تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥] ، ولأن فى العقل ما يدفع حمل الأشياء كلها على الإباحة ، لما فى ذلك فساد الخلق ، وتفانيهم.

فبين لكل منهم ملكا على حدة بسبب يكتسب به ؛ لئلا يحملهم على التفانى والفساد ، وبالله نستعين.

وقوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً).

أى : أعدالا ، وأشكالا فى العبادة ، وكله واحد.

ند الشىء : هو عدله. وشكله : هو مثله.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

الأول : أن لا ندّ ، ولا عدل ، ولا شكل ؛ لما أراكم من إنشاء هذه الأشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئا.

والثانى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لما أنشأ فيكم من الأشياء ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأملتم ، علمتم أنه لا ندّ له ولا شكل له ؛ كقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وقوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا).

من القرآن أنه مختلق مفترى ، وأنه ليس منه ؛ كقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ، وقولهم : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، و (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ) [القصص : ٣٦].

وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

أى : ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو ؛ إذ أنتم وهو سواء فى الجوهر والخلقة واللسان ، ليس هو أولى بذلك منكم ؛ أعنى : فى الاختلاق.

وقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون الله ، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين فى مقالتكم أنه مختلق مفترى.

ويقال : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ). يعنى شعراءكم وخطباءكم ليعينوكم على إتيان مثله.

ويقال : ادعوا شهداءكم من التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وسائر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا).

يحتمل وجوها :

يحتمل أنهم أقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عزوجل عن أطماعهم إتيان مثله نظما ، ولا اجتهدوا كل جهدهم ، وتكلفوا

٤٠١

كل طاقتهم على إطفاء النور ليخرج قولهم على الصدق بأنه مختلق مفترى ، ويظهر كذب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كلام رب العالمين.

فدل إقرارهم بالعجز عن إتيان مثله ، وترك اشتغالهم بذلك : أنه كلام رب العالمين ، منزّل على نبيه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

الوقود بالنصب هو الحطب ، وبالرفع هو النّار.

أخبر عزوجل أن حطبها الناس كلما احترقوا أعيدوا وبدّلوا ؛ كقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦].

والحجارة فيه وجهان :

قيل (١) : هى الكبريت.

وقيل : الحجارة بعينها لصلابتها ، وشدتها أشد احتراقا ، وأكثر إحماء.

وقوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

فى الآية دلالة أنها لم تعدّ لغير الكافرين.

وهى تنقض على المعتزلة قولهم حيث خلدوا صاحب الكبيرة فى النار ، ولم يطلقوا له اسم الكفر ، وفى زعمهم أنها أعدت للكافرين أيضا ، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاصى يرتكبها ، وأوزار حملها ، وفواحش تعاطاها ؛ وذلك أن الله يعذب من يشاء بما شاء ، وليس إلى الخلق الحكم فى ذلك ؛ لقوله : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف : ٢٦].

فإن قالوا : إن أطفال المشركين فى الجنة ، والجنة لم تعدّ لهم ، وإنما أعدت للمؤمنين ، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم. وكذلك النّار وإن كانت معدة للكافرين ، جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها ، كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٠٦] شرط الكفر بعد الإيمان.

ثم من ينشأ على الكفر ، والذى كفر بعد الإيمان سواء فى التخليد ، فكذلك مرتكب الكبيرة ، والكافر ، سواء فى التخليد.

فيقال لهم : إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه ؛ فإذا ترك النظر فى نفسه ، واختار الاعتناد فصار ككفر بعد الإيمان ؛ لأنه لم يكن مؤمنا ثم كفر.

وأما قولهم فى الأطفال ؛ فإنهم إنما خلّدوا الجنة جزاء لهم من ربهم ، ولله أن يعطى

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (٥٠٣ ، ٥٠٤ ، ٥٠٧) ، وابن عباس (٥٠٥) ، وابن جريج (٥٠٦).

وانظر الدر المنثور (١ / ٧٨).

٤٠٢

الجزاء من شاء بلا فعل ، ولا صنع كان منه ؛ فضلا وكرامة ، وذلك فى العقل جائز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام.

وأما التعذيب فإنه غير جائز فى العقل بلا ذنب يرتكبه ، والله أعلم.

وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

الآية تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانا ؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان ، دون الأعمال الصالحات ، غير أن البشارة لهم ، وذهاب الخوف عنهم إنما أثبت بالأعمال الصالحات.

ويحتمل : الأعمال الصالحات : عمل القلب ، وهو أن يأتى بإيمان خالص لله ، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

يعنى بساتين.

وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قيل فيه بوجوه :

قيل : إن البساتين ليست هى اسم الأرض والبقعة خاصة ، ولكن ما يجمع من الأشجار ، وما ينبت فيها من ألوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانا.

وقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى : من تحت أشجارها ، وأغراسها الأنهار.

وقيل : من تحتها : مما يقع البصر عليها ، وذلك أنزه عند الناس ، وأجلى ، وأنبل.

وقيل أيضا : من تحتها أى : من تحت ما علا منها [من القصور والغرف](١) ، لا تحت الأرض مما يكون فى الدنيا فى بعض المواضع يكون الماء تحت الأرض.

