

وقيل (٦) : أدنى فى الخطر والرغبة.

وقيل : أدنى فى المنافع.

وقيل : أدنى ؛ لما لا يصل هذا إليهم إلا بالمؤنة والمشقة ، وذلك لهم بلا مئونة ولا مشقة ؛ فهو خير.

وكل يرجع إلى واحد ، والله أعلم.

ويحتمل : أدنى ، أى : أدون وأقل ، ولا شك أن ما طلبوا ، وسألوا دون الذى كان لهم.

ويحتمل : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) : قد أعطوا.

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٤١) ، وقول مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٧٨) وعن أبى العالية (١٠٧٩).

(٢) ينظر : اللباب (٢ / ١١٦) ، والبحر المحيط (١ / ٣٩٥) ، والمحرر الوجيز (١ / ١٥٣) ، والقرطبى (١ / ٢٨٨).

(٣) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٤١) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبى داود فى المصاحف وابن المنذر.

(٤) وهو قول ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (١٠٧٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤١).

(٥) انظر تفسير ابن جرير (١ / ٣٥٢).

(٦) ينظر السابق.

٤٨١

ولو كان ذلك أصلح لهم فى الدين ، لم يكن موسى ليلومهم عليه. ثبت أنه لم يكن ، ثم أعطوا ذلك. ثبت أن الله تعالى قد يجوز له ـ فى الحكمة ـ فعل ما كان غيره أصلح لهم فى الدين ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً).

قيل (١) : المصر المعروف.

وقيل (٢) : مصر من الأمصار ؛ لأن ما طلبوا لا يوجد إلا فى الأمصار ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

من الأطعمة المختلفة إن كان المراد منه المراد ، وإن كان الأطعمة المختلفة فهو كما قال.

وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : الذلة : ذلة احتمال المؤنة والشدائد ؛ لما سألوا من الأطعمة المختلفة.

وقيل (٣) : الذلة : ذلة الجزية والصغار ؛ بعصيانهم ربّهم.

وقيل : ذلة الكسب والعمل ؛ لأن الأول كان يأتيهم من غير كسب ولا مئونة.

وقوله : (وَالْمَسْكَنَةُ).

قيل (٤) : هى الفقر والحاجة.

وقيل : قطع رجائهم من الآخرة ، ؛ لما عصوا ربهم.

وقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٥) : باءوا : رجعوا.

وقيل : استوجبوا.

وقيل (٦) : أقروا ، وكله يرجع إلى واحد.

__________________

(١) هو قول أبى العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٨٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٢) هو قول قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٨٢ ، ١٠٨٤) وعن السدى (١٠٨٣) ومجاهد (١٠٨٥).

(٣) قاله الحسن وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (١٠٨٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٤) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٩١) وعن أبى العالية (١٠٩٠) وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٥) قاله ابن جرير (١ / ٣٥٦) ، وذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ١٤٢) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة وقال : (انْقَلَبُوا).

(٦) قاله أبو عبيدة كما فى تفسير البغوى (١ / ٧٨).

٤٨٢

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ).

قد ذكرنا فيما تقدم : أن الآيات ، هى الحجج التى أعطى الرسل ، وأجراها على أيديهم.

وقال الحسن : هى دين الله.

وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

يحتمل : أن يكون هذا فى غيرهم ؛ لأنه لم يكن فى زمن موسى نبى سوى هارون ، وهم لم يقتلوه.

إلا أن يقال : إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى.

أو كان ذلك من غيرهم سوى هؤلاء وأولادهم.

على أن قتل الأنبياء فى بنى إسرائيل كان ظاهرا ، حتى قيل : قتل فى يوم كذا كذا نبيّا.

ولم يذكر قتل رسول من الرسل ، وذلك ـ والله أعلم ـ لقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، ولقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] أخبر أنه ينصرهم ، وأنهم منصورون ومن كان الله ناصره فهو المنصور أبدا.

ولأن الرسل هم الذين أوتوا الآيات المعجزة ؛ فلم يكن لهم استقبال الرسل بذلك للآيات التى كانت معهم.

وأما الأنبياء ، فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة ، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين الله بالآيات التى كانت للرسل ، والحجج التى كانت معهم ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

قال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل.

فإن كان كذلك فعلى ذلك يخرج ما ذكرنا من الآيات.

وإن لم يكن فالنصر كان بالحجج والآيات ؛ فكانت تلك للكل.

وعلى ذلك : لا دلالة فى كون الآيات مع الأنبياء ، وغير كونها ، فإن لم يكن (١) لهم ابتداء شرع ، ولا نسخ ، بل على الدعاء إلى ما سبق من الشرائع وكانت آياتهم كآيات الرسل ، أو دلالات العصمة ، مع ما كان بهم حفظ الكتب السماوية بلا تبديل.

والله أعلم بالحق فى ذلك ، ونعتصم بالله عن بسط اللسان فى ذلك ، بالتدبير ، دون شىء ظهر على ألسن الرسل ، أو القول فيهم بشيء إن كانت آية لكل ، أو لا. لكن الله تعالى قد أقام حجته لكلّ على قدر الكفاية والتمام.

