تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أى : لكى تشكروا. وكذلك قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أى : لكى يوحدوا.

وذلك يحتمل وجوها :

يحتمل : أن يشهد خلقه كلّ أحد على وحدانيته ، وكذلك يشكر خلقه كلّ أحد له.

ويحتمل : عبادة الأخيار بوحدانيته ، والشكر له بما أنعم وأفضل عليه ، وذلك يرجع إلى من يعبد ويوحد.

ويحتمل : أنه خلقهم ؛ ليأمرهم بالعبادة ، والشكر له ، من احتمل منهم الأمر بذلك.

وقوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).

يعنى : التوراة. والكتاب : اسم لكل مكتوب.

وقوله : (وَالْفُرْقانَ).

قيل : سميت فرقانا ؛ لما فرق وبيّن فيها الحلال والحرام ، وكل كتاب فرق فيه بين

__________________

ـ وأجيب ثالثا بأننا حتى لو سلمنا لكم أن التعذيب أصلح وأن المغفرة غير أصلح فإن هذا لا ينهض دليلا لما فهمتموه ؛ لأن تجويز ترك الأصلح الذى هو التعذيب معلق على المغفرة والمغفرة محال وقوعها ، والمعلق على المحال محال ، فترك التعذيب الذى هو أصلح محال. وعلى هذه الأجوبة الثلاثة تكون الخصومة متحققة بين الماتريدية والمعتزلة بما فيهم الزمخشرى.

رابعا : لو سلمنا لكم جواز هذا الفهم الذى فهمتموه من كلام الزمخشرى وأنه يجوز عنده ترك الأصلح إلى غيره إذا اقتضت الحكمة الترك. فإن هذا لا يعدو أن يكون رأيا للزمخشرى وليس رأيا لكل المعتزلة.

هذا ويمكن التوفيق بين الفريقين ، بما نقله الشيخ صالح شرف عن بعض العلماء من أنه : لا يعقل أن يكون هناك خلاف بل مرادهم بوجوب الأصلح على الله تعالى أنه لا بد من حصوله وكل ما هو واقع بالعبد فهو أصلح لأن فيه حكمة ومصلحة سواء أكان فعلا أم تركا وسواء أكان نافعا للعبد فى دينه أم لا ، ولا يعنون بالوجوب عليه الإكراه أو سلب الاختيار ، بل المعنى أنه لا بد من حصوله وأن أفعال الله لا تخلو عن الحكم والمصالح ـ وإن خفيت علينا ـ ولذلك قال الإمام الفاضل محمد عبده رحمه‌الله تعالى : (قد قطع البرهان بأن الواجب لا يكون عابثا فى أفعاله بل لا بد أن تكون مبنية على الحكمة التامة وأنه ليس شىء مما يبرز فى الوجود بقاصر عن المصالح لولاها لم يكن فى الوجود ، بل ربما كان يختل به نظام كل موجود فإذا التفتنا إلى تعداد تفصيل هذه الحكم فقد ندرك الحكمة بوجه وقد لا ندركها ، وعدم إدراكنا لها لا يوجب عدمها لما قام من البرهان ، فقول المعتزلى يجب على الله الأصلح ، إن كان يريد ما ذكرناه فنعم ولا خلاف لأصحابنا معه خصوصا الماتريدية لأنهم لا يجوزون العبث على الله تعالى ، وإن كان يريد أن يجب عليه الأصلح أى يجب عليه أن يراعى المصالح على حسب ما نحن نفهمه وندركه فذلك ضرب من الجهالة كأنه يريد أن يضرب لله قانونا لا يجوز لله تجاوزه على حسب عقله السخيف).

ينظر أصول البزدوى ص (١٢٦) ، ونشر الطوالع ص (٢٨١) ، وحاشية البيجورى ص (٧٦) ، والنشر الطيب للوزانى ص (٢ / ١٠٣).

٤٦١

الحلال والحرام فهو فرقان.

وقيل (١) : يسمى فرقانا ؛ لما فرق فيه بين الحق والباطل. وهما واحد.

وقيل : سميت التوراة فرقانا ؛ لما فيها المخرج من الشبهات.

وقيل : الآية على الإضمار ؛ كأنه قال : وإذ آتينا موسى الكتاب ـ يعنى التوراة ـ ومحمدا الفرقان ؛ كقوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١].

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

فالكلام فيه كالكلام فى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقد ذكرنا فيه ما أمكن ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

وقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ).

وقيل (٢) : ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلها.

وقوله عزوجل : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ).

قيل : ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم.

وقيل : ارجعوا عن اتخاذ العجل إلها إلى اتخاذ خالقكم إلها.

وقوله عزوجل : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

قال الفقيه أبو منصور ـ رحمه‌الله ـ : لو لا اجتماع أهل التأويل والتفسير على صرف ما أمر الله ـ جل وعزّ ـ إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته ، وإلا لم نكن نصرف الأمر بقتل أنفسهم على حقيقة القتل ؛ وذلك لأن الأمر بالقتل كان بعد التوبة ، ورجوعهم إلى عبادة الله ، والطاعة له ، والخضوع.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن أبى العالية (٩٢٩) ومجاهد (٩٣٠ ، ٩٣١ ، ٩٣٢) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٧٣).

٤٦٢

دليله قوله عزوجل : ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ١٤٩]. ظهر بهذا : أنهم تابوا قبل أن يؤمروا بالقتل.

وقد شرع على ألسن الرسل : قتال الكفرة حتى يسلموا ؛ فلا يجوز ذلك إن أسلموا ، فيحصل الإرسال للقتل خاصة ، لا للدين ، والله أعلم.

ولأن القتل هو عقوبة الكفر ، لا عقوبة الإسلام ، وخاصة قتل استئصال ، على ما روى فى الخبر : أن قتل سبعون ألفا فى يوم واحد (١).

وذلك استئصال وإهلاك ، ولم يهلك الله قوما إلا فى حال الكفر والعناد ؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه ؛ لأن من يقتل لكفره إذا أسلم سقط القتل عنه وزال ، وكذلك إذا أسلم وتاب ومات عليه ، لم يعاقب فى الآخرة لكفره فى الدنيا.

فعلى ذلك : يجب ألا يعاقب هؤلاء فى الدنيا ـ بالقتل ـ بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله وطاعته.

ويصرف الأمر بالقتل ، إلى إجهاد أنفسهم بالعبادة لله ، والطاعة له ، واحتمال الشدائد والمشقة ؛ لتفريطهم فى عصيان ربهم ، باتخاذهم العجل إلها ، وبعبادتهم إياه دون الله.

وذلك جار فى الناس ، يقال : فلان يقتل نفسه فى كذا ، لا يعنون حقيقة القتل (٢) ، ولكن : إجهاده نفسه فى ذلك ، وإتعابه إياها ، واحتمال الشدائد والمشقة فيه.

فعلى ذلك ، يصرف الأمر بقتل أنفسهم إلى ما ذكر ، بالمعنى الذى وصفنا ، والله أعلم.

ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعل ذلك ابتداء محنة من الله ـ تعالى ـ لهم بالقتل ، لا عقوبة لما سبق من العصيان.

