تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

الكتاب ، ولم يذكر فى شىء من ذلك رقيق.

ومعنى اللطيف : استخراج الأمور الخفية وظهورها له ؛ كقوله : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) إلى قوله : (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ، وبالله التوفيق.

والثانى : أن اللطيف حرف يدل على البرّ والعطف.

والرقة على رقة الشىء التى هى نقيض الغلظ والكثافة ، كما يقال : فلان رقيق القلب.

وإذا قيل : فلان لطيف ، فإنما يراد به بارّ : عاطف ؛ فلذلك يجوز : لطيف ، ولا يجوز : رقيق ، وكذلك فسر من فسر «الرحمن» بالعاطف على خلقه بالرزق.

وذهب بعضهم ـ وهو الأول ـ إلى اللطافة وذلك بعيد ، وإنما هو من اللّطف.

وقوله : أحدهما أرق من الآخر ، بمعنى اللطف ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : التحقيق بأن اللطف بأحد الحرفين أخص وأليق ، وأوفر وأكمل ، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال : رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه ؛ ولذا ذكر أمته وإن أشركهم فى الرزق فيما يراهم غيرهم ؛ ألا ترى أنه لا يقال : رحمن بالمؤمنين ، وجائز القول : رحيم بهم ، وكذلك لا يقال : رحيم بالكافرين ، مطلقا؟! وبالله التوفيق.

ووجه آخر : أن أحدهما ألطف من الآخر ؛ كأنه وصف الغاية فى اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما فى كل واحد منهما من اللطف ، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف. وبالله التوفيق.

ثم فى هذا أن اسم «الرحمن» هو المخصوص به الله لا يسمى به غيره ، و «الرحيم» يجوز تسمية غيره به ؛ فلذلك يوصف أن «الرحمن» اسم ذاتى ، و «الرحيم» فعلى ، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة ؛ ودليل ذلك : إنكار العرب «الرحمن» ، ولا أحد منهم أنكر «الرحيم» ، حيث قالوا : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [الفرقان : ٦٠] وذلك قوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] يدل على أنّه ذاتىّ لا فعلىّ ، وإن كان الفعل صفة الذات ؛ إذ محال صفته بغيره ؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناء والمدح. وفى ذلك خلق الخلق لنفع الامتداح ، وهو عن ذلك متعال ، بل بنفسه مستحقّ لكل حمد ومدح ، ولا قوة إلا بالله.

وروى فى خبر القسمة : «أن العبد إذا قال : الرحمن الرّحيم ، قال الله تعالى : أثنى علىّ عبدى ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدنى عبدى» (١). وذكر أنه قال فى الأول : بالتمجيد ، وفى الثانى : بالثناء ، وذلك واحد ؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم

__________________

(١) تقدم بنحوه.

٣٦١

والجود ، والتمجيد هو الوصف بذلك ، وبالله التوفيق.

ثم أجمع على أن قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) أنه يوم الحساب والجزاء. وعلى ذلك القول : (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات : ٥٣] ، وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) [النور : ٢٥] وهو الجزاء.

ومن ذلك قول الناس : «كما تدين تدان».

وجائز أن يكون (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم ؛ إذ به يظهر حقيقته ، وعظم مرتبته ، وجليل موقعه عند ربه.

وفى الآية دلالة وصف الرب بملك ما ليس بموجود لوقت الوصف بملكه ، وهو يوم القيامة.

ثبت أن الله بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره.

ولذلك قلنا نحن : هو خالق لم يزل ، ورحيم لم يزل ، وجواد لم يزل ، وسميع لم يزل ـ وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن ـ وكذلك نقول : هو رب كل شىء ، وإله كل شىء فى الأزل ـ وإن كانت الأشياء حادثة ـ كما قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) وإن كان اليوم بعد غير حادث. وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٥) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٦) اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة].

وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

فهو ـ والله أعلم ـ على إضمار الأمر ، أى : قل : ذا. ثم لم يجعل له أن يستثنى فى القول به ، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين :

أحدهما : يحال (١) القول به على الخبر عن حاله ؛ فيجب ألا يستثنى فى التوحيد ، وأن من يستثنى فيه عن شكّ يستثنى.

والله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ...) الآية [الحجرات : ١٥].

وكذلك سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أفضل الأعمال فقال : «إيمان لا شكّ فيه» (٢).

__________________

(١) فى أ : لحال.

(٢) طرف من حديث عبد الله حبشى :

أخرجه أحمد (٣ / ٤١١) ، وأبو داود (١ / ٤٢٢) كتاب الصلاة ، باب افتتاح صلاة الليل بركعتين (١٣٢٥) ، وباب طول القيام (١٤٤٩) ، والنسائى (٥ / ٥٨) ، كتاب الزكاة ، باب جهد المقل. ـ

٣٦٢

والثانى : عن الأحوال التى ترد فى ذلك. لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه ؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات ، إنما تعتقد للأبد ؛ لذلك لم يجز الثناء فيه فى الأبد. وبالله التوفيق.

ثم قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يتوجه وجهين :

أحدهما : إلى التوحيد ، وكذا روى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : «كلّ عبادة فى القرآن فهو توحيد».

والوجه الآخر : أن يكون على كل طاعة أن يعبد الله بها ، وأصلها يرجع إلى واحد ؛ لما على العبد أن يوحد الله ـ تعالى ـ فى كل عبادة لا يشرك فيها أحدا ، بل يخلصها فيكون موحّدا لله تعالى بالعبادة والدين جميعا.

وعلى ذلك قطع الطمع ، والخوف ، والحوائج كلها عن الخلق.

وتوجيه ذلك إلى الله تعالى بقوله : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥] وعلى ذلك المؤمن لا يطمع فى الحقيقة بأحد غير الله ، ولا يرفع إليه الحوائج ، ولا يخاف إلا من الوجه الذى يخشى أن الله جعله سببا لوصول بلاء من بلاياه إليه على يديه ؛ فعلى ذلك يخافه ، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعل سبب ما دفعه إليه على يديه ، فبذلك يرجو ويطمع ، فيكون ذلك من الضّالّين ، فيكون فى ذلك التعوّذ من جميع أنواع الذنوب ، والاستهداء إلى كل أنواع البر.

وقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فذلك طلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجه دينا ودنيا.

ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على طلب التوفيق لما أمر به ، والعصمة عما حذّره عنه ، وكذلك الأمر البيّن فى الخلق من طلب التوفيق ، والمعونة من الله ، والعصمة عن المنهى عنه جرت به سنة الأخيار. والله الموفق.

