تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

يقول : «اختلف فيه :

قال بعضهم : النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.

وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات ؛ دليله وجوه :

أحدها : قوله : (بَعْدَ عامِهِمْ) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.

والثاني : في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة ؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه ، لكان لا خوف عليهم في ذلك ؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة ؛ فلا خوف عليهم في ذلك.

والثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا يحجّنّ بعد العام مشرك» (١) وفي آخر الآية دلالة ذلك ؛ لأنه قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

ونلاحظ ـ هنا ـ أنه يعترض على أسلافه ، ويذهب بعيدا عنهم في اختياره ، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها.

وأحيانا نجد الماتريدي يطرح أقوالا للمفسرين السابقين ، ويذكر المعنى الذي يرتضيه ، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى ، ويردها ، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم ، فمثلا عند قول الله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول : «ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم ، يعني إلى المنافقين ، فقالوا : قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى ، فكانوا يحلفون للأنصار : والله ما كان شيء من ذلك ، فأكذبهم الله فقال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) ما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة».

ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول : «والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول الله ، أو طعن فيه ، أو استهزاء بدين الله ، فاعتذروا إليهم ، وحلفوا على ذلك ؛ ليرضوهم ، فقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة ، ولكن ليسوا بمؤمنين».

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٥٦٥) كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريانا (١٦٢٢) ومسلم (٢ / ٩٨٢) كتاب الحج باب لا يحج بالبيت مشركا (٤٣٥ / ١٣٤٧) من حديث أبي هريرة.

٣٢١

ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى ، مفندا إياها ، فقال : «وأما ما قاله بعض أهل التأويل : إن رجلا من المنافقين قال : والله ، لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين ، فأخبر بذلك رسول الله ، فدعاه ، فقال : «ما حملك على الّذي قلت» فحلف والتعن ما قاله ، فنزل قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول الله ، لا يحلفون لهم ؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.

ويذكر ابن عباس أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فجعلوا يحلفون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل ، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول الله ويرضونه ، لا للمؤمنين ؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه :

أحدها : أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق ؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم ، وكتموا من المكر وأنواع السفه.

والثاني : ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه ؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.

والثالث : تنبيها للمؤمنين وتعليما لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف ؛ طلبا لإرضاء بعضهم بعضا ، ولكن يتوبون إلى الله ، ويطلبون به مرضاته».

والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول ، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عباس تارة أخرى ، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها ، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره ، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه ، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية ، يفهم هذا من كلامه ؛ هذا من جهة.

ومن جهة أخرى : يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره ، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون ، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك ، فيقولون : ورد في سبب النزول كذا ، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا ... وهكذا.

وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد ، ولكن يضيف إليها ، كما جاء في تفسير قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)

٣٢٢

[الأنعام : ١٠٩] ؛ حيث قال : «اختلف فيه :

قال الحسن وأبو بكر الأصم : إنه خاطب بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أهل القسم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ، فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي : ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءتكم آية ، ثم استأنف ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ... وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف والابتداء.

وقال غيرهم من أهل التأويل : الخطاب لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنهم لما قالوا : (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ظنوا أنهم لما أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية : يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون ؛ فقال لهم : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على طرح «لا» ، أي : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. وهكذا كأنه أقرب.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن أهل الإسلام قالوا : إنهم وإن جاءتهم آية لا يؤمنون ، فقال عند ذلك : (وَما يُشْعِرُكُمْ) خاطب به هؤلاء (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

والثاني : أنهم وإن آمنوا بها إذا جاءت ، فنقلب أفئدتهم من بعد».

وعلى كل حال فما نقله الماتريدي عن أهل التأويل أو أهل التفسير ، فإنه لم يقف ـ في الجملة ـ حياله عاجزا ، بل حاور سابقيه ، ورد أقوالهم ونقدها وفندها أحيانا ، وزاد عليها أحيانا أخرى.

خامسا : علم الكلام :

سبق أن بينا أن للماتريدي مذهبا اعتقاديا ينصر فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وبينا بشيء من التفصيل الفارق بين مذهبه والمذاهب الأخرى ، وبخاصة الأشعرية.

وتفسير الماتريدي لا يخلو من آراء كلامية ، سواء صرح بذكر قائليها أو لم يصرح ، ولعلنا نعرض لبعض النماذج التي تؤيد ما نقول.

يقول الماتريدي عند تفسير قول الله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [الأنعام : ٣٦] : «الحياة حياتان : مكتسبة : وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات ، وحياة منشأة : وهي حياة الأجسام ، فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة ، وأما المؤمن فله الحياتان جميعا ؛ المكتسبة والمنشأة ، فيسمي كلّا بالأسماء التي اكتسبها ، فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك ، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة ، فسماه بذلك».

٣٢٣

ومسألة الكسب مسألة كلامية ، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها.

وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها ـ اهتماما كبيرا ، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير ، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] حيث قال : «إن الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل ، وقال : خلق الموت والحياة ، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم ؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا ، وقال : إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع ، ثم إن الله يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال ، فإذن لا يموت بتوفي الرسل ؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه ؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك ، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال ، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة ، وهو ظاهر بحمد الله ، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند ، وبالله التوفيق» (١).

ويمكنني القول : إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي ، فبرز واحدا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدا عن حصنه ، غيورا على شرف كلمته ، متصديا لأهل الأهواء والبدع ، منازلا المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم ، داحضا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم ، ومن ثم كان رائدا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه ، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك ، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي.

وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول الله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] فقال :

«قال الحسن : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء الله قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط ، على ما جعل الملائكة ـ جبلهم ـ على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط ، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة ؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورا مجبورا على

__________________

(١) ينظر : محمود لطفي محمد جاد عبد العاطي : منهج الإمام النسفي في تفسير القرآن ومقارنته بمنهج الزمخشري والبيضاوي وأبي السعود (رسالة دكتوراه ، كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر) (ص ٦٥).

٣٢٤

الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه ، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة.

أو يقول : فضلهم بالجوهر والأصل ، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونا بالأعمال الصالحة الطيبة ؛ كقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وغيره ، وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ونحوه ، لم يفضل أحدا بالجوهر على أحد ، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة ؛ لذلك قلنا : إن قوله يخرج على التناقض.

وتأويل قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر ، ولو شاء لهداهم جميعا ووفقهم للطاعة وأرشدهم لذلك ، وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ ... فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] الآية ، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة ، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا ، ثم لم يجعل كذلك ؛ دل هذا على أن قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) هو الأمر والرضا ، أو ذكروا على الاستهزاء ؛ حيث قال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

والمعتزلة يقولون : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة قسر وقهر ، وقد ذكرنا أنه لا يكون في حال القهر إيمان ، إنما يكون في حال الاختيار ، والمشيئة مشيئة الاختيار ، ولا يحتمل مشيئة الخلقة ؛ لأن كل واحد بشهادة الخلقة مؤمن ؛ فدل أن التأويل ما ذكر».

فالنص يدل دلالة واضحة على تبني الماتريدي الدفاع عن عقيدة أهل السنة ، التي تقول بأن أفعال العباد اختيارية ليس فيها إجبار ، يقول الأسفرائيني :

أفعالنا مخلوقة لله

لكنها كسب لنا يا لاهي

وكل ما يفعله العباد

من طاعة أو ضدها مراد

لربنا من غير ما اضطرار

منه لنا فافهم ولا تماري (١)

فأهل السنة والجماعة أثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة ، وأن أفعالهم تنسب إليهم على وجه الحقيقة لا على جهة المجاز ، وأن الله خالقهم وخالق أفعالهم.

هذا ، وقد يصرح الماتريدي بنسبة الآراء الاعتقادية إلى أصحابها ، دون تعليق منه ،

__________________

(١) عبد العزيز السلمان : الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الوسطية (دار الدعوة السلفية ، الإسكندرية) (ص ٢٩١).

٣٢٥

ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قول الله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] حيث قال : «تعلق بظاهر هذه الآية : الخوارج والمعتزلة.

أما المعتزلة فإنهم قالوا : إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيا ، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم ؛ فدل أنه إنما لم يردهم ؛ لما علمه منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل ؛ فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدين ، وقالوا : لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم ، ومن قولهم : إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته ، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.

وقالت الخوارج : أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه ، وسماهم بالقول كاذبين ، بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون ، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها ، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذبا ؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها ، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله عزوجل : (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) [الممتحنة : ١٢] الآية ، فإذا سرقن ، صرن كاذبات في البيعة ، كما جعل من ذكر كاذبا في الوعد إذا أخلف ، وعلى ذلك يجعلونه كافرا».

سادسا : علم الفقه :

علمنا من ترجمة الماتريدي أنه تتلمذ بأبي حنيفة النعمان ، وإن لم يلقه ، فهو قد تتلمذ عليه من خلال مذهبه الفقهي المعروف ، فقد قرأ ما كتب أبو حنيفة وما كتب تلاميذه ونقلوه عنه.

ولم يكن الماتريدي ناقلا تابعا للمذهب الحنفي وحسب ، بل كان مجددا ، فهو قد أخذ من المذهب الحنفي أسلوبه في التفكير العقلي ، واعتماده الرأي في التفسير والفقه والعقيدة ، لكن دون إهمال للنص أو افتئات عليه ، بل ـ كما سبق ـ وازن الماتريدي بين النقل والعقل موازنة جعلته من العلماء أصحاب الآراء الصائبة في كثير من الأحوال.

ونكاد عند مطالعة تفسير الماتريدي لا نجد من أعلام الفقه من يذكر باسمه سوى أبي حنيفة النعمان ، ولعل هذا يؤكد الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها منذ برهة بين الماتريدي وأبي حنيفة ، وتلمذة الأول على الثاني.