ولله أن يمتحنهم ـ ابتداء ـ بقتل أنفسهم ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) الآية [النساء : ٦٦] على تأويل كثير من المتأولين فى ذلك ؛ إذ له أن يميتهم بجميع أنواع الإماتة.

فعلى ذلك : له أن يأمر بقتل أنفسهم ، وفيه إماتة ، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه ، من بذل النفس لله ، مما فى مثله جعل وفاء إبراهيم الأمر بالذبح ، وبذل ولده النفس

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٣٧ ، ٩٤٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) فى أ : الأمر.

٤٦٣

له.

فيكون فى ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل ، والله أعلم.

والثانى : يجوز ذلك ؛ لأن عقوبات الدنيا وثوابها محنة ، لجواز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة الله ؛ لأنها دار محنة.

وأما عقوبات الآخرة وثوابها فليستا بمحنة ؛ لأنها ليست بدار امتحان ؛ لذلك : جاز التعذيب فى الدنيا بعد التوبة ، ولم يجز فى الآخرة إذا مات على التوبة ، والله أعلم.

ثم قيل فى قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، بوجوه :

قيل : أمروا ببذل الأنفس للقتل ، والتسليم له ؛ فصاروا كأن قد قتلوا أنفسهم.

ويجوز أن يكون الأمر بقتل أنفسهم أمرا بمجاهدة الأعداء ، وإن كان فيها تلفهم على ما قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية [التوبة : ١١١] مذكور ذلك فى التوراة.

وكذا قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] نهى عن القتل الذى فيه قتل أنفسهم.

وقد قيل فى قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] بمعنى : أى لا تقتلوا من تقتلون ، فكأنما قد قتلتم أنفسكم ، وعلى هذا التأويل خرّج أبو بكر قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦]. والله الموفق.

وقيل (١) : أمر بعضا بقتل بعض ، كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً) [النور : ٦١] أى : يسلم بعضهم على بعض.

وقيل : أمر كلّ من عبد العجل بقتل نفسه ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ).

قيل : إن التوبة خير لكم عند خالقكم.

وقيل (٢) : قتلكم أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل.

ويحتمل : عبادة الرب ـ عزوجل ـ خير لكم من عبادة العجل ، والله أعلم.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وقد ذكرنا المعنى فى ذلك فيما تقدم.

وفى بذل أنفسهم للقتل ، والصبر عليه ، وكف أيديهم عن الدفع ، والممارسة ـ فيه وجهان :

__________________

(١) تقدم عن ابن عباس ، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد (٩٣٩ ، ٩٤٠) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) قاله ابن جرير (١ / ٣٢٨).

٤٦٤

أحدهما : أنه كأنهم طبعوا على أخلاق البهائم والدواب.

وذلك أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنقذهم من خدمة فرعون وآله ، ونجاهم من الشدائد التى كانت عليهم ، ولحوق الوعيد بهم ، وأراهم من الآيات العجيبة : من آية العصا ، واليد البيضاء ، وفرق البحر ، وإهلاك العدو فيه ، وتفجير الأنهار من حجر واحد ، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها ، أن لو كانت واحدة منها لكفتهم ، ودلتهم على صدقه ونبوته.

ثم ـ مع ما أراهم من الآيات ـ إذا فارقهم ، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل ، واتخاذه إلها ، كقوله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] فأجابوه إلى ذلك ، وأطاعوه.

وكان هارون ـ صلوات الله على نبينا وعليه ـ فيهم ، يقول : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه : ٩٠] ، فلم يجيبوه ولا صدقوه ، ولا اكترثوا إليه ، مع ما كان هارون من أحب الناس إليهم.

فلو لا أنهم كانوا مطبوعين على أخلاق البهائم والدواب ، وإلا ما تركوا إجابته ، ولا عبدوا العجل ، مع ما أروا من الآيات التى ذكرنا.

فإذا كان إلى هذا يرجع أخلاقهم لم يبالوا ببذل أنفسهم للقتل ، والله أعلم ، ونحو ذلك قوله : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية ؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه ، فضلا عن المستدل عليه ، والله أعلم.

والثانى : يحتمل أن أروا ثواب صبرهم على القتل فى الآخرة ، وجزيل جزائهم ، وكريم مآبهم ؛ فهان ذلك عليهم وخف.

كما روى أن امرأة فرعون لما علم فرعون ـ لعنه الله ـ بعبادتها ربها ، وطاعتها له ، أمر أن تعاقب بأشد العقوبات ، ففعل بها فضحكت فى تلك الحال ، لما أريت مقامها فى الجنة ، وكريم مآبها ؛ فهان ذلك عليها وسهل.

فعلى ذلك يحتمل بذل هؤلاء أنفسهم للقتل ، والصبر عليه لذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

قال بعضهم (١) : قال الذين اختارهم موسى ـ وكانوا سبعين رجلا ـ لن نصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى الله جهرة ، يخبرنا أنّه أنزلها عليك.

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٣٦) وعزاه لابن جرير وابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس بنحوه.

٤٦٥

ويحتمل : لن نؤمن لك أنه إله ، ولا نعبده حتى نراه جهرة عيانا.

فاحتج بعض من ينفى الرؤية فى الآخرة بهذه الآية (١) ؛ حيث أخذتهم الصاعقة لما سألوا الرؤية.

قالوا : فلو كان يجوز أن يرى لكان لا تأخذهم الصاعقة ، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة.

وأما عندنا ، فإنه ليس فى الآية دليل نفى الرؤية ، بل فيها إثباتها.

وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما سئل الرؤية لم ينههم عن ذلك ، ولا قال لهم : لا تسألوا هذا.

وكذلك سأل هو ربه الرؤية ، فلم ينهه عنها ، بل قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك ، لو كان لا يحتمل ؛ لأنه كفر ، ومحال ترك النهى عنه.

وكذلك ما روى فى الأخبار : من سؤال الرؤية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا : أنرى ربنا (٢)؟ لم يأت عنه النهى عن ذلك ، ولا الرد عليهم ؛ فلو كان لا يكون لنهوا عن ذلك ومنعوا.

وإنما أخذ هؤلاء الصاعقة بسؤالهم الرؤية ؛ لأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد ، وإنما سألوا سؤال تعنت.

دليل التعنت ، فيما جاء من الآيات ، من وجه الكفاية لمن ينصف ؛ لذلك أخذتهم الصاعقة ، والله أعلم.

أو أن يقال : أخذتهم الصاعقة بقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ، لا بقولهم : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). وسنذكر هذه المسألة فى موضعها ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).

قيل : الصاعقة كل عذاب فيه هلاك.

لكن الهلاك على ضربين :

هلاك الأبدان والأنفس.

__________________

(١) الكلام على الرؤية سيأتى عند قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣].

(٢) أخرجه البخارى (٤٥٨١) ، ومسلم (٣٠٢ / ١٨٣) ، عن أبى سعيد الخدرى.

ومن طريق آخر أخرجه أحمد (٣ / ١٦) ، وابن ماجه (١٧٩) وابن أبى عاصم (٤٥٢) ، وأبو يعلى (١٠٠٦) وابن خزيمة (١٦٩).

