تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

والتجاوز ، وبعضه قريب من بعض.

وفى الآية : أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه.

والآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء ، ولا إلى التوبة.

فآدم ـ عليه‌السلام ـ دعا بكلمات ، تلقاها منه ؛ فتاب عليه. ولو كان مغفورا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلا وتكلفا ، وبالله التوفيق.

والكلمات هى ما ذكرت فى سورة أخرى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣].

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

أى : قابل التوبة.

وقيل (١) : أى موفق التوبة ، وهادى لها ؛ كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) [غافر : ٣] وقد ذكرنا فى قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] ما احتمل فيه.

(الرَّحِيمُ) بالمؤمنين ، ورحيم بالتائبين.

وقوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً).

ذكر هبوطهم جميعا ؛ فإذا هبطوا فرادى لم يخرجوا من الأمر ، بل كانوا فى الأمر ، فدل أن الجمع فى الأمر ، والذكر ، لا يصيّر الجمع فى الفعل شرطا.

وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً).

أى : ليأتينكم. وهذا جائز فى اللغة.

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

أى : من تبع هداى ، ودام عليه حتى مات ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون وكذلك قوله : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) : فى الدنيا ، (وَلا يَشْقى) [طه : ١٢٣] فى الآخرة ، إذا مات عليه.

وهذه الآية والتى تليها وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

تنقض على الجهمية ؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة والنار ، وانقطاع ما فيهما.

__________________

ـ ينظر : القليوبى (٤ / ٢٠١) ، الآداب الشرعية (١ / ٩٨) ، إحياء علوم الدين للغزالى (٤ / ٣) ، تفسير الألوسى (٢٨ / ١٥٨) ، الجمل (٥ / ٣٨٧) ، مدارج السالكين (١ / ٣٠٥ ، ٣٠٧ ، ٣٠٩).

(١) ذكره القرطبى فى الجامع (١ / ٢٢٢).

٤٤١

فلو كانت الجنة تفنى وينقطع ما فيها ، لكان فيها خوف وحزن ؛ لأن من خاف فى الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه ، وينغصه ذلك ، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى ، فأخبر عزوجل ألا خوف عليهم فيها ؛ أى : خوف النقمة ، ولا حزن ، أى : حزن فوات النعمة.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) دل أنها باقية ، وأن نعيمها دائم ، لا يزول.

وكذلك أخبر عزوجل أن الكفار فى النار خالدون وأن عذابها أليم شديد ، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهان ؛ لأن من عوقب فى الدنيا بعقوبة ، وله رجاء النجاة منها هان ذلك عليه وخف ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل قوله : اذكروا نعمتى التى خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأنبياء ، والملوك ، كقوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠].

ويحتمل (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) يعنى : النجاة من فرعون ، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيى نساءكم ، كقوله تعالى : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...) الآية [الأعراف : ١٤١].

ويحتمل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) من نحو ما أعطاهم ـ عزوجل ـ المن والسّلوى ، وتظليل الغمام وغير ذلك من النعم ، ما لم يؤت أحدا من العالمين ، خصوا بذلك من دون غيرهم.

وقيل : نعمته محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وقت اختلافهم فى الدين ، وتفرّقهم فيما كان عليه من مضى من النبيين ليدلّهم على الحق من ذلك ، ويؤلف بينهم بالبيّنات (١).

__________________

(١) فى أ : بالبيان.

٤٤٢

كما أحوجهم الاختلاف إلى من يقوم (١) بذلك من وجه يعلم صدقه فى ذلك ؛ فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة منه عليهم ، إذ بطاعته نجاتهم ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أى : وجهوا شكر نعمتى إلىّ ، ولا توجهوها إلى غيرى.

فإن كان هذا المراد ، فهم وغيرهم فيه سواء ؛ إذ على كل منعم عليه أن يوجّه شكر نعمه إلى ربه.

وكان الأمر بذكر النعمة ـ والله أعلم ـ أمرا بعرفانها فى القلب أنها منّة ، لا الذكر باللسان ؛ إذ لا سبيل إلى ذكر كل ما أنعم عليه سوى الاعتراف بالعجز عن أداء شكر واحدة منها طول عمره.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي).

قد ذكرنا فيما تقدم أن عهد الله على وجهين :

عهد خلقة : لما جعل فى خلقة كلّ أحد دلائل تدل على معرفته وتوحيده ، وأنه لم يخلقه للعبث ، ولا يتركه سدى.

وعهد رسالة : على ألسن الرسل ؛ كقوله تعالى : (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية [آل عمران : ١٨٧].

وقوله تعالى : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

الذى وعدتكم ؛ وهو الجنة ، كقوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ ...) الآية [المائدة : ١٢].

ويقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أى : أدوا ما فرضت عليكم من فرائض ، ووجّهوا إلىّ شكر نعمتى ، ولا تشكروا غيرى.

ويكون أوفوا بعهدى الذى أخذ على النبيّين بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...)

الآية [آل عمران : ٨١] ، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧] فيكون عهده تبليغ ما بيّن فى كتبهم ؛ من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإقرار به ، والنصر له إذا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

أى : اخشوا سلطانى وقدرتى.

__________________

(١) فى أ : يقول.

٤٤٣

وقيل (١) : اخشوا عذابى ونقمتى.

وقيل (٢) : اخشوا نقض عهدى وكتمان بعث محمد نبيّى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) على نبيّى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن.

(مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

أى : موافقا لما معكم من الكتب ؛ من التوراة ، والإنجيل ، وغيرهما.

وهم قد عرفوا موافقته كتبهم ؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم ، ومقابلة بعض ببعض.

أو يحتمل قوله : (مُصَدِّقاً) أى : موافقا لما معكم من الكتب ، وليس كما قال صنف من الكفرة ـ وهم الصابئون ـ : إن الإنجيل نزل بالرّخص (٣) ، والتوراة نزلت بالشدائد. فقالوا باثنين ؛ لما لم يروا نزول الكتب ـ بعضها على الرّخص وبعضها على الشدائد من واحد ـ حكمة.