__________________

(١) فى أ : فلما لم يكن.

٤٨٣

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قيل : إن اليهود والنصارى وهؤلاء جائز أن يكون لهم تعلق بظاهر هذه الآية ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنا آمنا بالله ، وآمنا باليوم الآخر ، فليس علينا خوف ولا حزن.

لكن الجواب لهذا وجوه :

أحدها : أنّه ذكر المؤمنين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وإيمانهم ما ذكر فى آية أخرى وهو قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

وهم قد فرقوا بين الرسل ، بقولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

وفرقوا بين الكتب أيضا : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.

فهؤلاء الذين ذكرهم ـ عزوجل ـ فى هذه الآية ، هم الذين آمنوا بجميع الرسل ، وآمنوا بجميع الكتب أيضا.

فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن.

والثانى : ذكر الإيمان بالله. والإيمان بالله هو الإيمان بجميع الرسل ، وبجميع الكتب.

ولكنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يعرفونه فى الحقيقة.

أو أن يقال : ذكر عمل الصالحات ، والكفر ببعض الرسل ليس من عمل الصالحات ؛ لذلك بطل تعلقهم بهذا ، والله أعلم.

وقيل : ذلك على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : إن الذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، والذين آمنوا ... الآية.

وللمعتزلة تعلق أيضا بظاهر قوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن ، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن ؛ لأنه أخبر أن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن ؛ فدل : أنه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة.

فيقال لهم : لم ينف عنهم الخوف ، والحزن فى كل الوقت.

فيحتمل : أن يكون عليه خوف فى وقت ، ولا يكون عليه خوف فى وقت آخر ؛ لأن لكل مؤمن خوف البعث وفزعه حتى الرسل ، بقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا

٤٨٤

أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩] ؛ لشدة فزعهم من هول ذلك اليوم.

فإذا دخلوا الجنّة ، ونزلوا منازلهم ، ذهب ذلك الخوف والفزع عنهم.

فعلى ذلك المؤمن : يكون له خوف فى وقت ، ولا يكون عليه خوف فى وقت آخر ، والله أعلم.

واختلف فى الصابئين :

قيل (١) : الصابئون : قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور.

وقيل : إنهم قوم يعبدون الكواكب.

وقيل (٢) : هم قوم بين المجوس والنصارى.

وقيل (٣) : هم قوم بين اليهود والمجوس.

وقيل : هم قوم يذهبون مذهب الزنادقة ؛ يقولون باثنين لا كتاب لهم ، ولا علم لنا بهم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).

قد ذكرنا فيما تقدم : أن ميثاق الله ، وعهده على وجهين : عهد خلقة وفطرة ، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فى التوراة أن يعملوا بما فيها ، فنقضوا ذلك العهد لما رأوا فيها الحدود ، والأحكام ، والشرائع كرهوا ؛ فرفع الله الجبل فوقهم ، فقبلوا ذلك.

ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة فنقضوا ذلك.

وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ).

قيل (٤) : خذوا التوراة بالجد والمواظبة.

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٠٩) وعن قتادة (١١١٠) وأبى العالية (١١١١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٢) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٤٥).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٠٣) وعن الحسن (١١٠٤) وابن أبى نجيح (١١٠٥) ، ومجاهد (١١٠٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٤) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٣١) ، وعن قتادة (١١٣٠) وانظر تفسير البغوى (١ / ٨٠).

٤٨٥

وقيل (١) : «بقوة» يعنى : بالطاعة له والخضوع.

ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعل ؛ لأنه أمرهم ـ عزوجل ـ بالقبول له ، والأخذ والعمل بما فيها.

فلو لم يعطهم قوة الأخذ والقبول له قبل الأخذ له والفعل ، لكان لا يأمرهم بذلك ؛ لأنهم يقولون : لا قوة لنا على ذلك ؛ فدل أنه قد أعطاهم قبل ذلك ، لكنه غلط عندنا ؛ لأنه لو كان أعطاهم القوة قبل الفعل ، ووقت الأمر به ، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل ـ لكان الفعل بلا قوة ؛ إذ من قولهم : أن القوة لا تبقى وقتين ؛ فدل : أنها تحدث بحدوث الفعل ، لا يتقدم ولا يتأخر ، ولكن يكونان معا.

ولأنها سميت : قدرة الفعل ، فلو كانت تتقدم الفعل ، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى ، والله أعلم.

والأصل فى ذلك : أن الله ـ تعالى ـ قال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) ومعلوم أن المراد من ذلك الأخذ بقوة الآخذ.

ثم فيه وجهان :

أحدهما : أن للأخذ قوة غير التى للترك.

والثانى : أنه ذكر الأخذ بقوة ، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أن يرى أن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أوقاتا ؛ فمثله وقت واحد.

وقوله : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٢) : اذكروا ، واحفظوا ما فيه من أمره ونهيه ، ولا تضيعوه ؛ لعلكم تتقون المعاصى والمآثم.

ويحتمل : اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان ؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.

