تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

الفصل الأول

انتماء الماتريدي التفسيري

ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم ، فهناك : مدرسة التفسير بالمأثور ، ومدرسة التفسير بالرأي ، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فيتخذون من النقل والعقل طريقا للتفسير.

والنقل ـ كما سبقت الإشارة ـ : هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين ، وأما العقل ـ كما سبق أيضا ـ : فيعمل المفسر عقله في الآيات ، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في : عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه ، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى ـ عند بعض المفسرين ـ إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق (١).

ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل ، وتكسب عمله سنده ومشروعيته ، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم ، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون ؛ ضمانا لهدايتهم ، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرا بعد عصر (٢) ، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد ، ويعطي المتأملين فيه ، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة ، وضمانا وسندا دائمين ، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم ، وفيها الغاية ـ كل الغاية ـ لكل عقل صحيح ، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء ، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود ، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم ، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني ، ويخاطب الأرواح ، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا ، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق (٣).

والماتريدي من هؤلاء العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة ، ومدرسة

__________________

(١) ينظر بحوث في تفسير القرآن الكريم للدكتور محمد إبراهيم شريف (ص ١٠٤ ، ١٠٥).

(٢) الأستاد محمد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم (طبع المنار ، ١٣٤٦ ه‍) (١ / ٤٠٢).

(٣) الرافعي : إعجاز القرآن والبلاغة النبوية (طبع الاستقامة ، القاهرة ١٩٥٢ م) ص (٢٠٦ ، ٢٠٧).

٣٠١

أبي حنيفة تمثل ـ كما هو معروف ـ مدرسة الرأي ، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي.

وأقول : إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلما أو فقيها فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرا ؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعا ، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين.

وبيان ذلك : أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل ؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده ، ليس في هذا التفسير فقط ، بل في جميع مؤلفاته ، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي ، فالموقف العدل ـ عنده ـ هو التوسط بينهما ، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم ، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية.

وليس موقف الوسط ـ كما يظن ـ توفيقا بين الآراء ، وأنه يخلو من الابتكار ، بل هو قمة الابتكار ؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل ؛ فلا بد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والأخبار وشروطها ، وهذه هي أحكام النقل ، ولا بد ـ أيضا ـ من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين.

وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرا متميزا ، هذه الخصائص والسمات تتلخص في :

أولا : استقلال الفكر :

كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين ، بل يبحث عن الحقيقة ، فلم يكن تابعا لفكر معين ، أو متعصبا أو انفعاليّا ؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة ، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره.

والناظر في تفسيره ـ نظرة إجمالية ـ سوف تظهر له هذه الحقيقة ، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا ، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما

٣٠٢

يراها هو ، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره ، فعند قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] يقول : «سفههم ـ عزوجل ـ بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السموات والأرض ، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما ، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء ، مع بعد ما بينهما ، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية».

فهنا يفسر الآية من عند نفسه ، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها ، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها ، فعند الآية نفسها يقول : «وقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) قال الحسن : الظلمات والنور : الكفر والإيمان ، وقال غيره من أهل التأويل : الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار ، أبصار الوجوه وأبصار القلوب ، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار : أبصار الوجوه ، وأبصار القلوب ، فالظلمة تجعل كل شيء مستورا عليه ، والنور يجعل كل شيء كان مستورا ظاهرا باديا عليه ، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة» ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل ، بل يكتفي بعرضهما ، وهو ما يدل على عدم تعصبه.

لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد ، ففي الآية التي معنا ، في عجزها والتي بعدها ، يقول الماتريدي : «وقوله عزوجل : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] قيل : يشركون مع ما بيّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته ، أي : جعلوا كل ما يعبدونه دون الله عديلا لله ، وأثبتوا المعادلة بينه وبين الله تعالى ، وليس لله تعالى عديل ، ولا نديد ، ولا شريك ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال الحسن : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يكذبون.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي : خلق آدم أبا البشر من طين ، فأما خلق بني آدم من ماء ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وأخبر الله تعالى أنه خلق آدم من الطين ، وخلق بني آدم سوى عيسى ـ عليه‌السلام ـ من النطفة ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من الطين ولا من الماء ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء ، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء ، ولا ينكرون ـ أيضا ـ إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم ؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابا أو ماء ، أو لا ذا ولا ذا ،

٣٠٣

فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين ، وخلق سائر الحيوان من الماء ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من هذين ، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت ، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا ، فيكون دليلا على منكري البعث بعد الموت ، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء ، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه ؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم ، والله الهادي.

ويحتمل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم ، وأضاف خلقنا إلى الطين ، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره ، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر ، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذى ، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره ، وفي جميع جوارحه ، وقد يحيي بها جميع الجوارح ، وإن لم ير تلك القوة ، فكذلك هذا.

