تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

__________________

ـ الدليل الرابع أن التصديق يجامع الشرك بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وإذا كان التصديق يجامع الشرك فلا يكون إيمانا.

والجواب أن الإيمان فى الآية المقصود به التصديق ببعض ما جاء به النبى لا بكل ما جاء به الذى هو الإيمان حقيقة ، وعلى ذلك فالإيمان فى الآية لغوى لا شرعى ثم إن هذه الآية ـ إذا سلمنا بما ذكرتموه من أن الإيمان المذكور فيها يقصد به الإيمان الشرعى ـ لا تلزمنا وحدنا ، وإنما تلزمنا جميعا نحن وأنتم ؛ لأن الإيمان لو كان منه العمل لجامع الشرك أيضا والله أعلم.

هذا مما يبطل مذهب المعتزلة ويؤيد ما سبق أن اخترناه من أن الإيمان هو التصديق ، وأما الإقرار باللسان فهو شرط لإجراء الأحكام فى الدنيا لأمور منها :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وغيره مما ورد فيه عطف العمل على الإيمان ، وهو كثير فى القرآن الكريم ، ووجه الدلالة من ذلك أنه قد عطف الأعمال على الإيمان. والعطف يقتضى المغايرة وعدم دخول المعطوف فى المعطوف عليه ؛ فلا يكون المعطوف عين المعطوف عليه ولا جزءا منه ، فإن قيل : إن ما ذكرتموه ينتقض بقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) فإن ظاهر هذه الآية يدل على أن الروح هو جبريل وهو جزء من مجموع الملائكة ، وقد عطف عليها. فالجواب أن هذا العطف بتأويل أن يكون الروح عظيما جدّا حتى كأنه ليس منهم. أو يقال : إن الروح ليس جبريل بل هو خلق آخر أعظم من خلق الملائكة.

الثاني : أن الإيمان جعل شرطا للأعمال فى قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ) الآية مع القطع بأن المشروط لا يدخل فى الشرط ، إذ لو دخل فيه لكان فى ذلك اشتراط الشىء بنفسه ؛ وبيان ذلك أن الأعمال لو كانت من الإيمان وقد جعل شرطا لها لكانت مشروطة بنفسها لأنها جزء الشرط وجزء الشرط شرط.

ونكتفى بما أوردناه هاهنا دون أن نتعرض لبقية المذاهب الثمانية المذكورة آنفا لأنها لا تزيد عن كونها خزعبلات لا دليل عليها ؛ ومن ثم ، لا نضيع جهدنا فى عرضها.

وأما الخلاف فى زيادة الإيمان ونقصانه :

فقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على قولين :

القول الأول : وبه قال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وإمام الحرمين من الشافعية : أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

القول الثانى : أن الإيمان يزيد وينقص.

وقيل : إن الخلاف لفظى مبنى على تفسير الإيمان ؛ فإن كان معناه التصديق فهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق البالغ حد الجزم والإذعان لا يتصور فيه تفاوت بالزيادة والنقصان ، وإن كان الإيمان معناه التصديق والعمل والإقرار أو العمل مطلقا فهو يقبل الزيادة والنقصان.

وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه بأدلة إليك بيانها :

أولا : استدل القائلون بزيادة الإيمان ونقصانه بآيات كثيرة من القرآن الكريم ، منها : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

وقد أول أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ هذه الآية بأن الصحابة كانوا آمنوا فى الجملة ، ثم يأتى فرض بعد فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض عند حصوله فزاد الإيمان بحسب زيادة ما يجب الإيمان به من الفروض.

والظاهر من هذا التأويل الذى ذكره الإمام أبو حنيفة أنه إنما يظهر فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بعد عصره فالفروض كلها قد تمت وحصلت فلا يتصور الإيمان بكل فرض إلا أن بعض العلماء قد أجاب ـ

٣٨١

__________________

ـ عن هذه فقال : إنه يتصور أيضا فى غير عصر النبى عليه‌السلام وبين ذلك بأن الاطلاع على تفاصيل جميع الفروض ممكن فى غير عصر النبى ، والإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، والتفصيلى أكمل من الإجمالى وعلى ذلك يصح فى غير عصر النبى أن يطلع شخص على جميع الفرائض تفصيلا فيؤمن بها كذلك ، ولا يطلع شخص آخر على جميع الفرائض تفصيلا فيؤمن بها إجمالا ، فإيمان الأول أكمل من الثانى ، وقد يتصور ذلك فى حق شخص واحد أيضا بأن يطلع على بعض الفرائض فيؤمن بها إجمالا ، ثم بعد ذلك يتمكن من الاطلاع عليها تفصيلا فيؤمن بها كذلك فإيمانه الثانى أكمل من إيمانه الأول.

وقد أول إمام الحرمين الآية السابقة وما شابهها بأن المراد بزيادة الإيمان الثبات والدوام عليه فى كل ساعة فزيادته بحسب زيادة الأزمان وذلك لأنه عرض لا يبقى زمانين فيتجدد بتجدد أمثاله.

ولكن يرد على هذا التأويل أن تجدد الأمثال عبارة عن انعدام الإيمان وحصول مثله وليس ذلك من الزيادة فى شىء.

وقد أجيب عن ذلك بأن زيادته على هذا بزيادة أعداده المتجددة.

وبعض العلماء أول هذه الآية وما شابهها بأن المراد بزيادة الإيمان ثمرته وإشراق نوره وضياؤه فى القلب.

فتحصل مما تقدم أن من قال : إن الإيمان هو التصديق منع زيادته ونقصانه وأول الآيات الواردة بالزيادة بما تقدم عن أبى حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما ، ومن قال : إن الإيمان هو الأعمال مطلقا فرضا أو نفلا فقبوله الزيادة والنقص ظاهر ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل المفروض قال أيضا بقبوله الزيادة والنقص بحسب زيادة أوقات الأعمال المفروضة أو بحسب فرضية الأعمال كلها أو بعضها.

