تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

ـ ادعى أبو مسلم أنه ينتسب إلى سليط بن عبد الله بن عباس (١).

وهكذا اجتمعت لدى أبي جعفر المنصور الأدلة المقنعة للفتك بأبي مسلم ، وطفق يدبر أمر اغتياله ، فولى هشام بن عمر العقيلي مكان أبي مسلم ، فانصرف أبو مسلم ، وأقبل يريد خراسان مغاضبا لأبي جعفر ؛ حتى يثير أهل خراسان عليه ويجعل العباسيين دائما في قبضة يده ، فمر بالمدائن ، وأبو جعفر ينزل برومية على مقربة منها ، فلم يسع إلى لقائه ، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان ، فسير إليه المنصور نفرا من أصحابه فلحقوه وعظموا عليه الخطب ، وحذروه عاقبة البغي ونصحوه بالرجوع إلى المنصور ، فأقبل إلى العراق وقدم على أبي جعفر ، فأمر الناس بتلقيه ، فتلقاه بنو هاشم والناس ، فدخل على المنصور فقبل يده ، وأمره المنصور بأن ينصرف ويروح نفسه ويدخل الحمام ، فانصرف ، فلما كان الغد دعا المنصور عددا من الحرس وأمرهم بالجلوس وراء الرواق فإذا صفق بيديه وثبوا على أبي مسلم فقتلوه ، ثم أرسل إلى أبي مسلم يستدعيه ، ثم أخذ يعاتبه على مخالفته له ، فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم : «لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني».

فقال له المنصور : «يا بن الخبيثة ، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت ، إنما عملت في دولتنا وبريحنا ، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا» ، فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه ، فقال له المنصور : «ما رأيتك اليوم ، والله ما زدتني إلا غضبا» ، قال أبو مسلم : «دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى» ، فغضب المنصور وشتمه ، ثم صفق بيده على الأخرى ، فخرج عليه الحرس فأخذوه بسيوفهم حتى قتلوه ، وتم ذلك في شعبان سنة مائة وستة وثلاثين هجرية.

ثم خطب المنصور في الناس بعد أن قتله فقال : «أيها الناس ، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ، ولا تسروا غش الأئمة ، فإن من أسر غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه وسقطات أفعاله ، وأبداها الله لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه ، إنا لم نبخسكم حقوقكم ، ولم نبخس الدين حقه عليكم ، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه ، ثم نكث بيعته هو ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه».

ثم اضطرب أصحاب أبي مسلم بعد قتله ، ففرقت فيهم الأموال ، فأمسكوا رغبة ورهبة (٢).

__________________

(١) السابق.

(٢) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول (ص ١٣١ ـ ١٣٢) ، وابن الأثير (٥ / ٤٧٥ ، ٤٧٦).

٢١

ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن أن أبا جعفر المنصور كان مدفوعا إلى ذلك بما كان بينه وبين أبي مسلم من حزازات شخصية قديمة ، وقد زاد أبو مسلم النار اشتعالا بتماديه في زهوه وإعجابه بنفسه وإسرافه في قتل النفوس البريئة بغير شفقة ولا رحمة.

كما يرى د / حسن أن إخلاص أبي مسلم وتفانيه في نصرة العباسيين أمر لم يقم الدليل بعد على إضعافه أو دحضه (١).

ومهما يكن من أمر فقد كان القضاء على أبي مسلم ضرورة ألجأ المنصور إليها سطوة أبي مسلم وازدياد نفوذه ، مع ما ينطوي عليه ذلك من مناوأة له وتهديد لحكمه.

ثورات العلويّين : محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم :

أشرنا من قبل إلى أن الدعوة العباسية قد رفعت شعار : «الرضا من آل محمد» حتى تأمن مناوأة العلويين لهم ، وخروجهم عليهم إن هم كشفوا عن نواياهم الحقيقية في الاستئثار بمنصب الخلافة ، «فلما ظفر العباسيون بالخلافة وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة بني أمية ، لم يرق ذلك في نظر العلويين ولم تطب بذلك نفوسهم ، على الرغم من أن الجميع من أولاد هاشم ، وعلى الرغم من كونهم يدا واحدة على بني أمية ، واشتراكهم في العمل على إزالة دولتهم ؛ إذ أدركوا أن العباسيين قد خدعوهم واستأثروا بالخلافة دونهم مع أنهم أحق بها منهم ، فنابذوهم العداء ونظروا إليهم كما كانوا ينظرون إلى الأمويين من قبل ، فظلوا يناضلون ويكافحون ابتغاء الوصول إلى حقهم في الخلافة» (٢).

ولا تمر سنوات كثيرة من عمر الخلافة العباسية حتى يخرج على أبي جعفر المنصور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم.

ولم تنجح محاولات العباسيين في استرضاء العلويين من القول اللين حتى العطاء الجزيل ؛ فقد كان النفس الزكية يرى أنه أحق بالخلافة وأن أبا جعفر المنصور قد اغتصبها واستأثر بها من دونه ، فامتنع في أول الأمر عن مبايعة السفاح ثم تخلف هو وأخوه إبراهيم عن بيعة المنصور ، فلم يجد المنصور بدّا من العمل على التخلص منهما حتى يستقيم له أمر الملك.

وكان أن عهد المنصور بولاية المدينة إلى رباح بن عثمان بن حيان ابن عم مسلمة بن

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٠٣).

(٢) حسن إبراهيم (٢ / ١٢٢).

٢٢

عقبة قائد الحرة في عهد يزيد بن معاوية ، فقدم عثمان المدينة سنة ١٤١ ه‍ وخطب أهلها خطبة سداها ولحمتها التهديد والتخويف ، فكان مما قال فيها : «يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى عثمان بن حيان وابن عم مسلمة بن عقبة ، المبيد خضراءكم المفني رجالكم ، والله لأدعنها بلقعا لا ينبح فيها كلب» (١).

بيد أن أهل المدينة قد هوت أفئدتهم إلى محمد النفس الزكية ، وتدفقت نفوسهم حماسة لآل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يحفلوا بتهديد عثمان ، بل أغلظوا له القول وهموا بالفتك به.

فكتب إليهم المنصور قائلا : «يا أهل المدينة ، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين ، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا ، وليقطعن البر والبحر عنكم ، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام» (٢).

ولم يزحزح كتاب المنصور أهل المدينة عن موقفهم ، بل لعله زادهم إصرارا على الانتصار للعلويين ، فقبض عامله على عبد الله بن الحسن أبي محمد النفس الزكية وإخوته وذوي قرباه.

بيد أن عبد الله لم يكن بالرجل الذي تلين قناته ، بل كان يعتقد في أحقية ابنه بالخلافة دون المنصور والسفاح من قبله (٣). فطلب إلى ابنه أن يواصل مناجزة العباسيين ، وألا يحفل بما يعوقه في سبيل الحق من صعوبات.