والماتريدي حين تعرض له آية من آيات الأحكام لا ينسى أن يقف أمامها يستجلي

٣٢٦

بعض أحكامها ومسائلها ، مما يدلنا على اعتماده علم الفقه مصدرا من مصادر تفسيره.

وتتمثل طريقته في اعتماد علم الفقه مصدرا لتفسير القرآن الكريم في أنه يقوم بتحليل الآية التي تتضمن الحكم الفقهي ، ثم يورد بعض أقوال العلماء ، ثم يفصل القول حول المسألة الفقهية المعروفة بما أفاض الله عليه.

ففي تفسيره لقول الله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٦٠] عرض الماتريدي لعلاقة هذه الآية بما قبلها ، وشرح الآية ، ثم ذكر بعض الروايات عن الصحابة عامة ، وعن بعضهم خاصة :

كحذيفة وابن عباس وعمر وعلي ـ رضي الله عنهم ـ في تفسير الآية وبيان ما فيها من أحكام فقهية ، ثم شرع يدلي بدلوه في تفسير الآية ، وبيان الأحكام الفقهية التي تنطوي عليها ، ونراه ينقل عن الأئمة دون أن يذكر أسماءهم ، ويعرض لاختلافات المذاهب دون أن يحددها ويعينها ، وتناول ـ أيضا ـ : الأصناف الثمانية المخصوصة بالزكاة بشيء من التفصيل ، ويستعين في ذلك ببعض الأحاديث والمرويات وأقوال العلماء.

لكن ليس معنى هذا أن الماتريدي يهمل نسبة الآراء الفقهية إلى أصحابها في كل الأحوال ، بل إنه في مواضع ذكر الآراء منسوبة إلى أصحابها.

ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...) الآية ، فقد ذكر الماتريدي الأحكام التي تتعلق بالآية ، وذكر كثيرا من الأخبار والمرويات بشأنها ، وأخذ يحلل ويدلل ، ومما قال : «وكان أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يسهم للفارس بسهمين ، وأبو يوسف ـ رحمه‌الله ـ يرى أن يسهم للفرس بسهمين ، ولصاحبه بسهم ، والحجة في ذلك قوله : قال الله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ).

فهنا ينسب الماتريدي الآراء إلى أصحابها ، ونلاحظ أن المذهب الحنفي هو المذهب الغالب ـ أو الأكثر ورودا ـ في تفسير تأويلات القرآن ، وليس هذا غريبا ؛ لأن الماتريدي ـ كما قلنا ـ يتبع المذهب الحنفي.

سابعا : علوم اللغة :

لا يعول الماتريدي كثيرا على علوم اللغة في تفسيره ؛ لذلك نراه مقلّا جدّا من توظيفها إلا ما كان من ذكر أقوال العلماء حول بيان بعض الألفاظ ، كما سبق في بيان معنى كلمة

٣٢٧

(الإل) ، وهذا اللون من أكثر الألوان شيوعا في تفسير الماتريدي فيما يخص توظيفه علوم اللغة ، ولكن مع هذا لا نعدم توجيها نحويا أو نكتة بلاغية هنا أو هناك.

فمن قبيل التوجيهات النحوية ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال : ٤١].

فقد قال الماتريدي : «وقوله عزوجل : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) ... قال بعضهم : هو صلة قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، ثم قال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي : وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم فاعلموا أن الله مولاكم ، ليس بمولى لهم.

وقالت طائفة : قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين ، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين ، ولكن على التنبيه والإيقاظ».

والماتريدي ـ كما هو بيّن من النص ـ يعرج على اللغة بهدف الكشف عن مراد الله من الآية ، فهو لا يفعل كبعض المفسرين الذين ينصب اهتمامهم على اللغة ، حتى تكاد تفسيراتهم تكون لغوية خالصة ككتب معاني القرآن ، من مثل : معاني القرآن وإعرابه للزجاج ، ومعاني القرآن للأخفش ، ومعاني القرآن للفراء ... وغيرها ، أو تكون التفسيرات ذات صبغة لغوية بارزة بجوار الاهتمام بمعاني الآيات ، كتفسير النسفي.

ومن قبيل النكات البلاغية التي أشار إليها الماتريدي في تفسيره ، ما جاء في قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التوبة : ٨٢] حين قال : «يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور ، والبكاء كناية عن الحزن ، يقول : افرحوا وسروا قليلا ، وتحزنون في الآخرة طويلا».

ولم يشر ـ أيضا ـ الماتريدي إلى النكتة البلاغية بغرض إثباتها وحسب ، بل لأنها تخدم المعنى وترشد إليه ؛ ولذلك كان الماتريدي مقلّا من الاتكاء على مباحث البلاغة ، ولم يكن تفسيره تفسيرا بلاغيّا صرفا ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة ، أو كتب إعجاز القرآن ككتاب إعجاز القرآن للباقلاني ، ولم يكن متشبعا بالمباحث البلاغية كتفسير الزمخشري مثلا ، بل إن النكتة البلاغية تأتي لبيان غرض معين.