هذا كله على رأى من يقول إن الخلاف لفظى مبنى على تفسير الإيمان ولكن الحق أن الخلاف حقيقى وأن الإيمان يقبل الزيادة والنقص حتى لو كان معناه التصديق وهو يتفاوت قوة وضعفا بدليل أن تصديق النبى عليه‌السلام ليس كتصديق آحاد المكلفين وكذلك فإن قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يدل على قبول التصديق اليقينى الزيادة أيضا : فإن المطلوب من العوام هو الظن الذى لا يخطر معه احتمال النقيض على بالهم وذلك كاف فى إيمانهم ولا شك أنه يقبل الزيادة.

ينظر لسان العرب لابن منظور طبعة دار المعارف مادة (أ م ن) (١ / ١٤٠). القاموس المحيط للفيروزآباديّ مادة (أ م ن) (١ / ١٩٧) ، مختار الصحاح للرازى مادة (أ م ن) ص (٢٦) التوحيد للمصنف ، تحقيق الدكتور فتح الله خليف ، طبعة الجامعات ص (٣٧٧) اللمع لأبى حسن الأشعرى تعليق الدكتور حمودة غرابة طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص (١٢٣). الإنصاف للباقلانى ، تحقيق محمد زاهر الكوثرى ، مؤسسة الخانجى ص (٢٣). الإرشاد لإمام الحرمين أبى المعالى الجوينى ، مكتبة الخانجى ص (٤٠٠). أصول الدين للإمام البزدوى طبعة عيسى البابى الحلبى ص (١٤٥).

شرح المواقف للإيجى بشرح الجرجانى ، مطبعة السعادة (٨ / ٣٢٢). أصول الدين للبغدادى ص (٢٥١). المحصل للرازى مكتبة الكليات الأزهرية (٢٤٠) ، معالم أصول الدين للرازى طبع الكليات الأزهرية (١٢٧) ، المسايرة للكمال بن الهمام ، المطبعة الأميرية بولاق ص (٢) ، شرح ملا على القارئ على الفقه الأكبر ص (٢٠٨) ، نظم الفرائد وجمع الفوائد ، المطبعة الأدبية بالقاهرة ص ٣٧ ، حاشية رمضان أفندى على العقائد طبعة دار سعادات ص (٢٣٦) ، شرح الخريدة البهية للدردير مع حاشية أبى السعود ، طبع دار هجر ص (٣٨٨).

٣٨٢

والكراميّة يقولون : بل هم مؤمنون.

وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

لا يقصد أحد مخادعة الله ، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين ، وأولياء الله ، فأضاف الله عزوجل ذلك إلى نفسه ؛ لعظم قدرهم ، وارتفاع منزلتهم عند الله ؛ وهو كقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، والله لا يحتاج أن ينصر ، ولكن كأنه قال : إن تنصروا أولياء الله ينصركم ؛ وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] والله لا يبايع ، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه ؛ لعظم قدر نبيه ، وعلو منزلته عند الله تعالى ، فكذلك الأول أضاف مخادعتهم أولياءه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه.

والمخادعة هو فعل اثنين ؛ لخداع هؤلاء بحضور المؤمنين ؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. والله أعلم.

وقوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

الأول : أى حاصل خداعهم ، ووباله يرجع إليهم.

والثانى : أنهم يظهرون لهم الموافقة ليأمنوا ، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع فى الدنيا.

وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ).

الأول : أى : ما يشعرون أن حاصل الخداع يرجع إليهم فى الآخرة.

والثانى : ما يشعرون أن الله يظهر ، ويطلع نبيه على ما أضمروا هم فى قلوبهم ، والله أعلم.

وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

يقال (١) : شك ونفاق ؛ سمّى عزوجل المنافقين مرضى ؛ لاضطرابهم فى الدين ؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول ، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب ؛ فكان حالهم كحال المريض الذى هو مضطرب بين الموت والحياة ؛ إذ المريض يشرف ـ ربما ـ على الموت ، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيا ؛ فهو مضطرب بين ذلك ، فكذلك هم ، لما كانوا مضطربين فى دينهم سماهم مرضى.

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٠).

وأخرجه ابن جرير (٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤) عن ابن عباس بنحوه ، وكذا أيضا عن قتادة (٣٢٦) ، وأنس (٣٢٧) ، وعبد الرحمن بن زيد (٣٢٥ ، ٣٢٨) وانظر الدر المنثور (١ / ٦٧ ، ٦٨).

٣٨٣

وأما سائر الكفرة فإنهم لم يضطربوا فى الدين ، بل أظهروا بالقول على ما أضمروا بالقلب ؛ فسماهم موتى ، لما لم ينتفعوا بحياتهم ، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة.

وسمى المؤمنين أحياء ؛ لما انتفعوا بحياتهم ، واكتسبوا الحياة الدائمة ، لموافقتهم باللسان والقلب جميعا لدين الله ـ عزوجل ـ والله أعلم.

وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

اختلف فى تأويله :

قالت المعتزلة : هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا.

وأما عندنا : فهو على خلق أفعال زيادة الكفر والنفاق فى قلوبهم ، لما زادوا هم فى كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول ، وإضمار الخلاف لهم بالقلب ، خلق الله عزوجل تلك الزيادة من المرض فى قلوبهم باختيارهم.

وقد ذكرنا الوجه فى ذلك فيما تقدم فى قوله : (اهْدِنَا).