ويحتمل ـ أيضا ـ على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئا من التراب ، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه ، فيخلط بالنطفة ، فيصير علقة ومضغة ، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.

ويحتمل النسب إلى التراب ، وإن لم يكونوا من التراب ؛ لما أن أصلهم من التراب ، وهو آدم».

فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها ؛ ليعطي القارئ تصورا عامّا حول القضية التي تطرحها الآية ، فحول قضية الخلق ، نجده ـ أولا ـ يعرض لمراحل الخلق جميعا ، وإمكانياته الواقعة في خلق الله من لدن آدم.

ونجده ـ ثانيا ـ يبين الغرض من هذه المراحل ، وهو غرض مزدوج ؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة ، وترد على الدهريين من جهة ثانية.

وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعا ، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية ، وليبين لما ذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين.

ثم إنه يعرض ـ ثالثا ـ لاحتمال يدل على حس علمي شفيف ، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب ، وهذه لفتة علمية دقيقة ، يؤكدها العلم في العصر الحاضر.

ثانيا : النظرة الكلية للأشياء :

تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية ، وقدرته على ربط الجزئيات

٣٠٤

بالكليات ، ورد الفروع إلى الأصول ، وهي سمة ليست مقصورة على تفسيره فقط ، بل تؤكدها تآليفه في الفقه وأصوله والتوحيد ، وبخاصة أصول الفقه ذلك العلم الذي يقوم على ربط المسائل الفرعية بأصول الأحكام.

ثالثا : اهتمامه بالمضمون :

ينزع الماتريدي في تفسيره إلى بيان المضمون الذي تنطوي عليه الآيات دون النظر إلى الألفاظ ، وما يعتورها من نكات لغوية وبلاغية ، وإذا عرج على ذلك فلخدمة المضمون وإبرازه ، والنماذج السابقة دالة على ذلك.

وهذا يجعلنا نقرر سمة من سمات الماتريدي ، وهي اهتمامه بربط عملية الفكر بعملية التطبيق والعمل ، فالأفكار الذهنية لا قيمة لها بعيدة عن العمل والتطبيق ؛ ولذلك في كثير من الأحيان كان يرفض تفصيلات لا طائل تحتها ، ويذكر ذلك في صراحة أنه ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وهذا يفسر لنا اهتمامه في تفسيره لآيات القرآن الكريم بمعناها أكثر من اهتمامه بالشكل أو اللفظ ، فالمهم عنده كشف المضمون ومرامي الآيات.

هذا ، ولكي يبرز لنا انتماء الماتريدي التفسيري بوضوح أشد ، نقف وقفة مع موقفه من طرائق التفسير المختلفة :

أولا : موقف الماتريدي من التفسير بالمأثور :

نعني بتفسير القرآن الكريم بالمأثور ـ كما سبقت الإشارة ـ : تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم ، أو تفسيره بالسنة ، أو تفسيره بالقراءات ، أو تفسيره بأقوال الصحابة وأقوال التابعين.

ونتناول كل لون تفسيري من الألوان السابقة وموقف الماتريدي منه ، كل واحد على حدة :

أ ـ تفسير القرآن بالقرآن :

يقوم الماتريدي بتفسير بعض آيات القرآن الكريم بآيات أخرى منه ، ففي قوله تعالى من سورة الأنعام : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] يقول :

«اختلف فيه ؛ قيل : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) : ما تضمرون في القلوب ، (وَجَهْرَكُمْ) : ما تنطقون ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) : من الأفعال التي عملت الجوارح ؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله ؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه ؛ ليحاسبهم على ذلك ؛ كقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

٣٠٥

يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه ، فعلى ذلك الأول فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم ، ويحاسبهم في ذلك ؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف».

ومن ذلك ما قاله عند تفسيره قول الله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] : «قيل : قبيله : جنوده وأعوانه ، حذرنا إبليس وأعوانه ، بما يروننا ولا نراهم.

فإن قيل : كيف كلفنا محاربته ، وهو بحيث لا نراه ، وهو يرانا ، ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو من لا نقدر القيام على محاربته ، وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه.

قيل : إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم ؛ إذ لم يجعل له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا ، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا ، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا ، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكير ، نحو قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] ، وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته ، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب».

لكن هناك ملاحظة يجب إثباتها هنا ، وهي بارزة في النموذجين السابقين ، وهي أن الماتريدي حين يفسر القرآن بالقرآن يسلك مسلكا خاصّا يخالف ما درج عليه سابقوه وحتى لاحقوه ؛ ذلك أنه قبل أن يأتي بالآية المفسّرة يقوم بتحليل الآية المفسّرة ، ثم يقول بعد التحليل : نحو قوله تعالى كذا. ثم إن الآية أو الآيات المفسّرة قد تكون غير صريحة في الدلالة على الآية المفسّرة ، بقدر ما يقصد تحليله هو.