دليله [قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) : «تحت كل شعرة جنابة» (٣) ؛ أى تحت ما علا ، لا تحت الجلد ؛

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى ط : ما روى أن.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ١٧١ ـ ١٧٢) كتاب : الطهارة ، باب : فى الغسل من الجنابة ، الحديث (٢٤٨) ، والترمذى (١ / ١٧٨) كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (١٠٦) ، وابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٧) ، وابن عدى فى الكامل فى ضعفاء الرجال (٢ / ٦١٢) فى ترجمة الحارث ابن وجيه الراسبى ، وأبو نعيم فى حلية الأولياء (٢ / ٣٨٧) ، والبيهقى (١ / ١٧٥) كتاب : الطهارة ، باب : تخليل أصول الشعر بالماء ، كلهم من حديث الحارث بن وجيه ، عن مالك بن دينار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبى هريرة ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر» ، وفى لفظ : «فاغسلوا وأنقوا البشرة» ، وقال أبو داود : «الحارث بن وجيه حديثه منكر ، وهو ضعيف» ، وكذلك ضعفه الترمذى.

وقال البيهقى فى «معرفة السنن والآثار» (١ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) كتاب : الطهارة ، باب : إيصال الماء إلى أصول الشعر : أنكره من أهل العلم بالحديث البخارى ، وأبو داود. وقال الشافعى : هذا الحديث ـ

٤٠٣

فكذلك الأول من تحت ما علا منها من القصور ، والغرف ، والله أعلم.

وقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ).

قيل فيه بوجوه :

(رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فى الدنيا (١).

__________________

ـ ليس بثابت ، وقال أبو حاتم فى علل الحديث (١ / ٢٩) : وقال أبى : هذا منكر ، والحارث ضعيف الحديث. اه.

والحارث بن وجيه ، قال ابن معين وغيره : ليس بشيء.

وضعفه أبو حاتم والنسائى وأبو داود والساجى والعقيلى وابن حبان وغيرهم ، وقال الحافظ : ضعيف.

ينظر : التقريب (١ / ١٤٥) ، والتهذيب (٢ / ١٦٢).

وللحديث شواهد من حديث عائشة ، وعلى ، وأبى أيوب.

حديث عائشة :

أخرجه أحمد (٦ / ١١٠ ـ ١١١) : ثنا أسود بن عامر ، ثنا شريك عن خصيف قال : حدثنى رجل منذ ستين سنة ، عن عائشة قالت : أجمرت رأسى إجمارا شديدا فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة ، أما علمت أن على كل شعرة جنابة» ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (١ / ٢٧٧) ، وأعله بجهالة الرجل الذى لم يسم.

وحديث على : عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مع كل شعرة جنابة» ، ولذلك عاديت شعر رأسى.

أخرجه أبو داود الطيالسى ص (٢٥) ، الحديث (١٥٧) ، والدارمى (١ / ١٩٢) كتاب : الطهارة ، باب : من ترك موضع شعرة من الجنابة ، وأحمد (١ / ٩٤) ، وأبو داود (١ / ١١٥) كتاب الطهارة ، باب : فى الغسل من الجنابة ، الحديث (٢٤٩) ، وابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٩) ، والبيهقى (١ / ١٧٥) كتاب : الطهارة ، باب : تخليل أصول الشعر بالماء ، وأبو نعيم فى حلية الأولياء (٤ / ٢٠٠) عن حماد ، عن عطاء بن السائب عن زاذان عن على ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها ماء فعل الله ـ تعالى ـ به كذا وكذا من النار» قال على ـ رضى الله عنه ـ : فمن ثم عاديت شعر رأسى.

وكان يجز شعره ، وعطاء بن السائب اختلط.

وقد سمع منه حماد حال الاختلاط كما فى ترجمة عطاء من التهذيب.

وينظر : التهذيب (٧ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨).

وحديث أبى أيوب :

أخرجه ابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٨) من حديث عتبة بن أبى حكيم : حدثنى طلحة بن نافع ، حدثنى أبو أيوب الأنصارى ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة ـ كفارة لما بينها قلت : وما أداء الأمانة؟ قال : غسل الجنابة ؛ فإن تحت كل شعرة جنابة».

قال البوصيرى فى الزوائد (١ / ٢٢٢) : وهذا سند فيه مقال ، طلحة بن نافع لم يسمع من أبى أيوب ، قاله ابن أبى حاتم عن أبيه ، وفيما قاله أبو حاتم نظر ؛ فإن طلحة بن نافع وإن وصفه الحاكم بالتدليس فقد صرح بالتحديث ، وهو ثقة ، وثقه النسائى ، والبزار ، وابن عدى ، وأصحاب السنن الأربعة ، وعتبة بن حكيم مختلف فيه. رواه أحمد بن منيع بإسناده ومتنه.

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا (٥١٢) وقتادة (٥١٣) وابن زيد (٥١٦) وانظر الدر المنثور (١ / ٨٢).

٤٠٤

وقيل : (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أى : هذا الذى وعدنا فى الدنيا أنّ فى الجنة هذا.

وقيل : (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، فى الجنة قبل هذا.

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (مُتَشابِهاً) فى المنظر ، مختلفا فى الطعم (١).

وقيل : (مُتَشابِهاً) فى الطعم مختلفا فى رأى العين والألوان (٢) ؛ لأن من الفواكه ما يستلذ بالنظر إليها دون التناول منها.

وقيل : (مُتَشابِهاً) فى الحسن والبهاء.

وقوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

قيل فيه بوجوه :

(مُطَهَّرَةٌ) من سوء الخلق والدناءة ، ليس كنساء الدنيا لا يسلمن عن ذلك (٣).