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

لأن عذاب الدنيا قد يكون ولا ألم فيه ؛ فأخبر الله عزوجل أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم ، ليس كعذاب الدنيا.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٦)

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

بالمخادعة للمؤمنين ، وإظهار الموافقة لهم بالقول ، وإضمار الخلاف لهم بالقلب ، والاستهزاء بهم عند الخلوة ، والقول فيهم بما لا يليق بهم ، وعبادة غير الله. وأىّ فساد أكبر من هذا؟!.

وقوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

بإظهار الموافقة بالقول.

وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ).

أخبر تعالى أنهم هم المفسدون ؛ لما أضمروا من الخلاف لهم ، والمخادعة ، والاستهزاء بهم.

٣٨٤

وقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

الأول : أى : لا يشعرون أن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.

والثانى : لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفساد.

فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول : بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة ، وهو قول الناس ؛ لأنه عزوجل أخبر بفساد صنيعهم ، وإن لم يشعروا به.

وهو كقوله أيضا : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] : أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ).

تحتمل الآية : أن تكون فى المنافقين ، وتحتمل : فى أهل الكتاب.

فإن كانت فى المنافقين فكأن قوله : آمنوا يا أهل النفاق فى السر والعلانية ، كما آمن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السر والعلانية جميعا ، وهو كقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧].

وإن كان فى أهل الكتاب ففيه الأمر بالإيمان الذى هو إيمان ، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب ؛ دليله قول جميع أهل التأويل والأدب أنهم فسروا (آمَنُوا) : صدقوا فى جميع القرآن.

وقوله : (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الآية.

السفه : هو ضد الحكمة ، وهو العمل بالجهل على العلم أنه يبطل ، والجهل هو ضد العلم. والسفه هو الشتم ؛ يقول الرجل لآخر : يا سفيه.

وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ).

يقول بعض المتكلمين : إن هذا شتم من الله لهم ، جوابا على المؤمنين ، ويستجيزون ذلك على الجواب ، وإن لم يجز على الابتداء ، كالمكر ، والكيد ، والاستهزاء ، والخداع ونحوه ، فعلى ذلك هذا.

وأما عندنا فهو غير جائز ؛ لأن من يشتم آخر يذم عليه ، وهو عمل السفهاء. فأخبر عزوجل : أنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أن دينهم الذى يدينون به باطل ، وأن الدين الذى يدين به المؤمنون حق.

وقوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

قيل فيه بوجهين :

أحدهما : لا يعلمون أنهم هم السفهاء.

٣٨٥

والثانى : لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

يعنى : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قالُوا آمَنَّا).

أظهروا لهم الموافقة فى العلانية ، ويضمرون لهم الخلاف فى السر.

وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ).

قيل فيه بأوجه :

قيل : إن شياطينهم ؛ يعنى الكهنة (١) ؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق.

يقال : شطن ، أى : بعد.

وقيل : إن كلّ عات ومتمرد يسمى شيطانا لعتوه وتمرده ؛ كقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] سموا بذلك لعتوهم وتمردهم ؛ إذ من قولهم : إن الشياطين أصلهم من الجن.

وقيل : سموا شياطين ؛ لأنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأمره ، فسموا بأسمائهم ؛ وذلك جائز فى اللغة جار ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).

قيل : فيه وجهان :

الأول : أى : معكم فى القصد (٢) والمعونة.

والثانى : إنا معكم ، أى : على دينكم لا على دين أولئك ، والله أعلم.

قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

بإظهار الموافقة لهم فى العلانية ، وإظهار الخلاف لهم فى السر.

وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٣) : يجزيهم جزاء الاستهزاء.

وكذلك قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] أى : يجزيهم جزاء المخادعة ، وكذلك قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] أى : يجزيهم جزاء

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥١).

(٢) فى أ : النصر.

(٣) ذكره ابن جرير (١ / ١٦٦) ، والبغوى (١ / ٥٢).

٣٨٦

المكر ، يحمل على الجزاء ؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاء مبتدأ إلى الله ؛ لأنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة ، فكيف من الله عزوجل؟!

وقال بعضهم : يجوز إضافة الاستهزاء إلى الله ، وإن كان لا يجوز من الخلق أن يستهزئ بعضهم من بعض ، كالتكبر ، يجوز لله ولا يجوز للخلق ؛ لأن الخلق أشكال بعضهم لبعض وأمثال ، والله ـ عزوجل ـ لا شكل له ولا مثل.

وكذلك الاستهزاء يجوز له ، ولا يجوز لغيره ؛ لأن الاستهزاء هو الاستخفاف ، فلا يجوز أن يستخف ممن هو مثله فى الخلقة ، وما خلق له من الأحداث والغير ، والله تعالى يتعالى عن ذلك. والأول أقرب ، والله أعلم.

أو أضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا فى المخادعة.

ثم اختلف فى كيفية الاستهزاء :

فقال الكلبى (١) : هو أن يفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه ، ثم يغلق دونهم. فإن ثبت ذا فهو كما قال.

وقيل : إنه يرفع لأهل الجنة نور يمضون به ، فيقصد أولئك المضى معهم بذلك النور ، ثم يطفأ ذلك النور ؛ فيتحيرون وهو قولهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [الحديد : ١٣].

وقيل : أن يعطى لهم فى الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرا على ما أظهروا لهم الموافقة فى العلانية ، ويحرم لهم ذلك فى الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم فى السر.

وقوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

الآية فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ؛ كقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٦٩) وعزاه للبيهقى فى الأسماء والصفات عن ابن عباس بنحوه ، انظر تفسير البغوى (١ / ٥٢).