واشتد إيذاء المنصور لأشياع النفس الزكية ، وعظم البلاء النازل بهم حتى اضطروا محمدا إلى الخروج ، ولما تتهيأ الظروف بعد لخروجه وذلك في سنة ١٤٥ ه‍ ، وقد شجعه على ذلك ظنه إجماع الناس على نصرته وشدة ميلهم إليه ، وتلك الفتوى التي أفتى بها الإمام مالك بن أنس ؛ حيث أفتى بجواز نقض بيعة المنصور حين قال لأهل المدينة : «إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين» (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري (٧ / ٥١٧) ، ابن الأثير (٥ / ٥١٣).

(٢) ينظر حسن إبراهيم (٢ / ١٢٦) نقلا عن تاريخ اليعقوبي (٢ / ٤٥٠).

(٣) حسن إبراهيم حسن (٢ / ١٢٧).

(٤) هذا أثر مروي عن ابن عباس موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٥ / ٤٨) من طريق هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي ، عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن ابن عباس ... ورجاله ثقات وعلقه البخاري (٩ / ٣٤٣ ـ فتح) في كتاب الطلاق وقال الحافظ في المصدر السابق وصله ابن أبي ـ

٢٣

خرج محمد النفس الزكية في مائتين وخمسين من أصحابه ، فتوجه إلى السجن وأطلق سراح من فيه ، ثم قبض على عامل أبي جعفر المنصور في المدينة وأمر بحبسه.

وفي الوقت الذي خرج فيه النفس الزكية في المدينة كان أخوه إبراهيم يدعو له في البصرة ويأخذ من أهلها البيعة له.

والحق أن أبا منصور لم يدع وسيلة تمكنه من الظهور على خصمه إلا اصطنعها ، فكانت سياسته تجاه هذه الثورة مزيجا من الحزم والدهاء ، وقد ندب المنصور ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى للقضاء على النفس الزكية ، فنهض بما أمر به خير نهوض لا سيما وقد تفرق عن النفس الزكية جل أنصاره وشيعته ، فبقي في نفر قليل من خاصته ، لم يغنه في مواجهة جيش مدرب منظم كجيش عيسى بن موسى ، وقتل النفس الزكية واحتز رأسه وذلك في رمضان سنة ١٤٥ ه‍ (١).

وبعد أن فرغ عيسى من النفس الزكية في المدينة أمره المنصور بالتوجه إلى العراق للقضاء على أخيه إبراهيم ، وكان قد تغلب على البصرة والأهواز وفارس ، ودارت رحى الحرب وحمي وطيسها في باخمرى بين الكوفة وواسط ، وانجلى غبارها عن هزيمة إبراهيم وجنده ، ولم يزل يناضل العباسيين في فئة قليلة حتى قتل فاحتز ابن قحطبة رأسه (٢).

وهكذا استطاع المنصور بما أتيح له من حزم وذكاء أن يقضي على أول ثورة يحمل لواءها العلويون ، فوطد دعائم خلافته ومكن لها من البقاء والاستمرار.

أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي :

ولي الخلافة العباسية بعد أبي جعفر المنصور ابنه المهدي (٣) ، ولبث في منصب

__________________

ـ شيبة وسعيد بن منصور جميعا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن يمين وانظر الرواية في ترتيب المدارك (١ / ٢٢٨) ، ووفيات الأعيان (٤ / ١٣٧) ، والانتقاء (٤٣) ، وتاريخ الطبري (٧ / ٥٦٠) قال : وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن سنان الخ كمي أخو الأنصار ، قال : أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد ، وقيل له : إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر ، فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين ، فأسرع الناس إلى محمد ، ولزم مالك بيته.

(١) الكامل (٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٦).

(٢) الكامل لابن الأثير (٥ / ٥٦٥ ـ ٥٧١).

(٣) ينظر ترجمة المهدي في : شذرات الذهب (١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٩) ، تاريخ الخلفاء (٢٧١) ، الوافي بالوفيات (٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠٢) ، العبر للذهبي (١ / ٢٣٠ ـ ٢٣١) ، الوزراء والكتاب (١٤١ ـ ١٦١) ، سير ـ

٢٤

الخلافة عشر سنوات (١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍) ، وامتازت ولايته بالاعتدال والرفق بالرعية ، بعد أن أرهقها المنصور إبان خلافته من أمرها عسرا ، «فرد الأموال التي صادرها أبوه إلى أهلها ، وأطلق العلويين الذين حبسهم أبوه ، وعفا عنهم وأجرى عليهم الأرزاق» (١).

ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي :

خرج عبد السلام بن هاشم من الخوارج في الجزيرة ، واشتدت شوكته وكثرت شيعته وأنصاره فعاث في الأرض فسادا ، فأرسل إليه المهدي عدة قواد هزم بعضهم ، لكنه في النهاية هزم وفر إلى قنسرين حتى قتل بها.

كما خرج عبد الله بن مروان الأموي ببلاد الشام ، فأرسل إليه المهدي من هزمه وأسره ، فحبسه المهدي ثم عفا عنه وأجزل له العطاء (٢).

بيد أن أكثر هذه الثورات أهمية وأعظمها خطرا على سياسة الدولة واستقرار المجتمع ، تلك التي حمل لواءها الزنادقة ، فقد أذاعوا في المجتمع مبادئ فاسدة تخالف أصول الإسلام أشد المخالفة ، وهي مبادئ تقوم على نوع من الديمقراطية الفاسدة التي تبيح المحرمات وتعبث بالآداب الاجتماعية والزوجية المرعية ، وتعرض الحياة السياسية والدينية للخطر.

والحق أن المهدي قد اشتد على الزنادقة ونكل بهم وحمى المجتمع من فسادهم وانحلالهم ، وقد حذا ابنه الهادي من بعده نفس السياسة التي لزمها أبوه تجاه الزنادقة ، فتعقبهم وقتل من ظفر به منهم.

هارون الرشيد : (١٧٠ ـ ١٩٣ ه‍) (٣) :

إن عصر هارون الرشيد يعد ـ بحق ـ العصر الذهبي للخلافة العباسية ؛ إذ بلغت أوج

__________________

ـ أعلام النبلاء (٧ / ٤٠٠) ، تاريخ بغداد (٥ / ٣٩١) ، الطبري (٨ / ١١٠) ، المعارف (٣٧٩) ، الكامل لابن الأثير (٦ / ٣٢ ـ ٣٤) ، (٨١ ـ ٨٧) ، البداية والنهاية (١ / ١٢٩ ـ ١٣١) ، مروج الذهب (٣ / ٣١٩) ، المحبر (٣٥ ـ ٧٠) ، أنساب الأشراف (٣ / ٨٠) ، تاريخ خليفة (٤٢٣) ، نسب قريش (٥٤) وما بعدها ، مرآة الجنان (١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٨) ، تاريخ الزمان (١١ ، ١٢» ، تاريخ الخلفاء (٢٧١ ـ ٢٧٩) ، العبر للذهبي (١ / ٢٣٠) ، المختصر في أخبار البشر (٢ / ١٠) ، أخبار الدول (١٤٨).

(١) حسن إبراهيم حسن (٢ / ٤٢).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (٩ / ٣٤١) ، (١٠ / ٩).