وإذا أردنا أن نتبين هذا الفارق بين الماتريدي وغيره من المفسرين يكفينا أن نفتح تفسيرا واحدا هو تفسير ابن كثير الذي يقول عند تفسير قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧] ، «قيل : إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣]» (١).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، القاهرة (١ / ٨١).

٣٠٦

ونموذج آخر : ففي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٤٨] يقول الإمام ابن كثير : «لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا ، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) يعني يوم القيامة (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي : لا يغني أحد عن أحد ، كما قال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الزمر : ٧] ، وقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] فهذا أبلغ المقامات أن كلّا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا» (١).

فإذا قارنا بين هذه النماذج سنجد أن الماتريدي يأتي بالآيات المفسّرة ليعضد تحليله ، صحيح أن هذه الآيات تدور في فلك الآية المفسّرة ، لكنها لا تتوجه إلى تفسير الآية المفسّرة مباشرة ، وتكون في معناها ، أو تفصل إجمالها كما عند ابن كثير.

وهذا يدعونا إلى القول بأن الماتريدي كان من المجددين في الطريقة حتى مع اعتماده على تفسير القرآن بالقرآن.

وهنا ملاحظة يجدر إثباتها ، وهو أنه بالرغم من أسبقية الماتريدي عن ابن كثير نجد طريقته في التفسير تتسم بالجدة بخلاف الأخير ، فإن طريقته تكاد تدور في فلك طريقة أوائل المفسرين ، ولسنا بذلك نعيب على ابن كثير طريقته ، لكن نريد إثبات الفارق بينه وبين الماتريدي الذي يعتبر سابقا إلى التجديد في التفسير حتى لكثير ممن جاء بعده.

ب ـ تفسير القرآن بالسنة :

لا يترك الماتريدي الاعتماد على السنة ، لكن اعتماده عليها قليل إلى حد ما ، وهو يأتي بالأحاديث المتوافقة والمفسرة للآية موضع الحديث ، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يذكر بعض الأحاديث النبوية بالمعنى ، وكأنه يعتمد على حفظه ولا يرجع إلى نصوص الأحاديث أثناء تأويله.

ومن نماذج تفسيره بالحديث في السور محل التحقيق ما جاء عند تفسير قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فبعد ما فسر المقصود من سؤال موسى ربه الرؤية ، وأخذ يعدد الأوجه المحتملة في الآية ، قال : «لكنه لو لا أن القول بالرؤية كان أمرا

__________________

(١) السابق (١ / ٨٩).

٣٠٧

ظاهرا ، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر» ، والله أعلم.

وأيضا ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير خبر أنه قال : «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون» (١) ، وسئل : هل رأيت ربك ، فقال : «بقلبي قلبي» (٢) ، فلم ينكر على السائل السؤال ، وقد علم السائل أن رؤية القلب ، إذ هي علم قد علمه ، وأنه لم يسأل عن ذلك ، وقد حذر المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) [المائدة : ١٠١] فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء ـ وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ـ ثم لا ينهاهم عن ذلك ، ولا يوبخهم في ذلك ، بل يليق القول في ذلك ، ويرى أن ذلك ليس ببديع ، والله الموفق».

ونلاحظ أن الماتريدي لا يكتفي بإيراد الحديث ، بل يحلله ويوجهه ، ويبين مراده ، وفي هذا إثراء لمعنى الآية وبيان المقصود منها.

ونلاحظ ـ أيضا ـ أن الماتريدي يكتفي بجزء من الحديث الدال على ما يريده ؛ فمثلا عند تفسيره قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] يستشهد بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» (٣) فلا يذكر إلا هذا الجزء من الحديث ؛ وهو الجزء الدال على مراده.

وهو لا يكتفي بإيراد السنة القولية عند تفسيره القرآن الكريم ، بل يأتي بالسنة الفعلية ـ أيضا ـ فعند تفسير قول الله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : ٢٠٤] ذكر أحاديث تمثل السنة القولية ، وأحاديث تمثل السنة الفعلية ، وأحاديث تمثلهما معا ، فقال : «الثاني : يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة ، على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٥٧٥) كتاب التفسير باب (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) (٤٨٥١) ، ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاتي الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣) من حديث جرير بن عبد الله.

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الدر المنثور (٦ / ١٦٠) ولفظه : قال : لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا (ثم دنا فتدلى ...).

(٣) هو طرف من حديث عن أبي هريرة. أخرجه البخاري (٨ / ٣٧٢) كتاب التفسير باب سورة الروم (٤٧٧٥) ، وفي (١١ / ٥٠٢) كتاب القدر : باب الله أعلم بما كانوا عاملين (٦٥٩٩) ، وفي (٣ / ٢٩٠) كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين (١٣٨٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧) كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (٢٢ / ٢٦٥٨).

٣٠٨

وقال بعضهم : في حال الخطبة ... وذكر ... أن الآية نزلت في الصلاة ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال ، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك ، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.