وهو : دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج ، بفتح المعجمة وسكون الزاى ثم جيم ، ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف الكلبى صحابى مشهور ، أول مشاهده الخندق وقيل : أحد ، ولم يشهد بدرا ، وكان يضرب به المثل فى حسن الصورة ، وكان جبريل عليه‌السلام ينزل على صورته ، جاء ذلك من حديث أم سلمة ، ومن حديث عائشة ، وروى النسائى بإسناد صحيح ، عن يحيى بن معمر ، عن ابن عمر رضى الله عنهما : كان جبرائيل يأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صورة دحية الكلبى ، وروى الطبرانى من حديث عفير بن معدان ، عن قتادة ، عن أنس ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان جبرائيل يأتينى على صورة دحية الكلبى» وكان دحية رجلا جميلا ، شهد دحية اليرموك ، وكان على كردوس وقد نزل دمشق وسكن المزة ، وعاش إلى خلافة معاوية. ينظر الإصابة (٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٣) ، أسد الغابة ت (١٥٠٧) ، والاستيعاب ت (٧٠٠) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٥٥٠).

٣٨٧

[البقرة : ٦] غير أن هذه فى المنافقين والأولى فى الكفرة.

وهى تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يقدر أن يستنقذهم فى حال الاختيار ، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم فى حال الاضطرار ، فأخبر عزوجل : أنه يستنقذهم على فعل الطغيان.

وقوله : (وَيَمُدُّهُمْ) أى : يخلق فعل الطغيان فيهم.

ويحتمل : أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.

ويحتمل : أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.

وفى هذا إضافة المد إلى الله. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح ، والمدح يكون بالأوجه الثلاثة التى بينا ، وفى هذا أنه إذا كان هو الذى يمدهم فى الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان ؛ فدل أن الله خالق فعل العباد ؛ إذ من قولهم : إن القدرة التامة هى التى إذا قدر على شىء قدر على ضده.

والعمه : الحيرة فى اللغة.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).

أى : اختاروا الضلالة على المدعو إليه ـ وهو الهدى ـ من غير أن كان عندهم الهدى ، فتركوه بالضلالة.

وهو كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] من غير أن كانوا فيه ، فكذلك الأول ، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء.

وقيل : الضلالة : الهلاك ؛ أى : اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم ، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة ؛ كقولهم : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] لا يقدر أحد أن يصبر على النار ، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.

وكذلك قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] أى : بئسما اختاروا ما به هلاك أنفسهم على ما به نجاتهم.

وفى هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع ؛ لأنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع ، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة.

وكل من ترك لآخر شيئا له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع.

وكذلك قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية [التوبة : ١١١]. وهو على بذل الأموال والأنفس له بالموعود الذى وعد لهم ، وهو الجنة.

٣٨٨

وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

أى : ما ربحوا فى تجارتهم ؛ لأن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح ، وقد يسمى الشىء باسم سببه.

وهو كقوله : (جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ، والنهار لا يبصر ، ولكن بالنهار يبصر.

وذلك سائغ (١) فى اللغة ، جائز تسمية الشىء باسم سببه.

ثم فى قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) نفى الربح دون نفى الأصل فى الظاهر ، غير أن النفى على وجهين :

نفى شىء يوجب إثبات ضده ، وهو نفى الصفة ؛ كقولك : فلان عالم : نفيت الجهل عنه ، وفلان جاهل : نفيت العلم عنه.

ونفى شىء لا يوجب إثبات ضده ، وهو نفى الأعراض ؛ لأنك إذا نفيت لونا لم يوجب ضد ذلك اللون.

وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) نفى الأصل ؛ كأنه قال : بل خسرت تجارتهم ، أوجبت إثبات ضده.

دليله قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] ، و (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٢].

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

وقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

اختلف فيه :

قيل (٢) : إنها نزلت فى المنافقين ؛ لأنها على أثر ذكر المنافقين ، وهو قوله : (وَإِذا لَقُوا

__________________

(١) فى أ : شائع.

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٣٨٦ ، ٣٨٧ ، ٣٨٩) وقتادة (٣٩١) والضحاك (٣٩٢) ، ومجاهد (٣٩٣ ، ٣٩٤ ، ٣٩٥) وغيرهم ، وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٧١ ـ ٧٣).

٣٨٩

الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [البقرة : ١٤].

وقيل (١) : إنها نزلت فى اليهود ؛ لأنه سبق ذكر اليهود ، وهو قوله : (... أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية [البقرة : ٦].

ويحتمل : نزولها فى الفريقين جميعا.

وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : «إن هذا من المكتوم» فلا يحتمل ما قال ؛ لأنه مثل ضربه الله ، والأمثال إنما تضرب لتفهم وتقرّب إلى الفهم ما بعد منه ؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرّب إلى الفهم شيئا ، إلا أن يريد من المكتوم : أنه لم يعلم فيمن نزل ، فهو محتمل ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ...) الآية.

يحتمل : أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ...) الآية [البقرة : ٨] ، وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ...) الآية [البقرة : ١٤ ، ٧٦]. وذلك يخرج على وجوه :

أحدها : أنهم قصدوا قصد المخادعة بأولياء الله والاستهزاء بهم ؛ ففضحهم الله بذلك فى الدنيا والآخرة.

فأما فى الدنيا فبما هتك سترهم ، وأطلع على ذلك أولياءه ؛ فعادت إليهم المخادعة ، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم ، وبما أرادوا ذلك الأمن ، فأعقبهم الله خوفا دائما كما وصفهم الله (يَخْشَوْنَ النَّاسَ ...) الآية [النساء : ٧٧]. وقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون : ٤]. وقال : (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] ، وقال : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ...) الآية [الأحزاب : ١٩] ، وقال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [التوبة : ٦٤].

أو أن يكونوا طلبوا ـ بإظهار الموافقة فى الدين ـ الشرف فيهم والعز ، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أنهم يخادعون بذلك المؤمنين ، ويستهزءون بهم ؛ فعلموا أنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم ، فطردوا من بينهم فقال الله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) [المجادلة : ١٤] ، وقال : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ ...) الآية [النساء : ١٤٣] ، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز ، وأبدل لهم به الهوان والذل.

