تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

٣ ـ منهج التفسير الإشاري

يقصد بالتفسير الإشاري : تأويل القرآن على خلاف ظاهره ؛ لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم ، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس ، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم ، وانقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني ، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة (١).

وقد وقع خلاف بين العلماء حول التفسير الإشاري : فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، ومنهم من عده من كمال الإيمان ، ومحض العرفان ، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى.

والواقع أن الموضوع دقيق ، يحتاج إلى بصيرة وروية وغوص في أعماق الحقيقة ؛ ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية ؛ فيكون ذلك زندقة وإلحادا ، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يحيط به بشر ؛ لأنه كلام خالق القوى ، وأن لكلامه تعالى مفاهيم وأسرارا ، ونكتا ودقائق ، وعجائب لا تنقضي ، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان (٢) ، كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء» (٣).

وإذا أردنا معرفة الحق في هذا الموضوع ، فعلينا أن ننقل شيئا من أقوال العلماء ؛ فقد قال الزركشي : «كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل : إنه ليس بتفسير ، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة ، كقول بعضهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] إن المراد النفس ، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب ، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه».

وقال ابن الصلاح في فتاويه : «وجدت عند الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه

__________________

(١) محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٦٩ ، وينظر : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٧٨).

(٢) ينظر : محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٧٠.

(٣) أخرجه الطبري في مقدمة تفسيره (٦٧ ، ٧٠) عن ابن مسعود بنحوه.

٢٨١

قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير ، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر».

وقال النسفي في عقائده : «النصوص على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل إلحاد».

وقال التفتازاني : «سميت الملاحدة باطنية ؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها ، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم ، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية».

قال : «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان» (١).

ونص التفتازاني هذا واضح الدلالة في بيان الفرق بين التفسير الإشاري الذي لا ينكر متعاطيه ظواهر النصوص التي هي أدعى إلى فهم أسرار القرآن ، وبين تفسير الباطنية الملاحدة الذين يريدون هدم الشريعة.

وينقل السيوطي عن ابن عطاء الله تحديدا للتفسير الإشاري ، فقال : «اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ، ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث «لكل آية ظهر وبطن» (٢).

فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذه إحالة لكلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما ألهمهم» (٣).

وأقول : هذا كلام الإنصاف ، فقد وضع الحق في موضعه ، وجمع بين النصوص الظاهرة والمعاني الخفية الواردة التي تشرق على قلب المؤمن العارف بالله ، كما كان الحال مع الصديق وعمر ، ولا عجب فالله تعالى يعطي الحكمة من يشاء ، ويضع الفهم

__________________

(١) تنظر هذه النصوص في : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٧٨ ، ٧٩).

(٢) تقدم.

(٣) الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٥).

٢٨٢

فيمن أراد ، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن داود وسليمان في أمر عرض عليهما ، فحكم كل واحد منهما بحكم يخالف الآخر ، فيقول : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩].

ونستطيع القول : إن التفسير الإشاري لا يحكمه منهج معين ، لكن له شروطا لا بد من توافرها حتى يكون تفسيرا مقبولا ، وهي خمسة شروط كالآتي :

أولا : عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم الكريم.

ثانيا : ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.

ثالثا : ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا : كتفسير بعضهم قول الله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] بجعل كلمة (لَمَعَ) ماضيا ، وكلمة (الْمُحْسِنِينَ) مفعوله ، ومثل ذلك تفسير الباطنية لقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أي : أن الإمام عليّا ورث النبي في علمه.

رابعا : ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي ، بل يكون له شاهد شرعي يؤيده.

خامسا : ألا يكون فيه تشويه على أفهام الناس (١).

وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري ، ويكون عند ذلك من قبيل التفسير بالهوى والرأي المنهي عنه.

وقبل أن نغادر إلى الحديث عن المنهج الحديث في التفسير ، نشير إلى أبرز التفاسير الإشارية ، وهي : تفسير النيسابوري ، وتفسير روح المعاني للآلوسي ، وتفسير التستري ، وتفسير ابن عربي الفيلسوف ، وليس ابن العربي الفقيه القرطبي.