روي عن أبي العالية قال : كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه ، حتى نزلت : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [الأعراف : ٢٠٤] «فسكتوا» (١).

وعن علباء بن أحمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في صلاة الفجر «الواقعة» وقرأها رجل خلفه ، فلما فرغ من الصلاة قال : «من الذي ينازعني في هذه السورة؟» فقال رجل : أنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وزعم بعضهم أن القارئ خفية يسمى ناصتا ومنصتا ، واستدل بما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة ، قلت : بأبي أنت ، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة ، أخبرني ما تقول؟ قال : «أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق ...» (٢) وغير ذلك من الدعوات» وغير ذلك من الروايات الدالة على اعتماد الماتريدي على السنة في تفسيره ، وأنه لا يقتصر على نوع واحد من أنواع السنة ، بل يستعين بكل أنواع السنة ؛ القولية والفعلية.

ج ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين :

يعتمد الماتريدي في تفسيره على أقوال الصحابة والتابعين ، ففي تفسير قول الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] ينقل عن الصحابة والتابعين معا ، فيقول : «وقال أبو أمامة الباهلي : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا نزلت معشر أصحاب بدر ، حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا ، إذ انتزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، فقسمه على السواء.

ومجاهد وعكرمة قالا : كانت الأنفال لله والرسول ، فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ، ليس لأحد فيها شيء ، ما أصابت

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في الدر المنثور للسيوطي (٣ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه البخاري (٢ / ٢٢٧) كتاب الأذان باب ما يقول في التكبير (٧٤٤) ، ومسلم (١ / ٤١٩) كتاب المساجد باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة (١٤٧ / ٥٩٨) ، وأبو داود (١ / ٢٠٥) كتاب الصلاة باب السكتة عند الافتتاح (٧٨١) ، والنسائي (٢ / ١٢٩) كتاب الافتتاح باب الدعاء بين التكبيرة والقراءة.

٣٠٩

سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول ، فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها ، فقال : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لكم فيها شيء» (١).

ففي النص السابق ينقل عن الصحابة وينقل عن التابعين ، ولكنه لا يقف عند حدود النقل بل يذكر الاحتمالات والوجوه التي يراها في الآية ، وهي وجوه عقلية في جملتها ، سوف نعرض لها بعد قليل.

وإنما الذي يعنينا هنا ـ بعد العرض السابق ـ أن نؤكد على أن التفسير بالمأثور يمثل جزءا من تفسير الماتريدي في تأويلاته ، وأن الماتريدي يقف موقف الذي يقبل الاعتماد على المأثور في التفسير.

ثانيا : موقف الماتريدي من التفسير بالمعقول :

يعتمد الماتريدي على العقل كثيرا في تفسيره ، ولعل مرجع ذلك إلى أن الماتريدي ـ في مجمله ـ تابع للمدرسة العراقية ، أو مدرسة الرأي التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقاد لواءها من بعده أعلام أفذاذ ، من أبرزهم أبو حنيفة النعمان وتلميذاه أبو يوسف ومحمد الذين أثروا الحياة الفكرية والعلمية في الحضارة الإسلامية.

ولأن الماتريدي تلميذ لتلك المدرسة ، بل رائد من روادها فقد اصطبغ بصبغة هذه المدرسة ، لكنه لم يكن مجرد تابع أو مقلد ، بل كان ذا سمات خاصة ، مجددا مبتدعا ، وسنعرف ذلك في فصل تال إن شاء الله تعالى.

والذي يدل على عقلانية الماتريدي أمور :

أ ـ ذكر الاحتمالات المتعددة في تأويل الآيات :

يذكر الماتريدي في كل آية يتناولها الأوجه الممكنة والمحتملة في تفسيرها ، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن ، نذكر منها نموذجا واحدا.

فعند تفسيره لقول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : ٦] يقف عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يقلب العبارة القرآنية على وجوهها المحتملة ، فيقول : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة على أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه ؛ إذ لو قبل ، لكان يكون مأمنه هذه الدار ، لا تلك الدار ، ولكان يحق عليه الخروج

__________________

(١) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور (٣ / ٢٩٤).

٣١٠

منها ، لا العود إليها.

ثم معلوم أن كلام الله هو حجته ، وأن الحجة قد لزمته لوجهين :

أحدهما : ما ظهر عجز الخلق عن مثله ، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول الله بالرد ، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره ؛ فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.

والثاني : أن جميع ما يتلى منه لا يؤتي عن آيات إلا وفيها مما تشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة ؛ مما لو قوبل بما فيه المعنى ، وما يحدث به من الفائدة ؛ ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب ، ولا يخفى عليه شيء ، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرا ، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل لما لم يكن يضمن أمانة القبول ، ولا أن يعارضه بالرد ، وذلك أعظم مما فيه الحدود ، فالحد أحق ألّا يقام عليه ، والله أعلم».