فمثلهم فى ذلك مثل مستوقد نار ليستضيء بضوئها ، وينتفع بحرّها ، فأذهب الله ضوءه

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٣) ونسبه لعطاء ومحمد بن كعب.

٣٩٠

حتى ذهب ما كان يأمل من الاستنارة بها والانتفاع ، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها ، وذهب عنه ما طلب بذلك ـ من شرف الوقود فى الأيام الشاتية ، أو ما يصلح بها ـ من الأغذية بذهاب البصر.

فيكون ذلك معنى قوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمن ، والذلّ بما طلبوا به العزّ ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره ، والله أعلم.

وعلى ذلك قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أى : اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذى قد أظهروه عند المؤمنين.

فيكون تحقيق استهزاء الله بهم ، ومخادعته إياهم فعل أوليائه بهم بما أخبروا من سرائرهم ، وبما حطوا أقدارهم ، وذلوا فى أعينهم ، فأضيف ذلك إلى الله ؛ إذ به فعلوا ، كما أضيفت مخادعتهم المؤمنين إليه ؛ إذ عن دينه خادعوهم. والله أعلم.

وعلى هذا التأويل أمكن أن يخرج قول من زعم : أن الآية نزلت فى الكافرين ، أنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وجدوا نعته فى التوراة والإنجيل ، أنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ...) الآية [الأعراف : ١٥٧] ، وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] إلى آخر السورة ، وقال عزوجل : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠] ، وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

كانوا كمستوقد النار ، أى : طالب الوقود ليستضيء به ، فلما ظفر به أذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار ، فلم ينتفع به.

فكذلك لما كفروا عند بعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا من أنفسهم وبغيا ؛ إذ كان من غيرهم ؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه ، ولا قوة إلا بالله.

وأما فى الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين ، وموالاتهم فى الظاهر ، ومشاركتهم إياهم فى المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح ، وخالفوهم فى الباطن.

فكذلك الله أشركهم فى المنافع الظاهرة الحاضرة فى الدنيا ، وخالفهم بمنافع دينه فى الباطن الغائب وهى الآخرة ؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين فى الدنيا ، وصرفها عنهم فى الآخرة.

فكما أروهم الموافقة فى الظاهر مع المخالفة فى الباطن ، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة فى ضوئها بالإيقاد ، وقد أذهب الله ضوء بصره ؛ فذهب عنه منفعته عند ظنه أنه يصل إليها ، كالمنافقين فى الآخرة ، إذ ظنوا فى الدنيا أنهم شركاؤهم فى الآخرة لو

٣٩١

كانت ؛ ولذلك قالوا : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] ، وقوله : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...) الآية [النساء : ١٤١ ، الحديد : ١٤] فذلك وجه الاستهزاء بهم ، والمخادعة أنه أشركهم فى أحكام الدنيا وخالفهم فى أحكام الآخرة.

وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى ، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.

وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أهل الكتاب ؛ لأنهم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف ، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم ، وشاهدوا كفروا به ؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم ، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة ، والله أعلم.

وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه ضم تأويل هذه الآية والتى تتلوها من قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] إلى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة ؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم ، ولا يؤمنون بالآخرة ؛ فيكون عملهم للعواقب ، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها ، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنا لها.

فإذا رأوا فى دين الإسلام الغنائم والسلوة ، رأوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها ، واجتهدوا بالسعى فيها.

وإذا أصابتهم الشدة والبلايا رأوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين ؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا ؛ إنه يجتهد فى الإيقاد ما دام يطمع فى نور النار ، ومنافع حرها لمصالح الأطعمة ، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها ، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد ، كالمنافق فيما استقبله المكروه فى الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط.

وذلك قوله : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) [الأحزاب : ٢٠].

وقوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤].

وقوله : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٥٠].

وقوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) [النساء : ٧٢].

وكذلك البرق الذى يضىء يمشى المرء فى ضوئه ، وكذلك المنافق ، إذا رأى خيرا فى الإسلام مشى إليه ، وإذا أظلم عليه قام متحيرا حزينا ؛ ألا يكون اختار السلوك ، والله الموفق.

٣٩٢

وقال أبو بكر الأصمّ (١) : مثل من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره فى الناس ، مثل مستوقد النار فيما يستضىء حول النار بنورها ، ثم يذهب الله نوره فى الآخرة كما أذهب هو فى السر ، وكذلك أذهب الله نور المستوقد ؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار.

قال : وقيل : ذا لعن.

كما يقال : أذهب الله نوره ، أى : الذى كان يظهره ؛ فيبقى المنافق فى ظلمات الآخرة ، والمستوقد فى ظلمات العمى والليل.

ثم قال : جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيّب ، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل ، وما فيه من الغنيمة كالبرق ، وجعل أصابعهم فى الآذان من سماع ما فى الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ).

أى : ما فى الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه.

وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو شاء الله لذهب بما ذكر ، أى : أصمهم وأعماهم.

وروى عن الضحاك (٢) عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : «أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين» ؛ فشبه به إيمان المنافق أنه عن سريع يزول.

وقال القتبى (٣) : كان المنافق فى ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطى من النور ، كمستوقد

__________________

(١) شيخ المعتزلة ، أبو بكر الأصم ، كان ثمامة بن أشرس يتغالى فيه ، ويطنب فى وصفه ، وكان دينا وقورا ، صبورا على الفقر ، منقبضا عن الدولة ، إلا أنه كان فيه ميل إلى الإمام على.

وله تفسير ، وكتاب (خلق القرآن) ، وكتاب الحجة والرسل ، وكتاب الحركات ، والرد على الملحدة ، والرد على المجوس ، والأسماء الحسنى ، وافتراق الأمة ، وأشياء عدة. مات سنة إحدى ومائتين.