__________________

ـ وفى الباب عن أبى ذر :

أخرجه البخارى (٥ / ٤٤٦) كتاب العتق ، باب أى الرقاب أفضل (٢٥١٨) ، ومسلم (١ / ٨٨) ، كتاب الإيمان باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (١٣٦ / ٨٤) ، والنسائى (٦ / ١٩) ، كتاب الجهاد ، باب ما يعدل الجهاد فى سبيل الله.

وعن أبى هريرة :

أخرجه البخارى (٤ / ١٥٦) كتاب الحج ، باب فضل الحج المبرور (١٥١٩) ومسلم (١٣٥ / ٨٣) ، والنسائى (٦ / ١٩).

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ٩٩) (١٧١) عنه بنحوه ، وذكره السيوطى فى الدر (١ / ٣٩) وزاد نسبته لابن أبى حاتم.

٣٦٣

ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة (١) ؛ لأن تلك المعونة على أداء ما كلف قد أعطى ؛

__________________

(١) المعتزلة : هم أصحاب واصل بن عطاء الغزالى الذى اعتزل عن مجلس الحسن البصرى ، حين دخل على الحسن رجل ، فقال : يا إمام الدين ، ظهر فى زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة ، فكيف تحكم لنا؟ فتفكر الحسن ، وقبل أن يجيب قال واصل : أنا لا أقول صاحب الكبيرة مؤمن ولا كافر ، ثم قام إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد ، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر. فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ؛ فلذلك سمى أصحابه : معتزلة ، ويلقبون بالقدرية ؛ لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم فيها أى خلق لله تعالى. والمعتزلة لقبوا أنفسهم : أصحاب العدل والتوحيد. أما تلقيبهم بالأول ؛ فلقولهم بوجوب الأصلح وثواب المطيع ، وأما بالثانى ؛ فلقولهم بنفى الصفات القديمة.

وقد افترقوا إلى عشرين فرقة وهى :

ـ الواصلية : أصحاب واصل بن عطاء وقالوا بنفى الصفات وبالقدر وامتناع إضافة الشر إلى الله وبالمنزلة بين المنزلتين ... إلخ.

ـ العمرية : نسبة إلى عمرو بن عبيد.

ـ الهذيلية : أصحاب أبى الهذيل العلاف وقالوا بفناء مقدورات الله وأن أهل الخلدين يصيرون إلى خمود ؛ ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمى الآخرة.

ـ النظامية : أصحاب إبراهيم بن سيار النظام. قالوا : لا يقدر الله أن يفعل بعباده فى الدنيا ما لا صلاح لهم فيه ... إلخ.

ـ الأسوارية : أصحاب الأسوارى ، زادوا : أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه والإنسان قادر عليه.

ـ الإسكافية : أصحاب أبى جعفر الإسكاف قالوا : الله لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين.

ـ الجعفرية : أصحاب الجعفرين : ابن مبشر وابن حرب. زادوا : أن فى فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس. والإجماع على حد الشرب خطأ. وسارق الحبة منخلع عن الإيمان.

ـ البشرية : ينسبون إلى بشر بن المعتمر. قالوا : الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغيرها تقع متولدة والقدرة سلامة البنية والله قادر على تعذيب الطفل ظالما ولو عذبه لكان عاقلا عاصيا وفيه تناقض.

ـ المزدارية : نسبة إلى أبى موسى عيسى بن صبيح المزدار. قالوا : الناس قادرون على مثل القرآن نظما يعنى أن إعجازه كان بصرف الله الناس عن الإتيان بمثله لا بعجز طبيعى منهم.

ـ الهشامية : هو هشام بن عمرو الغوطى. قالوا : لا يطلق اسم الوكيل على الله لاستدعائه موكلا ... إلخ.

ـ الصالحية : أصحاب الصالحى جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت.

ـ الحائطية : أصحاب أحمد بن حائط من أصحاب النظام قالوا : للعالم إلهان ، قديم هو الله تعالى ومحدث هو الذى يحاسب الناس فى الآخرة.

ـ الحدبية : أصحاب فضل الحدبى. زادوا التناسخ وأن كل حيوان مكلف.

ـ المعمرية : أصحاب معمر بن عياد السلمى. قالوا : الله لم يخلق شيئا غير الأجسام ولا يوصف بالقدم ولا يعلم نفسه والإنسان لا فعل له غير الإرادة.

ـ التمامية : أصحاب تمامة بن أشرس النميرى. قالوا : اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا وكذلك البهائم والأطفال ... إلخ. ـ

٣٦٤

إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفا قد بقى شىء ـ مما به أداء ما كلف ـ عند الله ، وطلب ما أعطى كتمان العطية ، وكتمان العطية كفران ؛ فيصير كأنّ الله أمر أن يكفر نعمه ويكتمها ويطلبها منه تعنتا. وظنّ مثله بالله كفر.

ثم لا يخلو من أن يكون عند الله ما يطلب فلم يعطه التمام إذا ، أو ليس عنده فيكون طلبه استهزاء به ، إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به فى العرف ، مع ما كان الذى يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم ؛ إذ لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح فى الدين فلا يعطى ، أو ليس له ألا يعطى فكأنه قال : اللهم لا تجر.

ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به ، وهذا مع ما كان لا يدعو الله أحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبه أنه لا يذل عند المعونة ، ولا يزيغ عند العصمة ، وليس مثله يملك الله عند المعتزلة. ولا قوة إلا بالله.

وقد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى خبر القسمة : «الله يقول : هذا بينى وبين عبدى نصفين».

وذلك يحتمل : أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعا الفزع إلى الله بالعبادة ، والاستعانة ورفع الحاجة إليه ، وإظهار غناه ـ جل وعلا ـ عنه ؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه ، وطلب الحاجة إليه.

ويحتمل : أن يكون الحرف الأول لله بما فيه عبادته وتوحيده ، والثانى للعبد بما فيه

__________________

ـ الخياطية : أصحاب أبى الحسين بن أبى عمرو الخياط. قالوا : بالقدر وتسمية المعدوم شيئا وجوهرا وعرضا وأن إرادة الله كونه غير مكره ولا كاره وهى فى أفعال نفسه الخلق وفى أفعال عباده الأمر ... إلخ.

ـ الجاحظية : أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ : قالوا : إن الأجسام ذوات طبائع ويمتنع انعدام الجواهر. والنار تجذب إليها أهلها لا أن الله يدخلها والخير والشر من فعل العبد والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة.

ـ الكعبية : أصحاب أبى القاسم بن محمد الكعبى قالوا : فعل الرب واقع بغير إرادته ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه.