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) من الأمراض ، والأسقام ، وأنواع ما يبلى به فى الدنيا من الدرن ، والوسخ والحيض (٤).

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) لصفاء جوهرها ؛ كما يقال : يرى مخّ ساقيها من كذا وكذا.

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) مختارة مهذبة.

وقوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).

أى : يقيمون أبدا.

فالآية ترد على الجهمية (٥) قولهم ؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة ، وفناء ما فيها ؛ يذهبون إلى أن الله تعالى هو الأول ، والآخر ، والباقى ، ولو كانت الجنة باقية غير فانية لكان ذلك

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا بنحوه (٥٢٤) ومجاهد (٥٢٦) والربيع بن أنس (٥٢٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٨٣).

(٢) أخرجه ابن جرير عن مجاهد بنحوه (٥٣٠ ، ٥٣١).

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٧).

(٤) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا بنحوه (٥٣٨) ومجاهد (٥٤٠ ـ ٥٤٥) ، وقتادة (٥٤٦ ـ ٥٤٨) ، وعبد الرحمن بن زيد (٥٥٠) ، والحسن (٥٥١ ، ٥٥٢) ، وعطاء (٥٥٣) وانظر الدر المنثور (١ / ٨٤).

(٥) الجهمية : أتباع جهم بن صفوان الترمذى الفارسى الذى قتل فى سنة ١٣١ أواخر الدولة الأموية ، كان ينفى الصفات الإلهية كلها ، وينفى رؤية الله ، ويزعم أن الجنة والنار تفنيان وتنقطع حركات أهلهما محتجا بأن عدم فنائهما يتعارض مع معنى قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ينظر : الفرق الإسلامية ص (٥٦).

٤٠٥

تشبيها.

لكن ذلك وهم عندنا ؛ لأن الله تعالى هو الأول بذاته ، والآخر بذاته ، والباقى بذاته ، والجنة وما فيها باقية بغيرها.

ولو كان فيما ذكر تشبيه لكان فى العالم ، والسميع ، والبصير تشبيه ، ولكان فى الخلق أيضا فى حال البقاء تشبيه ، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه.

وأيضا : فإن الله تعالى جعل الجنة دارا مطهرة من المعايب كلها ؛ لما سماها دار قدس ، ودار سلام.

ولو كان آخرها للفناء كان فيها أعظم المعايب ؛ إذ المرء لا يهنأ بعيش إذا نغص عليه بزواله ؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أهلها ؛ فلما نزه عن العيوب كلها ـ وهذا أعظم العيوب ـ لذلك كان التخليد لأهلها أولى بها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

كأن هذا ـ والله أعلم ـ يخرج جوابا على أثر قول قاله الكفرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما ذكره بعض أهل التأويل ـ فقالوا (١) : ما يستحى ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر فى نفسه ، وملوك الأرض لا يذكرون ذلك ، ويستحيون؟

فقال عزوجل جوابا لقولهم : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ...) الآية.

لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها ، والاستذلال ؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف ، والأنفة.

والله ـ عزوجل ـ لا يستحيى عن ذلك ؛ لأن الأعجوبة فى الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته فى خلق الصغير من الجثة والجسم ، أكبر من الكبار منها والعظام ؛ لأن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥٥٧ ، ٥٥٨) عن قتادة بنحوه ، وانظر الدر المنثور (١ / ٨٨).

٤٠٦

الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب ، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ـ ما قدروا ، ولعلهم يقدرون على ذلك فى العظام من الأجسام والكبار منها.

فأولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة ، ولكن نظروا للحقارة ، والخساسة أنفا منهم وإنكافا.

ثم اختلف أهل الكلام فى إضافة الحياء إلى الله تعالى :

فقال قوم : يجوز ذلك بما روى فى الخبر : «أن الله يستحيى أن يعذب من شاب فى الإسلام» (١) ولأنه يجوز كالتكبر ، والاستهزاء ، والمخادعة ، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم.

وقال آخرون : لا يجوز إضافته إلى الله تعالى ؛ لأن تحته الإنكاف والأنفة ، وذلك عن الله تعالى منفىّ ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا ، والحياء الترك ؛ أى : لا يترك ولا يدع.

وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

أى : علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأجسام والجثة حق ؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأعجوبة والحكمة واللطافة.

وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

لم ينظروا فيها لما فيها من الأعجوبة والحكمة ، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.

وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).

الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه جواب قولهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فقال : أراد أن يضل بهذا المثل كثيرا ، وأراد أن يهدى به كثيرا ، أضل به من علم منه أنه يختار الضلالة ، ويهدى به من علم أنه يختار الهدى ، أراد من كل ما علم منه أنه يختار ويؤثر ، والله أعلم.

وهم يقولون : بل أراد أن يهدى به الكلّ ، ولكنهم لم يهتدوا.

والثانى : يضلّ به كثيرا ؛ أى : خلق فعل الضلالة من الضال ، وخلق فعل الاهتداء من المهتدى. وقد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

__________________

(١) ذكره العجلونى فى كشف الخفاء (١ / ٢٨٤) بلفظ :

«إن الله يستحيى أن يعذب شيبة شابت فى الإسلام».

وقال : هكذا ذكره الغزالى فى الدرة الفاخرة ، ورواه السيوطى فى الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف بلفظين آخرين ... فذكرهما.

٤٠٧

أى : ما يضل بهذا المثل إلا الفاسق الذى لا ينظر إلى ما فيها من الأعجوبة واللطافة فى الدلالة.

وقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

عهد الله يكون على وجهين :

عهد خلقة ؛ لما يشهد خلقه كلّ أحد على وحدانية الرب ؛ كقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وكقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ...) الآية [الروم : ٨]. إنه إن نظر فى نفسه وتأمل عرف أن له صانعا وأنه واحد لا شريك له.

وعهد رسالة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ؛ كقوله : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية [آل عمران : ١٨٧].

فنقضوا العهدين جميعا ؛ عهد الخلقة ، وعهد الرسالة.

وقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

يحتمل وجهين :

يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أمروا بالوصل ؛ كقوله : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

وقيل : يقطعون ما أمر الله أن يوصل من صلة الأرحام (١).

وقوله : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).

قيل فيه بوجهين :

يفسدون بما يأمرون فى الأرض بالفساد ؛ كقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة : ٦٧].

وقيل : يفسدون ، أى : يتعاطون بأنفسهم فى الأرض بالفساد ؛ كقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٣٣ ، ٦٣].

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

يحتمل أيضا وجهين :

خسروا لما فات عنهم ، وذهب من المنى والأمانى فى الدنيا.

وروى عن الحسن أنه قال فى قوله : (هُمُ الْخاسِرُونَ) : أى : قذفوا أنفسهم ـ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة بنحوه (٥٧٤) ، وزاد السيوطى فى الدر (١ / ٨٩) عبد بن حميد.

٤٠٨

باختيارهم الكفر ـ بين أطباق النار ؛ فذلك هو الخسران المبين.

وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

يحتمل وجوها :

«كيف» : من أين ظهرت لكم الحجة أن تعبدوا من دون الله من الأصنام وغيرها أنه حق ، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت ، ولا الإماتة بعد الإحياء؟

وقيل (١) : كيف تكفرون بالبعث بعد الموت (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) يعنى نطفا (فَأَحْياكُمْ) ، وأنتم لا تنكرون إنشاء الأول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؟

وقيل : كيف تكفرون بالإحياء والبعث بعد الموت ، وفى العقل أن خلق الخلق للإفناء والإماتة من غير قصد العاقبة عبث ولعب ؛ لأن كل بان بنى للنقض فهو عابث ، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل ، فكيف تجعلون فعله عزوجل ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارا للجزاء ، والعقاب كان فى خلقه إياهم عابثا هازلا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

أى : تعلمون أنكم ترجعون إليه ، وكذلك المصير والمآب.

والثانى : ترجعون إلى ما أعدّ لكم من العذاب. احتج عليهم بما أخبرهم الله أنه أنشأهم بعد الموتة الأولى ، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأخرى (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كأنه يقول : ثم اعلموا أنكم إليه ترجعون.

قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

قيل : إنه صلة قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أى : كيف تكفرون بالذى خلق لكم ما فى الأرض ما يدلكم على وحدانيته ؛ لأنه ليس شىء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.

ويحتمل : كيف تكفرون بالذى خلق لكم ما فى الأرض نعيما من غير أن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا له عليها ، فكيف وجّهتم أنتم الشكر فيها إلى غيره؟

ويحتمل (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) : محنة يمتحنكم بها فى الدنيا ؛ كقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ثم لتجزون فى دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٥٩).

٤٠٩

وفى بيان حكمة خلق الخلق فى الدنيا للفناء ، والإحياء للآخرة ـ حكمة ، وفى إنكارها ذهاب الحكمة.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : استوى إلى الدخان ؛ كقوله : (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١].

وقيل (١) : استوى : تمّ ؛ كقوله : (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [الأحقاف : ١٥] أى : تمّ.

وقيل (٢) : استوى : أى : استولى.

والأصل عندنا فى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] و (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ، وغيرها من الآيات من قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ ...) الآية [الفجر : ٢٢] ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ ...) الآية [البقرة : ٢١٠] من الآيات التى ظنت المشبّهة (٣) أن فيها تحقيق وصف الله تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصف به على

__________________

(١) قاله ابن جرير وأخرجه عن مجاهد بنحوه (٢٧٢٤٢ ، ٢٧٢٤٣ ، ٢٧٢٤٤).

(٢) يأتى فى تفسير سورة طه.

(٣) المشبهة : على صيغة اسم الفاعل من التشبيه ، وهو يطلق على فرقة من كبار الفرق الإسلامية ، شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالحادثات ، ولأجل ذلك جعلناهم فرقة واحدة قائلة بالتشبيه وإن اختلفوا فى طرقه :

فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كالسبئية والبيانية والمغيرية والهشامية ، وغيرهم القائلين بالتجسيم والحركة والانتقال والحلول فى الأجسام ونحو ذلك.

ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس المشبهة ، والهجيمى ، فقالوا : هو جسم لا كالأجسام ، وهو مركب من لحم ودم لا كاللحوم والدماء ، وله الأعضاء والجوارح ، وتجوز عليه الملامسة والمصافحة والمعانقة للمخلصين ، حتى نقل عن أحدهم أنه قال : «أعفونى عن اللحية والفرج وسلونى عما وراءه».

ومنهم مشبهة الكرامية ، وقيل فيه : الفقه فقه أبى حنيفة وحده ، والدين دين محمد بن كرام.