فقال عزوجل : (مُصَدِّقاً) أى : موافقا للكتب ، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له ، وإن كان فيه شدائد ورخص ؛ إذ لله أن ينهى هذا عن شىء ، ويأمر آخر ، وينهى فى وقت ، ويأمر به فى وقت ، وليس فيه خروج عن الحكمة أن يأمر أحدا وينهاه فى وقت واحد ، وفى حال واحدة ، وفى شىء واحد.

ثم فى الآية دلالة أن المنسوخ موافق للناسخ ، غير مخالف له ؛ لأن من الأحكام والشرائع ما كانت فى كتبهم ، ثم نسخت لنا ، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف ، وإنه غير موافق.

وكذلك فى القرآن ناسخ ومنسوخ ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه ، كقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن أبى العالية بنحوه (٨١٢) ، والسدى (٨١٣).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٣) تطلق كلمة (رخصة) ـ فى لسان العرب ـ على معانى كثيرة منها :

الإذن فى الأمر بعد النهى عنه : يقال : رخّص له فى الأمر ، إذا أذن له فيه ، والاسم رخصة على وزن (فعلة) مثل (غرفة) ، وهى ضد التشديد ، أى : أنها تعنى التيسير فى الأمور ، يقال : رخّص الشرع فى كذا ترخيصا ، وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله ، قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». وفى الاصطلاح عرفها الغزالى بأنها : عبارة عما وسّع للمكلف فى فعله لعذر عجز عنه مع قيام السبب المحرّم.

ينظر : المستصفى (١ / ٦٣) ، لسان العرب ، تاج العروس (رخص).

٤٤٤

وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : لا تكونوا أول قدوة يقتدى بكم فى الكفر.

وقيل : أى لا تكونوا أول كافر بما آمنتم به ؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به.

وقيل : هم أول من التقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه ظهر بين أظهرهم ؛ فلو كفروا لكانوا أول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغيرهم ؛ إذ كانوا أعرف به ، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين ؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا علم.

فيكون عليهم ـ لو كفروا ـ ما على أول من كفر ـ ولا قوة إلا بالله ـ مع ما يلحقهم فيه وصف التعنّت والتمرد ، والله الموفق.

وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

قيل : بحجتى.

قال الحسن : الآيات فى جميع القرآن هى الدين ؛ كقوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦ ، ١٧٥].

وأما عندنا فهى الحجج ، وقد ذكرنا أن اسم الشراء قد يقع من اختيار شىء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء.

وقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).

أى : اتقوا عذابى ونقمتى ، ويحتمل : سلطانى وقدرتى. وقد ذكرناه.

وقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : لا تشتروا بالحق الباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تلبسوا ؛ هو تلبيس الحق بالباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تخلطوا.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تشبهوا الحق بالباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : تكتموا.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تمحوا نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تثبتوا غيره. وكله يرجع إلى واحد.

٤٤٥

ثم (الْحَقَ) يحتمل وجوها :

يحتمل : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته.

ويحتمل الحق : القرآن.

ويحتمل الحق : الإيمان.

والباطل : هو الظلم والكفر ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

لما ذكر هو ونعته فى كتابهم أنه حق ؛ إن كان محمدا عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ، أو القرآن والإيمان ، لكن تعاندون وتكابرون.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة أمرا بقبول الصلاة (١) المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما ؛ كقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، ليس هو إخبارا عن إقامة فعلهما ، ولكن القبول لهما والإيمان بهما ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة ، وزكاتهم زكاة.

قال : كونوا فى حال تكون صلاتكم صلاة ، وزكاتكم زكاة فى الحقيقة ؛ لأن الآية نزلت فى بنى إسرائيل وهم كانوا أهل كتاب ، وكانوا يصلّون ويصّدقون ، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن لله ، لما لم يأتوا بإيمانهم فأمروا أن يأتوا بالإيمان ؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة فى الحقيقة.

ويحتمل : الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بإقامتها بأسبابها وشرائطها (٢) من نحو

__________________

(١) فى أ : الصلوات.

(٢) قسم الحنفية ، والمالكية ، والشافعية شروط الصلاة إلى : شروط وجوب ، وشروط صحة ، وزاد المالكية قسما ثالثا هو : شروط وجوب وصحة معا.

أما شروط الوجوب : فهى : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، على تفصيل للمذاهب فيها :

وأما شروط الصحة فهى :

الطهارة الحقيقية : وهى طهارة البدن والثوب والمكان عن النجاسة الحقيقية ؛ لقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] وإذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى ، ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلى عنك الدم وصلّى» ، فثبت الأمر باجتناب النجاسة ، والأمر بالشىء نهى عن ضده ، والنهى فى العبادات يقتضى ـ

٤٤٦

الطهارة واللباس ، وإخلاص النية له ، وذلك راجع إلى المؤمنين.

ويحتمل : الأمر بالصلاة والزكاة أمرا لمعنى فيهما ، وهو الخضوع والطاعة له ، والثناء عليه ، وذلك على كل أحد أن يخضع لربه ويطيعه ولا يعصيه ، وكذلك الزكاة على كل أحد أن يزكى نفسه عن جميع القاذورات ، ويحفظها ، ويصونها عن جميع ما يضر به وذلك فرض على كل واحد ، وبالله التوفيق.

وقوله عزوجل : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

قيل فيه بوجوه :

__________________

ـ الفساد. وأما طهارة مكان الصلاة ؛ فلقوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥] وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] ؛ فهى تدل بدلالة النص على وجوب طهارة المكان ، كما استدل بها على وجوب طهارة البدن كما سبق. ولما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه «نهى عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة ومعاطن الإبل وقوارع الطريق والحمام والمقبرة» ... إلخ ، ومعنى النهى عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة كونهما موضع النجاسة.

الطهارة الحكمية : وهى طهارة أعضاء الوضوء عن الحدث ، وطهارة جميع الأعضاء عن الجنابة ؛ لقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقبل صلاة بغير طهور» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحت كل شعرة جنابة ؛ فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة» ، والإنقاء هو التطهير.

ستر العورة : لقول الله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : المراد به : الثياب فى الصلاة. ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ؛ ولأن ستر العورة حال القيام بين يدى الله تعالى من باب التعظيم.

استقبال القبلة : لقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٥٠] وقال ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : «بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة».