ولعل عدم اهتمام الماتريدي بعلوم اللغة راجع إلى أمرين :

٣٢٨

الأول : اهتمامه بالمضمون دون الشكل ، والمعنى دون اللفظ.

والثاني : اهتمامه في تفسيره بالمسائل العقدية والفقهية ، وهو أمر مترتب على الأول.

ثامنا : إعمال العقل والتفسير بالرأي :

إن الماتريدي فضلا عن اعتماده على المصادر المذكورة سابقا ، أعمل عقله في الآيات وقال فيها برأيه ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، وهو حين يعمل عقله يقلب الآية على وجوهها المختلفة تارة ، ويذكر فيها وجها واحدا تارة أخرى.

فمن الأول ـ وهو كثير ـ : ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الأنفال : ٣٧] حيث قال الماتريدي : قوله عزوجل : (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

والثاني : يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.

(فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) قيل : يجمعه جميعا بعضهم على بعض».

ومن الثاني ما جاء في تفسيره لصدر الآية المذكورة (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حيث قال : «جعل الله تعالى الخبيث مختلطا بالطيب في الدنيا في سمعهم وبصرهم ونطقهم وجميع جوارحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع منافعهم من الغنى والفقر وأنواع المنافع ، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا ... لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بأعلام ، يعرف بتلك العلامات الخبيث من الطيب ، من نحو ما ذكر في الطيب قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

ويلفت النظر في تفسير الماتريدي بالرأي أنه يتوخى المعاني القريبة من ظاهر الآية ، فهو لا يوغل في التأويل كما يفعل المتصوفة في تفسيراتهم ولا يقف عند حدود ظاهر النص كما يفعل الظاهرية ، بل إن الماتريدي ينظر في الآيات نظرة فاحصة معتدلة ، ويتجه إلى المعاني التي تحتملها الآيات ولا تخرج بها عن المراد منها.

القضية الثانية : طريقة الماتريدي في التفسير :

نستطيع من خلال ما عرضناه من مصادر الماتريدي في التفسير ومن خلال تأمل التفسير الذي بين أيدينا أن نتلمس بعض الخطوط العامة لمنهج الماتريدي في التفسير.

٣٢٩

إن منهج الماتريدي منهج متميز متفرد ، فقد اختط لنفسه طريقة خاصة ، وأسلوبا متميزا ، وهي طريقة تتميز بالشمولية ، وأسلوب يتسم بالوضوح ، فهو يقوم باستقصاء الآية من كافة وجوهها ، ويعرض المعنى الذي يريد إبرازه في وضوح ويسر ، يفهمه القارئ العادي فضلا عن المتخصص وكأننا أمام تفسير حديث ، وليس تفسيرا كتب في القرن الرابع الهجري.

وهذه الطريقة تتميز عن طريقة المفسرين السابقين ، من وجوه يمكن استخلاصها مما سبق :

الأول : أن التفاسير السابقة كانت تقوم ـ في مجملها ـ على الرواية ، بمعنى أن هذه التفسيرات تندرج تحت ما يعرف ب «التفسير بالمأثور» ، لكن الماتريدى يجمع بين الأمرين جميعا.

الثاني : أن التفاسير السابقة كانت تعتمد على السنة عند إيراد المرويات ، سواء كانت هذه المرويات أحاديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أم أقوالا للصحابة ، أو حتى أقوالا لمفسري التابعين ، فالمفسر كان يأتي بالسند كاملا حتى يرفع الخبر أو الأثر المروي إلى قائله ، وخير مثال على ذلك تفسير ابن جرير الطبري.

ولم يقتصر الأمر على التفاسير المتقدمة وحسب ، بل إن تفسيرا كتفسير القرآن العظيم لابن كثير المكتوب في القرن الثامن الهجري ، يقوم على هذه الطريقة ، فنجد السند والعنعنات.

وهذا بخلاف تفسير تأويلات القرآن الكريم للماتريدي الذي تخلى عن ذكر السند في نقله للمرويات ، سواء كانت من السنة أو من غيرها ، حتى أننا نجده أحيانا يهمل حتى القائل المباشر للرواية ، فيقول : «قال بعضهم» أو : «قيل» ، وهكذا.

وهذه الطريقة هي التي نجدها في تفسيرات المحدثين ، وهي تناسب عصر الناس هذا ، وكان الماتريدي سابقا إليها قبل المحدثين بقرون متطاولة.

الثالث : أن تفسير الماتريدي ـ كما قلنا ـ شامل وعام ، فنجد فيه : المسائل الاعتقادية ، والمسائل الفقهية ، ومضمون الآية ، بخلاف التفسيرات السابقة ، بل وأحيانا اللاحقة التي يكون من همها التركيز على جانب واحد من جوانب هدايات القرآن المتعددة ، فنجد مفسرا ينصب اهتمامه على مسائل اللغة ، ومفسرا آخر ينصب اهتمامه على مسائل الفقه ، وبعضهم على مسائل الاعتقاد ، وهكذا.