٤٦٦

وهلاك العقل والذهن ، كقوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] قيل (١) : مغشيّا.

وفيه هلاك الذهن والعقل ؛ وكذلك قوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] أى غشى. والله أعلم.

وقيل (٢) : الصعقة : صياح شديد.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : تعلمون أن الصاعقة قد أخذتهم وأهلكتهم بقولهم الذى قالوا ؛ فكونوا أنتم على حذر من ذلك القول.

وقيل (٣) : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ـ الخطاب لأولئك الذين أخذتهم الصاعقة ـ أى : تنظرون إلى الصاعقة وقت أخذتها لكم ، أى : لم تأخذكم فجأة ، ولا بغتة ، ولكن عيانا جهارا ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى).

يذكرهم ـ عزوجل ـ عظيم منّته عليهم ، وجزيل عطائه لهم ؛ ببعثهم بعد الموت ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المن والسلوى من السماء لهم ، وذلك مما خصوا به دون غيرهم.

ثم ما كان لنا من الموعود فى الجنة ، فكان ذلك لهم فى الدنيا معاينة ، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود ، والطير المشوى ، والثياب التى كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ ؛ فذلك كله مما وعد لنا فى الجنة ، وكان لهم فى الدنيا معاينة يعاينون.

مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا ، ولا ثبتوا على ما عاهدوا ، وذلك لقلة عقولهم ، وغلظ أفهامهم ، ونشوئهم على أخلاق البهائم والدواب ، والله أعلم.

وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ما لم يحل لهم الفضل على حاجتهم ، فأباح لهم القدر الذى لهم إليه حاجة ،

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٣٠).

(٢) أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس بنحوه (٩٥٣).

(٣) قاله ابن جرير (١ / ٣٣٠).

٤٦٧

وسماه طيبات.

ويحتمل أنه سماه طيبات ؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم ، ولا أذى يضرهم ، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك ، والله أعلم.

وقد قيل : الطيب هو المباح الذى يستطيبه الطبع ، وتتلذذ به النفس.

وقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ...) الآية.

وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم.

وقد يحتمل وجها آخر : وهو النقصان ؛ كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أى : لم تنقص منه.

وحاصل ما ذكرنا : أن الظلم هو وضع الشىء فى غير موضعه ، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد.

وقوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ).

اختلف فى تلك القرية :

قيل (١) : إنها بيت المقدس ، كقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١].

أمروا بالدخول فيها ، والمقام هنالك ؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم ؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب.

وقيل : إن تلك القرية التى أمروا بالدخول ، والمقام هنالك ، هى قرية على انقضاء التيه ، والخروج منها.

غير أن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة ، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذى كان منهم ، وما يلحقهم بترك الطاعة لله والائتمار ، والله أعلم.

وقوله : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً).

والرغد قد ذكرنا فيما تقدم : أنه سعة العيش ، وكثرة المال.

وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً).

يحتمل المراد من الباب : حقيقة الباب ، وهو باب القرية التى أمروا بالدخول فيها.

ويحتمل المراد من الباب : القرية نفسها ، لا حقيقة الباب ؛ كقوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ذكر القرية ولم يذكر الباب ، وذلك فى اللغة سائغ (٢) ، جائز ؛ يقال : فلان دخل

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة (١٠٠٠) والسدى (١٠٠١) والربيع (١٠٠٢) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٨ ـ ١٣٩).

(٢) فى أ : شائع.

٤٦٨

فى باب كذا ، لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن : كونه فى أمر هو فيه.

وقوله : (سُجَّداً).

يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود ؛ فيخرج على وجوه :

يخرج على التحية لذلك المكان.

ويخرج على الشكر له ؛ لما أهلك أعداءهم الذين كانوا فيها ، لقولهم : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) [المائدة : ٢٢].

ويحتمل : حقيقة السجود ؛ لما روى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ بنى إسرائيل أمروا بالدخول سجدا فدخلوا منحرفين» (١) فما أصابهم إنما أصاب بخلافهم أمر الله.

ويحتمل : الكناية عن الصلاة ؛ إذ العرب قد تسمى السجود صلاة ؛ كأنهم أمروا بالصلاة بها.

ويحتمل الأمر بالسجود : لا حقيقة السجود والصلاة ، ولكن : أمر بالخضوع له والطاعة ، والشكر على أياديه التى أسدى (٢) إليهم وأنزل : من سعة التعيش ، والتصرف فيها فى كل حال ، والله أعلم.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ).

قيل بوجهين :

قيل (٣) : الحطة : هو قول : لا إله إلا الله ، سميت حطة ؛ لأنها تحط كل خطيئة كانت من الشرك وغيره ؛ فكأنهم أمروا بالإيمان والإسلام.

وقيل (٤) : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) : أى اطلبوا المغفرة والتجاوز عما ارتكبوه من المآثم والخطايا ، والندامة على ما كان منهم ؛ فكأنهم أمروا أن يأتوا بالسبب الذى به يغفر الذنوب ، وهو الاستغفار ، والتوبة ، والندامة على ذلك ، والله أعلم.

وذلك يحتمل الشرك ، والكبائر ، وما دونهما.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤٤٧٩) ومسلم (٣٠١٥) ، وأحمد (٢ / ٣١٢ ، ٣١٨) والترمذى (٢٩٥٦) ، وابن جرير (١٠٢٠ ، ١٠٢١).

(٢) فى أ : أسند.

(٣) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (١٠١٦) وعبد بن حميد وابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٨).

وهو قول ابن عباس أيضا ، أخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٩).

(٤) هو قول ابن عباس وغيره أخرجه ابن جرير (١٠١٣) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٨ ، ١٣٩).

٤٦٩

ذكر ـ عزوجل ـ مرة خطايا ، ومرة خطيئات ، ومرة قال : ادخلوا ، ومرة قال : اسكنوا ، ومرة قال : فأنزلنا ، ومرة قال : فأرسلنا ـ والقصة واحدة ـ حتى يعلم :

أن ليس فى اختلاف الألفاظ والألسن تغيير المعنى والمراد. وأن الأحكام والشرائع التى وضعت لم توضع للأسامى والألفاظ ، ولكن للمعانى المدرجة والمودعة فيها ، والله أعلم.

وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

يحتمل المراد من المحسنين : المسلم الذى كان أسلم قبل ذلك.

ويحتمل : الذى أسلم بعد قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، وكان كافرا إلى ذلك الوقت.

والزيادة تحتمل : التوفيق بالإحسان من بعد ، كقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ...) الآية [الليل : ٥].

ويحتمل : الثواب على ما ذكر من قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ...)

الآية [القصص : ٥٤].

وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

قوله «بدّل» يحتمل : إحداث ظلم ، بعد أن لم يكن ، والخلاف لما أمرهم به عزوجل.

ويحتمل : نشوؤهم على غير الذى قيل لهم.

ولم يبين : ما ذلك القول الذى بدلوا؟ وليس لنا ـ إلى معرفة ذلك القول ـ حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل ، وترك العمل بأمره ، وإظهار الخلاف له ، فقد تولى الله بيان ذلك بفضله ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ).