العلم بدخول الوقت : لقول الله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمنى جبريل عند البيت مرتين ، فصلى الظهر فى الأولى منهما حين كان الفىء مثل الشّراك ، ثم صلى العصر حين كان كل شىء مثل ظله ، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شىء مثله لوقت العصر بالأمس ، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شىء مثليه ، ثم صلى المغرب لوقته الأول ، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ، ثم التفت إلى جبريل وقال : يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين». وقد اتفق الفقهاء على أنه يكفى فى العلم بدخول الوقت غلبة الظن.

ينظر : بدائع الصنائع (١ / ١١٦) ، حاشية ابن عابدين (١ / ٢٧٠) ، حاشية الدسوقى (١ / ٢١١) ، مغنى المحتاج (١ / ١٨٤) ، كشاف القناع (١ / ٢٦٣) ، تفسير القرطبى (٧ / ١٨٩).

٤٤٧

قيل (١) : إن اليهود كانوا يصلون ولا يركعون ؛ فأمروا أن يصلوا لله ويركعوا فيها على ما يفعله المسلمون.

وقيل : إنّهم كانوا يصلون وحدانا لغير الله ؛ فأمروا بالصلاة مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالجماعة.

وفيه أمر بحضور الجماعة.

وقيل (٢) : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أى : كونوا مع المصلين يعنى المسلمين ، ولا تخالفوهم فى الدين والمذهب ، أى : اعتقادا.

وقوله عزوجل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعنى : الأتباع والسفلة باتباعكم ، وتعظيمكم لعلمكم (٣) ، وتلاوتكم الكتاب ، (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ولا تأمرونها باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعظيمه ، لعلمه ، ولنبوته ، ولفضل منزلته عند الله؟!

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ).

أى : تجدون فى كتابكم أنه كذلك.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أنّ ذا لا يصحّ؟!.

وقيل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعنى : الفقراء والضعفة بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تأمرون الأغنياء وأهل المروءة بالإيمان به ، لما تخافون فوت المأكلة ، والبر ، وانقطاعه عنكم.

ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين ، ألا يأمر أحد أحدا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثله ، بل الواجب أن يبدأ بنفسه ، ثم بغيره ، فذلك أنفع وأسرع إلى القبول.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن ذلك فى العقل لازم أن يجعل أول السعى فى إصلاح نفسه ، ثم الأمر لغيره. والله أعلم.

وقوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : أن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة فى الدنيا ؛ لأن الخطاب كان

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٣) فى أ : لعملكم.

٤٤٨

للرؤساء منهم بقوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) والله أعلم.

ويحتمل : أن اصبروا على ترك الرئاسة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والانقياد والخضوع له ، لما بيّن لكم من الثواب فى الآخرة لمن آمن به وأطاعه ، وترك الرئاسة له.

ويحتمل : أن اصبروا على المكاره وترك الشهوات ؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك ؛ لما جاء : «حفت الجنة بالمكاره ، والنار بالشهوات» (١).

ويحتمل : أن استعينوا بالصوم والصلاة على أدائهما.

لكن هذا يرجع إلى المؤمنين ، والآية نزلت (٢) فى رؤساء بنى إسرائيل ، دليله قوله : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ).

وإنما يصلح هذا التأويل فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ...) الآية [البقرة : ١٥٣].

وقوله عزوجل : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ).

يخرّج ـ والله أعلم ـ على ما ذكرنا من ترك الرئاسة ، والمأكلة فى الدنيا ، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين ، فإنها غير كبيرة ، ولا عظيمة عليهم.

ويحتمل : أنّ ترك الرئاسة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد له ، والخضوع ـ لثقيل إلا على الخاشعين ؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم ، ولا يكبر.

ويحتمل أن يقال : إن الصبر على الطاعة ، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة باب صفة نعيمها ، حديث (١ / ٢٨٢٢) والترمذى (٤ / ٦٩٣) ، كتاب صفة الجنة ، باب ما جاء «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» ، حديث (٢٥٥٩) ، وأحمد (٣ / ١٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٨٤) ، وأبو يعلى (٦ / ٣٣) ، رقم (٣٢٧٥) ، وابن حبان (٧١٦ ، ٧١٨) ، والبيهقى فى (الشعب) (٧ / ١٤٧) رقم (٩٧٩٥) والخطيب فى (تاريخ بغداد) (٨ / ١٨٤) ، والبغوى فى (شرح السنة) (٧ / ٣٣١) من حديث أنس بن مالك به مرفوعا ، وقال الترمذى : حسن صحيح غريب.

وله شاهد من حديث أبى هريرة :

أخرجه البخارى (١١ / ٣٢٧) كتاب الرقاق ، باب حجبت النار بالشهوات ، حديث (٦٤٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) ، كتاب الجنة ، حديث (١ / ٢٨٢٣) ، وأحمد (٢ / ٢٦٠) ، وابن حبان (٧١٩) ، كلهم من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة به.

وعند البخارى : (حجبت) بدلا من (حفت).

وأخرجه القضاعى فى مسند الشهاب (٥٦٧) من طريق مالك عن سمى عن أبى صالح عن أبى هريرة به.

(٢) هذا يفهم من سياق الآية السابقة فإن ابن جرير أخرجه عن ابن عباس (٨٤٠ ، ٨٤١) أن الخطاب لبنى إسرائيل ، وبمثله عن السدى (٨٤٢) وقتادة (٨٤٣) وابن زيد (٨٤٥).

٤٤٩

على المؤمنين خاصة ، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم.

وقيل : إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود ، والله أعلم.

وقوله : (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (١) : الخاشع ؛ هو الخائف بالقلب.

وقيل (٢) : الخاشع ؛ المتواضع.

وقيل (٣) : الخاشع ـ هاهنا ـ المؤمن.

وقال الحسن (٤) : الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب.

وقوله عزوجل : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ).

يعنى : يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم.

وقوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

أى : سيعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه.

قال صاحب المنطق : الظن هو الوقوف على أحد طرفى اليقين ، والشك هو الوقوف على أحد طرفى الظن (٥). والهمّة بين هذين.

__________________

(١) قاله أبو العالية بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٨٥٨).

(٢) قاله مقاتل بن حيان كما فى تفسير البغوى (١ / ٦٩).

(٣) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٨٥٩ ، ٨٦٠) وعبد بن حميد كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٢).