ويحتمل : اذكروا ما فيه من الأحكام والشرائع.

ويحتمل : الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد. وكله واحد.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

يعنى : من بعد القبول.

دل هذا على : أنهم كانوا قبلوا ذلك مرة ، قبل أن يأتيهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ؛ فلما أتاهم ـ

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٢٩).

(٢) قاله القرطبى فى تفسيره (١ / ٢٩٧).

٤٨٦

ورأوا التشديد ، والمشقة ـ أبوا قبولها ، وتركوا العمل بما فيها من الأحكام والشرائع ؛ فخوّفوا برفع الجبل فوقهم ؛ فقبلوا ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

يحتمل وجوها :

قيل (١) : فضل الله عليكم الإسلام ورحمته : القرآن.

وقيل : فضل الله عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث إليكم رسولا ؛ ليجمعكم ، ويؤلف بينكم ، ويدعوكم إلى دين الله الحق ، بعد ما كنتم فى فترة من الرسل ، وانقطاع من الدين والعمل.

ويحتمل : فضل الله عليكم ؛ لما أنجى آباءكم من العذاب ، ولم يرسل عليهم الجبل ، وإلا ما توالدتم أنتم.

وقيل : فضل الله عليكم ؛ لما أعطاهم التوراة ، ووفقهم على قبولها ، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض.

وقوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ).

فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛

كأنه قال : ولقد علمتم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم فى السبت ، ولا كان علم ما فعل بهم ، ثم علم ذلك ؛ فإنما علم بالله ـ عزوجل ـ لأنه لم يكن قرأ كتابكم ، ولا كان يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ؛ فبالله ـ عزوجل ـ عرف ذلك ، وبه علم ؛ فدل : أنه رسول الله إليكم.

ويحتمل قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

أى : علمتم ما أصاب أولئك باعتدائهم يوم السبت بالاصطياد ، وكنتم تقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]. يعنى : أبناء رسل الله وأحباؤه.

فلو كان كما تقولون ، لم يكن ليجعلهم قردة ـ وهى أقبح خلق الله ، وأوخشه ـ إذ مثل ذلك لا يفعل بالأحبّاء ولا بالأبناء.

أو أن يحمل على التحذير لهؤلاء ؛ لئلا يكذّبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعصوه فى أمره ، فيصيبكم ما أصاب أولئك ؛ بتكذيبهم موسى ، وعصيانهم أمره ، والله أعلم.

ثم سبب تحريم الاصطياد فى السبت كان ـ والله أعلم ـ لما قيل : إنّ موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يجعل يوما لله ، خالصا للطاعة له ، والعبادة فيه ـ وهو يوم الجمعة ـ فخالفوا هم أمره

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٣٧ ، ١١٣٨).

٤٨٧

ونهيه ، وقالوا : نجعل ذلك اليوم السبت ؛ لأنه لم يخلق لعمل. فحرم الاصطياد فى ذلك اليوم لذلك وحولوا قردة ؛ عقوبة لهم لما نهوا عن الاصطياد فى ذلك اليوم فاصطادوا.

وعلى ذلك تأويل قوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) [النحل : ١٢٤] يعنى : يوم الجمعة.

وقيل : (اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، يعنى : فى الله.

ثم اختلف فى قوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) :

قال قوم (١) : قوله : (كُونُوا قِرَدَةً) من الأصل ؛ على ذهاب الإنسانية منهم.

وقيل (٢) : حوّل جوهرهم إلى جوهر القردة ، على إبقاء الإنسانية فيهم ؛ من الفهم والعقل ؛ لأنه قيل : إن الذين كانوا ينهونهم عن الاصطياد فى ذلك اليوم دخلوا عليهم ، فيقولون لهم : ألم ننهكم عن ذلك ، ونزجركم؟!

فأومئوا : أى نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم.

فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانية منهم لكانوا لا يفهمون ذلك ، ولا حزنوا على ما أصابهم ؛ لأن كلّ ذى جوهر راض بجوهره الذى خلقه الله سبحانه يسرّ به.

ولأن تحويله إياهم قردة عقوبة لتمردهم فى التكذيب ، وجرأتهم على الله ؛ ليعلموا ذلك ، ويروا أنفسهم أقبح خلق الله وأوخشه.

وفيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : ليس فى خلق الله قبيح.

فلو لم يكن فى خلق الله قبيح لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان ، إلى أقبح صورة معنى ؛ ليروا قبح أنفسهم ؛ عقوبة لهم بما عصوا أمر الله ، ودخلوا فى نهيه.

وقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً).

قيل (٣) : الهاء راجعة إلى القرية التى كانوا فيها.

وقوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها).

من أهل القرية.

وقوله : (وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

حواليها.

وقيل : أراد بالهاء : القرية ، (لِما بَيْنَ يَدَيْها) من القرى ، (وَما خَلْفَها) من القرى.

__________________

(١) هذا قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٣٩ ، ١١٤٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٢) هذا قول مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٤٤ ، ١١٤٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٣) قاله ابن جرير فى تفسيره (١ / ٣٧٥).