وأقوالهم فى التشبيه متعددة لا تنتهى ، فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم ، وهو أن الله على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الحركة والنزول ، واختلفوا أيملأ العرش ، أم لا يملؤه بل يكون على بعضه ، وقال بعضهم : ليس هو على العرش بل محاذ له ، واختلفوا : أببعد متناه أو غيره.

ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم ، ثم اختلفوا هل هو متناه من الجهات كلها أو من جهة التحت أو غير متناه فى جميع الجهات ، وقالوا : تحل الحوادث فى ذاته إنما يقدر عليها دون الخارجة عن ذاته ، ويجب على الله أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال.

وقالوا : النبوة والرسالة صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحى والمعجزة والعصمة وصاحب تلك الصفة رسول من غير إرسال ولا يجوز إرسال غيره ، وهو حينئذ ، أى حين إذ أرسل ، مرسل ، وكل مرسل رسول بلا عكس كلى ، ويجوز عزل المرسل دون الرسول وليس من الحكمة الاقتصار على إرسال رسول واحد ، وجوزوا إمامين فى عصر كعلى ومعاوية إلا أن إمامة على على وفق السنة ـ

٤١٠

التشابه.

فى الحقيقة إنها تحتمل وجوها :

أحدها : أن نصفه بالذى جاء به التنزيل على ما جاء ، ونعلم أنه لا يشبه على ما ذكر من الفعل فيه بغيره ؛ لأنك بالجملة تعتقد أن الله ليس كمثله شىء ، وأنه لا يجوز أن يكون له مثل فى شىء ؛ إذ لا يوجد حدثه فيه ، أو قدم ذلك الشىء من الوجه الذى أشبه الله.

وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعا ، مع ما لم يجز أن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره ، وأنه حى ، قدير ، سميع ، بصير ، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أحد الخلائق.

وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى ، ولزم أمر السمع والتنزيل على ما أراد الله. وبالله التوفيق.

والثانى : أن يمكن فيه معان تخرج الكلام مخرج الاختصار والاكتفاء بمواضع إفهام فى تلك المواضع على إتمام البيان ، وذلك نحو قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) [الفجر : ٢٢] أى : بالملك. وذلك كقوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ...) [المائدة : ٢٤] أى : بربك (فَقاتِلا) ؛ إذ معلوم أنّه يقاتل بربه ؛ ففهم منه ذلك.

وكذلك معلوم أن الملائكة يأتون ، فكأنه بين ذلك.

يدل عليه قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وكذلك (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ ...) الآية [البقرة : ٢١٠].

ومما يوضح أنه لم يكن أحد اعتقد أو تصوّر فى وهمه النظر لإتيان الربّ ومجيئه ، ولا كان بنزوله وعد بنظر. وكان بنزول الملائكة ؛ كقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى ...) الآية [الفرقان : ٢٢] ، وقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨]. فيما ذكرنا عظيم أمرهم ، وجليل شأنهم ، ومثله فى قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] مع ما له وجهان :

أحدهما : أن يكون معنى العرش الملك والاستواء التام الذى لا يوصف بنقصان فى ملك ، أو الاستيلاء عليه ، وألا سلطان لغيره ، ولا تدبير لأحد فيه.

والثانى : أن يكون العرش أعلى الخلق وأرفعه.

__________________

ـ بخلاف إمامة معاوية لكن يجب طاعته ، وقالوا الإيمان قول الذرية فى الأزل (بلى) وهو باق فى الكل على السوية إلا المرتدين ، وإيمان المنافق كإيمان الأنبياء كذا فى شرح المواقف.

ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٤ / ١٩٤ ، ١٩٥) ، وشرح المواقف (٤٩١ ، ٤٩٢).

٤١١

وكذلك تقدره الأوهام ؛ فيكون موصوفا بعلوه على التعالى عن الأمكنة ، وأنه على ما كان قبل كون الأمكنة ، وهو فوق كل شىء ؛ أى بالغلبة ، والقدرة ، والجلال عن الأمكنة ، ولا قوة إلا بالله.

وأصله ما ذكرنا : ألا نقدّر فعله بفعل الخلق ، ولا وصفه بوصف الخلق ؛ لأنه أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

مرة قال : (فَسَوَّاهُنَ) [الطلاق : ١٢] ، ومرة قال : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) [الملك : ٣] ، ومرة قال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) الآية [فصلت : ١٢] ، ومرة قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧]. وكله يرجع إلى واحد.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٩)

وقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).

قال الشيخ ـ رضى الله عنه ـ : القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه‌السلام من سورة البقرة ، والكشف عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أو القطع على تحقيق شىء ، ووجهوا إليه بالإحاطة.

ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر ، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أن يوصف به أهل المحنة ، وإن كان تنزيه الملائكة عن كل معنى فيه وحشة أولى بما وصفهم الله من الطاعة

٤١٢

بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

وقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) إلى قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية [الأنبياء : ٢٧].

وقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ...) الآية [النحل : ٥٠].

وقوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩].

وما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وصف طاعتهم لله ، ومواظبتهم على العبادة.

وما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية ، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم فى مخالفته فى فروع الدين ، فضلا من أن يبسط اللسان فى ملائكة الله سبحانه ، وبالله المعونة والعصمة.

قال الله تعالى لملائكته : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ...) الآية.

زعم قوم أن هذا زلة منهم ، لم يكن ينبغى لهم أن يقابلوا قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بهذا ؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم : أتفعل ونحن نفعل كذا؟! كالمنكرين لفعله.