ـ الجبائية : أصحاب أبى على الجبائى : قالوا : إرادة الله حادثة لا فى محل والعالم يفنى بفناء لا فى محل والله متكلم بكلام يخلقه فى جسم ولا يرى فى الآخرة والعبد خالق لفعله ومرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر وإن مات بلا توبة يخلد فى النار ... إلخ.

ـ البهشمية : انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه ولا مع عدم القدرة. ولا يتعلق علم بمعلومين على التفصيل ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة. ينظر : حاشية أحمد ملا على شرح العقائد النسفية للعلامة التفتازانى (١ / ٥٣) وما بعدها.

٣٦٥

طلب معونته وقضاء حاجته.

ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أخرج على الدعاء فقال الله ـ عزوجل ـ : «هذا لعبدى ، ولعبدى ما سأل».

وقوله : (اهْدِنَا).

قال ابن عباس (١) ـ رضى الله عنهما ـ : أرشدنا.

والإرشاد ، والهداية واحد ، بل الهداية فى حق التوفيق أقرب إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هى أعم فى تعارفهم.

ثم القول بالهداية يخرّج على وجوه ثلاثة :

أحدها : البيان. ومعلوم أن البيان قد تقدم من الله لا أحد يريد به ذلك لمضى ما به البيان من كتاب وسنة ، وإلى هذا تذهب المعتزلة.

والثانى : التوفيق له ، والعصمة عن زيغه. وذلك معنى قولهم : «اللهمّ اهدنا فيمن هديت» ، وقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ) وصفهم إلى آخر السورة ، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم فى ذلك سواء ، فثبت أنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه.

والثالث : أن يكون على طلب خلق الهداية لنا ؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل ، وكل ما يفعله خلق ؛ كأنه قال : اخلق لنا هدايتنا ، وهو الاهتداء منا. وبالله التوفيق.

ثم تأويل طلب الهداية ، ممن قد هداه الله يتوجه وجهين :

أحدهما : طلب الثبات على ما هداه الله ، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان ، أنها بمعنى الثبات عليه ، وذلك كرجلين ينظران إلى شىء فيرفع أحدهما بصره عنه ، جائز القول بازدياد نظر الآخر.

ووجه آخر : على أن فى كل حال يخاف على المرء ضد الهدى ، فيهديه مكانه أبدا فيكون له حكم الاهتداء ؛ إذ فى كل وقت إيمان منه دفع به ضده.

وعلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ ...) الآية [النساء : ١٣٦] ونحو ذلك من الآيات.

وقد يحتمل أيضا معنى الزيادة هذا النوع. وبالله التوفيق.

وأما (الصِّراطَ) فهو الطريق والسبيل فى جميع التآويل وهو قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ١٠١) (١٧٣) عنه بنحوه ، وذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٤٠) وزاد نسبته لابن أبى حاتم.

٣٦٦

...) الآية [الأنعام : ١٥٣] ، وقوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨].

ثم اختلفوا فيما يراد به :

فقال بعضهم : هو القرآن (١).

وقال بعضهم : هو الإيمان.

وأيهما كان فهو القائم الذى لا عوج له ، والقيّم الذى لا اختلاف فيه ، من لزمه وصل إلى ما ذكر. وبالله التوفيق.

وقوله : (الْمُسْتَقِيمَ).

قيل : هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأدلة ، لا يزيله شىء ، ولا ينقض حججه كيد الكائدين ، ولا حيل المريبين.

وقيل : (الْمُسْتَقِيمَ) الذى يستقيم بمن تمسك به حتى ينجيه ، ويدخله الجنة.

وقيل : (الْمُسْتَقِيمَ) بمعنى : يستقام به ؛ كقوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ، أى : يبصر به. يدل عليه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) الآية [فصلت : ٣٠] ؛ فالمستقيم هو المتبع له. وبالله التوفيق.

ثم ذكر من ذكر من المنعم عليهم ؛ ولله على كل مؤمن نعم بالهداية.

وما ذكر دليل على أن «الصراط» هو الدين ؛ لأنه أنعم به على جميع المؤمنين.

لكن تأويل من يردّ إلى الخصوص يتوجه وجهين :

أحدهما : أنه أنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين ، فيكون على التأويل الثانى من القرآن والأدلة.

والثانى : أن يكون لهم خصوص فى الدين قدّموا به على جميع المؤمنين ؛ كقول داود ، وسليمان : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ١٥] ، وعلى هذا الوجه يكون (اهْدِنَا).

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى الشعب كما فى الدر المنثور (١ / ٤١) عن قيس بن سعد عن رجل مرفوعا ، ونسبه البغوى فى تفسيره (١ / ٤١) لعبد الله بن مسعود.

فى الباب عن على مرفوعا به.

أخرجه أحمد (١ / ٩١) والترمذى (٥ / ٢٩ ، ٣٠) كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء فى فضل القرآن (٢٩٠٦) وأبو يعلى (٣٦٧) وابن جرير (١٧٤ ، ١٧٥) وابن أبى شيبة والدارمى وابن أبى حاتم وابن الأنبارى فى المصاحف وابن مردويه والبيهقى فى شعب الإيمان كما فى الدر المنثور (١ / ٤١).

قال الترمذى : إسناده مجهول ، وفى حديث الحارث مقال.

وأخرجه ابن جرير (١٧٦) عنه موقوفا.

٣٦٧

ووجه آخر : وهو المخصوص الذى خص به كثيرا من المؤمنين من بين غيرهم ، لكن الثّنيا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين ؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

وقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

على قول المعتزلة : ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين ؛ إذ لا نعمة من الله على أحد إلا الأصلح فى الدين والبيان للسبيل المرضى ، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثّنيا. والله الموفق.

ثم اختلف فى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

منهم من قال : هو واحد ؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه ، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال.

ومنهم من قال : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم اليهود ، وإنما خصوا بهذا : بما كان منهم من فضل تمرد وعتو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى ، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى.

ثم قولهم فى الله : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...) الآية [المائدة : ٦٤]. وقولهم : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ...) الآية [آل عمران : ١٨١]. وقول الله تعالى فيهم : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...) الآية [المائدة : ٨٢].

وكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد استفتاحهم ، وشدة تعنتهم ، وظهور النفاق ؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهم ، وإن كانوا شركاء غيرهم فى اسم الضلال. وبالله التوفيق.

وفى هذا وجه آخر : أن يحمل الذنوب على وجهين :

منها ما يوجب الغضب ـ وهو الكفر ـ ومنها ما يوجب اسم الضلال ـ وهو ما دونه ـ كقول موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠].