(٣) ينظر : هارون الرشيد في : شذرات الذهب (١ / ٣٣٤) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٢١٧) ، أخبار الدول للقرماني (١٤٩) ، تاريخ الخلفاء (٢٨٣) ، النجوم الزاهرة (٢ / ١٤٢) ، سير أعلام النبلاء (٩ / ٢٨٦) ، دول الإسلام (١ / ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١٠٦) وفيات الأعيان (١ / ٣٣١ ـ ٣٣٩) ـ

٢٥

عظمتها وذروة قوتها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة جميعا.

لقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدولة الكبرى والأولى والأقوى في العالم كله ، وقد ازداد اختلاط عناصر السكان فيها بعضهم ببعض ، وظهرت في الحياة العامة أخصب النزعات الاجتماعية والفكرية والدينية على صعيد واحد .. وزادت في الوقت نفسه أعداد المسلمين في الدولة مقابل الأديان الأخرى ، وغدا المسلمون بصورة عامة أكثر من نصف السكان (١).

وبلغ اقتصاد الدولة ذروة قوته وازدهاره ، حتى بلغت الأموال في خزائن الرشيد ما يقرب من ٧٢ مليون دينار ، عدا الضريبة العينية التي كانت تؤخذ مما تنتجه الأرض من الحبوب ، وحق للرشيد أن يخاطب السحابة قائلا :

اذهبي حيث شئت يأتينى خراجك (٢).

ومع ذلك ، فإن عهد هارون الرشيد لم يخل من الفتن والأزمات :

فقد خرج في زمنه يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي ب «الديلم» يدعو لنفسه ، فقويت شوكته ، والتف حوله الشيعة ، فبعث إليه الرشيد ، ففت في عضده ، فطلب الصلح من الرشيد ، فصالحه ، ثم أمنه ، ثم حبسه حتى مات (٣).

وخرج الوليد بن مطرف الشاري وحقق انتصارات على جيوش الرشيد ، وأفسد في الأرض ، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فهزم الوليد وقتله (٤).

وفي عهد الرشيد لم تكف حركات البربر في إفريقية ؛ رغبة في الخروج عن الحكم العباسي ، ولكن الرشيد بعث إليهم هرثمة بن أعين فقضى على هذه الحركات ، وعمل الرشيد على قيام دولة الأغالبة لصد هجمات البربر والوقوف في وجه دولة الأدارسة ، لكن

__________________

ـ خلاصة الذهب المسبوك (٧٧ ، ٩٩) ، سراج الملوك (٥١) ، تاريخ بغداد (١٤ / ٥ ـ ١٣) رقم (٧٣٤٧) ، الفتوح لابن أعثم (٨ / ٢٤٣ ـ ٢٨٦) ، عيون الأخبار (١ / ١٧) ، البدء والتاريخ (٦ / ١٠١ ـ ١٠٧) ، نثر الدر (٢٩ ـ ٣٧) ، تاريخ خليفة (٤٣٧) ، أنساب الأشراف (٣ / ٩٤) ، تاريخ الطبري (٨ / ٢٣٠) ، المعارف (٣٨١) ، الأخبار الطوال (٣٨٦) تاريخ اليعقوبي (٢ / ٣٨٧) ، المعرفة والتاريخ (١ / ١٦١).

(١) أزمنة التاريخ الإسلامي ، د / عبد السلام الترمايني (١ / ٤٣١ ، ٤٣٢).

(٢) حسن إبراهيم (٢ / ٦٢).

(٣) ينظر : تاريخ الطبري (١ / ٥٤ ـ ٥٥) ، والنجوم الزاهرة (١ / ٨٠).

(٤) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٤٥).

٢٦

ما لبثت هذه الدولة أن استقلت عن الدولة العباسية (١).

وفي مصر ثار أهل الحوف مرتين : الأولى سنة ١٧٨ ه‍ ، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين فأخمدهم. والثانية سنة ١٨٩ ه‍ بقيادة أبي النداء الذي خرج في مائة ألف رجل ، وكان في أيلة ، وأفسد مفسدة عظيمة ، فأرسل إليه الرشيد جيشا ، وأرسل والي مصر جيشا آخر ، فانهزم أبو النداء ، فأعلن أهل الحوف الإذعان والطاعة لما رأوه من انهزام قائدهم (٢).

ولما ولي الأمين الخلافة وقع الخلاف بينه وبين أخيه المأمون ، ووقع بينهما القتال ، خاصة عند ما خلع الأمين أخاه المأمون وعهد بالأمر لابنه موسى ، فدار القتال ، وحاصر طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بغداد أربعة عشر شهرا وقطع عنها الأقوات ، حتى وقع الناس في عنت شديد ، وانتصر طاهر ، وقتل الأمين ، وتمت البيعة للمأمون سنة مائة وثمانية وتسعين (٣).

وقيل : إن الأمين كان غير مهتم بشئون دولته ؛ حيث كان يحب اللهو والمجون ، ومن ثم كثرت الفتن في عهده ، وازدادت الثورات ، فاشتعلت نار الفتنة في الشام ، فقام علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ، يدعو لنفسه ، فعظم أمره ، واشتد خطره حتى احتل دمشق ، وكاد يستقر له الأمر لو لا النزاع الذي وقع بين اليمنيين والمضريين من أتباعه ، وبعث الأمين جيشا يعيد الاستقرار إلى بلاد الشام ، لكنه لم يفعل شيئا ، ومن ثم بقيت بلاد الشام في اضطراب وقلاقل قيل : سنتين ، أو أكثر (٤).

وفي ولاية المأمون : كان خروج بعض العلويين ، فخرج عليه أبو السرايا سنة ١٩٩ ه‍ بالكوفة ، وأوقع بجيوش الحسن بن سهل ، ولم يستطع المأمون إخماد حركته إلا بعد عناء شديد ؛ فقد هزمه هرثمة بن أعين (٥).

وأراد المأمون استمالة العلويين فعين ولي عهده منهم ، فولى علي بن موسى الكاظم وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد ، فاستثار بذلك حفيظة العباسيين وثاروا عليه في عدة مناطق (٦).

__________________

(١) ينظر : تاريخ الطبري (٢ / ٤٦).

(٢) ينظر : السابق (١٠ / ٦٢) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ١٢٥).

(٣) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٣٠٤).

(٤) ينظر : تاريخ الطبري (١٠ / ١٥٥).

(٥) ينظر : النجوم الزاهرة (٢ / ١٦٤) ، وتاريخ الطبري (١٠ / ٢٧٧).

(٦) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٣٤٩) ، وتاريخ الطبري (١ / ٢٤٣).

٢٧

كما شق عصا الطاعة نصر بن شبث الذي كان يتعصب للأمين ؛ فبعث له المأمون من يقاتله ، واستمرت المناوشات بينهم خمس سنين ، طلب بعدها نصر الأمان.

كما ثار المصريون ، فبعث لهم عبد الله بن طاهر ؛ لإخماد الثورة ، فاستولى على الفسطاط ، وأقر الأمن ، وأصلح البلاد (١).

ومن أخطر الأحداث التي ظهرت في عهد المأمون فتنة القول بخلق القرآن ، فقد أمر بامتحان القضاة والمحدثين في الولايات ، وابتلي الإمام أحمد بن حنبل فيها ابتلاء شديدا.