قيل (١) : «الرجز» : هو العذاب المنزل من السماء على أيدى الملائكة ؛ لأن من العذاب ما ينزل على أيدى الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره.

ومنه عذاب ينزل من السماء ـ لا على أيدى أحد ـ نحو : الصاعقة ، والصيحة ، ونحوهما.

وقوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

مرة ذكر «يفسقون» ، ومرة ذكر «يظلمون» ، وهو واحد.

وفى هذه الآيات التى ذكرناها ، والأنباء التى وصفنا ـ دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٤٣) وعن قتادة (١٠٣٩) وابن زيد (١٠٤٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٩).

٤٧٠

نبوته.

وذلك أن أهل الكتاب كانوا عرفوا هذه الأنباء بكتبهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر ذلك بمشهدهم ، كما فى كتابهم ، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم ، ولا درس كتابهم ؛ فدل : أنه بالله عرف ، وكان فيها تسكين قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتصبر عليه ؛ لظهور الخلاف له من قومه ، وترك طاعتهم إياه ، وأن ذلك ليس بأول خلاف كان له من قومه ، ولا أول تكذيب ، بل كان من الأمم السالفة لأنبيائهم ذلك ، فصبروا عليه ؛ فاصبر أنت كما صبروا ؛ كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ...) الآية [الأحقاف : ٣٥].

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

وقوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ).

يعنى : طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه ؛ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : أن اضرب بعصاك الحجر.

قد ذكرنا فيما تقدم : أن الله ـ عزوجل ـ قد أراهم من عصاه آيات عجيبة ، من نحو الثعبان الذى كان يتلقف ما يأفكون ؛ كقوله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الشعراء : ٤٥] ، وقوله : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٢].

ومن ضربه البحر بها حتى انفلق ؛ كقوله : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣].

ومن ضربه الحجر بها ، وانفجار العيون منه ، وغير ذلك من الآيات مما يكثر ، ذكرها عزوجل من آيات رسالته ، وآيات نبوته.

وفيما أرى منها ، من عجيب آياته : دلالة حدوث العالم (١) وإبداعه ، لا من شىء ؛

__________________

(١) حدوث العالم من ضرورات الدين ، وركنه الركين ؛ لأن حدوث العالم أصل الشرائع ، وقاعدة الدين ، إذ إثبات الخالق والآخرة وبعثة الرسل والأنبياء يتوقف على حدوث العالم ؛ إذ لو لم يكن حادثا بل قديما لا يحتاج إلى وجود الخالق ؛ وإذا لم يوجد الخالق لم يرسل الأنبياء ، ولم تكن الآخرة ؛ لأن الآخرة قائمة على فناء العالم. ـ

٤٧١

لأنه ـ عزوجل ـ قد أخرج بلطفه ، من حجر يصغر فى نفسه ـ مما يحمل من مكان إلى مكان ـ من الماء ما يكفى لخلق لا يحصى عددهم إلا الله ، وفجر منه أنهارا ، لكل فريق نهر على حدة.

__________________

ـ وقد اعتنى العلماء الأولون بمبحث حدوث العالم ، فبرهنوا على حدوثه وخلقه ، وكان هدفهم من ذلك هدفا دينيّا بحتا ؛ إذ فى إثبات ذلك بيان إعجاز الخالق فى السنن والقوانين التى يسير عليها الخلق ، من حيث إن الله تعالى يعطى كل مخلوق طبيعته المقدرة له أو ماهيته الخاصة به ، ومن هنا كان خلقه للعالم لحكمة ، ولم يخلقه عبثا.

وعلة أخرى ، وهى بيان تهافت كثير من الخلق فى القول بقدم الخلق ، وهم كثير بل جمهور المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة على القول بقدم العالم ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ، فاتبعوه إلا قليلا من المؤمنين.

والعالم اسم لما سوى الله تعالى وصفاته من الموجودات ، فالمعدوم ليس من العالم ، وهو شامل السموات والأفلاك وما فيها ، ويطلق عليها اسم العالم العلوى ، وشامل لما انحط من السموات والسحاب والأرض ، وما فيها من الهواء ، وما على الأرض من نبات وحيوان وجماد ، وما فيها من بحار وجبال وأنهار وغيرها ، ويطلق عليه اسم العالم السفلى وهو حادث.

والعالم فى اللغة : عبارة عما يعلم به الشىء ؛ قال الجوهرى فى الصحاح : «العالم : الخلق» وقال ابن منظور : «والعالم : الخلق كله ، وقيل : هو ما احتواه بطن الفلك» وقال الزبيدى : «والعالم : الخلق كله».

وفى ترتيب القاموس : «والعالم : الخلق كله ، أو ما حواه بطن الفلك» ، وقال الزبيدى فى تاج العروس : «وهو فى الأصل اسم لما يعلم به كالخاتم لما يختم به ، فالعالم آلة فى الدلالة على موجده ، ولهذا أحالنا عليه فى معرفة وحدانيته ، فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٧] ، وقال جعفر الصادق : «العالم : عالمان كبير وهو الفلك بما فيه ، وصغير وهو الإنسان ؛ لأنه على هيئة العالم الكبير ، وفيه كل ما فيه».

قال البغدادى : «... وزعم بعض أهل اللغة أن العالم كل ما له علم وحس ، وقال آخرون : إنه مأخوذ من العلم الذى هو العلامة ، وهذا أصح ؛ لأن كل ما فى العالم علامة ، ودلالة على صانعه».

والعالم فى الاصطلاح : هو عبارة عن كل ما سوى الله من الموجودات ؛ لأنه يعلم به الله من حيث أسماؤه وصفاته. ومن أجمع التعريفات له ما حده به إمام الحرمين الجوينى فى العقيدة النظامية حيث قال : «العالم : كل موجود سوى الله تعالى ، وهو أجسام محدودة ، متناهية المنقطعات ، وأعراض قائمة بها ، كألوانها ، وهيئاتها ، فى تركيبها وسائر صفاتها ، وما شاهدنا منها ، واتصلت به حواسنا ، وما غاب منها عن مدرك حواسنا ، متساوية فى ثبوت حكم الجواز لها ، ولا شكل يعاين أو يفرض منا ، صغر أو كبر ، أو قرب أو بعد ، أو غاب أو شهد ، إلا والعقل قاض بأن تلك الأجسام المشكلة ، لا يستحيل فرض تشكلها على هيئة أخرى ، وما سكن منها لم يحل العقل تحركه ، وما تحرك منها لم يحل سكونه ، وما صودف مرتفعا إلى سمك من الجو ، لم يبعد تقدير انخفاضه ، وما استدار على النطاق لم يبعد فرض تداوره ، نائيا عن مجراه ، وترتب الكواكب على أشكالها ...».

قال البغدادى فى أصول الدين : «والعالم عند أصحابنا كل شىء هو غير الله عزوجل».

وفى العقائد النسفية : «والعالم : أى ما سوى الله تعالى من الموجودات مما يعلم به الصانع ، يقال : عالم الأجسام ، وعالم الأعراض ، وعالم النبات ، وعالم الحيوان ، فتخرج صفات الله ـ

٤٧٢

__________________

ـ تعالى ؛ لأنها ليست غير الذات ، كما أنها ليست عينها».