ورؤية الهداية لأهلها والتعوذ به من كل ضلال ، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه ـ وبالله النجاة والخلاص ـ مع ما فى خبر القسمة ، وعد جليل من رب العالمين فى إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج ، إذ قال : «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» ثم صيّر آخر السورة لعبده ، وليس فى صلاته سوى إظهار الفقر ، ودفع الحاجة ، وطلب المعونة ، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف ، وليس ذلك مما يوصف به العبد أنّه له ؛ فثبت أن له فى ذلك إجابة ربه فيما أمره به ، ووعد ذلك ، وهو لا يخلف وعده.

فأنّى يحتمل ذلك بعد أمره العبد بالذى تضمنه أول السورة ، فقام به العبد مع لؤمه

٣٦٨

وجفائه ، والله بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد؟!

لا يكون هذا البتة ، وقد قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وغير ذلك مما فيه الإنجاز ، وأنه لا يخلف الميعاد.

ثم قد جعلت ـ بما جاء من الحديث فى تلاوتها ـ أن قدمها على التوراة ، والإنجيل ، وعدلها بثلثى القرآن ، وجعلها شفاء من أنواع الأدواء للدين ، والنفس ، والدنيا ، وجعلها معاذا من كل ضلال ، وملجأ إلى كل نعمة. وبالله نستعين.

مع ما أوضح ـ فى الأسماء التى لقب فيها فاتحة القرآن ـ عظيم موقعه ، وجليل قدره ، وهو أن سمّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن ، وكذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يفتتح القراءة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن.

وسمى أم القرآن لما يؤم غيره فى القراءة.

وقيل : الأم بمعنى الأصل ، وهو ألا يحتمل شىء مما فيه النسخ ولا الرفع فصار أصلا.

وسمى المثانى ؛ لما يثنى فى الركعات ، ولا قوة إلا بالله.

وفى قوله : (اهْدِنَا) إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا ؛ إذ قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة ؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة.

أحدهما : تذكير نعم الله على الذين يقبلون دينه فى قلوبهم ، والتوفيق لهم بذلك ، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه.

والثانى : تعوذهم عن كل زيغ ومقت ، وضلال ، وذنب ، والتجاؤهم إليه فى ذلك بقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

* * *

٣٦٩

تفسير سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وبه نستعين على القوم الكافرين)

قوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

(الم)

قيل : فيه وجوه :

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قوله : (الم) أنا الله أعلم (١).

وقيل : إنه قسم أقسم بها (٢).

وقيل : إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة (٣).

وقيل : إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماء الله : الألف الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه (٤).

وقيل : إن اللام آلاؤه ، والميم مجده (٥).

وقيل : إن الألف هو الله ، واللام جبريل ، والميم محمد.

وقيل : إنها من التشبيب ؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام ، والمنثور من نحو الشعر ونحوه.

وقيل : إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما ألحق ذكرها بها على أثرها نحو قوله :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٣٨) ووكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس من طرق عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٤).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٦) وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقى فى كتاب الأسماء والصفات عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٥٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٣٣٠ ، ٣٣١) ، من طرق عن مجاهد بنحوه ، وزاد السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٤) ابن المنذر وابن أبى حاتم وأبا الشيخ عنه ، وعزاه أيضا لابن أبى شيبة فى تفسيره وعبد بن حميد وابن المنذر عن عامر الشعبى ولابن مردويه عن ابن عباس ، ولأبى الشيخ ، والبيهقى فى الأسماء والصفات عن السدى ، ولابن المنذر وابن أبى حاتم عن الحسن.

(٤) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٤) ونسبه لمحمد بن كعب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٤٣ ، ٢٤٤) عن الربيع بن أنس بنحوه ، وعزاه للسيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٤) لعبد بن حميد عنه.

٣٧٠

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [أول سورة البقرة] ، (ذلِكَ الْكِتابُ) هو تفسير (الم) ، و (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [أول سورة آل عمران] ، و (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [أول سورة الأعراف] ، و (الر كِتابٌ) [أول سورة هود ، وإبراهيم] ، و (الم (١) تِلْكَ آياتُ) [أول سورة لقمان] كلّ ملحق بها فهو تفسيرها.

وقيل (١) : إن فيها بيان غاية ملك هذه الأمة من حساب الجمّل ، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض.

وقيل (٢) : إنه من المتشابه الذى لم يطلع الله خلقه علم ذلك ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء من المحن.

وقيل : إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن ؛ كقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] ، وكقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] فأنزل الله عزوجل هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة.

والأصل فى الحروف المقطعة : أنه يجوز أن تكون على القسم بها على ما ذكرنا.

وأريد بالقدر الذى ذكر كلية الحروف بما كان من شأن العرب القسم بالذى جلّ قدره ، وعظم خطره. وهى مما بها قوام الدارين ، وبها يتصل إلى المنافع أجمع. مع ما دلّت على نعمتين عظيمتين ـ اللسان والسمع ـ وهما مجرى كل أنواع الحكمة ، فأقسم بها على معنى إضمار ربّها ، أو على ما أجلّ قدرها فى أعين الخلق ، فيقسم بها ، ولله ذلك ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : أن يكون بمعنى الرمز والتضمين فى كل حرف منها أمرا جليلا يعظم خطره على ما عند الناس فى أمر حساب الجمل. ثم يخرّج على الرمز بها عن أسماء الله وصفاته ونعمه على خلقه ، أو على بيان منتهى هذه الأمة ، أو عدد أئمتها ، وملوكها ، والبقاع التى ينتهى أمرها ، وذلك هو فى نهاية الإيجاز ، بل بالاكتفاء بالرمز عن الكلام ، وبما هو بمعنى من الإشارة فى الاكتفاء بها عن البسط ، ولا قوة إلا بالله ؛ ليعلم الخلائق قدرة الله ، وأنّ له أن يضمن ما شاء فيما شاء على ما عليه أمر الخلائق من لطيف الأشياء التى كادت العقول وأسباب الإدراك تقصر عنها ، وكنهها التى يدركها كل أحد ، وبين الأمرين ، فعلى ذلك أمر تركيب الكلام ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) فى هذا المعنى ذكر السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٥) حديثا عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله ، وعزاه لابن إسحاق والبخارى فى تاريخه وابن جرير بسند ضعيف.

(٢) ذكره القرطبى فى تفسيره (١ / ١٠٨).

٣٧١

ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور ، ولله تسميتها بما شاء كما سمى كتبه ، وعلى ذلك منتهى أسماء الأجناس خمسة أحرف ، وكذلك أمر السور ، دليل ذلك وصل كل سورة فتحت بها إليها ، كأنه بنى بها. ولا قوة إلا بالله.