ينظر : سير أعلام النبلاء (٩ / ٤٠٢) ، والفهرست (٢١٤) ، وتاريخ بغداد (٨ / ٤٠١) ، وميزان الاعتدال (٢ / ٥٨) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ١٧٩) ، وشذرات الذهب (٢ / ١٣).

(٢) هو : الضحاك بن مزاحم الهلالى مولاهم الخراسانى يكنى أبا القاسم. روى عن أبى هريرة ، وابن عباس ، وأبى سعيد ، وابن عمر ، وزيد بن أرقم ، وأنس. وروى عنه عبد الرحمن بن عوسجة ، وعبد العزيز بن أبى رواد وقرة بن خالد وخلق. قال سعيد بن جبير : لم يلق ابن عباس. ووثقه أحمد وابن معين ، وأبو زرعة. وقال ابن حبان : فى جميع ما روى نظر ، إنما اشتهر بالتفسير. قال أبو نعيم : مات سنة خمس ومائة ينظر : الخلاصة (٢ / ٥) (٣١٤٦).

(٣) العلامة الكبير ، ذو الفنون ، أبو محمد ، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى ، وقيل : المروزى ، الكاتب ، صاحب التصانيف. نزل بغداد ، وصنف وجمع ، وبعد صيته. حدث عن : إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادى ، وزياد بن يحيى الحسانى ، وأبى حاتم السجستانى ، وطائفة. حدث عنه : ابنه القاضى أحمد بن عبد الله ، بديار مصر ، وعبيد الله السكرى ، وعبيد الله ابن أحمد بن بكر ، وعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوى ، وغيرهم. قال أبو بكر الخطيب : كان ـ

٣٩٣

النار بنوره فى ظلمة الليل.

وكذلك السالك فى ظلمة الليل ، فلما ذهب نوره ـ أو سكن لمعان البرق ـ رجع إلى ما فيه من الظلمة.

والأصل فى هذا الباب : أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها ، وجعل لهم دارا يجزيهم فيها ، مما لو لا هى لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا ؛ إذ يكون خلق الخلق للفناء بلا عواقب لهم ، وذلك عبث فى العقول ؛ لأن كل شارع ـ فيما لا عاقبة له ـ عابث ، وفيما لا يريد معنى يكون فى العقل هازل ؛ ولذلك قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى ؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عرفت تلك ؛ ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون ويتلذذون ؛ ليعرفوا قدر الآلام التى بها أوعدوا ، واللذات التى فيها رغبوا.

فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمى عن الآخرة ، وصم عن سماع ما يرغب فيها ، أو عمى عن أمر الله ونهيه ، أو ألحق بالأعمى ، والأصم ، والميت ونحو ذلك ؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة ؛ إذ هى مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر.

فإذا غفل عن ذلك سمى بالذى ذكرنا. وبينا أنه لو لا الآخرة ودار الجزاء ، لم يكن لخلق شىء من ذلك حكمة نعقلها نحن.

فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب ـ الذى به يبصر العواقب وينتفع بها ـ بذهاب نور البصر ، فى زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره ، وكذلك أمر السمع وغيره.

فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين.

أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه ـ وهو نور البصر ـ لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذى بصر ، وكذلك سائر منافع النار ؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب

__________________

ـ ثقة دينا فاضلا وله تصانيف منها : غريب القرآن ، غريب الحديث ، كتاب المعارف ، كتاب مشكل القرآن ، كتاب مشكل الحديث ، كتاب أدب الكاتب ، كتاب عيون الأخبار ، كتاب طبقات الشعراء ، كتاب إصلاح الغلط ، كتاب الفرس ، كتاب الهجو ، كتاب المسائل ، كتاب أعلام النبوة ، كتاب الميسر ، كتاب الإبل ، كتاب الوحش ، كتاب الرؤيا ، كتاب الفقه ، كتاب معانى الشعر ، كتاب جامع النحو ، كتاب الصيام ، كتاب أدب القاضى ، كتاب الرد على من يقول بخلق القرآن. مات فجاءة ، صاح صيحة سمعت من بعد ، ثم أغمى عليه ، وكان أكل هريسة فأصاب حرارة ، فبقى إلى الظهر ، ثم اضطرب ساعة ، ثم هدأ ، فما زال يتشهد إلى السحر ، ومات وذلك فى شهر رجب ، سنة ست وسبعين ومائتين. ينظر : سير أعلام النبلاء (١٣ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) ، (١٣ / ٣٠٠).

٣٩٤

وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائها.

وكذلك الذى ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا ؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عنه بصر القلب ؛ إذ به يبصر عواقب الأشياء.

بل الذى قصد السلوك بالبروق ، والاستضاءة بنور النار ، إذا ذهب كان أعظم حسرة وأشد خوفا من النار ، وشدة المطر ، وخبث الطريق من الذى لم يعرف ـ فى الابتداء ـ نفع النار أو البرق ، ويكره المطر على شدة رغبته فيه ، والنار بما ذهب منه.

وكذلك المنافق فى الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يرد إلى درك الأسفل ، ولا قوة إلا بالله.

وكذلك الكافر لم يبصر ـ بما أعطاه من البصر ـ عواقب البصر الظاهر ، ولا يسمع ـ بما أنعم عليه من السمع ـ عواقب السمع ؛ إذ حق ذلك أن يؤدى ذلك ما أدركه إلى العقل ليعتبر به أنه لم يخلق شىء من ذلك بالاستحقاق ، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة ، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث ، فيقوم بأداء شكره ؛ وبذلك يصير به إلى الجزاء فى العواقب ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله عزوجل : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : صم ؛ لأنه ختم على آذانهم ، وعلى سمعهم ، وعلى قلوبهم ؛ فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يعقلون.