ولما تولى المعتصم وقعت في عهده أحداث كثيرة ، ففي عهده أغار الزط على الدولة العباسية ، واستولوا على طريق البصرة ، فحالوا دون وصول المئونة والأقوات إلى بغداد ، فقاتلهم وأرغمهم على طلب الأمان (٢) ، وكثر في عهده الترك وازداد نفوذهم (٣).

وقد أغار الروم على بلاد الإسلام ، فاستغاث الناس بالمعتصم ، وكان ذلك في سنة ٢٢٣ ه‍ ؛ فسير إليهم المعتصم جيشا ، وخرج على رأسه ، فحارب الروم وهزمهم ، وفتح حصونا كثيرة ، وفتح عمورية (٤).

وفي هذا يقول الشاعر العباسي أبو تمام :

يا يوم وقعة عمورية انصرفت

منك المنى حفلا معسولة الحلب

أبقيت جدّ بني الإسلام في صعد

والمشركين ودار الشرك في صبب (٥)

وقبل وفاة المعتصم : خرج المبرقع اليماني الذي أشعل نار الفتنة ب «فلسطين» ، فأرسل إليه المعتصم رجاء بن أيوب ، فلم يقدر على المبرقع الذي تجمع حوله الفلاحون ، فانتظر حتى ذهب عنه الفلاحون إلى زراعتهم ، وبقى المبرقع في نفر قليل ، فأغار عليه رجاء وأنزل به الهزيمة هو ومن معه (٦).

وتوفي المعتصم وتولى الواثق بالله سنة ٢٢٧ ه‍ ، وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم ، فاعتمد على الأتراك الذين شغلوا أعلى المناصب في كل ولايات الدولة (٧).

__________________

(١) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٦٠) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ٢١٥ ـ ٢١٧).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (١٠ / ٣٠٦).

(٣) ينظر : مروج الذهب (٤ / ٩).

(٤) ينظر : مروج الذهب (٤ / ١٥).

(٥) ينظر : ديوان أبي تمام بشرح الخطيب (١ / ٤٨).

(٦) ينظر : تاريخ الطبري (١١ / ٥).

(٧) ينظر : النجوم الزاهرة (٢ / ٢٥٩).

٢٨

ولم يمكث الواثق في الخلافة كثيرا فقد توفي سنة ٢٣٢ ه‍ ، وتولى بعده المتوكل.

الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل حتى سيطرة البويهيين عليها ، أهم الأحداث السياسية :

غدا مقررا بين المؤرخين أن عهد الخليفة المتوكل العباسي يعتبر بدء عصر انحلال الخلافة العباسية الذي انتهى بسقوطها تحت أقدام التتار سنة ٦٥٦ ه‍ (١).

ويسير على الباحث الوقوف على علة هذا الضعف المطبق الذي اتسم به تاريخ الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل الذي كانت ولايته حدّا يفرق بين عهدين من زمانها ، كان الأول منهما عهد ازدهار واستقرار وقوة بينما كان الثاني على النقيض من ذلك.

وهذه العلة إنما هي اعتماد العباسيين على الفرس ثم على الأتراك وإيثارهم إياهم بالمناصب المدنية والعسكرية على العرب الذين كانوا مادة الإسلام وقوام الدولة الإسلامية فضعفت عصبتهم وانحطت منزلتهم وانصرفت قلوبهم عن تأييد الدولة (٢).

وكان اعتماد العباسيين على العنصر التركي منذ عهد المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ ه‍) إرهاصا ببدء عصر جديد في تاريخ الدولة العباسية عرف بعصر نفوذ الأتراك يبدأ بولاية المتوكل وينتهي بدخول البويهيين بغداد (٢٣٢ ـ ٣٣٤ ه‍).

وقد استبد الأتراك بمقاليد الأمور وتغلغل نفوذهم في الدولة بحيث أصبح الخليفة العباسي «مسلوب السلطة مهيض الجانب ضعيف الإرادة» (٣).

ولم يتورع الأتراك عن قتل الخلفاء العباسيين الذين وقفوا ضد أطماعهم واستبدادهم فدبروا مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل «٢٤٧ ه‍» اشترك فيها ابنه المنتصر الذي طوعت له نفسه قتل أبيه ، فذاق وبال أمره ، فلم يمكث في الخلافة ستة أشهر إلا وقد أغرى الأتراك طبيبه ابن طيفور بقتله وأعطوه ثلاثين ألف دينار ، ففصده بريشة مسمومة سنة ٢٤٨ ه‍ (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ١).

(٢) السابق.

(٣) السابق (٣ / ٦).

(٤) ينظر : شذرات الذهب (٢ / ١١٨) ، والكامل لابن الأثير (٧ / ٥٤ ـ ٥٧) ، وفيات الأعيان (١ / ٣٥٠) ، النجوم الزاهرة (٢ / ٣٢٧) ، تاريخ الخلفاء (٣٥٦ ـ ٣٥٨) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٧٨) ، سير أعلام النبلاء (١٢ / ٤٢ ـ ٤٦) ، العبر للذهبي (١ / ٤٥٢) ، فوات الوفيات (٣ / ٣١٧) ، البداية والنهاية (١٠ / ٣٥٢) ، تاريخ ابن الوردي (١ / ٢٢٩) ، العقد الفريد (٤ / ١٦٥) ، الوافي بالوفيات (٢ / ٢٨٩) ، البدء والتاريخ (٦ / ١٢٣) ، المعارف (٣٩٣) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ٤٨٧) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٢١٠) ، تاريخ الطبري (٩ / ١٦٢) ، تاريخ بغداد (٢ / ١١٩).

٢٩

ومنذ ذلك التاريخ غدت تولية الخلفاء وعزلهم منوطة بإرادة الأتراك ، فقد كانوا يعملون على تولية الخلافة من يطمئنون إليه من أمراء البيت العباسي ، وما أدق عبارة الفخري صاحب الآداب السلطانية في بيان هذه الحالة التي آل إليها أمر خلفاء بني العباس حيث قال : «كان الأتراك منذ قتل المتوكل قد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه» (١).

ونتج عن ضعف الخلافة العباسية استقلال أكثر الولايات الإسلامية في مشرق الدولة ومغربها ، فانفرد الطولونيون بحكم مصر (٢٥٤ ـ ٢٩٢ ه‍) ثم الإخشيديون (٣٢٣ ـ ٣٥٨ ه‍) وأخيرا الفاطميون (٣٥٨ ـ ٥٦٧ ه‍).

أما في المشرق فقد قامت الدولة الطاهرية (٢٠٥ ـ ٢٥٩ ه‍) في خراسان ، ومنهم انتقلت السلطة إلى أسرة جديدة هي الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍) التي قامت على يد يعقوب ابن الليث الصفار ، والدولة السامانية (٢٦٦ ـ ٣٨٩ ه‍) التي تفرعت عنها الدولة الغزنوية (٣٥١ ـ ٥٨٢ ه‍) (٢).

البويهيون :

وإزاء استبداد الأتراك بشئون الدولة تطلع الخلفاء العباسيون إلى قوة جديدة تقيل الخلافة من عثرتها وتستأصل شأفة الأتراك ، فوجدوا في دولة بني بويه الفتية ضالتهم ، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

برز البويهيون إلى رحاب التاريخ الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري وسرعان ما ترقوا في معارج القوة والنفوذ ، فدانت لعلي بن بويه بلاد فارس بالطاعة (٣٢٣ ه‍) وانتزع من الخليفة الراضي العباسي اعترافا بسلطانه.