ويجوز أن يكون على التشبيب ، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور فى المتعارف أن المنظوم فى الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام ، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل.

ألا ترى أنه خرج على ما عليه فنون الكلام فى الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم ، فمثله أمر التشبيب. ولا قوة إلا بالله.

وجائز : أن يكون الله أنزلها على ما أراد ؛ ليمتحن عباده بالوقف فيها ، وتسليم المراد فى حقيقة معناه والذى له يزول ذلك ، ويعترف أنه من المتشابه ، وفيها جاء تعلق الملحدة ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : أن يكون إذ علم الله من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] أنزل على وجه يبعثهم على التأمل فى ذلك بما جاء بالعجيب الذى لم يكونوا يعرفون ذلك : إما لما عندهم أنه كأحدهم ، أو لسبيل الطعن ؛ إذ خرج عن المعهود عندهم ، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياء ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا بالله.

وقيل : إنه دعا خلقه إلى ذلك ، والله أعلم بما أراد.

وقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ).

أى : هذا الكتاب ، إشارة إلى ما عنده ، وذلك شائع فى اللغة ، جائز بمعنى هذا.

وقيل : ذلك بمعنى ذلك ، إشارة إلى ما فى أيدى السفرة والبررة.

وقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ).

قيل : فيه وجوه ؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين :

أى : لا ترتابوا فيه أنه من عند الله (١).

وقيل : لا ريب فيه أنه منزل على أيدى الأمناء والثقات.

وقوله : (هُدىً).

قيل فيه بوجهين :

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٥).

٣٧٢

(هُدىً) : أى : بيانا ووضوحا ، فلو كان المراد هذا ، فالتّقىّ وغير التّقىّ سواء.

والثانى : هدى أى : رشدا ، وحجة ، ودليلا.

ثم اختلفوا فى الدليل :

فقال الراوندى (١) : الدليل إنما يكون دليلا بالاستدلال ؛ لأنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال ؛ كالضرب من الضارب وغيره.

وقال غير هؤلاء : الدليل بنفسه دليل ، وإن لم يستدل به ؛ لأنه حجة ، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أن الدليل يكون دليلا بالاستدلال ، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلا ، وإن كان بنفسه دليلا ، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) [التوبة : ١٢٤] ثم قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

وقوله : (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

قيل : فيه بوجهين :

يؤمنون بالله غيبا (٢) ، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأمم السالفة ، من أنبيائهم ؛ كقول بنى إسرائيل لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

والثانى (٣) : يؤمنون بغيب القرآن ، وبما يخبرهم القرآن من الوعد والوعيد ، والأمر والنهى ، والبعث ، والجنة ، والنار. والإيمان إنما يكون بالغيب ؛ لأنه تصديق ، والتصديق والتكذيب إنما يكونان عن الخبر ، والخبر يكون عن غيب لا عن مشاهدة.

والآية تنقض قول من يقول : بأن جميع الطاعات إيمان ؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

يحتمل وجهين :

__________________

(١) هو : أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين الراوندى أو ابن الراوندى ؛ فيلسوف مجاهر بالإلحاد.

من سكان بغداد. نسبته إلى (راوند) من قرى أصبهان. قال ابن خلكان : له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه فى كتبهم ، وقال ابن كثير : أحد مشاهير الزنادقة ، وقال ابن حجر العسقلانى : ابن الراوندى الزنديق الشهير كان أولا من متكلمى المعتزلة ثم تزندق واشتهر بالإلحاد ، ويقال كان غاية فى الذكاء. مات برحبة مالك بن طوق (بين الرقة وبغداد) ، وقيل صلبه أحد السلاطين ببغداد ينظر : الأعلام (١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨).

(٢) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٧) مختصرا.

(٣) أخرجه ابن جرير بنحوه عن كل من : ابن عباس وابن مسعود (٢٧٣) ، وزر بن حبيش (٢٧٤) ، وقتادة (٢٧٥) ، والربيع بن أنس (٢٧٦) ، وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٦٠).

٣٧٣

يحتمل : الصلاة المعروفة (١) ، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها ، والخشوع ، والخضوع له فيها ، وإخلاص القلب فى النّية ؛ على ما جاء فى الخبر «انظر من تناجى» (٢).

ويحتمل : الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ ، ولا الرفع فى الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

من الأموال يحتمل فرضا ونفلا (٣).

ويحتمل : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من القوى فى الأنفس وسلامة الجوارح ، (يُنْفِقُونَ) : يعينون. والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

يحتمل وجهين :

أى : ما أنزل إليك من القرآن.

ويحتمل : ما أنزل إليك من الأحكام ، والشرائع التى ليس ذكرها فى القرآن.

وقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

يحتمل وجهين أيضا :

يعنى الكتب التى أنزلت على سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

ويحتمل : الشرائع ، والأخبار سوى الكتب ، والله أعلم.

وقوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

بمعنى يؤمنون.

والإيقان بالشىء هو العلم به. والإيمان هو التصديق ، لكنه إذا أيقن آمن به وصدق به لعلمه به ؛ لأن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث ؛ كقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢] فأخبر عزوجل عن حال هؤلاء أنهم على يقين ، ليسوا على الظن والشك كأولئك.

وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ).

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه عنه ابن جرير (٢٨٢ ، ٢٨٣) ، وذكره السيوطى فى الدر (١ / ٦٢).

(٢) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (٣٩٣٥) عن أبى هريرة مرفوعا : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليقبل عليها حتى يفرغ منها ، وإياكم والالتفات فى الصلاة فإن أحدكم يناجى ربه ما دام فى الصلاة».

(٣) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٥ ، ٢٨٦) وأخرجه أيضا (٢٨٧) عن الضحاك.

وانظر الدر المنثور (١ / ٦٢).

٣٧٤

قيل (١) : على صواب ، ورشد من ربهم.

وقيل (٢) : إنهم على بيان من ربهم ، لكن البيان ليس المؤمن أحقّ به من الكافر ؛ لأنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه ، إما من جهة العقل ، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أن الأول أقرب إلى الاحتمال من الثانى.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : الباقون فى نعم الله والخير.

وقيل (٣) : الظافرون بحاجاتهم ، يقال : أفلح ، أى : ظفر بحاجته.

وقيل : (الْمُفْلِحُونَ) هم السعداء ، يقال : أفلح ، أى : سعد.

وقيل (٤) : (الْمُفْلِحُونَ) الناجون ؛ يقال : أفلح ، أى : نجا. وكله يرجع إلى واحد ؛ كقوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأول.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ للهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(١٠)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

هذا ـ والله أعلم ـ فى قوم خاص ، علم الله أنهم لا يؤمنون ، فأخبر عزوجل رسوله بذلك ، فكان كما قال.