٤٨٨

وقيل (١) : أراد بالهاء : العقوبة والنكال ، (لِما بَيْنَ يَدَيْها) يعنى : لما مضى من الذنوب. (وَما خَلْفَها) يعنى : ما بقى ، والله أعلم.

وقوله : (خاسِئِينَ).

قيل (٢) : الخاسئ : الصاغر.

وقيل (٣) : الخاسئ : الذليل.

وقيل (٤) : البعيد. وكله يرجع إلى واحد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

وقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).

قيل (٥) : قتل قتيل فى بنى إسرائيل ، وألقى على باب غيرهم ؛ فتنازعوا فيه واختلفوا ؛ فأمر الله نبيّه موسى أن يذبحوا بقرة ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فاضربوا ببعضها ذلك الميت ؛ فيحيى ، فيقول : من قتلنى.

وقوله : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٥٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٨).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٤٦ ، ١١٤٧ ، ١١٤٨) وعن قتادة (١١٤٩) والربيع (١١٥٠).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٥١).

(٤) قاله ابن جرير (١ / ٣٧٤) ، والبغوى (١ / ٨١) بنحوه.

(٥) قاله عبيدة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٧٤) وعن أبى العالية (١١٧٥) ، والسدى (١١٧٦) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٨ ـ ١٥٠).

٤٨٩

هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ).

قال بعضهم : كفروا بهذا القول ؛ لأنهم سمّوه هازئا ، ومن سمّى رسولا من الرسل هازئا يكفر ؛ ألا ترى أنهم قالوا فى الآخر : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ)؟! دل أن ما قال لهم أول مرّة ليس بحق عندهم.

وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.

ولكن يحمل على المجازاة ، كأنهم قالوا : أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك ، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أنه من عند الله يأمر بذلك.

وهذا وأمثاله على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء ، والمخادعة ، والمكر ، كله على المجازاة جائز.

وكقول نوح لقومه : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) [هود : ٣٨] على المجازاة [جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء](١) ؛ فكذلك الأول.

وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض ؛ لجهل بأحوال أنفسهم ؛ إذ كلهم سواء من جهة الجوهر والخلقة ، وتركيب الجوارح ، وتصوير الصّور ، وتمثيلها.

ألا ترى : أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهل ، فقال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)؟!

دل أن الهزء فى الخلق لجهل فيهم ، وبالله التوفيق.

ثم استدل قوم بهذه الآية على : عموم الخطاب وقت قرع السمع ؛ لأنه أمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيّتها ، ولا ماهيتها وقت الخطاب ، إلا بعد البحث والسؤال عنها ؛ فثبت أنه على العموم.

ألا ترى ما روى فى الخبر : «لو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأتهم ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (٢).

لكن هذا لا يصح ؛ لأنه دعوى على الله ، لحدوث شىء فى أمره ، وبدوّ فى حكمه ، فذلك كفر ، لا يقوله مسلم ، فضلا عن أن يقول به رسول من الرسل.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) أخرجه البزار وابن أبى حاتم وابن مردويه من طريقين عن أبى هريرة بنحوه ، وأخرجه الفريابى وسعيد ابن منصور وابن المنذر عن عكرمة مرسلا ، وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج وقتادة مرسلا كما فى الدر المنثور (١ / ١٥٠).

٤٩٠

تأويل هذا أنه قال : إنه يقول كذا ، فلو كان الأول على غير ذلك لكان قد بدا له فيما عم وفسر بما لم يكن أراد. وذلك معنى البداء ، بل معنى الرجوع عن الأول مما أراد ، والتفسير له بغيره ، ولا قوة إلا بالله.

ثم فى الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين :

أحدهما : أخذ كل آية خرجت فى الظاهر على العموم حتى الخصوص.

والثانى : جواز تأخير البيان على تقدم الأمر به ؛ لما ذكرنا : أنها لو حملت على العموم ـ وهو مرادها ـ ثم ظهر الخصوص ، فهو بدو وحدوث فى الأحكام والشرائع ، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات ، تعالى الله عن ذلك.

ومعنى سؤالهم ؛ بدعاء الرب لهم : البيان بما أريد جعل ذلك آية ؛ فوقع عندهم : أن لا كل بقرة تصلح للآيات ، ولذلك لم يسألوا موسى عن تفسيرها ؛ إذ الله ـ تعالى ـ هو الذى يعلم الآيات.

والحرف الثانى هو الأول الذى قلنا : إليه انصرف المراد فى الابتداء ؛ لما يوجبه ، وأن الأمر بالذبح فى الابتداء كان على ما آل أمرها إليه وظهر.

لكنهم أمروا بالسؤال عنها ، والبحث عن أحوالها ؛ ليصلوا إلى المراد فيه ، لا أنه أحدث لهم ذلك بالسؤال.

وعلى ذلك : ما روى فى الخبر : «أن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١).

أى : لما علم من عبده أنه يصل رحمه ، جعل مدة عمره أكثر مما لو علم أنه لا يصل ، لا أنه يجعل أجله إلى وقت ، فإذا وصل رحمه زاد على ذلك.