وتوجوا انتصاراتهم بدخول بغداد حاضرة الخلافة العباسية عام ٣٣٤ ه‍ في عهد أحمد ابن بويه (٣٣٤ ـ ٣٥٦ ه‍) فقابله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه ولقبه معز الدولة ، ولقب أخاه عليّا عماد الدولة ، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة ، وضرب ألقابهم على السكة ، ولقب المستكفي إمام الحق وضرب ذلك على السكة (٣) ، على أن البويهيين استأثروا بالسلطة دون الخلفاء كما صنع أسلافهم من الترك.

__________________

(١) ينظر : الكامل (٧ / ٥٧) وما بعدها ، تاريخ الخلفاء (٣٥٨) ، وتاريخ الطبري (٩ / ١٦٣).

(٢) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٦٤).

(٣) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ص ٤٦٠.

٣٠

فعمل معز الدولة على توطيد مركزه وتقوية نفوذه في بلاد العراق التي أذعنت لحكمه إذعانا كاملا ، ولم يلبث أن استبد بالسلطان دون الخليفة وعمل على إضعاف الخلافة العباسية وفكر في القضاء عليها وإقامة خلافة شيعية على أنقاضها ، «ولكنه عدل عن هذه السياسة لما قد يتعرض له سلطانه من خطر بسبب وجود خلافة علوية يطيعها الجند ، ويعترف بها الديلم ، ويكونون أداة في يد الخليفة يستغلها لمصلحته متى شاء» (١).

وبلغ من إهانة معز الدولة البويهي للخلافة العباسية وانتقاصه من قدر خلفائها أن قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وحبسه إلى أن مات ، وأجلس المطيع (٣٣٤ ـ ٣٦٣ ه‍) على كرسي الخلافة وحدد له راتبا مائة دينار في اليوم ، ثم قطع ذلك الراتب وحدد له إقطاعات يسيرة يعيش منها كما عين له كاتبا يتصرف في شئونها (٢).

ثورة البساسيري : ذروة الضعف العباسي ، ودخول السلاجقة بغداد :

بلغ ضعف الخلافة العباسية غايته وعجزها منتهاه في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي الذي تحقق من خيانة البساسيري ذي الميول الشيعية ، وتأكد من مكاتبته الخلافة الفاطمية في مصر.

فطلب إلى الملك الرحيم البويهي إبعاده عن العراق ، فسار البساسيري إلى الرحبة بلد نور الدولة لمصاهرة بينهما (٣) ، وعندئذ أدرك القائم بأمر الله أن نجم البويهيين قد أفل وأنهم أمسوا عاجزين عن حماية الخلافة العباسية ودرء خطر البساسيري عنها ، وأنه لا مناص من الاستعانة بالسلاجقة الذين طوى ملكهم بلاد الفرس والجزيرة وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بغداد.

وكان أن أرسل طغرلبك إلى الخليفة العباسي القائم رسولا يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية ، فانتهز الخليفة ذلك وأمر بقطع الخطبة للملك الرحيم ، والخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد في رمضان سنة ٤٤٧ ه‍ «ثم أرسل طغرلبك يستأذن الخليفة العباسي في دخول بغداد ، فأذن له فوصل إلى النهروان ، وخرج الوزير إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة ، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم» (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٤٤).

(٢) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ص (٤٦١).

(٣) الكامل في التاريخ ، بيروت ، دار صادر ١٩٧٩ (٩ / ٦٠٨ ، ٦٠٩).

(٤) السابق (٩ / ٦١٠).

٣١

واستغل البساسيري خروج طغرلبك من العراق وانشغاله بحصار الموصل ونصيبين فكاتب إبراهيم ينال أخا طغرلبك وأخذ يعده ويمنيه ويطمعه في ملك أخيه (١) حتى أصغى إليه وخالف أخاه ، فترك الموصل إلى الري ، فتقدم البساسيري إلى الموصل وحاصرها وتمكن من إخضاعها سنة ٤٥٠ ه‍ وتهيأ لدخول بغداد (٢) ، أما طغرلبك فقد انصرف إلى القضاء على عصيان أخيه إبراهيم ينال وتمكن من الظفر به وقتله بالقرب من الري سنة ٤٥٠ ه‍.

وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك فعفا عنه ، وإنما قتله في هذه المرة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه (٣).

قدم البساسيري بغداد سنة ٤٥٠ ه‍ بالرايات المصرية ، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر ، وجرى القتال بينه وبين الخليفة القائم الذي انضم إليه نفر من أهل السنة وقاتلوا معه ، بيد أن الخليفة لم يقو على صد البساسيري عن دار الخلافة فاستولى عليها بعد قتال دام شهرا ، وأقيمت الخطبة للمستنصر الفاطمي وزيد في الآذان : حي على خير العمل (٤).

ثم قبض البساسيري على الخليفة وحمله إلى مدينة عانة حيث حبسه بها (٥).

ولما فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه إبراهيم ينال ، عمل على إعادة الخليفة إلى بغداد ، فكتب إلى قريش بن بدران يأمره أن يعيد الخليفة إلى داره ويتوعده إن لم يفعل ذلك ، فكتب قريش إلى مهارش بن مجلي يخبره بذلك ، فتولى مهارش أمر إعادة الخليفة إلى بغداد (٦).

ثم جهز طغرلبك جيشا لقتال البساسيري الذي لحق بواسط يتهيأ لقتال السلاجقة ليمنعه من الدخول إلى بلاد الشام ، فظفر به جيش طغرلبك فقتل وحملت رأسه إلى بغداد (٧).

وهكذا كانت فتنة البساسيري ـ كما ذكر ابن الأثير ـ أهم الأسباب التي حملت الخلافة العباسية على الاستعانة بالسلاجقة لتخليصهم من استبداد البويهيين ذوي الميول الشيعية والتي مثل البساسيري شكلا من أشكالها.

__________________

(١) ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة ، القاهرة (٥ / ٥) ، والسيوطي تاريخ الخلفاء ص (٤٨١).

(٢) ابن الأثير ، الكامل (٩ / ٦٣٩).

(٣) السابق (٩ / ٦٤٥).

(٤) ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة (٥ / ٦).

(٥) السابق (٥ / ٧).

(٦) ابن الأثير ، الكامل (٩ / ٦٤٦ ـ ٦٤٨).

(٧) السابق (٩ / ٦٤٩).

٣٢

الفصل الثالث

ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي

تميز تاريخ الدولة العباسية بظاهرة فريدة لم يشهدها تاريخ الخلافتين الراشدة والأموية ، وهي ظاهرة الدول المستقلة في المشرق والمغرب جميعا.