وأيدوا ذلك بقوله عزوجل : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أنه لو لا كان فى ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائله ، لم يتبع قولهم هذا ، ومعلوم عندهم أن يكون هو يعلم ما لا يعلمون.

وأيد ذلك بما امتحنهم بالإنباء عن أسماء الأشياء ، مقرونا بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولو لا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فائدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد.

ومنهم من قال : إن قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) قول إبليس ، هو الذى تعرض بهذا القول ، وإن كان الكلام مذكورا باسم الجماعة ؛ لأنه جائز خطاب الواحد على إرادة الجماعة ، وذكر الجماعة على إرادة الواحد ، وإن كان خطاب الله تعالى لجملة ملائكته حيث قال : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) الآية.

قوله : (أَنْبِئُونِي) بكذا ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك ، ولا يحتمل أن يأمرهم بذلك وهم لا يعلمون. ولو تكلفوا الإخبار للحقهم الكذب فى ذلك.

ثبت أن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم.

٤١٣

ويكشف عن ذلك أيضا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم الله (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [البقرة : ٣٣] ، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأديب والتنبيه عن غفلة سبقت منهم ، لم يكن لذلك كثير معنى ؛ إذ لا يخفى على الله عزوجل علم ما ذكر من الكفرة الأشقياء ، فضلا عن الكرام البررة.

ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة ، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ :

نحو قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١].

وقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ ...) الآية [الإسراء : ٧٥].

ولملائكته : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) [الأنبياء : ٢٩].

واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.

ودليل المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين ، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى ، وما أوعدوا لو ادّعوا الألوهية ؛ ولما لم يحتمل أن يحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر ، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية ، ولا تحتملها البنية ؛ إذ الطاعة هى فى اتقاء المعصية.

وقال أيضا : (لا يَعْصُونَ اللهَ) [التحريم : ٦] ، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.

فثبت أن المعاصى منهم ممكنة ؛ ولذلك خطر طاعاتهم ، وعظم قدر عباداتهم ، والممتحن مخوف منه الزّلة والهفوة ، بل المعصية ، وكل بلاء إلا أن يعصمه الله تعالى ويحفظه ، وذلك من الله إفضال وإحسان لا يستحقّ قبله ، ولا يلزمه أحد من خلقه.

فجائز الابتلاء به مع ما فى زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق ، وقطع الإياس ، والحث على الفراغ إلى الله تعالى بالعصمة والمعونة ؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإن جل قدره عند ما وكل إلى نفسه مما يعلم الله أنه يختار فى شىء الخلاف ، لا أنه يفزع إليه وينزع (١) إليه.

وعلى ذلك معنى زلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وزعم قوم أن ذلك ليس منهم بالزّلة ، بل الله تعالى عصمهم عنها ، ولكن قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يخرج على وجهين :

أحدهما : على السؤال بعد أن أعلمهم الله أنهم يفعلون ؛ فقالوا : كيف يفعلون ذلك ، وقد خلقتهم ورزقتهم وأكرمتهم بأنواع النعم ، ونحن إذ خلقتنا نسبّحك بذلك ، ونقدس

__________________

(١) فى أ : ويتضرع.

٤١٤

لك؟!

أو كيف تحتمل عقولهم عصيانا ـ مع عظم نعمتك عليهم ـ ونحن معاشر الملائكة تأبى علينا العقول ذلك؟!

فقال الله عزوجل : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أى : أمتحنهم مع ما ركب فيهم من الشهوات التى ـ لغلبتها على أنفسهم ـ تعتريهم (١) أنواع الغفلة ، ويصعب عليهم التيقظ ؛ لكثرة الأعداء لهم ، وغلبة الشهوات ؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك.

وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة فى خلق من يعصيه.

فأخبر أنه يعلم ما لا تعلمون ؛ إذ بذلك بيان الأولياء والأعداء ، وبيان أن الله لا يخلق من يخلق لحاجته له ، أو لمنفعة له ؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه فى الفعل الذى أمر به.

وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عبرا وعظة ؛ فيكون فى عقوبة العصاة ووعيدهم مزجر لغيرهم وموعظة ، ولغير ذلك من الوجوه.

والوجه الآخر : أن يكون المعنى من قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها) على الإيجاب ، أى : أنت تفعل ذلك ؛ إذ ليس عليك فى خلق من يعصيك ضرر ، ولا لك فى خلق من يطيعك نفع ، جل ثناؤك ، من أن يكون فعلك لأحد هذين.

وذلك كقوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ ...) الآية [النور : ٥٠] على إيجاب ذلك ، لا على الاستفهام.

مع ما يحتمل أن الألف زائدة ؛ كقوله : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) [القصص : ١٩] ، وقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] بمعنى : إنكم وتريد (٢) ، وذلك يرجع إلى الأول.

وقال : ومعنى قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) : أن الله قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون ، ولم يكن أعلمهم ما فيهم من الرسل والأخيار ، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأخيار فيهم ؛ ولذلك ذكّرهم عند سؤال الإنباء بما أعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أن جعله بمعنى نبي إلى الملائكة بما علمهم الأسماء.

ولم يكن بلغ توهمهم أن فى البشر ما يحتاج المخلوقون من النور ـ الذى هو سبب

__________________

(١) فى أ : تغيرهم.

(٢) فى أ : تريدون.

٤١٥

رفع الأستار عن الأشياء ، وجلاء الأشياء به ـ ثم يحتاجون فى اقتباس العلم إلى من هو من جوهر التراب والماء الذى هو أصل الستر والظلمة.