ويحتمل : أنهم صم بكم عمى ؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم ، وأبصارهم ، وقلوبهم.

ثم اختلف فى جواز إضافة لفظ «الاستهزاء» إلى الله تعالى :

فأجازه قوم ، وإن كان ذلك قبيحا من الخلق ؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأحد ـ إما لجهله ، أو لقبح فى الخلقة ، أو لزيادة فى الخلق ـ إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لو لا إنعام الله عليه الذى قد أغفل عنه ، أو لدناءة فى الخلق باشتغاله بما ذكر ، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش ، وأقبح من حال المستهزأ به.

ولذلك قال عزوجل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ...) الآية [الحجرات : ١١].

وذلك نحو التكبر : أنه قبيح من الخلق ، بما لهم أشكال فى الحدث ، وآثار الصنعة ، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.

وجائز إضافته إلى الله تعالى ، لتعاليه عن الأشباه والأشكال ، وإحالة احتمال ما احتمل

٣٩٥

غيره ، وبه يقول حسين النجار (١).

وأبى قوم ذلك إلا على أثر أحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاء ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء ؛ فيفهم منه جزاء الاستهزاء كذكر السيئة فى الجزاء ، والمكر ونحو ذلك.

ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه :

أحدها : ما بينا.

والثانى : ما ينسب إليه فعل المأمور ، نحو قول المؤمنين للمنافقين فى الآخرة : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) [الحديد : ١٣] وقول أهل الجنة ، ودعائهم أهل النار بالخروج ، لو ثبت ما ذكره الكلبى ، وقول الملائكة : (فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠] وغير ذلك.

وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٩ ـ ٢٠].

ثم ما ذكر من «الظلمات» يخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : ظلمات كفرهم بقلوبهم ؛ إذ أظهروا الإيمان أولا.

والثانى : المتشابه فى القرآن ، وهو الذى تعلق به كثير من المشركين حتى نزول (٢) قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ...) الآية [آل عمران : ٧].

والثالث : ما فى الإسلام من الشدائد ، والإفزاع من الجهاد ، والحدود وغير ذلك.

وأمكن صرف الأول ، والآخر إلى الفريقين : الكافر ، والمنافق ، وصرف تأويل المتشابه إلى الكافر.

على أنا بيّنا أن لكلّ من ذلك حظّا ، ويدل آخر الآية ـ وهو قوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) ـ على أن المثل لهم ، إلا أن المنافق شريكهم فى الكفر ، والله الموفق.

وجائز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين :

__________________

(١) هو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار ، من علماء الكلام الذى يقول بالجبر ، كان حائكا وقيل يعمل فى صناعة الموازين ، وكان إذا تكلم سمع له صوت كصوت الخفاش ، وله مع النظام المعتزلى مجالس ومناظرات ، وإليه تنسب فرقة النجارية ، ينظر : الفهرست (٢٦٨) ، ومقالات الإسلاميين (١ / ٣١٥) ، والملل والنحل (١ / ٨٨) ، والتبصير (٦١).

(٢) فى أ : نزل.

٣٩٦

صنف ينتحل الكتاب الذى هو عندهم مما جاء به الرسل ، [لكن أئمتهم](١) قد غيروا ما فى كتبهم من دين الله وأحكامه حتى عطلوا (٢) ذلك ، وأبدعوا غير الذى جاءت به الرسل من الدين والأحكام.

بيّن ذلك قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ...) الآية [آل عمران : ١٠٥].

وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) [المائدة : ١٥].

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) الآية [الأنعام : ١٥٩].

ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم ؛ كقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ...) الآية [آل عمران : ٧٨].

تبين ما ظهر من التفرق فيهم ، ومن القول فى أنبيائهم ، وفى الله سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف ، وبما كان من الفترة اندرست الكتب ، وذهبت الرسوم ؛ فصاروا فى ظلمة الضلالة ، وحيرة الزيغ ، وتاهوا فى سبيل الشيطان ، وانقطع من بين أظهرهم الأئمة الذين يوثق بهم فى الدين ، بما ليس لأحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياء ، والاعتصام بكتبهم ؛ إذ كلهم يدعى ذلك ـ وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذى لا تحتمله الحكمة ، ولا يصبر عليه العقل.

وصنف : لا ينتحل الكتاب ، ولا يؤمن بنبى من الأنبياء ، بل يعبدون الأوثان والنيران والأحجار ، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع ، ليس لهم شرع ، بل هم حيارى ، لا يعرفون معبودا ، ولا يبصرون طريقا ، وليس فيهم من إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة ، وأطلعهم على الحق ، بل هم فى الضلال تائهون ، وفى الظلمات متحيرون.

فأحوج الفريقين جميعا ما حل بهم من الحيرة والتّيه ، إلى من يشفيهم من داء الضلالة بنور الهدى ، ومن ظلمة الاختلاف بضياء الائتلاف ، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الله ، ويدلّهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أربابا.

فبعث إليهم ـ عند شدة حاجتهم ـ رسولا ، وأكرمهم بما أراهم من الآيات التى يعلمهم بها أنه أنعم بها عليهم ؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أطاعوه ، وشكروا نعمة الله.

فكانوا كقوم بلوا بظلمات الليل والسحاب ، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم ، وتعذر عليهم الوجه فى وضع أقدامهم ، فتاهوا ، فدفعهم التّيه إلى استيقاد النار ؛ ليبلغوا حوائجهم ، ويأمنوا العطب فى وضع الأقدام.

__________________

(١) فى أ : لكنهم.

(٢) فى أ : غلطوا.

٣٩٧

وكقوم بلوا فى شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجدبه ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأغاثهم بالمطر.

ثم منهم من عرف نعمة من أنعم عليهم بالوقود وأغاثهم بالمطر ، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك ، ووصلوا إلى حوائجهم بالنار والمطر.