لا على ما يقوله المعتزلة : أن الله ـ تعالى ـ يجعل لكل أحد أجلين ، فإذا وصل رحمه أماته فى أبعد الأجلين ، وإذا لم يصل جعل أجله الأول.

فهذا أمر من يجهل العواقب ، فأما من كان عالما بالعواقب فلا ؛ لأنه بدوّ ورجوع عما تقدم من الأمر.

ثم من استدل بهذه الآية : بقبول قول أولياء المقتول وهم ؛ لأوجه :

أحدها : ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه : إنّ فلانا قتلنى ، فى قطع حق الميراث ، وإغرام الدية (٢).

__________________

(١) طرف من حديث عن أبى أمامة ، أخرجه الطبرانى فى الكبير كما فى مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ١١٨) ، وقال : وإسناده حسن ، وصححه العلامة الألبانى فى الصحيحة (١٩٠٨) بمجموع طرقه.

(٢) الديات ، جمع : دية ، وهى فى اللغة مصدر : ودى القاتل القتيل يديه دية : إذا أعطى وليه المال الذى ـ

٤٩١

والثانى : أن ذلك كان آية عظيمة لهم ، لم يكن ذلك لغيرهم.

والثالث : أن أولياء المقتول قد كانوا ـ قبل أن يحيى ـ يدّعون عليهم القتل ، فلو كان لهم حق القبول ، لم يحتج إلى تلك الآية.

والرابع : أن قبول قول الميت أحق من قبول قول الولى ؛ لأن الولىّ ينتفع بقوله ، والميت لا ينتفع بقوله شيئا ، ثم القتيل لا يقبل قوله فى شريعتنا فكذلك الولى ، والله الموفق.

ثم وجه جعل البقرة آية دون غيرها من البهائم وجهان :

أحدهما : ما روى (١) أن رجلا كان بارّا بوالديه ، محسنا إليهما عاطفا عليهما ، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه ، فأراد الله ـ عزوجل ـ أن يوصل إليه فى الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديه.

والثانى : أنهم كانوا يعبدون البقور والعجاجيل ، وحبّب ذلك إليهم ؛ كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة الله وطاعته ، فأراد الله أن يمتحنهم بذبح ما حبّب إليهم ؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة ، وانقلاع ما كان فى قلوبهم من حب البقور والعجاجيل ، والله أعلم.

وقوله : (لا فارِضٌ).

__________________

ـ هو بدل النفس ، وأصلها : ودية ؛ فهى محذوفة الفاء كعدة من الوعد ، وزنة من الوزن. وكذلك هبة من الوهب. والهاء فى الأصل بدل من فاء الكلمة التى هى الواو ، ثم سمى ذلك المال : (دية) تسمية بالمصدر.

وفى الاصطلاح : عرفها بعض الحنفية بأنها اسم للمال الذى هو بدل النفس. ومثله ما ذكر فى كتب المالكية ، حيث قالوا فى تعريفها : هى مال يجب بقتل آدمى حر عوضا عن دمه. لكن قال فى (تكملة الفتح) : الأظهر فى تفسير الدية ما ذكره صاحب (الغاية) آخرا من أن الدية : اسم لضمان مقدر يجب بمقابلة الآدمى أو طرف منه ، سميت بذلك ؛ لأنها تؤدى عادة وقلما يجرى فيها العفو ؛ لعظم حرمة الآدمى. وهذا ما يؤيده العدوى من فقهاء المالكية حيث قال بعد تعريف الدية : إن ما وجب فى قطع اليد مثلا يقال له : دية حقيقة ؛ إذ قد وقع التعبير به فى كلامهم. أما الشافعية والحنابلة فعمموا تعريف الدية ليشمل ما يجب فى الجناية على النفس وعلى ما دون النفس. قال الشافعية : هى المال الواجب بالجناية على الحر فى نفس أو فيما دونها. وقال الحنابلة : إنها المال المؤدّى إلى مجنىّ عليه ، أو وليه ، أو وارثه بسبب جناية. وتسمى الدية : عقلا أيضا ، وذلك لوجهين : أحدهما : أنها تعقل الدماء أن تراق ، والثانى : أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل ، ثم تساق إلى ولى الدم.

ينظر : كفاية الطالب مع حاشية العدوى (٣ / ٢٣٧ ، ٢٣٨) ، نهاية المحتاج (٧ / ٢٩٨) ، مغنى المحتاج (٤ / ٥٣) ، مطالب أولى النهى (٦ / ٧٥) ، كشاف القناع (٦ / ٥).

(١) تقدم.

٤٩٢

يقول : ليست بكبيرة.

وقوله : (وَلا بِكْرٌ).

ولا شابة.

وقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ).

بين الشابة والكبيرة.

وقيل (١) : (لا فارِضٌ) : لا كبيرة ، على ما ذكرنا (وَلا بِكْرٌ) ، أى (٢) : ولا ما [لا] تلد ، (عَوانٌ بَيْنَ) أى : (٣) قد ولدت بطنا أو بطنين.