٣٣٠

وطريقة الماتريدي أو منهجه يقوم على عدة خطوط عامة ، هي :

أولا : يقوم الماتريدي ـ أحيانا ـ بعرض الآراء التي قيلت حول الآية ، أو الأوجه المحتملة فيها ، فيستخدم : «قال بعضهم» ، «قال آخرون» ، أو : «قيل» ، أو : «قيل فيه بوجوه» ، أو : «قال فلان» ... وهكذا.

وهذا حينما يفسر بالنقل لا بالعقل ، وإزاء هذه النقول لا يقف الماتريدي عاجزا ، بل ينقد ويحلل ويوجه ويختار من بين الأقوال المذكورة ما يراه أولى بمعنى الآية والمراد منها.

ثانيا : يقوم الماتريدي ـ أحيانا ـ بذكر الأوجه المحتملة في تفسير الآية وذلك حين يفسر بالرأي ، فيقول : «يحتمل» ، أو : «يحتمل وجوه» ... وهكذا.

ثالثا : يقوم الماتريدي باستخلاص المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية ، ويدير حولها حوارا طويلا يستقصي جوانبها ، حتى لو لم يكن بعض هذه الجوانب داخلا تحت إطار الآية المفسرة.

رابعا : يبدأ الماتريدي أحيانا تفسيره للآية بذكر القراءات الواردة فيها ، فحين يفسر قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية يقول : «اختلف في قراءتها : قرأ بعضهم بالياء ، وبعضهم بالتاء» ويعلل للقراءات بقوله : «فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ومن قرأ بالياء صرف الخطاب إلى الكفرة».

خامسا : يبين الماتريدي ـ أحيانا ـ أسباب نزول الآية ، ولكنه لا يسلم ببعضها ؛ لما يراه أنه مخالف للمعنى المقصود ، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا القبيل.

سادسا : يبين الماتريدي ـ أحيانا ـ المعنى اللغوي لبعض الألفاظ ، ولا يهتم في تأويله بالشعر فلا يأتي إلا نادرا ، ولا يهتم بأقوال العرب ؛ اكتفاء منه بالقرآن الكريم وسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء.

سابعا : أن الماتريدي حين يستعين بالسنة لا يهتم بذكر السند ، كما أنه يذكر الحديث بالمعنى ، وكأنه يعتمد على حفظه دون كتب السنة المثبت فيها الأحاديث ، ثم إنه يجتزئ من الحديث بما يدل على الغرض ، ولا يهتم بإيراده كاملا.

ثامنا : يهمل الماتريدي الحديث عن المكي والمدني ، وإبراز فضائل السور ، والناسخ والمنسوخ.

تاسعا : أنه حين يشرع في تفسير أي سورة لا يقدم لها ، بل يدخل إلى عالمها مباشرة ،

٣٣١

ويعيش في رحاب آياتها دون أن يعرفنا شيئا عن طبيعة هذه السورة ، وعدد آياتها ، وهل هي مكية أو مدنية ، والظروف العامة لنزولها ... إلخ.

ويمكن القول : إنه من خلال عرض منهج الماتريدي وطريقته في التفسير ، يتبين القارئ أنه أمام تفسير غاية في الأهمية ، يجمع كثيرا من أطراف العلوم ، وأنه يقوم على منهج نقدي تحليلي يقف ضد العقليين والنصيين المتطرفين.

يقول الكوثري : «كانت بلاد ما وراء النهر سليمة من أهل الأهواء والبدع ؛ لسلطان السنة على النفوس هناك من غير منازع ، تتناقل تلك الآثار بينهم جيلا بعد جيل ، إلى أن جاء إمام السنة فيما وراء النهر أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي المعروف بإمام الهدى ؛ فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها ؛ فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد» (١).

* * *

__________________

(١) إشارات المرام (ص ٦).

٣٣٢

الفصل الثالث

بذور التجديد في تفسير الماتريدي

يمكن رصد التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة في ناحيتين :

الأولى : الإطار العام.

والثانية : الجزئيات.

فأما الناحية الأولى فتتمثل في :

أولا : التجديد في المنهج :

سبق أن بينا أن طريقة الماتريدي في تفسيره طريقة متميزة ، ومنهجه متطور إلى حد كبير ، سواء من جهة الإطار العام ، أو من جهة جزئيات المنهج.

فقد قام المنهج الماتريدي في تفسيره على التحليل والنقد ، ولم يكن هذا معهودا في التفسير قبل الماتريدي ؛ حيث كان التفسير ـ كما قلنا ـ يعتمد على الرواية دون كبير تدخل من المفسر ودون نقد أو تمحيص أو تحليل ، وفتح الماتريدي بهذا الباب واسعا أمام من جاء بعده للتوسع في التحليل والشرح والتأويلات للآيات بإعمال العقل والنقل جميعا.