والعالم ـ كما قسمه المتكلمون ـ إما جواهر ، وإما أعراض قال البغدادى : «والعالم نوعان : جواهر وأعراض».

وينبغى هنا أن نوضح المقصود بالجوهر والعرض ، على تفصيل :

الجوهر لغة : هو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، ومن الشىء ما وضعت عليه جبلته. قاله الفيروزآبادي.

قال الزبيدى : «والجوهر : كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، وهو فارسى معرب ، كما صرح به الأكثرون ، ... ومن الشيء ما وضعت عليه جبلته ...» قال الجوهرى فى الصحاح : «والجوهر معرب ، الواحدة جوهرة» وفى اللسان قال ابن منظور : «والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، وجوهر كل شىء ما خلقت عليه جبلته».

واصطلاحا : قال البغدادى : «والجوهر كل ذى لون».

وقال الجرجانى : «الجوهر : ماهية إذا وجدت فى الأعيان ، كانت لا فى موضوع ، وهو منحصر فى خمسة : هيولى ، وصورة ، وجسم ، ونفس ، وعقل ...».

وقال فى شرح المواقف : «الجوهر ممكن موجود لا فى موضوع عند الفلاسفة ، وحادث متميز بالذات عند المتكلمين» ، وأما العرض لغة فهو : ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه ، قاله الجوهرى ، وفى اللسان : «والعرض : من أحداث الدهر من الموت والمرض ، ونحو ذلك.

قال الأصمعى : «العرض : الأمر يعرض للرجل يبتلى به» قال الزبيدي : «والعرض بالتحريك : ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه كالهموم والأشغال ، ... والعرض حطام الدنيا ، والغنيمة : اسم لما لا دوام له ، وهو مقابل الجوهر ...».

واصطلاحا : هو ما قام بغيره ، قال البغدادى : «والأعراض هى الصفات القائمة بالجواهر من الحركة والسكون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة» وقال الجرجانى : «العرض : ما يعرض فى الجوهر مثل الألوان والطعوم والذوق واللمس وغيره مما يستحيل بقاؤه بعد وجوده» وقال المرعشى فى نشر الطوالع : «... وهو عند الأشاعرة موجود قائم بمتحيز» وقال سعد الدين التفتازانى فى العقائد النسفية : «والعرض ما لا يقوم بذاته بل بغيره ، بأن يكون تابعا له فى التحيز أو مختصّا به اختصاص الناعت بالمنعوت».

أما المذاهب فى حدوث العالم فقد قال المرعشى فى نشر الطوالع : «اتفق المسلمون والنصارى واليهود والمجوس على أن الأجسام كلها محدثة ، بذواتها وصفاتها».

قال البزدوى فى «أصول الدين» : «قال عامة أهل القبلة ، وعامة أهل الأديان : إن العالم محدث أحدثه الله تعالى لا عن أصل. وقالت الدهرية الذين ينكرون الصانع ـ جل جلاله ـ : «إن العالم قديم».

وقد اختلف الفلاسفة فى قدم العالم ، فالذى استقر عليه رأى جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه.

قال البزدوى : «وقال عامة الفلاسفة : إن الصانع قديم والهيولى قديم أيضا ، والهيولى عندهم أصل العالم وطينته ، منه خلق الله تعالى العالم».

وقال بعض الفلاسفة : «الصانع قديم ، والخلاء قديم ، وهو المكان الذى خلق الله تعالى فيه العالم».

وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن العالم محدث أحدثه الله تعالى عن غير مادة ، ولأدلتهم فى ـ

٤٧٣

__________________

ـ ذلك تفصيل ، وهى إما أدلة عقلية أو نقلية :

أولا ـ الأدلة العقلية : وإنما قدمت الأدلة العقلية ؛ لأن الفلاسفة يعتبرون بها ، ويعولون عليها ، فوجب أن نثبته من مادة أدلتهم : اعلم ـ وفقك الله ـ أن الأدلة العقلية على حدوث العالم كثيرة جدّا ؛ لأن الآفاق والأنفس مملوءة بدلائل حدوثه ، فإن ادعى أحد قدم العالم ، فلا يدعى قدم نفسه بل ادعى حدوثه بحدوث زمانى بالضرورة ؛ لأنه تولد من أبويه بعد ما لم يكن فى سنة كذا مع أن ذلك المدعى جزء من أجزاء العالم ، وما يكون جزؤه حادثا يكون كله حادثا.

ولو كان العالم قديما لكان باقيا على حاله ، فلا وجود للآخرة ، وذلك كله باطل ، فقدم العالم باطل ، فثبت حدوثه ، ولأن القديم لا يكون محلا للحوادث مع أن العالم محل للحوادث بداهة ، فالعالم بجميع أجزائه حادث ؛ لأن العالم إما أعيان ، وإما أعراض ، وكل منهما حادث ، ودليل ذلك الأخير على تفصيل :

دليل حدوث الأعراض : «أما حدوث الأعراض ؛ فلأن بعضها حادث بالمشاهدة كالحركة بعد السكون ، والسكون بعد الحركة مثلا فى بعض الأجرام ، وبعضها ، وهو ما لم يشاهد حدوثه كسكون بعض الأجرام الثابتة حادثة بالدليل ، وهو أنه يجوز طرآن العدم عليه بوجود ضده ؛ لأن الأجرام كلها متساوية فيجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ، وكل ما يجوز عليه العدم يكون قديما ؛ لأن القديم إذا كان واجبا لذاته لم يجز أن يكون صادرا بالاختيار للزوم الحدوث له حينئذ ، فتعين أن يكون صادرا بطريق التعليل من واجب لذاته ، فيلزم استمرار وجوده ما دامت علته موجودة ، فلا يجوز عليه العدم.

دليل حدوث الجواهر : وأما حدوث الجواهر ؛ فلأنها ملازمة للأعراض الحادثة ؛ لأن من الأعراض الحركة والسكون ، فلو كانت غير ملازمة لأحدهما لارتفعت الحركة والسكون ، وهما ضدان مساويان للنقيضين ، وارتفاع النقيضين أو ما ساواهما باطل ، وملازم الحادث حادث ؛ لأنه لو لم يكن حادثا للزم إما قدم الحادث اللازم له ، وإما انفكاك التلازم بينهما ، وهما باطلان ، فالجواهر حادثة.