ثم قال حول العبارة ـ أيضا ـ : «ثم قوله : (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه ؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه ، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.

والثاني : أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه ، وفي ذلك لزوم حق الأمان للجميع بإجارة بعض ، وعلى ذلك كل مسلم.

ثم سماع كلام الله يخرج عن القرآن ، وفيه ما ذكرت من الدلالة ، وعلى سماع أوامر الله ونواهيه في حق الفرض عليه ، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن. والله أعلم».

فهنا الماتريدي يقول في القرآن برأيه ، ويعرض الأوجه ويدلل تدليلا عقليّا دون أن يذكر ولو في إشارة دليلا نقليّا.

ب ـ اهتمامه بالأمور الفلسفية والعقدية :

يغص تفسير الماتريدي بالأمور الفلسفية والعقدية ، فما من آية تتعرض لأمر عقدي أو فكري إلا ويقف أمامها لإبراز جوانبها المتعددة بإعمال عقله.

ومن المسائل الاعتقادية التي ناقشها الماتريدي مسألة : سؤال أهل النار ربهم العودة إلى الدنيا كي يعملوا صالحا ، وذلك من خلال تفسيره قول الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] ، مستخلصا بعض

٣١١

الأمور العقيدية في إطار تفسيره للآية.

يقول الماتريدي : «قوله عزوجل : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) قيل : إلى الدنيا ، وقيل : إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة ، لكن هذا تكلف لتحقيق مراد قوم ظهر سفههم ، ولعله ليس عندهم التمييز ، أو يقولون سفها كما قالوا كذبا بقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وقوله عزوجل : (بِآياتِ رَبِّنا) قال الحسن : بدين ربنا.

وقال قوم : بحجج ربنا ، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل ، وإن كان ثم آيات عاندوها ، وهم قوم قد سبق من الله الخبر عنهم مما فيه العناد منهم ...

ثم دل قوله : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين :

أحدهما : أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب ؛ ليعلم أنه التصديق.

والثاني : أنهم ذكروا الآيات ، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل بها.

وبعد : فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق ؛ إذ الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر ، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات ، فثبت أنهم أرادوا به التصديق ، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة».

ويمضي الماتريدي في عرض هذه القضية العقدية ، ولا يقتصر على عرضه هو لها ، بل يستأنس بأقوال الآخرين ويعرض آراءهم ، فيقول : «وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رُدُّوا) أي : إلى ما تمنوا أن يردوا إليه (لَعادُوا لِما نُهُوا) أخبر الله عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون ، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك أن الآية تضطر صاحبها ، ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم الله أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.

وقال قوم : إذ لم يجز لزوم العذاب بما يعلم الله من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف ، فعلى ذلك أمر الخلاف ، لكن الآية في خاص منهم ، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح ، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا ، ثم

٣١٢

أمهلهم على ذلك ، وهذا يبين أن ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة ، إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك ، فعلى ذلك الإعادة ، لكنه أخبر عن تعنتهم ، ثم ظنت المعتزلة أن الله لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك ؛ إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا ؛ إذ ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يوما من الدهر ، وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب ، وإن كان أولئك في علم الله أن يعودوا إلى ذلك ... إلخ.

ونلاحظ الأسلوب الفلسفي في عرض القضية ، وبنائها على مقدمات تسلم إلى نتائج كما يفعل المناطقة ، متأثرا في ذلك بالمدارس العقلية ، أو سالكا سبيلها.

ج ـ اهتمامه بالآيات الداعية إلى إعمال العقل :

يقف الماتريدي طويلا أمام الآيات التي تخاطب العقل الإنساني والحواس الإنسانية ، ففي قوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال : «يحتمل الأمر بالنظر وجوها ، أي : يحتمل : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أن كيف يقلبها ويحولها من حال إلى حال ، ومن لون إلى لون ، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته ، أي كمّ خرج ، وأي كمّ مقدار خرج ـ لم يقدروا عليه ؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة ، وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة».

وهكذا يلح الماتريدي على إعمال العقل في تفسير القرآن الكريم ، لكنه العقل المنضبط غير المنفلت.

ومن خلال ما سبق نتبين بوضوح انتماء الماتريدي التفسيري ، فهو ينتمي من غير مرية إلى اتجاه معتدل يوازن بين النقل والعقل ، وإن كنا نلمس ميلا إلى العقل أحيانا عند تفسيره لبعض الآيات ، وبخاصة الآيات التي تناقش قضايا عقدية وتقيم البرهان على صحتها ، أو الآيات التي تخاطب العقل والفكر كحجج وبراهين على وجود الله ووحدانيته.

* * *

٣١٣

الفصل الثاني

منهج الماتريدي في تفسيره

في هذا الفصل تحاول الدراسة تلمس منهج الماتريدي في تفسيره في ضوء السور موضوع التحقيق في القسم الثاني من هذا البحث.