وفيه آية النّبوّة.

ويحتمل أيضا : أنهم لا يؤمنون ما داموا فى كفرهم ؛ كقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٢٥٨ ، آل عمران : ٨٦ ، التوبة : ١٩ ، ١٠٩ ، الصف : ٧ ، الجمعة : ٥] والكافرون ما داموا كافرين ظالمون.

وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٤٨).

(٢) ينظر التخريج السابق.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٩٤) عن ابن عباس بنحوه.

(٤) انظر تفسير البغوى (١ / ٤٨).

٣٧٥

روى عن الحسن (١) : «إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد ، وعلم الله منه أنه لا يؤمن ، طبع على قلبه حتى لا يؤمن».

وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين :

أحدهما : أن مذهبهم أن الكافر مكلف ، وإن كان قلبه مطبوعا عليه.

والثانى : أن الله ـ عزوجل ـ عالم بكل من يؤمن فى آخر عمره ، وبكل من لا يؤمن أبدا ، بلغ ذلك الحد أو لم يبلغ.

فعلى ما يقوله الحسن إيهام أنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك.

والمعتزلة يقولون : إن قوله : (خَتَمَ) ، و (طَبَع) يعلم علامة فى قلبه أنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل.

ولكن عندنا : خلق ظلمة الكفر فى قلبه.

والثانى : خلق الختم والطبع على قلبه [إذا فعل فعل الكفر ؛ لأن](٢) فعل الكفر من الكافر مخلوق عندنا ، فخلق ذلك الختم عليه ؛ وهو كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الإسراء : ٤٦] أى : خلق الأكنة. وغيره من الآيات.

__________________

(١) هو الحسن بن أبى الحسن بن يسار ، أبو سعيد ، مولى زيد بن ثابت الأنصارى ، ويقال مولى أبى اليسر كعب بن عمرو السلمى ؛ وكانت أم الحسن مولاة لأم سلمة أم المؤمنين المخزومية ؛ ويقال : كان مولى جميل بن قطبة ويسار أبوه من سبى ميسان. سكن المدينة ، وأعتق ، وتزوج بها فى خلافة عمر ، فولد له بها الحسن رحمة الله عليه لسنتين بقيتا من خلافة عمر واسم أمه : خيرة ، ثم نشأ الحسن بوادى القرى ، وحضر الجمعة مع عثمان ، وسمعه يخطب ، وشهد يوم الدار وله يومئذ أربع عشرة سنة رأى عثمان ، وطلحة ، والكبار ، وروى عن عمران بن حصين ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وسمرة بن جندب ، وأبى بكرة الثقفى ، والنعمان بن بشير ، وجابر ، وجندب البجلى ، وابن عباس ، وعمرو بن تغلب ، ومعقل بن يسار ، والأسود بن سريع ، وأنس ، وخلق من الصحابة وقرأ القرآن على حطان بن عبد الله الرقاشى ، وروى عن خلق من التابعين وعنه أيوب وشيبان النحوى ، ويونس بن عبيد ، وابن عون ، وحميد الطويل ، وثابت البنانى ، ومالك بن دينار ، وهشام بن حسان ، وجرير بن حازم ، والربيع بن صبيح ، ويزيد بن إبراهيم التسترى ، ومبارك بن فضالة وخلق كثير وقال سليمان التيمى : كان الحسن يغزو ، وكان مفتى البصرة جابر بن زيد أبو الشعثاء ، ثم جاء الحسن فكان يفتى. قال محمد بن سعد : كان الحسن ـ رحمه‌الله ـ جامعا عالما ، رفيعا فقيها ، ثقة ، حجة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما. وما أرسله فليس بحجة وقال ضمرة بن ربيعة ، عن الأصبغ بن زيد : سمع العوام بن حوشب ، قال : ما أشبه الحسن إلا بنبى. وعن أبى بردة ، قال : ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه. وعن أنس بن مالك ، قال : سلوا الحسن ، فإنه حفظ ونسينا. ينظر : سير أعلام النبلاء (٤ / ٥٦٣ ، ٥٦٤ ، ٥٦٥ ، ٥٦٦ ، ٥٧٢ ، ٥٧٣) ، طبقات ابن سعد (٧ / ١٥٦) ، وطبقات خليفة ت (١٧٢٦) ، والزهد لأحمد (٢٥٨) ، وتاريخ البخارى (٢ / ٢٨٩) ، والمعارف ص (٤٤٠).

(٢) بدل ما بين المعقوفين فى أ : إذ.

٣٧٦

والأصل فى ذلك : أنه ختم على قلوبهم لما تركوا التأمل ، والتفكر فى قلوبهم فلم يقع ، وعلى سمعهم لما لم يسمعوا قول الحق والعدل ، خلق الثقل عليه ، وخلق على أبصارهم الغطاء لما لم ينظروا فى أنفسهم ، ولا فى خلق الله ليعرفوا زوالها وفناءها وتغير الأحوال ؛ ليعلموا أن الذى خلق هذا دائم لا يزول أبدا.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا ، وأظهروا خلاف ما فى قلوبهم ؛ فأخبر عزوجل نبيّه عليه الصلاة والسلام : أنهم ليسوا بمؤمنين ، أى : بمصدقين بقلوبهم.

وكذلك قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١].

وكذلك قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...) الآية [النساء : ٦٥].

هذه الآيات كلها تنقض على الكراميّة (١) ؛ لأنهم يقولون : الإيمان قول باللسان دون التصديق (٢). فأخبر الله ـ عزوجل ـ عن جملة المنافقين أنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأتوا بالتصديق ، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.

__________________

(١) الكرامية : فرقة من فرق الخوارج تنسب لابن كرام. ينظر : نشر الطوالع ص (٣٩٠).

(٢) التصديق يعنى الإذعان ، والإذعان معناه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

والإيمان شرعا : هو التصديق بما جاء به من عند الله والإقرار ، إلا أن الإقرار ركن يحتمل السقوط ، والتصديق لا يحتمله.

وقد وقع خلاف بين العلماء فى الإيمان الشرعى على ثمانية مذاهب :

الأول : ذهب فريق من العلماء إلى أن الإيمان الشرعى هو التصديق بما جاء به الرسول من عند الله والإقرار باللسان فالإيمان الشرعى عند هذا الفريق مركب من جزءين : التصديق والإقرار باللسان وهذان الركنان ـ أو الجزءان ـ للإيمان ليسا على درجة واحدة من الثبات : فالتصديق لا يقبل السقوط ، بينما الإقرار باللسان ركن يحتمل السقوط فى حالات معينة كما سيأتى.