وقد توسع الماتريدي في تفسيره في إعمال العقل ، لكن مقيدا بالنص ، وهو لون من ألوان التجديد ؛ حيث استطاع الماتريدي الموازنة بين العقل والنقل ، وقد كان السابقون عليه يعتمدون في تفسيراتهم على النقل فقط. صحيح أن هناك من سبق الماتريدي في إعمال العقل ، لكنه لم يكن في تفسير القرآن الكريم ، بل كان في المسائل الاعتقادية ، والمسائل الفقهية.

ويعد من التجديد في الإطار العام للمنهج عند الماتريدي في تفسيره الاستغناء عن ذكر السند عند التفسير بالمرويات.

ثانيا : الاهتمام بالمسائل الاعتقادية :

اهتم الماتريدي كثيرا في تفسيره بالمسائل الاعتقادية ، ولعله غير مسبوق في الاهتمام بالمسائل الاعتقادية في التفسير ؛ حيث كانت التفاسير السابقة تقوم على بيان معنى لفظ ، أو شرح آية بشروح موجزة ، مع ذكر الروايات حول الآية موضع التفسير ، أما الاهتمام بالمسائل الاعتقادية التي تتضمنها فلا نكاد نجدها في التفاسير السابقة على تفسير تأويلات

٣٣٣

أهل السنة ، فقد توسع هذا التفسير في بيان هذه المسائل وناقشها ، وذكر مذاهب العلماء فيها ، بما يزيد ـ أحيانا ـ عما تتضمنه الآيات من معان.

ثالثا : الاهتمام بالمسائل الفقهية :

يعتبر الماتريدي في تأويلاته رائد المفسرين الذين ركزوا على المسائل الفقهية وعرض الآراء حولها في تفسيراتهم : كالإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن الكريم ، فقد قام الماتريدي بعرض المسائل الفقهية المتضمنة في بعض الآيات ، وعرض الآراء حولها ، وزاد عن الحد المطلوب من الآية أحيانا ، وقد ذكرنا نماذج من هذا القبيل.

رابعا : بروز شخصية الماتريدي في التفسير :

كانت التفاسير السابقة على الماتريدي تعتمد ـ كما قلنا مرارا ـ على المرويات ، أما تفسير تأويلات أهل السنة فقد اعتمد فيه الماتريدي على التحليل ، وعرض الآراء ومناقشتها ، والقول في القرآن بالرأي ، وإبداء الآراء الشخصية حول الآيات ، فنحن نحس بشخصية الماتريدي بارزة في تفسيره ، فلم يكن مجرد ناقل أو جامع للروايات كما كان شأن أسلافه ، والنماذج السابقة تكشف عن ذلك بوضوح.

هذه هي أبرز بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة ، الذي أحسبه يسلك فيه منهجا ويتبع فيه طريقة لم يسلكها المفسرون المتأخرون.

* * *

٣٣٤

الفصل الرابع

تأثر الماتريدي بمن سبقوه

إن الماتريدي تأثر بمن سبقه ، عامة ، وتأثر بالإمام أبي حنيفة النعمان خاصة ، حيث أخذ عنه الإطار العام لمذهبه في الكلام.

لقد تأثر الماتريدي بالمنهج المتوازن بين العقل والنقل الذي سلكه أبو حنيفة ، فقد سلك ذلك المسلك الوسط الذي لم يسلكه ـ كما يقول الشيخ أبو زهرة ـ سوى أبي حنيفة ، وبلغ فيه الشأو والغاية (١).

وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام أبو حنيفة ، وتبناه الماتريدي ، لا يقدح في سلفية كل منهما ، ولا يخرجهما عن دائرة أهل السنة ؛ لأن أبا حنيفة يعد أول من كون مدرسة كلامية لأهل السنة وحاربت المبتدعة ، وأظهرت الحق جليّا.

يقول أبو اليسر البزدوي : «أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ تعلم هذا العلم ، وكان يناظر المعتزلة وأهل البدع ، وكان يعلمه أصحابه في الابتداء ، وقد صنف فيه كتبا ، وقع بعضها إلينا ، وعامتها محاها وغسلها أهل البدع ، ومما وقع إلينا كتاب العالم والمتعلم ، وكتاب الفقه الأكبر ، وقد نص كتاب العالم والمتعلم أنه لا بأس بتعلم العلم» (٢).

وهذا النص يكشف عن دور أبي حنيفة البارز ، كما يدل في الوقت نفسه على مجموعة من مؤلفاته التي أثرت في الماتريدي كما سنعرف فيما بعد.

وهذه الكتب رد فيها على المعتزلة ، وبخاصة كتابه : الفقه الأكبر ، ونصر فيه قول أهل السنة في خلق الأفعال ، وفي الاستطاعة مع الفعل (٣).

ولقد استفاد الماتريدي من هذه الكتب ، فقد تناول هذه الكتب والرسائل ، وتأثر بها تأثرا فكريّا واضحا ؛ حتى إنه ليمكن القول : إن منهج الماتريدي لا يخرج عن المنهج العام الذي وضعه أبو حنيفة في مؤلفاته ، هذا المنهج الذي يستخدم العقل ، لكنه العقل المقيد بالنص ، بحيث لا يخرج عنه ، ولا يتقدم عليه بحال ؛ لأن الله تعالى ركب العقول ووفقها للاستدلال.