قال البزدوى فى أصول الدين : «ثم الدليل على حدوث جميع العالم أنا نشاهد حدوث بعضها ، فإن الثمار كلها تحدث ، وكذلك الحيوانات ، وكذا النبات ، وكذا الألوان ، هذه الأشياء تحدث ، فإذا كان بعضها يحدث يعلم به حدوث ما سواهما إذ كلها أجسام وأعراض وجواهر ، فإن الشىء دال على شكله ، فإن بعض النبات إذا رأيناه يفسد ، قضينا فى شكله بالفساد ؛ ولأن الأجسام لا تخلو عن الأعراض ، فإنها لا تخلو عن الافتراق ، والاجتماع ، والسكون ، والحركة ، والثقل والخفة ... قال : فلو كانت الأعراض قديمة لما تصور بطلانها ؛ لأن القديم واجب الوجود ، فلا يتصور عليه البطلان والعدم ؛ لأنه لو جاز عدمه فى المستقبل من الزمان جاز عدمه فى الماضى من الزمان ، فلا يتصور العدم هذا كما يجب أن الاثنين إذا ضم إلى واحد يكون ثلاثة ، وإذا كان هذا واجبا لا يتصور أن يوجد زمان يضم الاثنين إلى الواحد ، ولا يكون ثلاثة ، فدل أن الأعراض حادثة.

قال الرازى فى المطالب العالية : «الحجة الأولى : وهى الحجة القديمة للمتكلمين أن قالوا : الجسم لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ، فالجسم حادث».

والحجة الثانية : أن تقول : الأجسام قابلة للحوادث ، وكل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ، ينتج أن الأجسام حادثة ...».

وقد ساق حججا كثيرة ، فلتطالع هناك لمن شاء التفصيل.

ولأبى محمد بن حزم براهين كثيرة فى إثبات العالم ضمنها كتابه «الفصل فى الملل والأهواء ـ

٤٧٤

__________________

ـ والنحل».

ثانيا ـ الأدلة النقلية :

فمن القرآن قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢].

ومن السنة ما أخرجه البخارى فى صحيحه عن عمران بن حصين ـ رضى الله عنهما ـ قال : دخلت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقلت ناقتى بالباب ، فأتاه ناس من بنى تميم ، فقال : اقبلوا البشرى يا بنى تميم. قالوا : قد بشرتنا فأعطنا (مرتين) ، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن ، فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبل بنو تميم. قالوا : قد قبلنا يا رسول الله. قالوا : جئنا نسألك عن هذا الأمر.

قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب فى الذكر كل شىء ، وخلق السموات والأرض ، فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا بن الحصين ، فانطلقت فإذا هى يقطع دونها السراب ، فو الله لوددت أنى كنت تركتها».

والدليل على خلق الله السموات والأرض ، وما بينهما لا يعد ولا يحصى من الآيات والأحاديث ، وقد اعترض بعض المفكرين القدماء والمحدثين على أن بحث المتكلمين فى العالم لبيان حدوثه وخلقه ، بحث لا يرجع إلى القرآن الكريم ؛ معتمدين أن لفظ «القدم» أو «الحدوث» هو نفسه مردود إلى مصدر فلسفى أجنبى ، وهذا غير صحيح.

وقد كانت أول الحقائق التى ذكرها القرآن الكريم أن العالم حادث مخلوق من لا شىء ، وإذا كان العالم محدثا ، فلا بد له من خالق ، وهو الله تعالى ، خلق كل شىء ، فهو المصور والمبدع.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى قدرته تعالى المطلقة على الخلق ، وأنه تعالى خلق الخلق بعلمه ، وصورهم ، ورزقهم ، ولم يكن معه معين ولا نصير :

قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧].

وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ٦].

وقال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١].

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر : ٣].

شبهات وردود :

ولا يسلم الأمر لأهل السنة والجماعة قولهم بإثبات حدوث العالم ، فقد أبى الله تعالى إلا أن يجعل للباطل نصيبا يقوم عليه أهله ، وذلك لحكمة يعلمها الله تعالى ، ولعل منها بيان معرفة الحق من الباطل ، والتمييز بين الفريقين ؛ ليحيا من حيى عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة.

ولكن أدلة القائلين بقدم العالم ـ على كثرتهم ـ أدلة واهية لا تقوى على الرد والتفنيد. قال الغزالى فى التهافت : «لو ذهبت أصف ما نقل عنهم فى معرض الأدلة ، وذكر فى الاعتراض عليه ، لسودت فى هذه المسألة أوراقا ، ولكن لا خير فى التطويل ، فلنحذف من أدلتهم ما يجرى مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذى يهون على كل ناظر حله».

ثم ساق أقوى أدلتهم ، ثم عرج عليها تفنيدا وردّا ، والمقام ليس مقام بسط ، وتفصيله فى تهافت الفلاسفة.

ونذكر هنا بعض الشبه التى ذكرها البزدوى فى أصول الدين ، ورده عليها ، يقول : «إنهم يقولون : إنا نقول بقدم الهيولى لا غير لا بقدم كل العالم ، والهيولى شيء واحد لا يتصور افتراقه ، ولا ـ

٤٧٥

__________________

ـ اجتماعه ، وليس بقابل لعرض ما ، وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض».

فيقول : لا بد من أن يكون الهيولى ـ وهو لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة ـ جسما أو جوهرا أو عرضا ؛ لأنه من جملة العالم ، والعالم هذه الثلاثة وإذا كان واحدا من هذه الثلاثة يكون حادثا كسائر الأجسام والجواهر والأعراض ، ولأنه لا يخلو عرض ما إن كان يخلو عن الاجتماع والافتراق ، وهو الخفة والثقل والحركة والسكون.

ثم يقول : لم كان الهيولى أولى بالقدم من سائر العالم من الأجسام والأعراض والجواهر؟ فإن قالوا : إنما وجب القول بقدمه ؛ لأنا لم نر شيئا يخلق من غير شىء ، كل شىء يخلق من شىء آخر ، لما لم نشاهد خلق شىء من غير شىء قضينا على العالم أنه لم يخلق من غير شىء ، بل خلق من شىء ، فاضطررنا إلى القول بالهيولى ، فتكون الأشياء مخلوقة منه ، والهيولى عند الفلاسفة للعالم كالقطن للثوب.

ثم يقول : إن خلق الشيء من الشىء تغيير ذلك الشىء ، وهو تبديل الأوصاف بأن يجعل المفترق مجتمعا والمجتمع مفترقا ، والنار كرسيّا ، والشعر لبدا ، أو إخراج الشىء من الشىء أو إيجاد الشىء من الشىء ، والتغير مستحيل فى الهيولى ؛ لأن تغيير الشىء الواحد مستحيل ، ولأن التغيير إلى أن يصير الواحد أشياء مستحيل ، وكذلك إخراج الشيء منه مستحيل ، وإيجاد الشىء من الشىء مستحيل ، فدل أن خلق الشىء من الشىء إيجاد ذلك الشىء حقيقة.

فإن قالوا : العالم متناه أو غير متناه؟ فنقول : العالم مخلوق ، وكل مخلوق متناه ، فالعالم يكون متناهيا لا محالة.

فإن قالوا : لما كان العالم متناهيا ، ففى أى موضع هو ، فإن الجسم يحتاج إلى مكان ، والعالم أجسام؟ فنقول : العالم أجسام فى غير مكان ؛ لأن المكان من جملة العالم ، فإن المكان إما أن يكون هواء أو جسما لطيفا غير الهواء أو كثيفا ، والهواء من جملة العالم ، وهو جسم لطيف ، وكذا سائر الأجسام اللطيفة ...».