وقوله : (صَفْراءُ).

قيل (٤) : الصفراء ؛ التى تضرب إلى السواد ، وذلك لشدته.

وقيل (٥) : الصفراء ؛ من الصّفر المعروف.

وقوله : (فاقِعٌ لَوْنُها).

قيل (٦) : صاف.

وقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).

تعجب الناظرين.

وقيل (٧) : (فاقِعٌ لَوْنُها) ؛ صفراء الظلف والقرن ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

وقوم موسى مع غلظ أفهامهم ، ورقة عقولهم ـ أعرف لله ، وأمهل (٨) توحيدا من المعتزلة ؛ لأنهم قالوا : إن شاء الله لكنا من المهتدين.

والمعتزلة يقولون : قد شاء الله أن يهتدوا ، وشاءوا هم ألا يهتدوا ؛ فغلبت مشيئتهم

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٨٩) وعن مجاهد (١١٨٦) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٠٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٠٩ ، ١٢١٨) وعن السدى (١٢١٩).

(٤) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٢٢٢ ، ١٢٢٣) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٥) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٧ ، ١٢٢٨).

(٦) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٩) وعن أبى العالية (١٢٣٠ ، ١٢٣١) ، والسدى (١٢٣٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٧) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٤) وعن سعيد بن جبير (١٢٢٦) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٨) فى أ : وأجهل.

٤٩٣

على مشيئة الله على قولهم (١) ـ فنعوذ بالله من السّرف فى القول ، والجهل فى الدين.

وقوله : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها).

قيل (٢) : لم يذللها للعمل ؛ أى : لم يزرع عليها ، ولا هى مما يسقى عليها الحرث.

وقيل : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) ؛ أى : بقرة وحشية صعبة ، تثير الأرض ، ولكن إثارة الأرض لم تذللها ؛ لصعوبتها وشدتها.

وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

قيل فيه بوجوه :

(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، خوفا على أنفسهم أن يفتضحوا لظهور القاتل.

وقيل (٣) : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها.

والأول أقرب ، والله أعلم.

وقيل : إنهم استقصوا فى صفة تلك البقرة ، والسؤال عن أحوالها ، والاستقصاء فى الشىء ربما يكون للمدافعة ، والله الموفق.

وفى قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) دليل لأبى حنيفة ـ رحمه‌الله وأصحابه ـ أن من خلف لا يأكل لحم بقرة ، فأكل لحم ثور حنث ؛ لأن الله تعالى ذكر البقرة ، ثم بين فى آخره ما يدل أنه أراد به الثور ؛ لقوله : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ).

والثور هو الذى يثير الأرض ، ويسقى الحرث ، دون الأنثى منها ؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا.

إلا أن يكونوا هم كانوا يحرثون بالأنثى منها كما يحرث أهل الزمان بالذكر ، فحينئذ لا يكون فيه دليل لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

فى الآية : دليل مراد الخصوص ـ وإن خرجت فى الظاهر مخرج العموم ـ لأنه قال عزوجل : (قَتَلْتُمْ) ، وإنما قتله واحد ، وقال : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ، وإنما كان كتمه الذى قتله.

__________________

(١) فى أ : قلوبهم.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٢٥) وعنه السدى (١٢٥٣) ، وأبو العالية (١٢٥٤) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٢).

(٣) قاله محمد بن كعب القرظى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٧٨ ، ١٢٧٩) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٢).

٤٩٤

لذلك قلنا : ألا نصرف مراد الآية إلى العموم بلفظ العموم ، ولا إلى الخصوص بلفظ الخصوص إلا بعد قيام الدليل والبرهان على ذلك ، والله الموفق.

وقوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها).

قال بعضهم : بفخذها الأيمن.

لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن الله تعالى ، ولكن يقال : (بِبَعْضِها) بقدر ما فى الكتاب.

وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى).

أى : هكذا يحيى الله الموتى ، من الوجه الذى لا يتوهمون إحياءه ، بضرب بعض البقرة عليه.

وكذلك قوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) [فاطر : ٩].

فكما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر المنزل من السماء ، يقدر على إحياء الموتى ، وبعثهم على الوجه الذى لا يظنون ولا يتوهمون ، والله أعلم.

ويحتمل : إحياء ذلك القتيل لهم ، لما لم يكونوا اطمأنّوا على إحياء الموتى ؛ فأراهم الله ـ عزوجل ـ ذلك ؛ ليطمئنوا ، وليستقروا على ذلك ، ولا يضطربوا فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ).

يحتمل : يريكم آيات وحدانيته.

ويحتمل : يريكم آيات إحياء الموتى ، وآيات البعث.

ويحتمل : آياته فيما تحتاجون إليه ، كما أرى من تقدمكم عند حاجاتهم.

ويحتمل : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) آيات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ هو خبّر عن الغيب.

وأوضح آيات الرسالة ؛ الخبر عن الغيب ، وذكر القصة على الوجه الذى يعلم أن الاختراع لا يبلغ ذلك ؛ لتعلموا أنه بالله علم ؛ إذ لم يذكر له خط كتاب ، ولا اختلاف إلى من عنده.