ومعلوم أن أبا حنيفة ـ رحمه‌الله ـ كون مدرسة فكرية ضمت أعظم العلماء وجهابذة

__________________

(١) ينظر : الشيخ أبو زهرة : أبو حنيفة (ص ٧٢ ، ٧٣).

(٢) أصول الدين ص (٣).

(٣) البغدادي : أصول الدين ص (٣١٢).

٣٣٥

الفكر في أصول الدين وفروعه ، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد الله البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي ، فهم الذين قاموا بجمعها ، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومحمد بن مقاتل الرازي ونصر بن يحيى البلخي وغيرهم ، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي (١).

ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟

معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي ـ كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة ـ وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجا ، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدين الإسلامي.

ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي ، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد ، ومن هنا يقول أبو معين النسفي : «إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو ، وبلخ وغيرهما ـ كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب».

ومن أبرز هؤلاء الأئمة : أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة ، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه ، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه.

ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط ، بل إنه تأثر به في مجال الفقه ، وتأثر به في المنهج والطريقة.

ولم يكن ـ أيضا ـ المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي ، بل إنه ـ وكما بان لنا ـ تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم ، وتأثر بالتابعين ، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم ، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق.

لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عند ما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي ، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق ؛ ولذلك يمكن أن يقال : استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي ؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى

__________________

(١) الزبيدي : إتحاف السادة المتقين (٢ / ١٤).

٣٣٦

العلم ، حتى كان رائدا لأهل السنة في اتباع هذه الطريقة.

هذا ، ولقد تأثر الماتريدي بأبي حنيفة في آرائه الكلامية ، حيث إن المدرسة السنية فيما وراء النهر ، ظلت تدافع عن العقيدة الصحيحة ، بدفع البدع ، وصد الانحرافات ، ومقاومة الضلالات الناتجة عن التعصب للفرق المخالفة لأهل السنة ، بعيدا عن التوغل في الدقائق الكلامية ، مهتدية في مسلكها بمنهج الإمام أبي حنيفة دون أن تدخل عليه جديدا ، الأمر الذي جعلنا لم نصل إلى آراء خاصة لهم خارجة عن آراء شيخهم ، وهؤلاء مهدوا الطريق لأبي منصور للقيام بمنهجه ولإرساء دعائم مذهبه الكلامي المتأثر بمنهج أبي حنيفة والمجدد في الوقت ذاته.

* * *

٣٣٧

الفصل الخامس

تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده

لقد كان الماتريدي من أفاضل علماء أهل السنة في بلاد الشرق الإسلامي ، ففي الطبقات السنية : اتفق الناس على علو قدره وعظم محله وطيب نشره ، فإنه كان من كبار علماء الإسلام الذين بعلمهم يقتدى ، وبنور فضلهم يهتدى (١) ، وكان إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين ، نصره الله بالصراط المستقيم ، فصار في نصرة الدين القويم ، صنف التصانيف الجليلة ، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة (٢).

ولذلك كان أثر الماتريدي في لاحقيه أثرا كبيرا ، ولعلنا نتلمس هذا التأثير في عدة اتجاهات هي :

أولا : تأثيره في التفسير :

تأثر الذين جاءوا من بعد الماتريدي به كثيرا في التفسير ، فأخذ عنه كثير من المفسرين ، منهم صاحب روح المعاني ، حيث تجد تأثره بالماتريدى في تفسير قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) يقول : «فهو الحامد والمحمود ، والجميع شئونه ، ولهم كلام غير هذا ، والكل يسقى بماء واحد ، وعن إمامنا الماتريدي ـ روح الله روحه ـ أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه ، قال : وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ، ولا ضير في ذلك ؛ لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك ؛ إذ لا عيب يمسه ، ولا آفة تحل به» (٣).

وينقل عنه الألوسي ـ أيضا ـ تفريقه بين التفسير والتأويل ، فيقول : «وقال الماتريدي : التفسير : القطع بأن مراد الله تعالى كذا ، والتأويل ترجيح أحد الاحتمالات بدون قطع ، وقيل : التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية» (٤).

ونقول الألوسي عن الإمام الماتريدي في تفسيره لا تحصى عددا (٥).

ونقل عنه ـ أيضا ـ القرطبي ، فعند تفسيره قول الله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] قال : «حكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ أنه قال :

__________________

(١) الطبقات السنية ص (٥٦٧).

(٢) كتائب الأعلام ص (١٢٩).

(٣) روح المعاني (١ / ٧٤).

(٤) السابق (١ / ٥).

(٥) ينظر على سبيل المثال : السابق (١ / ١٨) ، (٥ / ٨١) ، (١٧ / ١٧٧) ، (١٩ / ١٦٤) ، (٣٠ / ٢٠٠) ، وغيرها.