ويجدر بنا قبل الخوض في بيان منهج الماتريدي في التفسير أن نخص المنهج بنبذة نعرف به فيها لغة واصطلاحا.

المنهج لغة :

المنهج من نهج الطريق ينهج نهجا ، ونهوجا : وضح واستبان ، ويقال : نهج أمره ، ونهج الدابة أو الإنسان نهجا ونهيجا : تتابع نفسه من الإعياء ، ونهج الثوب : بلى وأخلق. ويقال : نهج الطريق : بينه ، ونهج الطريق : سلكه.

وانتهج الطريق : استبانه وسلكه ، واستنهج الطريق : صار نهجا ، ونهج سبيل فلان : سلك مسلكه.

والمنهاج : الطريق الواضح ، وفي التنزيل العزيز : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] والمنهاج : الخطة المرسومة ، ومنه : منهاج الدراسة ، ومنهاج التعلم ونحوهما ، والجمع : مناهج. والمنهج : المنهاج ، والجمع : مناهج (١).

ومن كل هذه المعاني ، نرى أن أقرب معنى لغوي يعبر عنه (المنهج) ويخص ما نحن فيه هو المنهج بمعنى الطريق الواضح ، أو بمعنى الخطة المرسومة.

وبهذا يكون المنهج لغة : هو ما يرسمه مؤلف ما من طريقة يسير عليها وهو يؤلف كتابه.

وأكبر الظن أن المنهج بالمعنى اللغوي المذكور كان بعيدا عن تفكير الماتريدي وأقرانه ، فما أظن أنهم كانوا يصنعون لأنفسهم خطة دقيقة يسيرون عليها ، أو منهجا واضحا ينتهجونه عند تأليفهم ، ولكن هذا لا يعني أن تآليفهم كانت عشوائية بدون ضابط ، وظني أن الضابط في تلك الآونة هو الانتماء المذهبي أو التفكير العقلي المعين الذي يقود صاحبه إلى التزام أسس معينة في التأليف ، لكن أن نقول بأن القدماء ـ ومنهم الماتريدي طبعا ـ كانوا يعرفون المنهج وخصائصه وسماته وضوابطه كما هو في واقعنا الحاضر

__________________

(١) المعجم الوسيط ، مادة (نهج) وانظر : لسان العرب ، مادة (نهج).

٣١٤

فذلك بعيد التصور.

المنهج في الاصطلاح :

يمكن تلمس تعريف المنهج في الاصطلاح في العلوم التطبيقية وما إليها : كالطبيعة والأحياء والتاريخ ، وهو أنه يعني : «الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة» (١).

وعلى هذا ، فمنهج الماتريدي في التفسير هو الطريق الذي سلكه للكشف عن معاني القرآن بواسطة مجموعة من السبل يسلكها اختطها لنفسه واختارها دون غيرها ، للوصول إلى مراده من تفسيره للقرآن الكريم.

منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم :

سبق أن أشرت منذ قليل إلى أن الذي يحدد طريقة القدماء أو منهجهم في مؤلفاتهم ، إنما كانت تتحدد تبعا لمجموعة من العوامل المكونة لشخصياتهم سواء كانت هذه العوامل مذهبية أو ثقافية أو فكرية أو غير ذلك ، وخاصة أن علماءنا القدماء لم يكونوا يعرفون عن المنهج بالمفهوم الحديث شيئا.

ولذلك إذا أردنا الوقوف على طبيعة المنهج الذي سلكه الماتريدي في تفسيره يجدر بنا أن نقف على القضيتين الآتيتين :

القضية الأولى : مصادر الماتريدي في التفسير وطريقته في التعامل معها.

القضية الثانية : طريقة الماتريدي العامة في التفسير.

القضية الأولى : مصادر الماتريدي وطريقته في التعامل معها :

ما من شك في أن العالم ـ أي عالم ـ يتأثر بمن سبقوه ويستفيد من علمهم ، بل ومن طريقتهم.

وفي علم التفسير يستفيد المفسر ـ فضلا عن إفادته من العلماء السابقين ـ من مصدرين عظيمين لا يستغني عنهما ، ولو استغنى عنهما لأصاب تفسيره خلل عظيم وعطب خطير ، ألا وهما الكتاب والسنة.

__________________

(١) الدكتور أحمد بدر : أصول البحث العلمي ومنهاجه (وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم للتوزيع ، الطبعة السابعة ١٩٨٤ م) (ص ٣٣).

٣١٥

وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما ، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم ، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أثرت تفسيره ، وأثّرت فيه ، وهي :

أولا : تفسير القرآن بالقرآن :

لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه ، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير ، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها ؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل جلاله من الله ، فصاحب البيت أدرى بما فيه ، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر ، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة ، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدين بالضرورة ؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول ، والعماد المتين لهذا الدين ، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلا (١).

والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره ـ وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور ـ لكنه لم يكثر منه ، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي.

والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية ، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول ، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي ، لكنه الرأي المقيد بالنص.

ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال : «وقوله : (وَكَذلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق ، فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يقول : لما قالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء الأعبد من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهؤلاء ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، أي : كما فضلتكم على هؤلاء في أمر الدنيا ، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدين ، ويكونون هم المقربين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمدنين مجلسهم إليه ، وأنتم أتباعهم في أمر الدين ، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا ، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.

__________________

(١) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (مطبعة مصطفي البابي الحلبي ، الطبعة الرابعة ، ١٩٧٨ م) (٢ / ٢٢٥).

٣١٦

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقال : كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة ، كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وكقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) ، وكقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥] الآية».

فالماتريدي بعد ما حلل الآية موضع التفسير دفع بالآيات ليدلل على ما ذهب إليه ، وهي كلها تدل على معنى الآية المفسرة ، أو شبيهة بها.

ومنه ـ أيضا ـ ما جاء عند تفسير قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) حيث قال : «ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين ، أي : استجيبوا لله في أوامره ونواهيه ، وللرسول فيما يدعوكم إليه ، وإنما كان يدعو إليه إلى دار الآخرة ، كقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) ، ودار الآخرة هي دار الحياة ؛ كقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كأنه قال ـ والله أعلم ـ أجيبوا لله وللرسول ؛ فإنه إنما دعاكم إلى ما تحيون فيها ، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها ، ولا يحيا بتركه الإجابة».

ونلاحظ هنا أنه بدأ بالتحليل ، ثم ذكر الآيات الدالة ، ثم عاد للتحليل والتوجيه مرة أخرى.

وإذا كانت النماذج السابقة تتجه فيها الآيات المفسّرة إلى بيان معنى الآية المفسّرة ، فإن الآية المفسرة قد تفسر كلمة واحدة في الآية ، كما جاء في تفسيره لقول الله عزوجل : (وَاتَّقُوا فِتْنَةًلا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] فقد أراد الماتريدي تفسير كلمة (وَاتَّقُوا) فقال : «أي اتقوا فتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم ، وهو العذاب ؛ كقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

ثانيا : أسباب النزول :

استعان الماتريدي في تفسيره ببيان أسباب النزول ، وأحيانا يحشر المرويات التي وردت في سبب النزول ولا يكتفي برواية واحدة ، وأحيانا أخرى يكتفي برواية واحدة.

ومما ذكره في أسباب النزول ما جاء في سبب نزول قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...) الآية.

حيث قال : «فالسؤال يحتمل وجهين :

يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها ؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء ، قيل : إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع ، فجاءت نار فحرقتها ، وسألوا عن حلها

٣١٧

وحرمتها ، فقال : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، أي : الحكم فيها لله والرسول يجعلها لمن يشاء.

ويحتمل السؤال عنها عن قسمتها ، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث : ثلث في نحر العدو ، وثلث خلفهم ردءا لهم ، وثلث مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرسونه ، فلما فتح الله عليهم اختلفوا في الغنائم ، فقال الذين كانوا في نحر العدو : نحن أحق بالغنائم ، نحن ولينا القتال ، وقال الذين كانوا ردءا لهم : لستم بأولى بها منا ، وكنا لكم ردءا ، وقال الذين أقاموا مع رسول الله : لستم بأحق بها منا ، كنا نحن حرسا لرسول الله فتنازعوا فيها إلى رسول الله ، فنزل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وقال أبو أمامة الباهلي : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا ؛ إذ انتزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله ، فقسمه على السواء» (١).

ثالثا : السنة المطهرة :

استعان الماتريدي في تفسيره لكتاب الله بالسنة المطهرة ، وقد ذكرنا أمثلة لهذا من قبل عن تناولنا لموقفه من التفسير بالمأثور ، وهو يكثر من ذكر الأحاديث في تفسيره ، من نحو ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] فقد قال : «وقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) ... قال بعضهم : الدعاء هاهنا هو الدعاء ، وقد جاء «الدّعاء مخّ العبادة» (٢) ؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد ، والدعاء لا يحتمل التقليد ، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى العبد من نفسه الحاجة والعجز عن القيام بذلك ، فعند ذلك يفزع إلى ربه ، فهو مخ العبادة من هذا الوجه ...

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قيل : المجاوزين الحد بالإشراك بالله. وقيل : لا يحب الاعتداء في الدعاء ؛ نحو أن يقول : اللهم اجعلني نبيّا أو ملكا ، أو أنزلني في الجنة منزل كذا ، وموضع كذا.