على أنه لو كان مسموعا منهم ، يجرى على مثله القول بالزيادة والنقصان ، ولكن منعهم الله تعالى عن ذلك ـ إذ علموا صدقه ـ إشفاقا على أنفسهم ، أن ينزل عليهم نقمة الله.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

لكى تعقلوا آيات وحدانيته ، وتعقلوا أنه قادر على إحياء الموتى بعد الموت.

وقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

٤٩٥

ضرب الله لقلوبهم مثلا بالحجارة ، وشبهها بها ؛ لتساويها ، وشدة صلابتها ، وأنها أشدّ قسوة من الحجارة ، وذلك : أن من الحجارة ـ مع صلابتها وشدتها ، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها ، وزوال الخطاب منها ـ ما تخضع له ، وتتصدع ؛ كقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وقوله : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ...) الآية [الأعراف : ١٤٣].

وقلب الكافر ـ مع وجود أسباب الفهم والعقل ، وسعة سببية القبول ـ لا يخضع له ، ولا يلين.

وكذلك أخبر الله عزوجل عن الجبال أنها تلين ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]. وقلب الكافر لا يلين أبدا.

أو أن يقال : إنّ الله عزوجل جعل من الجبال منافع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأنهار والمياه. وقلب الكافر ـ مع احتمال ذلك وإمكانه ـ لا منفعة منه لأحد. وبالله التوفيق.

ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة ، وتشبيهها بها ، دون غيرها من الأشياء الصّلبة ؛ من الحديد ، والصّفر ، وغيرهما ، وذلك ـ والله أعلم ـ أن الحديد تلينه النار ، وكذلك الصّفر حتى تضرب منهما الأوانى.

والحجر لا تلينه النار ولا شىء ؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا ـ والله أعلم ـ فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

خرجت على الوعيد ـ أبلغ الوعيد ـ والوعظ ؛ حين ذكرهم علمه بما يعملون.

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).

قيل (١) : الآية ـ وإن خرجت على عموم الخطاب ـ فالمراد منها الخصوص ، وهو

__________________

(١) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٣٢٩).

٤٩٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإلى هذا يذهب أكثر أهل التفسير.

وقيل : المراد منها ـ بعموم الخطاب ـ العموم ؛ يعنى : النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ؛ وكأنها خرجت على النهى عن طمع الإيمان منهم ، كأنه قال : لا تطمعوا فى إيمانهم.

كقوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر : ١٩] ؛ أى : لا تنقذ.

وكقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ)(١) [الزخرف : ٤٠] ؛ أى : لا تسمع الصم (٢).

وقوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ...) الآية.

لقائل أن يقول : أليس فيما كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ما يجب أن يدفع الطمع عن إيمان هؤلاء؟

فهو ـ والله أعلم ـ لوجهين :

أحدهما : أنهم كانوا أصحاب تقليد ؛ كقوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

فأخبر ـ عزوجل ـ أن هؤلاء ـ وإن رأوا الآيات العجيبة ـ فإنهم لا يؤمنون أبدا ؛ لأنهم أصحاب تقليد ، لا ينظرون إلى الحجج والآيات.

والثانى : أنهم ـ مع كثرة ما عاينوا من الآيات ، وشاهدوا من العجائب فى عهد رسول الله موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يطمع فى إيمانهم ، فكيف طمعتم أنتم فى إيمان هؤلاء ، وهم أتباعهم؟ والله الموفق.

ولهذا وجهان آخران :

أحدهما : كأنه قال : لا تطمع فى إيمانهم ؛ لأنهم ـ فى علم الله على ما عليه من ذكر.

والثانى : لأن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء ، وأرغب فى الحق منهم ، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج ، وما يجب (٣) به الإيمان ، فكيف تطمع فى إيمان هؤلاء؟

وقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

أنه من عند الله ، ويعلمون أنه رسول الله ، وأنه حقّ.

وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا).

فقد ذكرنا فيما تقدم أنها فى المنافقين نزلت.

وقوله : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ).

__________________

(١) فى أ : الموتى.

(٢) فى أ : الموتى.

(٣) فى أ : ويجب.

٤٩٧

يحتمل وجهين :

يحتمل : خلا بعض المنافقين إلى بعض ، قالوا : أتحدثونهم بكذا.

ويحتمل : خلاء المنافقين إلى اليهود.

وقوله : (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ).

قيل (١) : فتح الله ؛ قصّ الله.

وقيل (٢) : فتح الله ؛ بيّن الله.

وقيل : فتح الله ؛ قضى الله.

وقيل (٣) : منّ الله عليكم فى التوراة. وكله يرجع إلى واحد.

وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

أى : باعترافكم عند هؤلاء.

ويحتمل : على إضمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : ليحاجوكم بإقراركم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل : على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أى فى ربكم ؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها فى موضع بعض.

ويحتمل : عند ربكم ، أى : يوم القيامة. ويكون ليحاجوكم بما عند الله ؛ أى : بالذى جاءكم من عند الله.