فأراهم الله بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة ، والعلم بالأشياء الخلقة ، ولكن لطف الله وامتنانه ، ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : كان منهم من استحق العتاب من طريق الخطر بالقلوب ، لا من طريق الزّلة ـ التى هى العصيان ـ ولكنهم يعاتبون على أمثال ذلك ـ وإن لم تبلغ بهم المعصية ـ لعلوّ شأنهم ، ولعظم قدرهم.

كما قد عاتب الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أشياء وإن لم يكن ذلك منه معصية ؛ كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ ...) الآية [التوبة : ٤٣].

وقوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ١٠٧].

وقوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ...) الآية [الأحزاب : ٣٧]. ولم يكن إثم فى ذلك ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الآية [أول سورة التحريم] ؛ [لأنه](١) من غير أن كان منه عصيان ؛ فمثل ذلك أمر الملائكة.

ثم تكلموا فى معنى ذلك :

فمنهم من يقول : ظنوا أنهم أكرم الخلق على الله ، وأنه لا يفضّل أحدا عليهم.

ومنهم من يقول : ظنوا أنهم أعلم من جميع من يخلق من جوهر النار أو التراب ؛ من حيث ذكرت من جوهرهم ، أو لعظم عبادتهم لله ، وعلمهم بأن فى الجن والإنس عصاة ؛ فلهذا امتحنهم بالعلم ، ثم بالسجود ؛ لإظهار علو البشر وشرفه ، وعظم ما أكرموا به من العلم.

ومنهم من [يقول : ظنوا أنهم فضلوا بفعلهم :](٢)(نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

وقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

قال قوم (٣) : يريد به آدم عليه‌السلام ، يخلف الملائكة فى الأرض ومن تقدمه من الجان.

وذلك بعيد ؛ كأنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ولم يكن آدم ـ عليه‌السلام ـ بالذى كان يفسد فى الأرض ، ويسفك الدماء ، بل كان يسبح بحمده ويقدس له.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى ط : قالوا : بقوله.

(٣) انظر : تفسير البغوى (١ / ٦٠).

٤١٦

ولكن يحتمل : أن يريد آدم وولده (١) ـ إلى يوم القيامة ـ أن يجعل بعضهم خلفاء لبعض ؛ كقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢] ، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا ، إن صح الذى قالوا.

وجائز أن يكونوا على وجه الأرض ، إذ هى مخلوقة لهم قرارا ومهادا ومعادا ، وهم جعلوا سكانها وعمّارها ـ أن يكونوا خلفاء ، فى إظهار أحكام الله تعالى ودينه ، كقوله لداود عليه‌السلام : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦] فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم الله ولا يتبع الهوى ، وبذلك أمر بنو آدم.

وقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

قيل : بأمرك.

وقيل : بمعرفتك.

وقيل (٢) : بالثناء عليك ؛ إذ كانوا أضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم منّة الله عليهم بذلك ، واختصاصه إياهم بالتوفيق له ؛ إذ كيف ذكروا من نعوت البشر شرّ ما فيهم ، دون أن يحمدوا الله ـ بما وفقوا له ـ أو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا.

ولذلك ـ والله أعلم ـ صرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن فى الأرض ، ونصر أولياء الله ، ولا قوة إلا بالله.

ومن الناس من أخبر فى ذلك : أن إبليس سألهم : لو فضّل آدم عليهم ، وأمروا بالطاعة له ما يصنعون؟

فأظهر الله عزوجل أنه علم ما كتم إبليس من العصيان ، وما أظهروا هم من الطاعة.

وهذا شىء لا يعلم حقيقته ؛ لأن المعاتبة كانت فى جملة الملائكة ، والمخاطبة بالإنباء ، وما ألحق به وأمر بالسجود وكان فى غيره.

ولم يحتمل أن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين.

ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان ، والله الموفق.

وقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).

يحتمل : أن يكون علم لهم.

ويحتمل : أن يكون علّم بإرسال ملك من غير الذين امتحنوا به. وفى ذلك تثبيت أحد وجهين :

__________________

(١) قاله ابن سابط ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٠٣).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦١).

٤١٧

إما أن يكون العلم بالأشياء حقيقة ضرورة ، يقع عند النظر فى الأسباب التى هى أدلة وقوعه عند التأمل فيها ؛ نحو وقوع الدّرك بالبصر عند النّظر وفتح العين.

وإما أن يكون الله تعالى خلق فعل التعلم الذى يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أنه علم.

وكذا قوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٤].

وكذا قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ، ولا يحتمل هذه الأسباب لما كانت له كلها ، ولم يكن تعلّم حقيقة ليؤذنه.

وكذلك قول الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ، والله الموفق.

وقوله : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).

ظاهره أمر ، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا ، وذلك فى القرآن كثير.

وإن كان فى الحقيقة أمرا ، ففيه دلالة جواز الأمر فيما لا يعلمه المأمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذى العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث.

ويحتمل : أن يكونوا نبّهوا حتى لا يسبق إليهم ـ عند إعلام آدم ـ أن ذلك من حيث يدركونه لو تكلفوا.