وأخيرا أنوه بأمر مهم ، وهو تحذير المسلمين من التفاسير الإشارية وعدم الاعتماد عليها دون التفاسير الأخرى ، وهذا ما حذر منه الشيخ الزرقاني حين قال :

«لعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر ، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة ، بل الإسلام كله ، ما هو إلا سوانح وواردات ، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات ، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات ، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح ؛ فلم يتقيدوا بتكاليف

__________________

(١) ينظر : الزرقاني : مناهل العرفان (٢ / ٨١) ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص (١٧٥).

٢٨٣

الشريعة ، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية : كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس ، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية ، واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف ، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب ، وهذا ـ لعمر الله ـ هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام ، كيما يهدموا التشريع من أصوله ، ويأتوا بنيانه من قواعده : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف : ٨] (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢]» (١).

إذن يجب عدم الانسياق وراء الشطحات والتخييلات التي تخرج بالنص القرآني عن مراده ومعناه المتوخى ، والله أعلم.

هذه هي المناهج التفسيرية العامة التي اعتمدها القدماء واستخدموها في تفسيراتهم بدرجات متفاوتة ، فقد اعتمد بعض المفسرين منهج التفسير بالمأثور ، وبعضهم اعتمد منهج التفسير بالرأي ، وبعضهم فسر القرآن تفسيرا إشاريّا ، وبعضهم جمع بين منهجين أو أكثر ، وكل مفسر ـ في النهاية ـ له منهجه الخاص الذي يستند إلى المنهج العام الذي ينتمي إليه ، سواء كان منهج التفسير بالمأثور أو بالرأي أو الإشاري.

ثانيا : منهج المدرسة الحديثة في التفسير :

تبين لنا من خلال ما سبق أن التفسير في القديم اعتمد عدة مناهج ، فنشأ التفسير شرحا للفظ غامض أو توضيحا لمعنى بعيد ، ثم تطور إلى تفسير بالمأثور ، وتفسير بالرأي.

وفي عهد التقليد والجمود تأثر التفسير بثقافة المفسر ، وليس ذلك عيبا بذاته ، ولكن العيب أن يتحول التفسير إلى كتاب في القواعد والإعراب ، أو البلاغة والبيان ، أو آراء الفرق والرد عليها.

قال السيد محمد رشيد رضا في مقدمة تفسير المنار :

«كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية وهدايته السامية ، فمنها ما شغله عن القرآن بمباحث الإعراب ، وقواعد النحو ، ونكت المعاني ، ومصطلحات البيان ، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتعصب

__________________

(١) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص (٨٩).

٢٨٤

الفرق والمذاهب بعضها على بعض ، ومنها ما يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزحت به من خرافات الإسرائيليات ، وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها» (١).

ولما جاء عهد النهضة ظهر أعلام جددوا في علوم الأمة ، فكانوا أساس نهضة الأمة ونهضة علومها ، ومنها التفسير ، فوجدنا : السيد جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه الإمام محمد عبده ، ومن بعدهما السيد محمد رشيد رضا وسيد قطب وكان للأخيرين إسهام في مجال التفسير ، أفاد منه المفسرون من بعدهما ؛ حيث أعادا للتفسير نضارته وقوته وروحه ، ولكنهما سارا في إطار المناهج المأثورة عن السلف في التفسير ، وتجديدهما ليس في المنهج بقدر ما هو تجديد أملته روح العصر وتطورات الحياة إبان النهضة ، ثم ثقافتهما وشخصيتهما الناقدة الممحصة.

وإذا كان جمال الدين الأفغاني وتلاميذه ومن على شاكلتهم حاولوا النهضة من خلال العودة بالأمة إلى منابعها الصافية مع مراعاة ظروف الحياة ومقتضيات واقعهم المعيش ، سواء في علم التفسير أو غيره ، فإن هناك مدرسة فكرية حديثة دعت إلى تبني منهجية جديدة تخالف نهج القدماء في تفسير القرآن الكريم ، هذه المنهجية تدعو إلى أمرين :

الأول : تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية ، بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الأولى.

الثاني : الأخذ بمناهج جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية ، العالمية الإسلامية الثانية (٢).

وقد حمل لواء هذه الدعوة مجموعة من الباحثين ، أبرزهم :

١ ـ الدكتور محمد شحرور في كتابه : «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة» الذي حاول فيه تناول القرآن الكريم بمناهج وأدوات معاصرة ، مثل : المنهج البنيوي ، والمنهج الجدلي.