والتصديق يجب أن يكون بجميع ما جاء به الرسول من عند الله مما علم من الدين بالضرورة ، بناء على هذا لو صدق إنسان بوحدانية الله تعالى وصفاته وأنكر نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يكون مؤمنا بحسب الشرع وإن كان مؤمنا بحسب اللغة ، وكذلك من صدق بالله واتخذ معه شريكا ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] فالموجود عند هؤلاء هو الإيمان اللغوى لا الشرعى.

ولا يشترط فى التصديق بجميع ما جاء به النبى التفصيل بل يكفى الإجمال فى الخروج عن عهدة التكليف بالإيمان ، ولا تنحط درجة هذا الإيمان الإجمالى عن درجة الإيمان التفصيلى فى الخروج من عهدة الإيمان وإن كان التفصيلى أفضل من الإجمالى.

أما الإقرار باللسان ـ وهو الركن الثانى للإيمان لدى هذا الفريق فإنه يحتمل السقوط إذ قد يسقط حالة الإكراه والخرس مثلا بخلاف التصديق فإنه لا يحتمل السقوط.

وقد اعترض على هذا المذهب باعتراضين : ـ

٣٧٧

__________________

ـ أحدهما أن : أطفال المؤمنين لا تصديق عندهم وهم مؤمنون فيكون التصديق ساقطا فى حقهم.

والثانى : أن النائم والغافل مؤمنان مع أنهما لا تصديق عندهما أيضا.

وقد أجيب عن الاعتراض الأول بأن الكلام فى الإيمان الحقيقى وهو الذى لا يسقط فيه التصديق بخلاف الإيمان الحكمى فإنه يسقط فيه التصديق ، وإيمان أطفال المؤمنين إيمان حكمى ؛ لأنه من باب إلحاق المعدوم بالمحقق ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل إيمان أحد الأبوين إيمانا للأولاد.

وقد أجيب عن الاعتراض الثانى بجوابين :

أولا : أن التصديق موجود عند النائم والغافل وإنما الغفلة عن حصوله.

وقد رد هذا الجواب بأنه ينافى قول المتكلمين : إن النوم ضد الإدراك فذلك يفيد أن التصديق غير موجود عند النائم.

وأجيب عن هذا الرد بأن مراد المتكلمين بقولهم : إن النوم ضد الإدراك هو أن النوم ضد الإدراك ابتداء وليس منافيا لبقاء الإدراك ؛ فالنائم لا يدرك الأشياء ابتداء إنما إذا أدرك شيئا حال يقظته ثم نام كان هذا الإدراك باقيا فى القلب وهناك غفلة عن حصوله فقط.

والجواب الثانى أننا لو سلمنا عدم حصول التصديق للنائم والغافل نقول : إن الأمر إذا تحقق ولم يطرأ عليه ما ينافيه فإنه يكون فى حكم الباقى ، والنائم والغافل قد تحقق لديهما تصديق قبل حصول النوم والغفلة ولم يطرأ على هذا التصديق ما ينافيه فذلك يكون تصديقهما فى حكم الباقى.

والفرق بين هذا وبين إيمان الأطفال أنه فى الأطفال جعل غير الحاصل حاصلا فهو إيمان حكمى ، وفى النائم والغافل جعل المحقق غير الباقى فى حكم الباقى ولذلك كان المؤمن اسما لمن آمن فى الحال أو فى الماضى ويكتفى بالإقرار مرة واحدة فى العمر مع أنه جزء من مفهوم الإيمان ، فما ذاك إلا لأن الشارع جعل المحقق الذى لم يطرأ عليه ما يضاده فى حكم الباقى.

فإن قيل : إن الإقرار مرة واحدة فى العمر إذا كان كافيا فى الإيمان كان ساقطا فى غير حالة الاضطرار ، وأنتم تقولون : إنه لا يسقط فى غير حالة الاضطرار.

فالجواب أن معنى سقوطه أنه يجوز صدور المنافى له عند الاضطرار ، والمقر مرة واحدة فى العمر لم يأت بما ينافيه فهو موجود عنده باعتبار أن المحقق غير الباقى فى حكم الباقى.

المذهب الثانى : وهو مذهب جمهور المحققين أن الإيمان هو التصديق بجميع ما جاء به النبى ، وأما الإقرار باللسان فليس ركنا بل هو شرط لإجراء الأحكام فى الدنيا ، وهذا المذهب هو المختار ، وعليه فمن تحقق منه التصديق بالقلب ولم يقر باللسان فهو مؤمن ناج عند الله وإنما لا تجرى عليه أحكام المؤمنين فى الدنيا ؛ لأن التصديق فى القلب خفى لا يعلم إلا بما يدل عليه ، ولا بد على هذا المذهب من أن يعلن هذا الإقرار للناس حتى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا بخلافه على المذهب الأول القائل بأن الإقرار ركن فإنه لا يشترط فيه إعلانه.

المذهب الثالث : أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، دون تعرض للتصديق ، وهو مذهب الكرامية.

المذهب الرابع : أن الإيمان هو التصديق بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان ، وهو مذهب المعتزلة والكثير من الفقهاء والمحدثين.

المذهب الخامس : أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وهو مذهب القدرية وبعض منهم قال : إنه المعرفة بالله وبما جاء به الرسول من عند الله.

المذهب السادس : أن الإيمان هو الإقرار والعمل مطلقا سواء أكان فرضا أم نفلا ، وهو مذهب الخوارج. ـ

٣٧٨

__________________

ـ المذهب السابع : أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط بشرط حصول المعرفة القلبية وبدونها لا يتحقق الإيمان ؛ وهو مذهب الرقاشى.

المذهب الثامن : أن الإيمان هو الإقرار باللسان بشرط التصديق ، وهو مذهب القطان.

هذه هى المذاهب الثمانية فى الإيمان الشرعى والمختار منها كما أشرنا هو المذهب الثانى :

وقد تضافرت على هذا المذهب الأدلة من القرآن الكريم والسنة.

أما القرآن الكريم : فقد وردت آيات كثيرة تدل لهذا المذهب ـ وهو أن الإيمان هو التصديق ، فى حين أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام ـ فمن هذه الآيات :

ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢]

ـ وقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦]

ـ قوله سبحانه وتعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]

وأما الأدلة من السنة المطهرة :

فقوله عليه الصلاة والسلام : «اللهم ثبت قلبى على دينك وطاعتك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا شققت عن قلبه».

فهذه النصوص تدل صراحة على أن محل الإيمان هو القلب وليس الإقرار والعمل من حقيقته.