هذا ، ولقد نظر الماديون فى كيفية تكون العالم نظرة قاصرة ولم تسع عقولهم ما وراء المحسوس فقالوا : إن العالم يصدر بعضه عن بعض بواسطة الطبيعة إلى غير ذلك مما أسرفوا فيه القول وفيما يلى نذكر شبههم ونكر عليها بالإبطال.

الشبهة الأولى :

قالوا : لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها ، وتركها لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض موجودة فى الأزل فتكون قديمة والجواب على هذه الشبهة : قولكم كان ترك الفعل لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا ... إلى آخر ما ذكرتم تقسيم فاسد ظاهر البطلان. وذلك لأن الجسم ذو أبعاد ثلاثة الطول والعرض والعمق وترك الفعل لا يوصف بطول ولا عرض ولا عمق ؛ فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما والعرض هو الوصف الملازم للجسم وترك الفعل من الله للجسم والعرض ليس وصفا بشيء فلا يكون عرضا ؛ فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا وإنما هو عدم محض والعدم المحض ليس بشيء وترك الفعل من الله تعالى ليس فعلا البتة بخلاف صفة خلقه لأن ترك الفعل من المخلوق فعل ، برهان ذلك : أن ترك الفعل من المخلوق لا يكون إلا بفعل آخر كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وكتارك القيام لا يكون إلا بفعل آخر كفعل الجلوس أو النوم أو غير ذلك.

ويظهر أن الذى سهل عليهم هذا القول هو قياس الغائب على الشاهد فإنهم لما رأوا أن عدم ـ

٤٧٦

__________________

ـ الفعل من المخلوق يكون بفعل آخر قاسوا الغائب عليه ورتبوا ذلك الإنكار ولو رجعوا إلى قول الأكابر من رؤسائهم لما تعلقوا بهذه الشبهة فقد نسب إلى أكابر الماديين أنهم قالوا :

إن قياس الغائب على الشاهد قياس خداع لأنه كثيرا ما يخدع الإنسان ويوقعه فى الغلط فلا يصح التعويل عليه.

فصح أن فعل البارى تعالى غير فعل خلقه وأن تركه للفعل ليس فعلا فبطل ما قالوا.

الشبهة الثانية :

قالوا إن الفعل لا يمكن أن يتصور موجودا ليس من جنس المخلوقات فلا يكون جسما ولا مادة جسم ولا صورة جسم ولا آخذا قدرا من الفراغ وحيث لا يمكن تصور موجود بهذه الصفة فلا يمكن التصديق بوجوده لأن التصديق بالوجود فرع التصور.

والجواب عن هذه الشبهة :

قد اتفقتم معنا على أن تكون العالم سواء كان علويّا أو سفليّا على هذه الحالة التى نشاهدها حدث بعد أن لم يكن ولا إخالكم تخالفوننا فى أن ذلك العالم بلغ من الإتقان والإحكام والصنع الغريب ما حارت أولو الألباب فى اكتناهه وعجزت المراصد عن إحصائه ووقف علماء الفلك حيارى أمام بدائعه.

ولا شك أن العقل يجزم أن إتقان الأثر يدل على عظمة المؤثر والمبدع ألا ترى أنهم يستدلون بما يشاهد من أعمال النفوس والآثار العظيمة الباقية من زمن الأمم الغابرة على رقى تلك الأمم وتقدمها فى العلوم والصنائع.

وإلى جانب هذا إذا نظرنا إلى منزل الإنسان من حيث الإدراك نجد أنا لو قارنا بين ما يجهله وما يعلمه وسلكنا طريق الإنصاف لكانت نسبة المعلوم إلى المجهول كنقطة ماء من بحر أو ذرة من رمال بل لو نظرنا إلى الأشياء التى دخلت تحت دائرة معلوماته ، نجده بعد إعمال فكره وكثرة بحثه يجهل كثيرا من مباحثها.

وإذا نظرنا إلى أصحاب النظريات الفلسفية نجدهم يبطلون اليوم ما أثبتوه بالأمس ولا يستقرون على رأى ونجد الطائفة المتأخرة تفند نظريات الطائفة المتقدمة وهكذا.

ولننظر إلى حاسة السمع والبصر والشم والذوق فإنا نعتقد أن كل حاسة تدرك ما هو من خواصها ولكن كيفية الإدراك لا نعلمها علما يقينيا.

كل هذا يدلنا دلالة واضحة لا شك فيها ولا مرية على جهل الإنسان بحقائق كثيرة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] فهل بعد إدراك عظم هذه المخلوقات الدالة على عظمة المبدع وثبوت جهل الإنسان بأكثر الأشياء تقولون إن عقولنا لا يمكن أن تتصور موجودا ليس جسما وتجعلوا عدم تصور العقل دليلا على عدم الوجود فى حين أنكم تعترفون أن هناك حقائق كثيرة نجهلها ولا تتصورها عقولنا ومع ذلك لا يمكنكم أن تقولوا إن عدم التصور دليل على عدم الوجود ويظهر أيضا أن الذى سهل عليهم هذا هو قياسهم الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا فى الشاهد أن الموجود لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ ولا بد أن يكون جسما أو مادة جسم أو صورة جسم قاسوا ذلك الغائب عليه وهو كما علمت سابقا قياس فاسد لا يعول عليه فثبت أن العالم محدث أحدثه الفاعل المختار جل وعلا.

الشبهة الثالثة :

قالوا الإيجاد جود وإحسان فلو لم يكن الله تعالى موجدا فى الأزل لكان تاركا للجود والإحسان مدة غير متناهية وذلك غير جائز ـ وربما عبروا عنه بعبارة أخرى فقالوا علة وجود العالم جود البارى ـ

٤٧٧

__________________

ـ تعالى وجود البارى تعالى أزلى فيلزم أن يكون وجود العالم أزليّا.

والجواب عن هذه الشبهة :

هذا ينتقض بإيجاد هذه الصور والأعراض الحادثة فإنه جود ولم يلزم منه قدم الصورة والأعراض.

هذا وقال إمام الحرمين فى الإرشاد مستدلا على حدوث العالم وعدم قدمه بطريق الإلزام :

الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار ، والنار بالأفلاك ، وهى أجرام متميزة شاغلة جوا وحيزا وبالاضطرار تعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها أو متياسرة أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما أو أصغر من ذلك ليس من المستحيلات وكل مختص بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجود محتاج بضرورة العقل إلى مخصص.

وقد قامت البراهين على أن المخصص لهذه الكائنات هو الله الفاعل المختار فبطل حينئذ كون المادة قديمة وعلة وقد قام البرهان القاطع على أن موجد العالم إله متصف بجميع صفات الكمال فيكون هو الموجد للمادة كما أنه موجد للكائنات بطريق الاختيار لا بطريق العلة والضرورة.