(٤) ذكره البغوى فى تفسيره بنحوه (١ / ٦٩).

(٥) الشك لغة : نقيض اليقين ، وجمعه : شكوك. يقال : شك فى الأمر ، وتشكّك : إذا تردد فيه بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر ، قال الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] أى غير مستيقن ، وهو يعم حالتى الاستواء والرجحان. وفى الحديث الشريف : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» قيل : إن مناسبته ترجع إلى وقت نزول قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] حيث قال قوم ـ إذ ذاك ـ : شك إبراهيم ولم يشك نبينا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أى : أنا لم أشك مع أننى دونه فكيف يشك هو؟!

والشك فى اصطلاح الفقهاء : استعمل فى حالتى الاستواء والرجحان على النحو الذى استعملت فيه هذه الكلمة لغة فقالوا : من شك فى الصلاة ، ومن شك فى الطلاق ، أى : من لم يستيقن ، بقطع النظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما. ومع هذا فقد فرقوا بين الحالتين فى جزئيات كثيرة.

والشك فى اصطلاح الأصوليين : هو استواء الطرفين المتقابلين ؛ لوجود أمارتين متكافئتين فى الطرفين ، أو لعدم الأمارة فيهما.

ينظر : النهاية فى غريب الحديث (٢ / ٤٩٥) ، نهاية السول فى شرح منهاج الأصول للبيضاوى (١ / ٤٠) ، لسان العرب والمصباح المنير (شك).

٤٥٠

قوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : (أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن الناس كانوا على فترة من الرسل ، وانقطاع من الوحى ، واختلاف من الأديان والمذاهب ؛ فبعث الله ـ تعالى ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليجمعهم ويدعوهم إلى دين الله ، ويؤلف بينهم ، ويخرجهم من الحيرة والتيه ، وذلك من أعظم نعمة أنعمها عليهم ، وبالله التوفيق.

وذلك أيضا يحتمل فيما تقدم من الآيات.

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ...) الآية [البقرة : ٤٠].

وقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [البقرة : ٤١] يعنى : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعهده فى الأرض رسوله ، كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) إلى قوله : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران : ٨١] أى : عهدى.

وعلى ذلك قوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١] يعنى : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [البقرة : ٤٢] يعنى : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣] أمكن تخريج هذه الآيات كلها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل أيضا قوله : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الوجوه التى ذكرنا.

أحدها : أن جعل منكم الأنبياء والملوك ؛ كقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠].

كما قيل : إن كل نبى من لدن يعقوب إلى زمن عيسى عليه‌السلام كان من بنى إسرائيل.

ويحتمل : ما آتاهم ـ عزوجل ـ من أنواع النعم ما لم يؤت أحدا من العالمين ؛

٤٥١

كقوله : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] من المن ، والسلوى ، وتظليل الغمام ، وامتداد اللباس على قدر القامة والطول.

كما قيل : إن ثيابهم كانت تزداد وتمتد عليهم على قدر ما تزداد قامتهم ، وكانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ ، وذلك مما لم يؤت أحدا سواهم.

ويحتمل أيضا قوله : (نِعْمَتِيَ) أى : النجاة من فرعون وآله ؛ كقوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) الآية [البقرة : ٤٩].

وقوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

قيل (١) : فضّلوا على جميع من على وجه الأرض ؛ على الدوابّ بالجوهر ، وعلى الجن بالرسل ، وعلى البشر بالإيمان.

ويحتمل تفضيلهم على العالمين وجوها أيضا :

ما ذكرنا من بعث الأنبياء منهم.

والنجاة من أيدى العدو.

وإهلاك العدو وهم يرونه.

وفرق البحر بهم ، والنجاة منه ، وإهلاك العدو فيه.

وذلك من أعظم النعم : أن ترى عدوّك فى الهلاك وأنت بمعزل منه آمن.

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إلى قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

يحتمل : فضّل أوائلهم.

وفى الآية وجهان على المعتزلة :

أحدهما : قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، وعندهم : أن جميع ما فعل مما عليه الفعل ، ولو فعل غيره لكان يكون به جائزا ، فإذا كان تركه بفعله جائزا ففعله حق عليه.

ولا أحد يكون بفعل ما لا يجوز له الترك منعما على أحد ؛ فثبت أن كان ثمّ منه معنى زائد خصهم به ، وأن ليس التخصيص محاباة كما زعمت المعتزلة ، ولا ترك الإنعام بخل كما قالوا.

والثانى : قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، فلو لم يكن منه إليهم فضل معنى ، لم يكن لهم تفضيل على غيرهم ؛ فثبت أن كان فيهم ذلك.

ومن قول المعتزلة : أن ليس لله أن يخص أحدا بشيء إلا باستحقاق يفعله ، وبذلك هم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة بنحوه (٨٦٩) وأبى العالية (٨٧٠) ومجاهد (٨٧١ ، ٨٧٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٣).

٤٥٢

فضّلوا أنفسهم على العالمين ، لا هو ، فكيف يمنّ عليهم بذلك؟! ولا قوة إلا بالله.

مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أن يكون لهم الفضل فى الدين أولا.

فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل.

وإن كان ثبت أن ليس من الحق عليه التسوية بين الجميع فى أسباب الدين.

وقوله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً).

الآية ـ والله أعلم ـ كأنّها مؤخّرة فى المعنى وإن كانت فى الذكر مقدمة ؛ لأنه قال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، ثم ذكر الأفضال والمنن فقال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) الآية [البقرة : ٤٩] ، وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) ، وقوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠].

ذكّرهم ـ عزوجل ـ عظيم نعمه ومننه عليهم ؛ ليشكروا له ، وليعرفوا أنها منّة ، وأنه فضل منه.

ثم حذّرهم ـ جل وعزّ ـ فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ...) الآية ؛ ليكونوا على حذر ؛ لئلا يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة من الهلاك وأنواع العذاب بعد الأمن ، والتوسع عليهم ، كقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) إلى قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) الآية [الأنعام : ٤٣ ـ ٤٤].

ثم فى الآية دليل لقول أبى حنيفة وأصحابه : إن الولد يصير مشتوما مقذوفا بشتم والديه ؛ لما عيرهم ـ جل وعزّ ـ بصنع آبائهم بقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٥١] وهم لم يتخذوا العجل ، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم.