وإذا كان ظهور النزعات الاستقلالية في العالم الإسلامي يرجع إلى أواخر العصر الأموي ، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت على نحو كبير منذ مطلع الدولة العباسية ، فقامت الدولة الأموية بالأندلس (١٣٨ ـ ٣٩٧ ه‍) على يد عبد الرحمن الداخل ، وأسس إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى (١٧٢ ـ ٣١١ ه‍) ، وقامت دولة الأغالبة في تونس (١٨٤ ـ ٢٦٩ ه‍) على يد إبراهيم بن الأغلب ، وفي مصر ظهر الطولونيون (٢٥٤ ـ ٢٩٢ ه‍) ثم الإخشيديون (٣٢٣ ـ ٣٥٨ ه‍) ثم الخلافة الفاطمية (٣٥٨ ـ ٥٦٧ ه‍).

أما في الشرق فثمة دول استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية ، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان ـ نسبة إلى طاهر بن الحسين (٢٠٥ ـ ٢٥٩ ه‍) ـ وعلى أنقاضها نشأت الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍) على يد يعقوب بن الليث الصفار ، كما ظهرت الدولة السامانية (٢٦٦ ـ ٣٨٩ ه‍) (١).

ونستطيع أن نرد أسباب هذ الظاهرة ـ وهي نشأة الدول المستقلة ـ إلى تضخم نفوذ الأتراك في الدولة العباسية ، واستبدادهم بتصريف الشئون السياسية دون الخلفاء ، فأحدث الأتراك كثيرا من القلاقل والاضطرابات ، وغدت الدولة العباسية مسرحا للفوضى والاضطرابات السياسية ، الأمر الذي ترتب عليه ضعف السلطة المركزية في بغداد وما ارتبط به من استقلال أكثر الولايات الإسلامية.

وثمة أمر آخر هو أن انحسار نفوذ العرب والفرس وضعف مكانتهم وهوان شأنهم في الدولة العباسية ، دفعهم دفعا إلى الاستقلال ببعض بلدان الدولة العباسية في المشرق الإسلامي ، فكانت الدولتان : الصفارية والسامانية (٢).

وهاتان الدولتان تقع في إطارهما مدينة سمرقند التي ولد فيها الماتريدي ؛ ولذلك

__________________

(١) انظر : حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٦٤).

(٢) ينظر : مروج الذهب (٤ / ٦٤) ، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة (٢ / ٣٠٦).

٣٣

سنتعرض لكل واحدة منهما بشيء من التفصيل.

أولا : الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍):

قامت الدولة الصفارية على أنقاض الدولة الطاهرية ويرجع تأسيسها إلى يعقوب بن الليث الصفار (٢٥٤ ـ ٢٦٥ ه‍) ، الذي اتخذ من سجستان مركزا لانطلاقها. وتقع سجستان في أقصى الشرق من إيران وتسمى أيضا «نيمروز» وهي كلمة فارسية تعني «نصف يوم» أي أنها بخيراتها وثرواتها تساوي نصف ما تطلع عليه الشمس ، وهذا على سبيل المبالغة لا الحقيقة (١).

وقد انضم يعقوب إلى أحد قادة المطوعة ويدعى صالح بن النضر في ثورته على والي سجستان إبراهيم القوسي ؛ لظلمه واستبداده ، فتمكنوا من خلعه والاستيلاء على سجستان سنة ٢٣٧ ه‍ (٢).

والمطوعة جماعات عسكرية تعمل على حماية سجستان وفارس وكرمان من الفوضى التي تعرضت لها إثر ثورات الخوارج.

لم يكن صالح بن النضر أحسن حالا من الوالي السابق من قبل الطاهريين ، فبغى على الرعية ولم يسر فيهم سيرة العدل التي كانوا يرجونها منه ، فشكوه إلى يعقوب وأغروه بأن يتولى عليهم بدلا منه ، فاستجاب لهم واستطاع أن يتخلص من صالح بن النضر ، وأخذ يعمل على توطيد ملكه وتدعيم مركزه بالقضاء على المتمردين والمنشقين عليه ، فحارب الخوارج الذين رفضوا الدخول في طاعته وقتل كثيرا منهم حتى كاد أن يفنيهم ، وأذاع أنه يحارب الخوارج عن أمر الخليفة العباسي (٣).

ولم يكتف يعقوب بحكم سجستان بل مد نفوذه إلى بوشنج وهراة وما والاها ، واحتل نيسابور التي كان يحكمها الطاهريون ، وضم إليه بلاد فارس وخراسان ، وكرمان ، والسند ، وطبرستان ، والري ، وقزوين وأذربيجان وجنديسابور ، والأهواز ، حتى لقد هدد بغداد نفسها سنة ٢٥٧ ه‍ ، فأسس بذلك ملكا عريضا في شرق الدولة الإسلامية (٤).

__________________

(١) ينظر : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، القاهرة ١٩٠٦ (١ / ٣٦٨).

(٢) ينظر : وفيات الأعيان ، ابن خلكان (٨ / ٥٠٨).

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، دار الكتاب العربي ، بيروت (٧ / ١٨٥) ، وينظر أيضا : اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ، النجف ١٣٥٨ ه‍ ص (٢١٩).

(٤) ينظر : عصام عبد الرءوف الفقي ، الدولة الإسلامية المستقلة في الشرق ، دار الفكر العربي ١٩٨٧ م ، ص (٨ ـ ٩).

٣٤

والحق أن الملكات السياسية والمواهب الشخصية التي اتسم بها يعقوب بن الليث هي التي أتاحت له ما حقق من نجاح كبير في تأسيس دولته الجديدة ، فقد امتاز باليقظة وحسن التدبير ، والتفكير العميق في عواقب الأمور ونتائجها ، والقدرة على اختيار رجاله وإعداد جيوشه الإعداد السليم ؛ فلا عجب أن قال عنه المسعودي : «كانت سياسة يعقوب لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها ممن سلف من الملوك من الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف ، وحسن انقيادهم لأمره ، واستقامتهم على طاعته ؛ لما قد شملهم من إحسانه ، وغمرهم من بره ، وملأ قلوبهم من هيبته» (١).

لا ريب أن الخلافة العباسية أوجست خيفة من يعقوب بن الليث الصفار ، ورأت في اتساع ملكه تهديدا خطيرا لنفوذها ، وكسرا للقاعدة التي جرت عليها في تولية حكام الأطراف بناء على تفويض منها ، فاعتبرت يعقوب متمردا ، وجمع الخليفة الحجاج القادمين من المشرق من خراسان والري وطبرستان وجرجان سنة ٢٦١ ه‍ وأعلمهم أنه لم يفوض يعقوب ، وأن دخوله خراسان وقضاءه على الطاهريين لم يكن بأمره ، ورد يعقوب على ذلك بمزيد من التحدي وقصد إقليم فارس فاستولى عليه سنة ٢٦١ ه‍ (٢).

وبدأ يعقوب يفكر في الاستيلاء على بغداد فتحرك صوبها سنة ٢٦٢ ه‍ ، مستغلّا انشغال الخلافة العباسية بالقضاء على ثورة الزنج ، فرأت الخلافة استمالته وإرضاءه ريثما تفرغ من أمر الزنج ، فأبى يعقوب مهادنة العباسيين وقال : إنه لا يرضيه إلا أن يسير إلى باب المعتمد (٣).

والتقت جيوش العباسيين بجيش يعقوب في قرية «اصطربند» على مقربة من واسط في رجب سنة ٢٦٢ ه‍ ، وكان الخليفة العباسي المعتمد يقود الجيش بنفسه ، ومعه أخوه طلحة في القلب.