٢ ـ الدكتور مصطفى محمود في كتابه : «القرآن محاولة لفهم عصري» ، وهو مجموعة مقالات تحمل آراء غريبة ، وهي لا تتسم بالشمولية ، حاول من خلالها تطبيق بعض النظريات العلمية على النص القرآني.

__________________

(١) تفسير المنار ـ المقدمة.

(٢) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠١).

٢٨٥

٣ ـ الأستاذ جمال البنا في كتابه : «نحو فقه جديد» الذي قسمه إلى بابين :

أ ـ منطلقات ومفاهيم.

ب ـ فهم الخطاب القرآني ، قدم فيه الكاتب ما يراه فهما جديدا للقرآن على أنه معجزة خالدة ، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقي ، وتصويره الفني ، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية.

٤ ـ الأستاذ ماهر المنجد في كتابه : «الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن : دراسة نقدية» ، وهو دراسة نقدية تحليلية لكتاب : الكتاب والقرآن لمحمد شحرور ، حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التي سار عليها محمد شحرور ، وإظهار قصوره ، والخلفية الفكرية التي استند إليها.

٥ ـ الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه : «الفرقان والقرآن» الذي حاول فيه تقديم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية ، وتعرض فيه لمعظم الكتابات الحديثة في هذا الشأن بدءا من جمال الدين الأفغاني ، وانتهاء بمحمد شحرور.

٦ ـ أبو القاسم حاج حمد في كتابيه : «العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية» ، فلقد حاول فيهما الباحث تقديم منهجية جديدة ويمثلان ـ وبخاصة الكتاب الأول ـ أهم الخطوط الرئيسة للمنهج الجديد المقترح في تفسير القرآن الكريم.

وإذا أردنا التعرف على المدرسة الحديثة ومنهجها في التفسير فلا بد من عرض المسائل الآتية :

المناهج الحديثة وأدوات المدرسة الحديثة في التفسير :

اعتمد أصحاب المدرسة الحديثة في تفسيرهم للقرآن الكريم على بعض المناهج الحديثة ، أهمها ما يلي :

١ ـ المنهج التحليلي :

يزعم بعض أقطاب المدرسة الحديثة في التفسير أنهم يتميزون بالمنهج التحليلي عن القدماء ، يقول أبو القاسم حاج في كتابه العالمية الإسلامية الثانية : «لما ذا خصنا الله في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولما ذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر : لما ذا نلجأ إلى الوحدة الناظمة في وقت لجئوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة ، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريّا في عصرنا الراهن على معالجة الكثرة ارتدادا بها إلى

٢٨٦

الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي» (١).

ومن خلال هذا النص يتبين أن التحليل هو :

معالجة الكثرة ارتدادا بها إلى الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي (٢).

والتحليل على هذا النحو مضر بفهم النص وتفسيره سواء كان نصّا قرآنيّا أو غيره ، أشار إلى ذلك بعض النقاد الغربيين في حديثهم عن تطبيق منهج التحليل «ويسمونه التفكيك» في الشعر حيث إن النقاد الجدد في أمريكا أقاموا مماراساتهم النقدية على أساس الشكل العضوي ، وهي الفكرة القائلة : إن للقصيدة وحدة شكلية تماثل وحدة الشكل الطبيعي ، ولكن بدلا من أن يكشف هؤلاء النقاد في الشعر وحدة العالم الطبيعي وتلاحمها ، فإنهم اكتشفوا معاني متعددة الأوجه ، وفي نهاية المطاف تحول النقد الذي يبحث عن نقد للالتباس والتعدد في المعنى ... إلى لغة ملتبسة مناقضة لفكرتهم الأصلية الكلية لوحدة الموضوع (٣).

ومن خلال هذا الكلام نتبين أن فكرة معالجة الكثرة ارتدادا إلى الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها بإطارها الموضوعي ، فكرة مستقاة من النقد الغربي ، وهي فكرة منتقضة من قبل الغربيين أنفسهم ، ذلك أنه كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة : «إن التفكيكية ، كممارسة نقدية أدبية ، تفكك النص لتكشف أن ما يبدو عملا متناسقا وبلا تناقضات ، وهو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية ، إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك ، غير متناقض ومفهوم يمكن تفسيره بشكل واضح» (٤).