وكان ينبغى ألا يختلف الناس فى هذه العقيدة ؛ لأن دلالة الأثر على المؤثر والفعل المحكم على الحكيم دلالة بديهية فطرية بل قالوا إن ذلك مما يدركه الحيوان الأعجم فضلا عن الإنسان فإنك إذا ضربت الحيوان التفت ليرى من ضربه لأنه مركوز فى فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر والفعل لا يكون بلا فاعل وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : ٤١] وإذا رأيت كلمة من ثلاثة أحرف لم تشك فى أن كاتبا كتبها ، وما مثل من ينكر الخالق جل وعلا ـ وهو أظهر من الشمس ـ إلا كمن رأى كتابا بديع المبانى بليغ المعانى ، وفيه من الأفكار السامية والأدب الرائع ما يفوق أفكار أفلاطون وأدب أبى العلاء ، فلما نظر فيه قال ما هذا الكتاب إلا أوراق كانت فى صندوق وكان معها شىء من حروف الطباعة ، ثم اهتز الصندوق هزات متوالية فوجد ذلك الكتاب على ما ترون فهل لا ترمى صاحب تلك الفلسفة بالجنون وإذا كنت لا تسلم أن باخرة توجد بلا مهندس ، بل لا تسلم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب ، فكيف تسلم أن هذا الكون العظيم الذى بهر العقول وحير الألباب قد وجد بلا موجد ونظم بلا منظم ، وكان كل ما فيه من نجوم وغيوم وقفار وبحار وليل ونهار وظلمات وأنوار وأشجار وأزهار وشموس وأقمار إلى أنواع لا يحصيها العد ولا يأتى عليها الحصر قد وجدت بلا موجد إن هذا لهذيان وجنون.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٦ ـ ١١] ترشد هذه الآيات إلى أن القائل فى السموات كيف نسق هذا النظام البديع وارتبطت كواكبها بعضها ببعض حتى أشبهت ـ من حيث خضوعها لنظام بديع وترتيب عجيب ـ البناء المحكم فمن الذى نظم عقد هذه الكواكب ومن الذى رتبها حتى صارت بهجة للناظرين ومن الذى أزاح عنها الخلل فليس فى هذا البناء المحكم فروج ينفذ فيها الخلل فتختل دوراتها فيصطدم بعضها ببعض اصطداما يتداعى منه ذلك البنيان وتندك منه السماء (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] إن الذى بيده أمر هذه المجاميع العلوية والسفلية وينظم أمرها ويحفظها من الخلل ويعطى كل شىء منها قسطه الطبيعى لا بد أن يكون موجدا مريدا مختارا.

مثل هذا النظام الذى تنجلى فيه الحكمة والعناية والدقة والإحاطة محال أن ينسب إلى المصادفة ـ

٤٧٨

ثم لا يحتمل : كون ذلك الماء بكليته فيه ، لصغره وخفته ، ولا كان ينبغى ذلك من أسفله.

فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن الله ـ عزوجل ـ كان ينشئ ذلك الماء فيه ، ويحدث من لا شىء ؛ لأن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماء ، ولا من أصله.

فإذا كان قادرا على هذا فإنه قادر على إنشاء العالم من لا شىء سبق ، ولا أصل تقدم.

وكذلك ما أراهم ـ عزوجل ـ من العصا : الثعبان والحية ، لم يكونا من جوهرها ، ولا من أصلها ، ولا تولدها منها ، بل أنشأ ذلك وأبدع ، بلطفه. والله الموفق.

وقوله : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً).

قيل (١) : كانوا اثنى عشر سبطا ؛ لقوله : (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢] وهم بنو يعقوب ؛ فجعل لكل سبط نهرا على حدة ، فانضم (٢) كل فريق إلى أبيهم الذى كانوا منه ، ولم ينضموا إلى أعمامهم وبنى أعمامهم.

ففيه دلالة : أن المواريث لا تصرف إلى غير الآباء إلا بعد انقطاع أهل الاتصال بالآباء.

وفيه دلالة : أن القوم فى الصحارى والبوادى ينزلون مجموعين غير متفرقين ، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عونا لبعض وظهيرا ؛ لأنهم نزلوا جميعا فى موضع واحد ، مجموعين ـ مع كثرتهم وازدحامهم ـ غير متفرقين ولا متباعدين ، وإن

__________________

ـ كما يقول الملحدون فإن المصادفة تضاد النظام وتخالفه كل المخالفة.

محال أن يكون هذا النظام المتناهى فى الدقة من أثر الفوضى والإهمال وأن ينسب إلى عدم الفاعل والموجد ، تلك محالات أزلية يرفض العقل الاقتناع بها والركون إليها وها هى أكثر الآيات الدالة على وجود الخالق العظيم آتية بطريق الاستفهام التقريرى مما يدل على أن الجميع مقرون بوجوده :

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ [فاطر : ٣] (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١] (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٦].

هذه دلائل واضحة يسلم بها العقل متى عرضت عليه لأن فى فطرته الاعتراف بها ، فقد ثبت بهذه الأدلة وبما سبقها من الأدلة العقلية والكونية أن للعالم صانعا مختارا فى إيجاده وكون هذا العالم على هذا الوجه المشاهد بدون اضطرار ولا إيجاب.

ينظر أصول الدين ص (٣٤ ، ٣٣ ، ١٤) ، العقيدة النظامية (١ / ٣٠٩) ، العقيدة النسفية ص (٢٣ ، ٢٥) ، نشر الطوالع ص (١٧٥ ، ١٧٧) ، التعريفات (٨٦) ، المطالب العالية للرازى (١ / ٣٠٩ ، ٣١١) وما بعدها ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل (١ / ٤٧) وما بعدها ، تهافت الفلاسفة ص (٥٠).

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٤٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٠).

(٢) فى أ : فانقسم.

٤٧٩

كان ذلك أنفع لهم ، وأهون عليهم ، من جهة الرعى والربع وسعة المنازل.

وفى الأول : سبق المعنى الذى وصفنا ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ).

أى : موردهم.

وفيه دلالة قطع التنازع ، ودفع الاختلاف من بينهم ؛ لما بين لكل فريق منهم موردا على حدة.

ولو كان مشتركا لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم ، وفى وقوع ذلك بينهم قطع الأنساب والأرحام ، وبالله التوفيق.

وقوله : (كُلُوا).

يعنى : المنّ والسلوى.

وقوله : (وَاشْرَبُوا) من رزق الله ، من الماء الذى أخرج لهم من الحجر ، وكلاهما رزق الله ، الذى ساقه إليهم ، من غير تكلف ولا مشقة.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

قيل (١) : لا تسعوا فى الأرض بالفساد.

ويحتمل : لا تعثوا ، أى : لا تفسدوا ؛ لأن العثوّ هو الفساد نفسه ، كأنه قال : لا تفسدوا فى الأرض ؛ فتكونوا مفسدين.

وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : أول ما أنزل المن ، فعند ذلك قالوا : لن نصبر على طعام واحد ، ثم أنزل السلوى.

وقيل (٢) : كانوا يتخذون من المن القرص ، فيأكلون مع السلوى ، فهو طعام واحد ؛ فقالوا : لن نصبر عليه.

ويحتمل : أن يكون طعامهم فى اليوم مرة ؛ فطلبوا الأطعمة المختلفة. والله أعلم.

وقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٥٤) وعن أبى العالية (١٠٥١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٠).

(٢) ذكره البغوى فى تفسيره بنحوه (١ / ٧٨).

٤٨٠