وكذلك ذكر ـ عزوجل ـ صنعه ومننه عليهم ، من نحو النجاة من الغرق ، وإخراجهم من أيدى العدو ، وفرق البحر بهم ، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم ، لكن ذكّرهم ـ جل وعزّ ـ عظيم مننه على آبائهم ؛ ليشكروا له على ذلك ، وكذلك عيّرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل ، وإظهار الظلم ؛ ليكونوا على حذر من ذلك ، والله أعلم.

وفى قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أى : بما كان إنعامى عليهم باتباعهم الرسول موسى ـ عليه‌السلام ـ وطاعتهم له ، فاتّبعوا اسم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطيعوا له ، ولا تتركوا اتباعه.

وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً).

قيل : أى لا تؤدى نفس عن نفس شيئا ؛ كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ...) الآيات [عبس : ٣٤ ـ ٣٥].

٤٥٣

وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : لا يكون لهم شفعاء يشفعون ؛ كقوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) [الشعراء : ١٠٠] وكقوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) [السجدة : ٤].

وقيل : لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم ؛ كقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أى : لا يؤذن لهم بالشفاعة ؛ كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

وقوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

والعدل : هو الفداء ، إما من المال ، وإما من النفس.

وذلك أيضا يحتمل وجهين :

يحتمل : ألا يكون لهم الفداء ، على ما ذكرنا فى الشفيع.

ويحتمل : أن لو كان لا يقبل منهم ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) [المائدة : ٣٦].

ثم الوجوه التى تخلص المرء فى الدنيا إذا أصابته نكبة بثلاث :

إما بفداء يفدى عنه ـ مالا أو نفسا ـ وإما بشفعاء يشفعون له ، وإما بأنصار ينصرون له ؛ فيتخلص من ذلك.

فقطع ـ عزوجل ـ عنهم جميع وجوه التخلص فى الآخرة.

والآية نزلت (١) ـ والله أعلم ـ فى اليهود والنصارى ، وهم كانوا يؤمنون بالبعث ، والجنة ، والنار ؛ كقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤].

ولذلك ذكر اسم الفداء والشفيع ، وما ذكر ، وأما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك.

وقوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ).

قيل : آل الرجل : شيعته ؛ ولذلك قيل : آل رسول الله : قرابته.

وقيل (٢) : كل مؤمن فهو من آله ، وعلى ذلك الأمر بالصلاة عليه وعلى جميع من آمن به.

__________________

(١) وهذا يفهم من سياق الكلام.

(٢) قاله القرطبى فى تفسيره (١ / ٢٦٠) بنحوه.

٤٥٤

وقوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : يقصدونكم أشد العذاب. وذلك يرجع إلى الاستعباد ، والاستخدام بأنفسهم.

وقيل (١) : يسومونكم ، يذيقونكم أشد العذاب ، وذلك يرجع إلى ما يسوءهم من تذبيح الأبناء وتقتيلهم ، كقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩ ، إبراهيم : ٦] أى : يقتلون أبناءكم.

وقوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ).

يحتمل أيضا وجهين :

يحتمل : يستحيون من الحياء ، أى : استحيوا قتل النساء ، لما لا يخافهن.

ويحتمل من الإحياء ، أى : تركوهن أحياء فلم يقتلوهن.

وقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

قيل (٢) : البلاء ـ ممدود ـ هو النعمة ، كأنه قال : فيما ينجيكم من فرعون وآله نعمة عظيمة.

وقيل (٣) : البلا ـ مقصور ـ هو الابتلاء والامتحان ؛ كأنه قال : فى استعباده إياكم واستخدامه امتحان عظيم.

وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قيل (٤) : فرقنا ، أى : جعلنا لكم البحر فرقا ، أى : طرقا تمرون فيه.

وقيل : فرقنا ، أى : جاوزنا بكم البحر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

كان الوعد لهم ـ والله أعلم ـ وعدين :

أحدهما : من الله ـ عزوجل ـ بصرف موسى إليهم مع التوراة ، كقوله : (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) [طه : ٨٦] أى : صدقا.

ووعد آخر ، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأس أربعين ليلة ، كقوله :

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٠٩) والبغوى (١ / ٦٩) ، والقرطبى (١ / ٢٦١).

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٠٠) والسدى (٩٠١) ومجاهد (٩٠٢ ، ٩٠٣) وابن جريج (٩٠٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٤).

(٣) قاله البغوى (١ / ٧٠).

(٤) أخرجه ابن جرير (٩٠٥) عن السدى بنحوه وعزاه السيوطى فى الدر (١ / ١٣٤) لعبد بن حميد عن قتادة.

٤٥٥

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) [طه : ٨٦].

وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ).

يحتمل وجهين :

(اتَّخَذْتُمُ) : أى عبدتم ؛ فاستوجبوا ذلك التعبير واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه.

ويحتمل : اتخذتم العجل إلها ؛ فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلها ، كقوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨].

وهذا كان أقرب.

وقيل : اتخذتم ، أى : صنعتم ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

قيل فى الظلم بوجوه :

قيل : إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم.

وقيل : إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم.

وهاهنا ـ حيث فعلوا ما لم يؤذن لهم ـ نسبهم إلى الظلم ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم.

وقيل (١) : إن الظلم هو وضع الشىء فى غير موضعه ؛ فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية فى غير موضعها ، وهذا كأنه ـ والله أعلم ـ أقرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) الآية.

ينقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يزعمون أن الله إذا علم من أحد أنّه يؤمن به فى آخر عمره ـ وإن طال ـ أو يكون من نسله من يؤمن إلى آخر الأبد ، لم يكن له أن يميته ، ولا له أن يقطع نسله.

فإذا كان على الله أن يبقيهم ، ولا يقطع نسلهم ، لم يكن للامتنان عليهم ، ولا للإفضال وطلب الشكر منهم ـ معنى ؛ إذ فعل ـ جل وعزّ ـ ما عليه أن يفعل. وكل من فعل ما عليه أن يفعل لم يكن فعله فعل امتنان ، ولا فعل إفضال ؛ لأنه ـ عزوجل ـ منّ عليهم بالعفو عنهم ، حيث لم يستأصلهم ، وتركهم حتى تناسلوا وتوالدوا ، ثم وجه الإفضال والامتنان على هؤلاء ـ وإن كان ذلك العفو لآبائهم ؛ لأنه لو أهلك آباءهم وقطع تناسلهم انقرضوا وتفانوا ، ولم يتوالدوا ؛ فالمنّة عليهم حصلت ؛ لذلك طلبهم بالشكر له ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٢٣).