٢ ـ المنهج البنيوي «الألسنية المعاصرة» :

والمنهج البنيوي : رؤية نقدية حديثة ، تعد النص الأدبي تشكيلا لغويّا فنيّا يتميز عن

__________________

(١) العالمية الإسلامية الثنائية (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ط ٢ ، ١٩٩٦ م) (٢ / ٥٠٦).

(٢) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠١) (ص ٣١).

(٣) ينظر : رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة : د. جابر عصفور (دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع) القاهرة ، الطبعة الأولى ١٩٩١ م. ص (١٥٥ ، ١٥٦).

(٤) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك (عالم المعرفة ، الكويت ، ذو الحجة ١٤١٨ ه‍ ـ إبريل نيسان ١٩٩٨ م) (ص ٣٤٨).

٢٨٧

اللغة العادية بكون المعاني المباشرة للغة تتحول فيه إلى رموز متعددة الدلالات (١).

وقد تبنت المدرسة الحديثة في التفسير هذا المنهج «فأخذت بتطبيق المنهج على نماذج من هذه الإشكاليات ، ومن بينها ـ على سبيل المثال ـ ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن ، وتحديد العائد المعرفي بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم» (٢) ، وذلك انطلاقا من «أن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح» (٣).

ولكن «إذا سلمنا بكفاءة المنهج البنيوي في تقديم تحليل منهجي علمي للغة ، فمن الصعب التسليم بكفاءته في تحليل النصوص الأدبية وإنارتها وتحقيق المعنى.

إن البنيوية الأدبية ، شأنها في ذلك شأن البنيوية اللغوية ، تتبع منهجا معكوسا عند مقاربتها للنص الأدبي ، فالمنهج لا يبدأ بالجزئيات وتحليلها بغية الوصول إلى كليات أو أنظمة ، ولكن يبدأ بالنظام الذي يحكم الإبداع في النوع ؛ لينتقل إلى الدرجة الأدنى على سلم التحليل وهو نسق النص ، ثم الوحدات التي تليها العناصر ، وهي أصغر مكونات النص ، وقد يسترجع الناقد البنيوي بعد ذلك خطواته متحركا من أصغر العناصر تجاه النسق أو النظام العام ليقارن بين الخاص (النص) والعام (النظام) ... والتحليل البنيوي على هذا الأساس ، كما يقول بعض الرافضين للمنهج البنيوي ، يشبه تسليط الأشعة السينية (أشعة) على الجسم لتصل إلى العظام متخطية بل متجاهلة لطبقات كثيرة قبل أن تصل إلى العظام.

وهناك شبه إجماع بين الرافضين للمنهج البنيوي ، بل بعض البنيويين أنفسهم ، على أن تطبيق النموذج اللغوي على النص الأدبي لا يحقق المعنى» (٤) فإذا كان هذا حال النص الأدبي عموما مع البنيوية ، فما بالنا بالنص القرآني؟!.

٣ ـ المنهج التاريخي :

تبنى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة منهجا ثالثا هو المنهج التاريخي.

__________________

(١) ينظر : د / إبراهيم عبد الرحمن : مناهج نقد الشعر في الأدب العربي الحديث (الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان ، ١٩٩٧) ص (٣٣).

(٢) العالمية الإسلامية الثنائية (مرجع سابق) (١ / ٥٥).

(٣) السابق (١ / ٥٦).

(٤) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك (ص ٢٨٢).

٢٨٨

ويعنون به فهم التاريخ فهما إسلاميّا ، منطلقا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري ، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم ـ عليه‌السلام ـ وإلى عصرنا الحاضر (١).

وأصحاب هذه المدرسة يأخذون في تفسيرهم القرآن الكريم بالغائية ، ولكن يخالفون في الوقت نفسه منطق الفلاسفة الغائيين ، فالغائية ـ عند أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة ـ وسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريّا ، فهم لا يقولون بالغاية المسبقة.

وقد نبه أبو القاسم حاج إلى أن «مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي ، كما هو الحال في النظرة الغربية ، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية ، بدءا بالشكل الفردي ، ثم الشكل القومي ، وانتهاء بالشكل العالمي ، وبعبارة أوضح فإن هناك جدلا بين الإنسان والكون ، يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية ، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث : مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان ، يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث : الطور العائلي ، الطور القومي ، الطور العالمي ، وهي تماثل ثلاثية الخلق في الرحم» (٢).