وروي عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول : «اللهم إني أسألك الفردوس ، وأسألك كذا ، فقال له عبد الله : سل الله الجنة وتعوذ من النار ؛ فإني سمعت رسول الله ـ

__________________

(١) أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور (٣ / ٢٩٢).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٨٦) كتاب الدعوات باب (٢) (٣٣٧١) والطبراني في الأوسط (٣٢٢٠).

وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

وانظر ضعيف الترمذي للعلامة الألباني (٦٦٩).

٣١٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور» (١) ويحتمل الاعتداء في الدعاء هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له».

وهناك بعض الأمور يجدر التنبيه عليها في تفسير القرآن بالحديث عند الماتريدي ، أبرزها :

أ ـ أنه لا يذكر سند الحديث إلا قليلا جدّا.

ب ـ أنه ـ أحيانا ـ يذكر الحديث بالمعنى.

ج ـ أنه ـ أحيانا ـ يورد شرحا وتحليلا على الحديث المستشهد به.

د ـ أنه يذكر أكثر من حديث في الموضع الواحد.

ه ـ نشعر أن الماتريدي لا يهتم بمدى صحة الحديث.

رابعا : أقوال المفسرين السابقين :

استعان الماتريدي بأقوال المفسرين قبله من لدن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ، فهو يدلل على صحة ما يذهب إليه أحيانا بذكر أقوال هؤلاء المفسرين حول الآية.

وطريقته في التعامل مع أقوال المفسرين قبله ، تكاد تتطابق مع طريقة تعامله مع القرآن والسنة حين يعتمد عليهما في التفسير ؛ حيث يقوم بتحليل الآية محل التأويل ، ثم يعرض بعد ذلك أقوال العلماء حولها ، وقد يعرضها على إطلاقها ، وقد يختار من بينها ، وقد يبدي اعتراضا على بعضها.

ففي قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) يبدأ الماتريدي بشرح معنى الآية فيقول : كيف تعطون لهم العهد ، وكيف يستحقون العهد ، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلّا ولا ذمة.

وقال بعضهم : وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

ثم أدار حوارا طويلا ، نقل فيه كثيرا من أقوال المفسرين قبله حول معنى كلمة (الإل) ، قال : «الإل : الله ، والذمة : العهد. وقيل : الإل : القرابة ، وقيل : الإل : العهد والذمة.

وقال القتبي : الإل : العهد. قال : ويقال : القرابة.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٨٧) وأبو داود (١ / ٢٤) كتاب الطهارة باب الإسراف في الماء (٩٦) وابن ماجه (٢ / ١٢٧١) كتاب الدعاء باب كراهية الاعتداء في الدعاء (٣٨٦٤) وابن حبان (٦٧٢٥) والحاكم (١ / ٥٤٠).

٣١٩

وقال أبو عوسجة : الإل : القرابة.

وقال أبو عبيدة : الإل : العهد ، والذمة : التذمم.

وقال ابن عباس : الإل : الله ، بمنزلة جبريل ، تفسيره عبد الله ؛ لما قيل : جبر هو عبد الله.

وقيل : الإل : الحرم ، يقول : كيف تعطونهم العهد ، وهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) القرابة ولا العهد ، ولا يرقبون الحرم فيكم ، وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحمة حتى يعاون بعضهم بعضا ، ويناصره ، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة ، وكانوا يرقبون حرم الله حتى لا يقاتلوا في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام ، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل ، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها».

ويلفت النظر هنا أن الماتريدي تارة ينص على اسم العالم الذي ينقل عنه ، وتارة يعبر ب «قال بعضهم» أو «قيل».

ويلفت النظر ـ أيضا ـ أنه قدم تفسيرا للآية أولا دون أن يصرح بمعنى الإل ، ثم لما أورد قول بعضهم من أن الإل بمعنى الحرم ، قدم تفسيرا للآية أوضح وأبين من الأول ، ولا ندري إن كان هذا التفسير كلامه أم هو ناقل له عن غيره.

ونلاحظ أن نقوله السابقة اتجهت إلى معنى اللفظ في مجملها ، ولم تتجه إلى المعنى العام للآية ، وهو بذلك لا يكون ناقلا عن علماء التفسير وحسب ، بل قد يقع نقله في دائرة النقل عن علماء اللغة والأدب ، يدل على ذلك النموذج الآتي.

فعند قول الله تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) [التوبة : ١٦] اختار أن يكون معنى (وَلِيجَةً) : ملجأ يلجئون إليه ، وهذا المعنى مستفاد من تفسيره العام للآية ، ثم قال : «وقوله : (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب : الوليجة : البطانة من غير المسلمين ، وأصلها : الولوج ، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ودودا ، وجمعه : الولائج».

ثم أخذ يعدد معاني الوليجة ناقلا إياها عن بعض العلماء دون ذكر لأسمائهم.

وقد ينقل أقوال العلماء ، ثم يعرض عنها ، ويختار ما يستريح إليه ، وبعبارة أدق يتبنى رأيا خاصّا له ، فمثلا عند تفسير قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

٣٢٠