لكن لقائل أن يقول : ما معنى ذكر المحاجّة عند ربكم ، والمحاجة يومئذ لا تكون إلا عنده ، ولا تكون ليحاجوكم بها عند الله ؛ أى : بالذى جاءكم من عند الله؟

قيل : لأن ذلك أشد إظهارا ، وأقلّ كتمانا ؛ لما سبق منهم الإقرار بذلك ؛ لذلك نهوا عن ذلك ، لأنهم كانوا ينهون أولئك عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين ، وإظهار ما فى التوراة من بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أنّ هذه حجة لهم عليكم ، حيث تعترفون به ، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه.

ويحتمل : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنه حق.

٧٧ وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٨٧).

(٢) قاله الكسائى كما فى تفسير البغوى (١ / ٨٧).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٤٥).

٤٩٨

قيل : (ما يُسِرُّونَ) فى الخلوة ؛ من الكفر به والتكذيب له (وَما يُعْلِنُونَ) لأصحابه ؛ من التصديق له والإيمان به.

وقيل : (ما يُسِرُّونَ) من كتمان نعته وصفته. (وَما يُعْلِنُونَ)(١) من إظهار نعته وصفته الذى فى التوراة.

ويحتمل : ما يسرّ هؤلاء لهم من النهى عن إظهار ما فى التوراة ، وما يعلن هؤلاء للمؤمنين من إظهار نعته وصفته ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ).

يقول : من اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها ، إلا أن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها.

والأمّىّ : الذى لا يكتب ، ولا يقرأ عن كتابة ، لكنه يقرأ لا عن كتابة ، كالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان لا يكتب ، ولا يقرأ عن كتابة ؛ كقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨].

ويقال أيضا : الذى لا يقرأ ولا يكتب ، لا عن كتابة ، ولا ؛ غير كتابة.

وقوله : (إِلَّا أَمانِيَ).

قيل (٢) : أحاديث باطلة يحدث لهم ، وهو قول ابن عباس.

وقيل (٣) : إلا أمانىّ ، يعنى إلا كذبا.

وقال الكسائى (٤) : إلا أمانى : إلا تلاوة ؛ كقوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] يعنى : فى تلاوته.

وقوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، يقول : ما هم إلا ظن يظنون فى غير يقين.

وأصله : أى لا يعلمون علم الكتاب ، إنما عندهم أمانىّ النفس وشهواتها ؛ كقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء : ١٢٣].

__________________

(١) فى أ : وما تظهرون.

(٢) أخرجه ابن جرير عنه (١٣٧٣).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٦٨) وعن مجاهد (١٣٦٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٨).

(٤) قاله أبو عبيدة كما فى تفسير البغوى (١ / ٨٨) ،

وهو على بن حمزة بن عبد الله الأسدى بالولاء ، الكوفى ، أبو الحسن الكسائى : إمام فى اللغة والنحو والقراءة. من تصانيفه «معانى القرآن» و «المصادر» و «الحروف» و «القراءات» و «النوادر» و «المتشابه فى القرآن» و «ما يلحن فيه العوام». توفى بالرى فى العراق سنة ١٨٩ ه‍.

انظر : ابن خلكان (١ / ٣٣٠) ، تاريخ بغداد (١١ / ٤٠٣).

٤٩٩

وقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قيل (١) : الويل : الشدة.

وقيل (٢) : الويل : واد فى جهنم.

وقيل : الويل : هو قول كلّ مكروب وملهوف يقول : ويل له بكذا.

وقوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) يحتمل وجهين :

يحتمل : يكتبون : يمحون نعته ، وصفته عن التوراة.

ويحتمل : يكتبون : يحدثون كتابة ، على خلاف نعته وصفته ، ثم يقولون : هذا من عند الله ؛ فتكون الكتابة فى هذا إثباتا ؛ كقوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] ، والمثبت : هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك فى الأصل.

وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).

ذكر لهم ثلاث ويلات :

ويل ؛ بإحداث كتابة ببعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحوه وتغييره.

والثانى : بقولهم : هذا من عند الله.

والثالث : وويل لهم مما يكسبون من المأكلة والهدايا.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

وقوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).

أجمع أهل التفسير (٣) والكلام على صرف الأيام المعدودة المذكورة فى هذه الآية إلى أيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له ؛ لوجهين :

__________________

(١) نسبه البغوى فى تفسيره (١ / ٨٨) عن ابن عباس قال : شدة العذاب.

(٢) قاله أبو عياض ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٨٦ ، ١٣٨٧) ، وقد ورد هذا القول فى حديث مرفوعا عن أبى سعيد الخدرى ، أخرجه أحمد وهناد بن السرى فى الزهد وعبد بن حميد والترمذى وابن أبى الدنيا فى صفة النار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبى حاتم والطبرانى وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى المستدرك وصححه وابن مردويه والبيهقى فى البعث كما فى الدر المنثور (١ / ١٥٩).

(٣) منهم ابن جرير فإنه ساقه بإسناده عن ابن عباس (١٤٠٢) ، وقتادة (١٤٠٣ ، ١٤٠٦).

٥٠٠