وبناء على تبني المدرسة الفكرية المعاصرة لهذه المناهج ، يمكننا أن نبرز الآتي :

١ ـ ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع من حيث إن أسلوب الأولى يعتمد على «التحليل» عوضا عن «التفسير» ، وعلى «التبيين المنهجي» في إطار الوحدة القرآنية بطرح «الجزء» في إطار «الكل» عوضا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه (٣).

ونقول : إن اعتماد هذه المدرسة «التحليل» دون «التفسير» لا يمكن أن يطبق تطبيقا كاملا في فهم القرآن الكريم ؛ وذلك لأمور منها :

أولا : المعنى اللغوي والاصطلاحي يؤكد ذلك ؛ فالتحليل ـ في اللغة ـ من حل العقدة

__________________

(١) ينظر الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر عدد ١٠١) ص (٣٢).

(٢) السابق ص (٣٣).

(٣) ينظر الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر عدد ١٠٢ السنة السادسة والعشرون) ص (٥٥).

٢٨٩

يحلها حلّا ، فتحها ونقضها فانحلت ، والحل : حل العقدة (١).

والتحليل اصطلاحا عكس التركيب ، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه ، فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلا ماديّا ، وإذا تعلق بشيء ذهني سمي تحليلا خياليّا.

وينقسم من جهة أخرى إلى :

تحليل تجريبي ، ويمر بثلاث مراحل : ملاحظة ، تجربة ، استقراء.

وتحليل عقلي أو رياضي ، وهو يتألف من مجموعة قضايا ، أولها القضية المراد إثباتها ، وآخرها القضية المعلومة ؛ بحيث إذا ذهبت من الأولى «أي القضية المراد إثباتها» إلى الأخيرة «أي القضية المعلومة» كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتي بعدها ، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة صادقة مثلها (٢).

فالمفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة ، والقرآن ليس خاضعا للتجربة.

والمفهوم الثاني يحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة ؛ فإذا قلنا بهذا في حق القرآن ، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة ، ونستغله في نشر «إيديولوجياتنا» وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين (٣).

وإذا اعتبرنا المنهج التحليلي الذي تنادي به المدرسة الحديثة هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية ، فإن المدرسة التقليدية أولى بأن تنسب إلى هذا المنهج ، فقد استخدمت ما سبق أن أشرنا إليه في الفصل الأول مما يسمى بالتفسير الموضوعي.

ثانيا : تدعي المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تأخذ القرآن في وحدته الكلية ، وأنها تتفوق بذلك على المدرسة التقليدية ، وهو ادعاء يعوزه الدليل ؛ لأن المدرسة التقليدية سعت في كل مراحلها إلى البحث عن الوحدة الكلية للقرآن الكريم ، وأكبر دليل على ذلك تبنيها ـ كما سبق بيانه ـ مبدأ تفسير القرآن بالقرآن ، فتفسير القرآن بالقرآن بحث عن الوحدة الموضوعية في القرآن ، وقد ألف العلماء الأقدمون مؤلفات بهذا الشأن ، مثل :

__________________

(١) لسان العرب ، مادة (حلل).

(٢) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة (المسلم المعاصر عدد ١٠٢ (ص ٥٦) ، نقلا عن أد. جميل صليبا : المعجم الفلسفي (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥).

(٣) السابق (ص ٢٦ ، ٥٧).

٢٩٠

«الأشباه والنظائر» لمقاتل بن سليمان البلخي ، المتوفى سنة : ١٥٠ ه‍ ، و «نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر» لابن الجوزي ، المتوفى سنة : ٥٩٧ ه‍ ، و «أحكام القرآن» لأبي بكر الجصاص المتوفى سنة : ٣٧٠ ه‍ ، و «أحكام القرآن» لابن العربي المالكي ، المتوفى سنة : ٥٤٣ ه‍ ... وهكذا.

ثالثا : زعم أصحاب المدرسة الحديثة أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح ؛ بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها ، فأطلقوا القول بمخالفة ألفاظ القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة ؛ ومن ثم تقاعسوا في فهم اللغة وتحصيلها ، وهم بذلك يبعدون عن منهج القدماء في تركيزهم على اللغة وضرورتها في التفسير ، بل جعلوا إتقانها شرطا لفهم كتاب الله.