٤٥٦

فإذا كان هذا ما وصفنا دلّ أن ليس على الله أن يفعل الأصلح لهم فى الدين (١) ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) ذهب أهل السنة إلى : أن الأصلح للعبد غير واجب على الله تعالى ، فيجوز ترك هذا الأصلح والعدول عنه إلى غيره إذا كانت هناك حكمة تقتضى هذا الترك كما هو مذهب الماتريدية القائلين : إن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الحكمة ؛ لأن خلو الفعل عن مطلق الحكمة عبث يتنزه الله تعالى عنه ، فمراعاة الحكمة لا بد منها عندهم لكنهم يتأدبون مع الله تعالى فلا يعبرون عن مرادهم بقولهم (يجب) كما أنهم لا يقولون بوجوب مراعاة حكم خاصة.

أما الأشاعرة فيقولون : يجوز لله ـ سبحانه وتعالى ـ ترك الأصلح مطلقا ولو لم تقتض الحكمة تركه لأن الله لا يجب عليه شىء ، لا حكم خاصة ، ولا مطلق الحكم ، بخلاف الماتريدية يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.

فإن قيل : كيف يقول الماتريدية ذلك مع أنهم صرحوا أيضا بأن الله لا يجب عليه شىء.

فالجواب : أنهم إنما قالوا ذلك لأنهم ينفون الوجوب فى الخصوصيات من اللطف والأصلح للعبد والثواب والعقاب ، فلا ينافى أنهم يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.

هذا ولأهل السنة خمسة أدلة يستدلون بها على مذهبهم من عدم وجوب الأصلح على الله عزوجل :

الدليل الأول : أن الأصلح ليس بواجب على الله ، وإلا لما خلق الكافر الفقير المعذب فى الدنيا والآخرة ، قال الشيخ صالح شرف :

ونوقش هذا الدليل : بأن قولهم «الفقير المعذب فى الدنيا» لا حاجة إليه فى الدليل لأن الخصم لا يقول بوجوب الأصلح للعبد فى الدنيا.

ثم إن هذا الدليل لا يلزم جمهور البصريين من المعتزلة ؛ لأن مذهبهم أن ما فعله الله عزوجل بالكافر من خلقه وبقائه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين هو الأصلح له فى دينه ، لكن هذا الدليل يلزم الجبائى فقط ؛ لأنه يقول : إن الأصلح للكافر عدم خلقه أو إماتته وإن شئت إلزام جمهور البصريين فقل فى الدليل : لو كان الأصلح واجبا على الله لما أمات الطفل أو أجن العاقل.

الدليل الثانى : أن الأصلح لو كان واجبا على الله لترتب عليه ألا يكون لله ـ عزوجل ـ منة على العباد ولما استحق الشكر على الهداية وإفاضة أنواع الخيرات ، لكن هذا باطل لأن الله ـ عزوجل ـ قد من على المؤمنين بقوله (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤] وقال أيضا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) [الحجرات : ١٧] وقال (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ؛ فلما ثبتت المنة علينا من الله عزوجل وبان أنه يستحق الشكر بطل القول بوجوب الأصلح عليه تعالى ؛ لأنه لو كان واجبا عليه ، لما أمكنه أن يتركه ، والفاعل لما لا يقدر على تركه لا يستحق أن يشكر عليه.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلى :

أولا : أن قوله : «وإفاضة أنواع الخيرات» لا حاجة إلى ذكره فى الدليل لأن هذا متعلق بالدنيا ، وأجيب عن هذا بأن الزيادة على الدعوى لا تضر إنما المضر نقص الدليل. ونوقش الدليل ثانيا بأن المنة واستحقاق الشكر لا ينافيان وجوب فعل الأصلح فيكون فعل الأصلح واجبا على الله ، ويمن ويشكر عليه ، بدليل أن الوالد شفقته على أولاده واجبة لا يمكنه تركها ويمن عليهم ويستحق منهم الشكر.

وأجيب عن ذلك بأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الوالد له حالتان : شفقة راجعة إلى أصل طبعه وجبلته لا يمكن تركها ، وشفقة راجعة إلى اختياره يمكنه تركها ، وهو لا يمن على ولده بالنوع الأول ولا يستحق شكرا على حصول هذه الشفقة الجبلية منه لأنها لازمة لذاته لا يمكنه تركها ، ـ

٤٥٧

__________________

ـ وأما الشفقة الراجعة إلى اختياره فإنها إن وجدت صح له أن يمن على أولاده بها ، ويستحق منهم الشكر على حصولها.

وحالة الأصلح الواجب على الله مثل الشفقة الجبلية ؛ لأن كلا منهما لازم للذات لا يمكن تركه فلا يمن الفاعل ولا يستحق شكرا ، وبذلك تم الدليل.

وهذا الدليل ملزم للبصريين جميعا ؛ لأنه مفروض فى مؤمن هداه الله إلى الإيمان ، فقد فعل الله به الأصلح الواجب على كلا المذهبين.

الدليل الثالث : لو كان الأصلح واجبا على الله لما كان امتنانه على النبى فوق امتنانه على أبى جهل لأن الله ـ عزوجل ـ قد فعل بكل منهما غاية مقدوره بأن عرضهما للنعيم بعد خلقهما وبقائهما سليمين فهما مستويان فى هذا ، والله فعل الواجب عليه فى حقهما فلم يصح أن تكون هناك منة أكثر على النبى ، هذا باطل لأن الله تعالى قد امتن على النبى أكثر بنص القرآن.

وقد نوقش هذا الدليل أولا : بأنه لا لزوم له بعد الدليل الثانى ؛ لأن الدليل الثانى نفى أصل المنة على مقتضى مذهب الخصوم فلا تكون هناك كثرة منة من باب أولى.

ويجاب عن هذه المناقشة بأن هذا الدليل مبنى على تسليم أصل المنة فهو دليل مستقل بغض النظر عن الدليل الثانى.