وذلك مثل من اتبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرف نعم الله فشكره.

ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه ، ونسى ما كان عليه ، وهو قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) [الزمر : ٨ ، ٤٩] آيات فيها ذكر ما بينت ، وقوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ...) الآية [الإسراء : ٦٧] ، فأذهب الله نوره فلا ينتفع بنور النار ، ولا وصل إلى حاجته التى بها يقضى.

وذلك مثل الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم لم ينتفعوا به ، ولا قضوا حاجاتهم ، بل زادهم ذلك ظلمة وحيرة ، كمستوقد النار إذا ذهب بصره.

وكذلك قوم بلوا بالسلوك فى الطريق عند شدة الظلمة ، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذى جعل لهم لوضع أقدامهم بنور البرق فأذهب الله نوره ، وسكن لمعان البرق ؛ فعاد الغياث له هلاكا ، والمطر ـ الذى وجهه ـ عليه بلاء.

فمثله من كابر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعترض على الاستماع إليه ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).

فالخطاب يحتمل الخصوص والعموم.

وقوله : (اعْبُدُوا) : وحدوا ربكم (١).

__________________

(١) قاله ابن عباس كذا أخرجه ابن جرير (٤٧٢) ، وابن إسحاق وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٧٤).

٣٩٨

جعل العبادة عبارة عن التوحيد ؛ لأن العبادة التى هى لله لا تكون ولا تخلص له إلا بالتوحيد. ويقال : (اعْبُدُوا) ؛ أى : أطيعوا له ؛ أى : اجعلوا عبادتكم لله ، لا تعبدوا غيره ، فى كلا التأويلين يرجع إلى الكفرة.

ويقال : (اعْبُدُوا) ؛ أى : أطيعوا له.

والعبادة جعل العبد كلّيته لله قولا ، وعملا ، وعقدا ، وكذلك التوحيد ، والإسلام.

والطاعة ترجع إلى الائتمار ؛ لأنه يجوز أن يطاع غير الله ، ولا يجوز أن يعبد غير الله ؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه ؛ كقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : ٩٢] ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابد له ، وبالله نستعين.

ثم بين الذى أمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصا ، فقال : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

والذين تعبدونهم لم يخلقوكم ، ولا خلقوا الذين من قبلكم ، فكيف تعبدونهم دون الذى خلقكم؟! وبالله التوفيق.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : تتقون المعاصى ، والمناهى ، والمحارم التى حرم الله عليكم. فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين.

ويحتمل قوله : (تَتَّقُونَ) الشرك وعبادة غير الله ، فذلك راجع إلى الكفرة.

قال الشيخ : الأحسن فى الأمر بالتقوى والتوحيد أن يجعل عامّا ، وفى الخبر عن التقوى خاصّا.

(لَعَلَّكُمْ) أى : كى تتقوا.

وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

بيّن اتقاء (١) الذى أمر بالتوحيد له ، وتوجيه العبادة إليه ، وإخلاص النية له ؛ فقال : الذى فرش لكم الأرض لتنتفعوا بها ، وتقضوا حوائجكم فيها ، من أنواع المنافع عليها ، واتخاذ المستقر والمسكن فيها.

(وَالسَّماءَ بِناءً) أى : رفع السماء بناء.

والسماء : كل ما علا وارتفع ، كما يقال لسقف البيت : سماء ؛ لارتفاعه.

__________________

(١) فى أ : أنه.

٣٩٩

وسمى السماء بناء ـ وإن كان لا يشبه بناء الخلق ـ حتى يعلم أن البناء ليس اسم ما يبنى الناس خاصة.

ثم بين بقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

أى : وجهوا العبادة إلى الذى ينزل لكم من السماء ماء عند حوائجكم ، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم ، ولا أنزل لكم من السماء ماء ، ولا أخرج لكم من ذلك الماء ثمرات تكون رزقا لكم.

بل هو الله الواحد الذى لا شريك له ؛ ولأنه يخلقكم ، ويرزقكم ، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأكلونه ، وماء عذبا تشربونه.

وفى الآية دلالة أن المقصود فى خلق السماء والأرض ، وإنزال الماء منها ، وإخراج هذه الثمرات وأنواع المنافع ـ بنو آدم ، وهم الممتحنون فيها ؛ بدلالة قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها ، وما ذكر فى آية أخرى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهار) [إبراهيم : ٣٣ ، النحل : ١٢] ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) [إبراهيم : ٣٢] مما يكثر من الآيات.

أضاف ذلك كلّه إلينا ، ثم جعل ـ عزوجل ـ بلطفه منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما من المسافة ، حتى لا تخرج الأرض شيئا إلا بما ينزل من السماء من الماء ؛ ليعلم أن منشئ السماء هو منشئ الأرض ؛ لأنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بعد ما بينهما ، ولتوهم كون الاختلاف من أحدهما للآخر.

فإذا كان كذلك دل على أن منشئهما واحد ، لا شريك له ولا ند.

ثم زعم قوم : أن الأشياء كلها حلّ لنا ، طلق ، غير محظور علينا ، حتى يجىء ما يحظر ، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله : (رِزْقاً لَكُمْ) ، وبقوله : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨].

وقال آخرون : لا يدل ذلك على الإباحة ؛ وذلك أن الأشياء لم تصر لنا من كل الوجوه ، فهو على الحظر حتى تجىء الإباحة ، ولأن الأشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم ؛ فظهر الحظر قبل وجود الأسباب ، فهو على ذلك حتى يجىء ما يحل ويبيح.

أو أن يقال : خلق هذه الأشياء لنا محنة امتحنا بها ، أو فتنة فتنا بها ؛ كقوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٢٨ ، التغابن : ١٥] ، فتنّا بها ؛ وكقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ

٤٠٠