بل إنهم يبعدون ـ أيضا ـ عن المنهج البنيوي الذي يزعمون تبنيه ، متجاهلين ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة من أن هناك فرقا بين اللسان ، والكلام فاللسان ـ كما عرفه دوسوسير ـ «هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية ، والكلام هو فعل فردي صادر عن الإرادة الفطنة» (١).

وعليه ، فليس هناك فرق بين لسان القرآن «المفردات التي صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها» ، واللسان العربي العادي «المفردات التي يستعملها العرب وقواعد تركيبها» قال الله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥]. وقال سبحانه : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب ، وإلا لكان حجة للعرب في أن الله خاطبهم بغير لسانهم.

فالفرق ليس في اللسان ـ الألفاظ وقواعد تركيبها ـ المستعمل ، وإنما الفرق في الكلام الذي «هو استعمال هذا البناء ـ اللسان ـ ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين» (٢) ، ومن ثم نجد الحق تبارك وتعالى ينسب لنفسه الكلام ، وينسب اللسان للعرب ، فقال : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] «فالذي يحرف هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلغ ليغير معناه ، ويبطل أثره المقصود به ، أما تحريف اللسان فهو مسبة للمحرف وسلب عليه ؛ لأنه حرف الرموز المتواضع عليها بين أولئك المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم ، فلم يعد يفهمه أحد

__________________

(١) كريستان بايلون بول فابر : مدخل الألسنية ، ترجمة : طلال وهبة (الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، ط ١ ، ١٩٢٢ م) ص (٥٩).

(٢) السابق ص (٦٠).

٢٩١

منهم» (١).

وأقول : إن الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات.

رابعا : اخترقت المدرسة المعاصرة في التفسير الثوابت ، فذهبت ـ مثلا ـ إلى أن السنة تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم ما بعده من العصور ، وهذا الاختراق مرفوض ؛ لأنه يعرض الدين للتحلل من عقده ، ويفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة.

وأقول : إن على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها ، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري ، وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع ؛ ذلك أنه ـ كما يقول سيد قطب رحمه‌الله ـ «لكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره ، وله كذلك محوره الذي يدور عليه المدار ، وكذلك الحياة البشرية لا بد لها من محور ثابت ، وإلا انتهت إلى الفوضى والدمار» (٢).

ولسنا بكل ما ذكرناه ننفي تبني المناهج التي تبنتها المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم جملة وتفصيلا ، فهذا إن فعلناه أصابنا الجمود والوقوف عند حد التقليد دون التجديد والإبداع ، وهذا مخالف لما دعا إليه القرآن الكريم في كل المجالات ، بل وفي مجال التعامل معه ـ أي مع القرآن ـ فقد قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] والتدبر يعني الفهم المتجدد ؛ إذ لو كان التدبر يعني الوقوف عند فهم القدماء للقرآن ، لما أمرنا الله عزّ وعلا بتدبره ، ولكان أمرنا باتباع أسلافنا وحسب ؛ وهذا ينافيه طبيعة القرآن المتجددة.

إذن فإن هناك دعوة إلى التجديد في تفسير القرآن الكريم ، وتجريب المناهج الحديثة ، ولكن ذلك مضبوط بضوابطه التي منها :

أولا : احترام الثوابت ، وعدم هدمها.

__________________

(١) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (العدد ١٠٢ ـ المسلم المعاصر) ص (٦٠).

(٢) خصائص التصور الإسلامي (الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية ، ط ٣ ، ١٤٠٣ ه‍ ـ ١٩٨٣ م) (ص ٦٧).

٢٩٢

ثانيا : معرفة التراث واستيعابه استيعابا يسمح بمعرفة مواطن القوة ، فيؤخذ بها ، ومواطن النقص لتفاديها.

ثالثا : الاطلاع على العلوم والمناهج المعاصرة ، شريطة ألا يكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة ، بل استيعابها استيعابا كاملا ، وشريطة إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفها التوظيف السليم ، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التي عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله :

«إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة ، فضلا عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائياتها» (١).