وانجلى غبار المعركة عن هزيمة منكرة للصفار وجنده ، وغنم جند الخليفة معسكره وتراجع يعقوب في فلوله ، وتوفي بعد ذلك بقليل في سنة ٢٦٥ ه‍ (٤).

خلف يعقوب بن الليث أخوه عمرو بن الليث ، فبادر إلى استرضاء العباسيين

__________________

(١) ينظر : مروج الذهب (٢ / ٤٧٥).

(٢) ينظر : محمد عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ، دار الثقافة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، ص (١٤٥).

(٣) ينظر : ابن الأثير (٧ / ٢٩٠).

(٤) ينظر : المنتظم ، ابن الجوزي ، حيدرآباد الدكن ١٣٥٨ ه‍ ، (٥ / ٣٣).

٣٥

ومهادنتهم ، فوثق به الخلفاء العباسيون حتى عهدوا إليه بولاية شرطة بغداد بالإضافة إلى حكم ولايات خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان ، فقوي نفوذه واستقر ملكه (١).

وقد اتبع عمرو بن الليث نظاما دقيقا في مراقبة عماله وقواده ، ورتب موارد دولته وعمل على تنميتها وزيادتها (٢).

ولم يقنع عمرو بما استقام له من ملك ونفوذ على كثير من الولايات والممالك ، فطمع في بلاد ما وراء النهر التي كانت تحت حكم الدولة السامانية.

والحق أن الخلافة العباسية هي التي أغرت عمرو بحرب السامانيين ؛ إذ أرسلت إليه تفويضا بحكم بلاد ما وراء النهر ، وفي الوقت نفسه كتبت إلى الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني سرّا تدعوه إلى حرب الصفار وتعده بتوليته على ما تحت يديه من بلاد (٣).

ويقول ابن الفقيه موضحا هذه الخطة : «كتب المعتضد إلى الصفار يأمره أن يطلب إسماعيل بن أحمد ، وأنه قد ولاه عمله ، وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك» (٤).

وكان أن رفض الأمير إسماعيل الساماني تسليم بلاد ما وراء النهر ، وكتب إلى عمرو بن الليث قائلا : «إنك قد وليت دنيا عريضة ، وأنا في يدي ما وراء النهر ، وأنا في ثغر ، فاقنع بما في يدك ، واتركني مقيما بهذا الثغر» (٥).

وأسفر الصراع بين الجانبين عن هزيمة عمرو بن الليث الصفار ووقوعه في الأسر سنة ٢٨٧ ه‍ ، وعامله الأمير الساماني معاملة كريمة ، وخيره بين البقاء عنده أو إرساله إلى الخليفة فاختار السير إلى المعتضد ، ولكن الخليفة أمر أن يشهر به ويلقى في السجن ثم قتله سنة ٢٨٩ ه‍ (٦).

وقد تولى إمارة الدولة الصفارية ـ بعد عمرو بن الليث ـ طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وكان صغيرا لاهيا عابثا ، فغلب عليه السبكري ـ غلام عمرو بن الليث ـ فاستبد

__________________

(١) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (٩ / ٥٤٥).

(٢) ينظر : عصام عبد الرءوف ، الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٠.

(٣) ينظر : محمد عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ص ١٤٨ ، ١٤٩.

(٤) ينظر : ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، ليدن ١٩٦٧ ، ص ٣١٢.

(٥) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (١٠ / ٧٦).

(٦) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ص ١٤٩.

٣٦

بالسلطة دونه ، ولم يكن لهذا الأمير الصغير حول ولا طول ، بل إن السبكري قبض عليه وعلى أخيه يعقوب ، وأرسل بهما إلى بغداد سنة ٢٩٦ ه‍ ، وبذلك خلا له حكم الدولة الصفارية (١).

ولم تكد الأمور تستقيم للسبكري حتى سار إليه الليث بن علي بن الليث وهزمه وطرده من فارس ، وذلك سنة ٢٩٧ ه‍ ، فاستنجد السبكري بالخليفة فسير جيشا إلى الليث أوقع به الهزيمة ، وعاد السبكري إلى ولاية الدولة الصفارية ، لكنه تمرد على الخلافة العباسية ، ورفض أداء الأموال إليها ، فعملت على التخلص منه ، فانتزعت منه فارس سنة ٢٩٨ ه‍ ، فلجأ إلى سجستان ، فسار إليه الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني ، فاستولى على سجستان وقبض على السبكري وعلى محمد بن علي بن الليث الصفار وبعث بهما إلى بغداد سنة ٢٩٨ ه‍ ، وبذلك قضي على الدولة الصفارية قضاء لا قيام لها بعده (٢).

ويسعنا ـ بعد هذا العرض الموجز ـ أن نرجع سقوط الدولة الصفارية إلى سببين اثنين :

الأول : جهود الدولة العباسية وحرصها على التخلص منها.

الثاني : الهزائم المتكررة التي ألمت بجيوشها ، هذا بالإضافة إلى تمرد قوادها ، وما ترتب على ذلك من ضعف للدولة وانهيارها في النهاية.

الدولة السامانية

قامت الدولة السامانية في «منطقة ما وراء النهر» ، وتشمل جغرافيّا المناطق الواقعة على جانبي نهر جيحون مباشرة وإلى الشمال منه قليلا ، وينتسب سكان هذه الأقاليم إلى الجنس الفارسي ، الآري ـ لغة ودما وثقافة ـ أما المناطق التي تقع إلى أقصى الشمال والشرق ، فهي مناطق خاصة بالترك ، وهم عنصر آخر يعرف بالعنصر الطوراني ، وتسمى بلادهم تركستان (٣).

ويرتبط هذا الإقليم بخراسان وسجستان جغرافيّا وسياسيّا ؛ ولذلك اعتبر المقدسي هذه الأقاليم الثلاثة إقليما واحدا أسماه بالمشرق.

ويشمل إقليم ما وراء النهر عدة كور منها : بخارى وأشروسنة والشاش وفرغانة وكش

__________________

(١) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (١٠ / ١٤١).

(٢) ينظر : عصام الدين عبد الرءوف ، الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١١ ، ١٢.

(٣) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، ص ١٥١.

٣٧

ونسف والصغانيان والختل وخوارزم والترمذ (١).

أما الدولة السامانية فتنتسب إلى أسرة فارسية عريقة في المجد يرجع أصلها إلى بهران ابن جور (٢).

ودخلت هذه الأسرة في الإسلام في العهد الأموي ، في ولاية خالد القسري الذي كان مهتمّا بأبناء الأسر الفارسية العريقة ، وأدنى إليه سامان وأكرمه ، فأسلم على يديه وولاه بلخ ، فلما رزقه الله بولده سماه أسدا تيمنا باسم هذا الوالي الكريم (٣).

وظهر أبناء سامان الأربعة على مسرح الأحداث السياسية في عهد الخليفة المأمون فولي نوح بن أسد سمرقند في سنة ٢٠٤ ه‍ ، وأحمد بن أسد فرغانة ، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة ، وإلياس بن أسد هراة ، ولما ولي طاهر بن الحسين بلاد خراسان أقرهم في هذه الأعمال (٤).