ونوقش الاستدلال بأن أعمال القلب كثيرة فمنها التصديق والعفة والشجاعة والقدرة وهذه النصوص وإن دلت على أن الإيمان محله القلب فهى لا تدل على خصوص التصديق دون سائر أعمال القلب.

والجواب أن ما عدا التصديق من أعمال القلب ليس من الإيمان باتفاق الخصوم ، وإنما خلافهم هل الإيمان تصديق وشىء آخر أو هو تصديق فقط؟ وأيضا فإن الإيمان فى اللغة معناه التصديق ولم يعين فى الشرع لمعنى آخر كما عين لفظ الصلاة والصوم والزكاة ؛ إذ لو كان له معنى آخر غير التصديق لبينه الشارع لنا إذ لو لم يبينه لنا لكان مخاطبا لنا بما لا نفهمه وذلك مستلزم لعدم الإمكان ، وإنما وقع البيان من الشارع عن المؤمن به لا عن الإيمان ولذلك قال عليه‌السلام لمن سأله عن الإيمان «أن تؤمن بالله .... إلخ» ولم يبين له معنى الإيمان ، وما ذاك إلا لأنه معروف فى اللغة ، فدل ذلك على أنه لم ينقل عن معناه اللغوى إلى معنى آخر فى الشرع ، فالإيمان شرعا ولغة هو التصديق ويزيد فى الشرع المتعلق وهو بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، والنقل من المعنى اللغوى إلى غيره لا يكون إلا بدليل ؛ لأنه خلاف الأصل وهاهنا لا دليل ، بل الدليل قائم على عدم النقل.

أدلة الكرامية : احتج الكرامية لما ذهبوا إليه من أن الإيمان هو التصديق باللسان بدليلين :

أحدهما : الاحتكام إلى اللغة ، حيث إن اللغة لا تعرف إلا التصديق اللسانى دون القلبى ، ومعلوم أن التصديق واحد فى اللغة وفى الشرع ، فلم ينقله الشارع إلى غير التصديق اللسانى الذى هو معروف فى اللغة ؛ ومن ثم وجب القول بأن الإيمان هو التصديق باللسان فقط.

الثانى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحكمون بإيمان من تلفظ بالشهادتين من غير استفسار عما فى قلبه فهم يقنعون منه بمجرد التصديق اللسانى فدل ذلك على أن هذا هو الإيمان.

ويجاب عن الدليل الأول : بأن القول : إن اللغة لا تعرف من التصديق إلا فعل اللسان غير صحيح بل الأمر بالعكس ؛ إذ إن اللغة لا تعرف إلا التصديق القلبى.

ويؤيد كون التصديق عمل القلب لا اللسان أن الله عزوجل قد نفى الإيمان عن بعض المقرين ـ

٣٧٩

__________________

ـ باللسان كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وقوله عزوجل : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) الآية فقد ثبت بهاتين الآيتين أن الإيمان ليس هو التصديق باللسان وإلا لما نفى عن هؤلاء المذكورين فى الآيتين.

والجواب على الدليل الثانى : أنه لا نزاع فى كون المتلفظ بكلمة الشهادتين مؤمن لغة ، كما أنه لا نزاع فى أن إيمانه هذا تترتب عليه الأحكام الشرعية ، والنزاع فى كون مثل هذا المتلفظ الذى لم يصدق بقلبه مؤمنا حقا ؛ فأنتم تقولون إنه مؤمن حقا وإن كان غير ناج ، ونحن نقول إنه غير مؤمن حقا ، بل إيمانه ظاهرى فقط. ما داموا يشترطون التصديق القلبى لإجراء الأحكام الأخروية فمن لم يصدق بقلبه وأقر بلسانه لا يدخل الجنة عندهم وكذا على مذهب الجمهور وإنما غلط الكرامية فى تسمية مثل هذا مؤمنا حقا ، وطبعا هم لا يقولون بكفر من منعه مانع من الإقرار وإن كان لازما لمذهبهم.

أدلة المعتزلة : استدل المعتزلة لمذهبهم بأربعة أدلة :

الدليل الأول : أن فعل الواجبات هو الدين ؛ لقوله سبحانه وتعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

فإن قوله : (وَذلِكَ) يعود على ما أمر به من الواجبات السابقة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ؛ فدل ذلك على أن فعل الواجبات هو الدين.

وإذا ثبت هذا : فإن الدين هو الإسلام ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، وكذلك فإن الإسلام هو الإيمان لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه مع أنه يقبل منه قطعا ، فثبت من هذا كله أن فعل الواجبات مساو للدين والدين مساو للإسلام والإسلام مساو للإيمان. إذن ففعل الواجبات مساو للإيمان. والجواب عن هذا الاستدلال أن اسم الإشارة (وَذلِكَ) راجع إلى الإخلاص المذكور قبله فى الآية فبطل بذلك قولهم : (إن فعل الواجبات هو الدين) ، وبطل بالتالى ما أدى إليه من القول بأن فعل الواجبات هو الإيمان ، ويؤيد رجوع اسم الإشارة إلى الإخلاص أنه مفرد فرجوعه إلى مفرد أولى من رجوعه إلى المأمور به من الطاعات لأنها متعددة ، وأيضا فهذه الطاعات مؤنثة واسم الإشارة مذكر.

الدليل الثاني : استدل المعتزلة ثانيا بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى صلاتكم إلى بيت المقدس ، فدلت الآية على أن الصلاة إيمان أى جزء منه.

يجاب عن هذا الاستدلال بأن المراد تصديقكم بوجوبها ، والمعنى : وما كان الله ليضيع تصديقكم بوجوب الصلوات الخمس التى توجهتم بها إلى بيت المقدس.

ولو سلم جاز أن يكون ذلك مجازا من باب إطلاق الإيمان على ما يدل عليه من الصلاة ، والمجاز أولى من النقل الذى هو لازم مذهبكم ، إذ الإيمان معناه فى اللغة التصديق ، فإذا كان المراد منه الصلاة فقد نقل من معناه اللغوى إلى معنى آخر.

الدليل الثالث : قوله ـ عزوجل ـ فى قاطع الطريق : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقد دل بذلك على أن قاطع الطريق ليس بمؤمن ؛ لأن المؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ويؤيد هذا الدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزنى الزانى وهو مؤمن» فدل ذلك على أن ترك المنهيات من الإيمان.

والجواب أن عدم الإخزاء فى هذا اليوم خاص بالنبى وأصحابه فلا يعم المؤمنين جميعا وليس فى الصحابة قاطع طريق ، ويصح أن يكون قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مستأنفا خبره (يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وحينئذ جاز أن يكون المؤمن مخزيا لأن عدم الإخزاء على هذا خاص بالنبى. ـ

٣٨٠