٣٣٨

يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية ، أما من لم يجاوز الحد وفعل كما كان يفعل في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو حسن» (١).

وأفاد من الماتريدي ـ أيضا ـ المفسر الكبير ، واللغوي البحر ، الجامع بين الرواية والدراية ، العالم أبو حيان في كتابه البحر المحيط ، فمثلا عند قوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] ينقل عن الماتريدي تأويله : «ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه ، يقال : هو شحيح بمودتك ، أي : حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا : بخيل ، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع : الشح للمنع ، والحرص للطلب ، فأطلق على الحرص الشح ؛ لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأن البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل» (٢).

هذا ولم يقتصر تأثير الماتريدي على مفسري المتقدمين ، بل لقد أفاد منه مفسرو المتأخرين حتى عصرنا الحاضر ، فقد أفاد منه السيوطي في الإتقان (٣) ، وأفاد منه الزرقاني في مناهل العرفان (٤) ، وأفاد منه الزركشي في برهانه (٥) ، وأفاد منه ابن تيمية في فتاويه (٦) ، وغيرهم كثير وكثير ، وما يزال اسم الماتريدي وتفسيره تأويلات أهل السنة يتردد في تفاسير المحدثين وبحوثهم في التفسير.

ثانيا : تأثير الماتريدي في العقيدة :

لقد كان لمذهب الماتريدي الكلامي أثره في اللاحقين ، فقد أفادوا منه أيما إفادة ، وأفادوا من مسائله الاعتقادية التي عرضها في تفسيره تأويلات أهل السنة.

وتدليلا على ذلك نسوق بعض النماذج ، فقد جاء في أنواء البروق ما نصه : «وأما الحلف بصفات الأفعال ، ففي المجموع وشرحه وحاشيته ما حاصله : أن اليمين لا ينعقد بنحو الإماتة والإحياء ، اللهم إلا أن يلاحظ المذهب الماتريدي ، وهو أن صفات الأفعال

__________________

(١) تفسير القرطبي (٦ / ٣٨).

(٢) البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٣٦٤) ، وينظر أيضا (١ / ٤٧٦) ، (١ / ٤٨٠) ، (١ / ٤٩٠).

(٣) ينظر : الإتقان (٢ / ٤٦٠).

(٤) ينظر : مناهل العرفان (٢ / ٦).

(٥) ينظر البرهان : (٢ / ٤٣٠).

(٦) ينظر : فتاوي ابن تيمية في التفسير (١٦ / ٢٦٩).

٣٣٩

قديمة ترجع إلى صفة التكوين ، أو يريد مصدرها ومنشأها وهو القدرة والاقتدار الراجع للصفة المعنوية ، أي : كونه قادرا ؛ إذ المعنوية ينعقد بها جزما» (١).

ونقل عنه وعن غيره ابن تيمية ، ما نصه : «وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة والمرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة ، ويقولون : لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته ، والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق ، وهذا هو ما ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم ، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي» (٢).

وفى فتاوى الرملي : «أن الكلام القديم هو صفة الله تعالى يجوز أن يسمع بلا صوت ولا حرف ؛ كما يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف ، وهذا هو المرجح في كلام الشيخ جلال الدين ، ومنع الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني ذلك ، وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي» (٣).

وتأثر اللاحقين بالماتريدي في الآراء الكلامية أكثر من أن تقوم به هذه الصفحات القليلة (٤) ، بل إنه يحتاج إلى دراسات مستفيضة ، وكيف لا وهو صاحب ذلك المذهب المعروف بمذهب الماتريدية في علم الكلام كما أوضحنا من قبل.

ثالثا : تأثير الماتريدي في علم الفقه :

امتد تأثير الماتريدي في لاحقيه إلى الفقه ، فقد أفاد منه العلماء في هذا المجال إفادة جمة ، وفي سبيل إثبات ذلك نذكر بعض النماذج الدالة ، منها ما ذكر صاحب بدائع الصنائع من «أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللا على صورة المذي ، ولم يتذكر الاحتلام ـ فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يجب ، وأجمعوا أنه لو كان منيّا أن عليه الغسل ؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام ، وأجمعوا أنه إن كان وديا لا غسل عليه ؛ لأنه بول غليظ ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على

__________________

(١) أنواء البروق (٣ / ٤٨) ، وانظر : (٣ / ٧).

(٢) الفتاوي (٦ / ٤٣٢).

(٣) فتاوي الرملي (٤ / ٣٥٣).

(٤) ينظر : الزواجر (١ / ١٦٤) ، وتحفة المحتاج (٩ / ٩٢) ، وغمز عيون البصائر (١ / ١٠٠) ، والفواكه الدواني (١ / ١٠٢) ، وبرقية محمودية (١ / ١٥٥) ، والبحر المحيط (١ / ٤١٩) ، (٣ / ١١٥ ، ١١٦) ، (٣ / ١٢٩) ، (٤ / ١٩٨) ، (٤ / ٢٤٨).

٣٤٠