واشتهر من أبناء أحمد بن أسد إسماعيل ونصر. فخلف نصر أباه على سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين حتى ولاه الخليفة العباسي المعتمد بلاد ما وراء النهر سنة ٢٦١ ه‍. ومن ثم تأسست الدولة السامانية ، وولّى نصر أخاه إسماعيل على بخارى (٥).

ولم يلبث العداء أن أنشب أظفاره بين الأخوين إسماعيل ونصر ، وكان إسماعيل ـ كما مر ـ ينوب عن أخيه في حكم بخارى ، فآنس منه نصر طمعا في المال واستئثارا بالسلطة ، فوقعت حروب بين الأخوين انتهت بانتصار إسماعيل سنة ٢٧٥ ه‍ ، ولكنه أبدى إيثارا وتعظيما كبيرا لأخيه ، فترجل عن جواده ، وقبل ركابه وقال : إني مقر بأني أخطأت والذنب كله ذنبي ، فبكى نصر لوفاء أخيه ورجع إلى سمرقند تاركا إياه نائبا عنه في بخارى (٦).

وآل أمر الدولة السامانية بعد وفاة نصر بن أحمد الساماني إلى أخيه إسماعيل بن أحمد سنة ٢٧٩ ه‍ ، ويمكننا أن نعتبر إسماعيل المؤسس الحقيقي للدولة السامانية ، ففي عهده ظهرت الدولة بمظهر القوة ، وقامت بدور كبير في إزالة الدولة الصفارية.

واستطاع إسماعيل بفضل كفايته السياسية والحربية أن يخضع لسلطانه بلاد ما وراء

__________________

(١) ينظر : المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ليدن ١٩٦٧ ، ص ٢٦٠.

(٢) ينظر : حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٧٣).

(٣) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، ص ١٥٢ ، نقلا عن النرشخي صاحب تاريخ بخاري.

(٤) ينظر : حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٧٣).

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : تاريخ بخارى للنرشخي ص ١١١ ، وتاريخ بخارى لأرمينيوس فاميري ص ٩٨.

٣٨

النهر كلها ، ونجح في أن يضم إلى دولته خراسان وبعض المناطق الإيرانية الأخرى ، واتخذ من بخارى عاصمة لدولته (١).

وقد وصف ابن الأثير إسماعيل بن أحمد الساماني فقال : «إنه كان خيّرا يحب أهل العلم والدين ، ويكرمهم».

وقال في موضع آخر : «إنه كان عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيته ، حليما. وحكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه ، فمر به الأمير إسماعيل يوما ، والمؤدب لا يعلم به ، فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له : لا بارك الله فيك ولا فيمن ولدك ، فدخل إليه ، فقال له : يا هذا ، نحن لم نذنب ذنبا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك ، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب ، فخرج إسماعيل من عنده وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه» (٢).

علاقة السامانيين بالخلافة :

تختلف الدولة السامانية في علاقتها بالخلافة العباسية عن الدولة الصفارية إلى حد كبير ؛ فالصفاريون لم يعترفوا بسلطان الخليفة العباسي عليهم وتمردوا على نفوذه الروحي ، بل سعوا إلى الاستيلاء على بغداد نفسها.

أما الدولة السامانية فنعمت بالاستقلال في ظل الولاء الاسمي للخلافة العباسية ، بعد أن أثبتت تجربة الصفاريين فشل الحركات المناوئة للخلافة المتحدية لسلطانها ، وتأكد أن الخلافة ـ حتى في أحلك ظروفها ـ كانت تتمتع بنفوذ روحي لا يستهان به ، وأنها قادرة على تحريك الأحداث والإسهام فيها بالتدخل المباشر أو بالاستعانة بحلفائها. فوعى السامانيون هذا الدرس ، واعترفوا بالنفوذ الروحي للخلافة ، ورفعوا راية الجهاد في الثغور ، وأبدوا تعاونا مخلصا مع الخلافة في مواجهة أعدائها (٣).

ومن أمارات هذا الولاء الذي أبداه السامانيون للخلافة العباسية :

ـ تمسكهم بالمذهب السني الذي تدين به الدولة العباسية ، ورفضهم إقامة علاقات مع الفاطميين عند ما حاولوا استمالتهم إليهم.

ـ كما أقام السامانيون الخطبة للعباسيين ونقشوا أسماءهم على السكة ، وحرصوا على إكساب حكمهم صفة شرعية بالحصول على تفويض منهم (٤).

__________________

(١) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ١٥٣.

(٢) ينظر : حسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام (٣ / ٧٤) نقلا عن ابن الأثير.

(٣) ينظر : الرفاعي ، ص ١٥١.

(٤) ينظر : السابق ، ص ١٥٥.

٣٩

وفي المقابل بدأت الخلافة العباسية تثق في السامانيين وتطمئن إلى صدق ولائهم ، فاتخذت منهم أنصارا لها في المشرق خلفا للطاهريين ، وقد أشرنا قبل قليل إلى نجاح التحالف «العباسي الساماني» في القضاء على الدولة الصفارية التي هددت العباسيين تهديدا مباشرا.

كما أدى السامانيون دورا آخر لصالح الخلافة العباسية ، وهو التصدي للزيدية في طبرستان ، وتمكنوا من إسقاط دولة الحسن بن زيد سنة ٢٨٧ ه‍ ، ونجحوا في استمالة القائد الديلمي أسفار بن شيرويه فتخلى عن ولائه للزيدية ، وانضم إليهم ، وتكفل بإسقاط الدولة الزيدية الثانية سنة ٣١٦ ه‍ (١).

وكانت بخارى حاضرة الدولة السامانية في عهد الأمير إسماعيل ، فقد شيدت فيها القصور المنيفة ، والمنشآت الكبيرة ، والمدارس الدينية ، ووفد عليها العلماء من كل حدب وصوب ؛ لما وجدوه من التشجيع والحفاوة (٢).

وقد حكم إسماعيل أكثر من ثلاثين سنة ، سار فيها سيرة حسنة في الرعية ، فأرسى قواعد العدل والإحسان ؛ ولذلك كان لا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الرعية.

وكانت خراسان تنقسم إلى أربعة أقسام : قسم عاصمته نيسابور ، وقسم عاصمته مرو ، وثالث عاصمته هراة ، والأخير عاصمته بلخ.

وأما بلاد ما وراء النهر فكانت تنقسم خمسة أقسام :

الأول : الصغد ، ولها عاصمتان هما بخارى وسمرقند.

والثاني : خوارزم.

والثالث : صغانيان.

والرابع : فرغانة.

والخامس : الشاش.

وقد كان لعمال إسماعيل على هذه الولايات سلطات واسعة (٣).

وقد توفي الأمير إسماعيل عام ٢٩٥ ه‍ ، وبعد وفاته بدأت الدولة السامانية في الضعف والانحلال ، وكان ذلك لعدة عوامل :

__________________

(١) ينظر السابق ، ص ١٥٤.

(٢) ينظر : تاريخ بخارى ، لفاميري (ص ١٠٣) وما بعدها.

(٣) ينظر : الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٦.

٤٠