ونوقش هذا الدليل ثانيا بأن كثرة الامتنان على النبى لكثرة العطاء الواصل إليه من إرساله إلى الخلق وكونه خاتم المرسلين.

ويجاب عن هذه المناقشة بأن الكلام فى الأصلح الواجب عليه من التعريض لأعلى المنزلتين فلا تكون هناك منة ولا كثرة من باب أولى ، يقول الشيخ صالح شرف : ولكن للمعتزلة أن يقولوا : إن هذه الكثرة على الرسالة التى هى غير أصلح لا على التعريض الواجب عليه. والحق أن هذا الدليل لا يتم ، وعلى فرض تمامه هو ملزم لغير الجبائى لأن الجبائى ملزم بخلق نفس أبى جهل.

الدليل الرابع : لو كان يجب على الله تعالى فعل الأصلح لما كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضراء والبسط فى الخصب والرخاء معنى ، وهذا باطل ، فبطل ما أدى إليه. وقد نوقش هذا الدليل بما يلى :

أولا : إن قوله (والبسط) زيادة فى الدليل.

ثانيا : إن العصمة ليست من الأصلح الواجب ؛ لأنه على مذهب الجبائى الأصلح الواجب هو الإيمان ، وأما على مذهب جمهور البصريين فالأصلح الواجب هو خلق العبد وبقاؤه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين ، فالعصمة أمر زائد على الأصل الواجب ؛ فيصح طلبها نعم إن التوفيق الذى هو خلق الهداية فى العبد أصلح للعبد فى دينه فيجب على الله فلا معنى لطلبه لأنه حاصل على مقتضى مذهب الجبائى.

إنه ينبغى ألّا يحتجّ بهذا الدليل على المعتزلة ؛ لأنهم لا يقولون بالدعاء ولا ينفعه ، ومن ثم فإن الاحتجاج عليهم بهذا الدليل هو احتجاج بما لا يسلمونه ، أي : أن المحتج يحتج بما يسلمه هو ويراه صحيحا ، لا ما يراه خصمه ويسلم به. والأولى فى الاستدلال أن يكون بما يسلم به الخصم.

وقد أجيب عن هذه المناقشة بأنه لما ثبت بالدليل القاطع نفع الدعاء ، لزم أن يكون نفعه مذهبا للخصم ولا عبرة بعدم قيام النصوص المؤيدة له بإنكارهم.

الدليل الخامس : استدل أهل السنة كذلك على مذهبهم بأن الأصلح لو كان واجبا على الله لما بقى فى قدرة الله تعالى شىء بالنسبة إلى مصالح العباد ، لأن الله تعالى بذلك يكون قد أتى بالواجب عليه ولا يستطيع أن يفعل خلافه ، وهذا باطل ؛ لما فيه من تحديد القدرة والمقدورات وأن القدرة لا يمكنها أن ـ

٤٥٨

__________________

ـ تفعل خلاف هذا الأصلح. يقول الشيخ صالح شرف : ولكن للمعتزلى أن يقول إنه لا تحديد للقدرة لأن مصالح العباد تتجدد بخلقهم فمصالحهم التى هى متعلق القدرة متجددة بتجدد خلقهم ، ولا يضير القدرة ألا تتعلق بالمستحيل لأنه ليس من وظيفتها. وهذا الدليل على فرض صحته ملزم للبصريين جميعا.

المذهب الثانى : مذهب معتزلة بغداد : وهو أنه يجب على الله الأصلح فى الدين والدنيا ، بمعنى الأوفق للحكم والمصالح لا بمعنى الأنفع للعبد. وبناء على هذا يجوز عندهم أن يترك الأنفع للعبد مراعاة للحكمة ، وأفعاله تعالى لا بد وأن توافق الحكم والمصالح ، فهم على هذا لا يخاصمون الماتريدية فى قولهم وما هو الأصلح للعبد فليس ذلك بواجب على الله تعالى لأنهم لا يوجبون الأصلح بالنسبة للعبد ، فهم ينطقون بهذه الدعوى كما ينطق بها الأشعرى والماتريدية ، إذ إن هؤلاء جميعا قد اتفقوا على عدم وجوب الأصلح للعبد بمعنى الأنفع له ، وأما الأصلح بمعنى الأوفق للحكمة بالنسبة للعباد جملة واحدة فيجب عند معتزلة بغداد ، ولا بد منه عند الماتريدى ولا يجب عند الأشعرى كما لا يجب الأصلح بمعنى الأنفع للعبد.

ومن هذا يتبين أنه لا خصومة بين الماتريديين والبغداديين ولا خلاف بينهم إلا فى التعبير الموهم عند البغداديين

المذهب الثالث : مذهب الجبائى يرى الجبائى ـ وهو أحد معتزلة البصرة ـ أن الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى الدين على حسب علم الله تعالى واجب عليه فأوجب على الله ما فيه نفع للعبد فى دينه ، فما علم أنه ينفع العبد فى دينه من الإيمان وجب عليه فعله ، وما علم أنه غير نافع له فى دينه من الكفر وجب عليه تركه ويستحيل عليه فعله.

وقد اعترض على مذهب الجبائى هذا بخلق الكافر لأن الكفر ليس فيه نفع للعبد فى دينه فكان يجب على الله عدم خلقه ، أو خلقه ثم إماتته طفلا ، أو سلب عقله إذ كان الخلق أشرف من العدم.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأجوبة :

أحدها : أن للجبائى أن يقول : إن الأصلح واجب على الله إذا لم يوجب تركه حفظ أصلح آخر بالنسبة إلى شخص آخر ، أما إذا كان ترك الأصلح مستلزما لحفظ أصلح آخر فإنه يجوز تركه ، فربما يكون موت الكافر صغيرا موجبا لكفر أبويه أو إخوته ، فلم يفعل الأصلح به من الإماتة نظرا للأصلح بالنسبة لأبويه أو إخوته ، وأيضا ربما يخرج الله من نسل الكافر صلحاء ، فرعاية لأصلح كثيرين وجب فوت الأصلح له.