أو أراد أن يريهم آية عجيبة تدل على نبوته ، ذكّرهم عجزهم عن ذلك ، وألزمهم الخضوع لآدم عليه‌السلام فى إفادة ذلك العلم له ، كما قال عزوجل : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] ذكره أولا حاله وحال عصاه ، ليعلم ما أراه ما فى يده من آية نبوته على نبينا وعليه‌السلام.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى المعانى التى ذكروا ؛ إذ كنتم مذ خلقتم موصوفين بالصدق.

أو على تحذير القول بلا علم وكأنه قال : واصدقوا ، واحذروا القول بالجهل. وفى ذلك أنهم لم يتكلفوا بالقول فى شىء لم يعلمهم الله تعالى.

قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان : هذا يبطل قول المنجمة والعافة (١) بدعواهم على

__________________

(١) فى أ : القافة.

٤١٨

الغيب بلا تعليم ادّعوه من الله تعالى.

وفى قصة آدم عليه‌السلام دلالة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أخبر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما علم بما فى غير القرآن من الكتب السماوية من غير أن عرف بالاختلاف إليهم ، أو معرفة الألسن التى بها ذكرت فى كتبهم. ذكرها على ما لم يدّع أحد ـ له العلم بها ـ النكير عليه ؛ ليعلم أنه بالله علم ذلك.

وفيها دلالة فضل آدم عليه‌السلام أبى البشر ؛ إذ أحوج ملائكته إليه لاقتباس أصل الأشياء ، وهو العلم الذى كل خير له كالتابع ، وبه يصلح وينفع ، ولا قوة إلا بالله.

وفيها دلالة محنة الملائكة بوجهين :

أحدهما : تعلّمهم العلم الذى هو أحق شىء يحتمل الخير ؛ إذ قد يلهم المرء ربما من غير تكلف ، وهم قد أمروا به مع ما قدم ما يخرج مخرج التهدّد فى القول من قوله : (أَنْبِئُونِي) وذلك ـ فيما لا محنة ـ فاسد مع ما سبق من دليل المحنة.

والثانى : فيما أمرهم بالسجود لآدم عليه‌السلام حتى صيّر من أبى كافرا إبليسا.

وفى ذلك أيضا دليل فضل آدم عليه‌السلام ؛ إذ جعل موضع عبادة خيار خلق الله معه ، وبالله التوفيق.

وفى ذلك أن السجود ليس بنفسه عبادة ؛ إذ قد يجوز السجود لأحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه‌السلام : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم ، ولله اسم المعبود ، ولو جاز لأحد ذلك لكان غير الله إله.

دليل ذلك تسمية العرب كلّ شىء يعبدونه إلها ، ولا قوة إلا بالله.

ثم السجود يحتمل وجهين :

[الوجه الأول] : الخضوع كما قال الله تعالى : (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية [الحج : ١٨].

وقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] ، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم ، [فكذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم](١) ، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاء النجاة ، أو درك العلو والكرامة أن يعظمه ويبجّله ، ويخضع له.

والثانى : امتحنهم بوجه يظهر قدر الطاعة ؛ لأن الخضوع لمن يعلو أمره ويجلّ قدره ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٤١٩

أمر سهل ، عليه طبع الخلق ، فإذا كان فى تقدير المأمور بالخضوع أنه دونه فى الرتبة ، أو شكله ، أو لم يكن بينهم كثير تفاوت اشتدّت المحنة فى مثله بالطاعة له والخضوع.

فامتحنهم الله به حتى ظهر الخاضع لله ، والمستسلم لحقه ، والمتكبر فى نفسه ، وهو إبليس.

وعلى ذلك الغالب من أتباع الأنبياء عليهم‌السلام والذين يأبون ذلك ، أن الذى يحملهم على الإباء عظمهم فى أنفسهم ، وظنّهم أنهم أحقّ بأن يكونوا متبوعين ، والله أعلم.

والوجه الثانى : أن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود فهو يخرّج على وجهين :

أحدهما : أن يجعل السجود تحية ؛ ألزم الملائكة تحية آدم به ، وهو ابتداء ما أكرم به أصل الإنس ، وإليه مرجع جملة المؤمنين فى الجنة أن يأتيهم الملائكة بالتحيات والتحف ، وإن اختلفت أنفس التحيات.

وفى ذلك دليل بيّن : أنّ السجود ليس بعبادة فى نفسه ؛ إذ قد يؤمر به للبشر ، ولا يجوز الأمر بعبادة غير الله ؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل ، والعبادة به لله كغيره من المعروف ، يصنع إلى الخلق.

ومثله أمر سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه‌السلام ، والله أعلم.

والثانى : أن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه ، وهى الحقيقة لله تعالى ، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيما له ، وتبجيلا لكعبته ، وتخصيصا من بين البقاع.

كذلك أمر السجود لآدم عليه‌السلام ، تعظيما له وتبجيلا من بين سائر البشر ، كلاهما سيّان.

ثم قد ثبت نسخ السجود للخلق بما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو كان يحل لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (١).

ولما جعل السجود فى العبادة عبادة للمسجود له ، واعترافا بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم ، ومن يعبدونه من دون الله ؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق فى القلوب ، وذلك

__________________

(١) أخرجه الترمذى (٢ / ٤٥٣) كتاب الرضاع ، باب ما جاء فى حق الزوج (١١٥٩) وابن حبان (٤١٦٢) ، والحاكم (٤ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، والبيهقى (٧ / ٢٩١) عن أبى هريرة بلفظ «ما ينبغى لأحد أن يسجد لأحد ، ولو كان أحد ينبغى أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه» واللفظ لابن حبان.

٤٢٠