وفى هذا يقول الشيخ صالح شرف : غير أن هذا الجواب لا ينفع الجبائى لأن مذهبه يقرر ربط الأصلح بالنسبة للعبد نفسه ، فترك الأصلح فى حقه مراعاة لأصلح آخر فى حق غيره ظلم.

الجواب الثانى أن الجبائى لا يقول بأن الإبقاء وإيصال النفع واجب على الله تعالى ، حتى يرد ما عليه ذلك الاعتراض ، بل الذى يقول به الجبائى هو أن الواجب على الله تعالى هو اللطف والتمكين والإقدار على الأصلح ؛ كإعطاء العقل ، وإرسال الرسل ، وذلك حاصل للكافر ، وكل ذلك نافع له فى دينه. يقول الشيخ صالح شرف : ولكن هذا الجواب أيضا لا ينفع الجبائى ؛ لأن وجوب اللطف على الله أمر آخر غير وجوب الأصلح عند معتزلة البصرة ، إذ اللطف عندهم هو الفعل المقرب إلى الطاعة المبعد عن المعصية ، كبعثة الأنبياء وهذا غير الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى دينه مثل إيمانه. ولكن كيف يقال إن هذا مذهب الجبائى وهو يعلم أن الدنيا مملوءة بالكفر والفسوق؟ وكيف يحرر مذهبه ضد ما هو مشاهد؟ والجواب أن هذا هو المنقول عنه ويصح أن يكون الخطأ فى النقل.

الرابع مذهب جمهور معتزلة البصرة : حيث ذهبوا إلى أنه يجب على الله سبحانه وتعالى الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى دينه هذا الأنفع الواجب على الله تعالى للعبد ، قد حددوه بأنه خلق العبد ـ

٤٥٩

__________________

ـ وبقاؤه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين من النعيم المقيم ؛ وأما الكافر فمن نفسه وعمله بقدرته بناء على مذهبهم من أن العبد يخلق أفعال نفسه ، وعلى ذلك لا يلزمون بالكافر لأن الله فعل به الأصلح من خلقه وبقائه سليم الحواس وتعريضه للنعيم ، غير أنهم يلزمون بمن مات صغيرا أو جن بعد البلوغ ؛ لأن ذلك ليس أصلح له ، فكان يجب على الله عدم فعله على مذهبهم ، وهذا المذهب أيضا منقول عنهم.

أدلة المعتزلة :

استدل المعتزلة بأنه لو جاز لله تعالى أن يترك الأصلح للعبد ، لترتب على هذا أن يجوز على الله ـ تعالى ـ بعض صفات النقص كالجهل والبخل والسفه والعبث ، وهذه الصفات محالة فى حق الله ـ تعالى ـ فهو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، فيستحيل بالتالى ما أدى إليها من جواز ترك الأصلح ، ووجهوا استدلالهم هذا بأن ترك الأصلح إن كان لعدم القدرة عليه لزم العجز ، وأما إن كان قادرا عليه ولكن تركه لعدم العلم به لزم الجهل ، وإن كان تركه مع العلم به والقدرة عليه ولكن تركه شحّا لزم البخل ، وإن كان ترك الأصلح لغير ما ذكر ولكن لغرض فاسد لزم السفه ، وإن كان تركه لا لغرض أصلا لزم العبث. وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأن جواز ترك الأصلح لا يترتب عليه شىء من تلك الصفات التى أوردتموها من العجز والجهل والبخل والسفه والعبث ؛ لأن الله عزوجل إذا ترك الأصلح للعبد يكون قد منع ما هو حق وملك له ؛ ولذا قيل فى مثل هذا المقام : (إن منعك ما هو لك فقد ظلمك وإن منعك ما هو له فما ظلمك).

والخلاصة : أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة كرم الله تعالى وحكمته ولطفه وعلمه بالعواقب ، وأن الله وإن جاز فى حقه ترك الأصلح للعبد فلا يتركه إلا لحكمة تقتضى ذلك الترك ؛ لأن من كان كريما حكيما عليما بالعواقب لا يفعل الشىء ولا يتركه إلا لحكمة يعلمها هو وإن خفيت علينا وعلى ذلك يجوز أن يترك الأصلح فى حق العبد مراعاة لحكمة يعلمها وإن خفيت على هذا العبد ولا يكون فى ذلك ظلم له لأنه لا حق له على الله تعالى.

ثم إن الزمخشرى قال فى قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) [المائدة : ١١٨] فليس ذلك بخارج عن حكمتك ، فيفهم من كلامه أنه يجوز ترك الأصلح الذى هو التعذيب إلى غير الأصلح الذى هو المغفرة ؛ لأن الترك ليس بخارج عن الحكمة.

وقد أجيب عن كلام الزمخشرى هذا بأربعة أجوبة :

أحدها : أن كلامه لا يفهم منه هذا الفهم المذكور ، بل يحتمل أن يكون التعذيب واجبا لا أصلح ، ووجوبه بالنسبة إلى استيجاب كفرهم إياه بناء عليه تكون المغفرة غير واجبة ، ويجوز عندهم ترك الواجب إلى غير الواجب لحكمة. والفرق بين الواجب والأصلح ـ على هذا الجواب ـ أن الواجب حق الله فقط ، والأصلح حق العبد وعلى ذلك يكون كلام الزمخشرى معناه إن تعذبهم وتفعل الواجب بهم فإنهم عبادك وإن تترك هذا الواجب إلى غيره من المغفرة التى هى غير واجب فذلك ليس بخارج عن حكمتك ، فيكون ذلك من باب ترك الواجب إلى غير الواجب لا من باب ترك الأصلح إلى غيره.

ثانيا : وأجيب بأنه لو سلمنا أن التعذيب أصلح ، فإننا لا نسلم بأن المغفرة غير أصلح ، بل هى أصلح آخر على فرض وقوعها ، وبناء عليه يكون المعنى : إن تفعل التعذيب الذى هو أصلح فهم عبادك ، وإن تترك هذا الأصلح إلى المغفرة التى هى أصلح أيضا فذلك ليس بخارج عن حكمتك ، ولا يلزم من ذلك أن تكون المغفرة أصلح فى ذاتها ، بل كونها أصلح مبنى على فرض وقوعها الذى هو محال ، وعلى هذا تكون المسألة من باب ترك الأصلح إلى أصلح آخر على فرض وقوعه. ـ

٤٦٠