وأخيرا أود القول : إننا لا ندعو إلى نبذ مناهج بعينها في تفسير القرآن الكريم ، بل ندعو إلى تكامل المناهج ، فنأخذ وندع من كل المناهج سواء أكانت قديمة أو حديثة ، بشرط ألا ندع المسلمات جانبا ، وألا يؤثر ما نأخذه من منهج في توجيه المعنى القرآني وجهة تناقض مراد الله المقصود.

نماذج من تفسير المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم :

لعلنا نورد بعض النماذج من تفسير أعلام المدرسة الفكرية المعاصرة لبعض آيات القرآن الكريم تبرز مدى تجاوز هؤلاء القوم في تفسيراتهم ، وأنها لا تقوم على أساس متين أو منهج قويم.

ومن تلك النماذج ما جاء في تفريق أبي القاسم حاج حمد بين اللمس والمس ، وبين الرؤية والنظر والشهود.

فبالنسبة للتفريق بين اللمس والمس : يرى أبو القاسم حاج حمد أن «لمس» تعني قرآنيّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسى ، و «مسّ» تعني التفاعل العقلي والوجداني ؛ لذلك لم يمنع الله لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم ، فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩](٢).

وهذا الفهم بعيد عن الصواب كل البعد ؛ إذ إن استقراء آيات القرآن الكريم تؤكد أن

__________________

(١) تجديد المنهج في تقويم التراث (الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، ط ١ ، ١٩٩٤) (ص ٢٥).

(٢) ينظر : العالمية الثنائية (١ / ٥٥).

٢٩٣

المس معناه الاحتكاك المادي ، وليس الإحساس والوعي ـ كما زعم أبو القاسم حاج ـ ومن الآيات المعضدة لما ذهبنا إليه قول الله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [النور : ٣٥] فأي تفاعل عقلي مع النار في هذه الآية وأمثالها؟ وأي تفاعل عقلي في قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٦] ، وفي قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟ الحقيقة : أن المس هنا واضح بأنه احتكاك مادي ، فمس النار للجسم حركة مادية ، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويّا ، أي : بعد جماعها ؛ لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر ، ورأت أنه خلاف العادة (١).

وبالنسبة للتفريق بين الرؤية والنظر والشهود : يرى أبو القاسم حاج أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية ، وآلتها العين المجردة ، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التي تعتمد على التأمل والإدراك ، وآلتها العقل ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] فقال : «وقد طلب موسى رؤية الله عبر النظر ، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر ، والنظر يرتبط بالخيال والتأمل ، وقوي الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] فالنظر عقلي والرؤية حسية ؛ ولهذا قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] فهنا يتعلق النظر إلى الله بالوجوه ، وليس العين المجردة التي ترى ، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة : ٦٩] ؛ ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا ، أي : تقليب الرأي فيها ، ثم اتخاذ قرار قاطع ، كمن يرى الأمر عيانا في حقيقته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢].

وكذلك ميز القرآن الكريم بين البصر والرؤية العينية ، فالبصر إدراك (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [غافر : ٥٨].

__________________

(١) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير (المسلم المعاصر العدد ١٠٢) (ص ١١).

٢٩٤

والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين ، وهكذا قال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان ؛ حيث يكون الإنسان مقيما ، ثم استثنيت حالتان ، مقيم مريض ، وغير مقيم مسافر ، ولم يطلب الله في هذه الآية رؤية الشهر ؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة ، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) ، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التوبة : ٣٦] فإن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالّا حين توقيته ، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون» (١).

هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود ، وقد جانبه الصواب ـ أيضا ـ كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس ؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية ـ أيضا ـ وليس مقصورا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] ، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه (٢).

وأما قصر الرؤية على الحس ، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها «رأى» بمعنى علم ، منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] ترى هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرا في واقعة الفيل مشاهدا لها بأم عينه ، أم أنها أمر غيبي أوحاه الله إليه وعلمه إياه؟

إنه من غير شك أمر غيبي ، والرؤية هنا ليست رؤية حسية ، بل رؤية عقلية وجدانية.

وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرا أمر في غاية الغرابة ، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور ، فما ذا يقول في قول الله تعالى : (شَهِدَ

__________________

(١) العالمية الثنائية (٢ / ٥٤ ، ٥٥).

(٢) ينظر : ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير (الدار التونسية للنشر ، الكتاب الأول) (٣ / ١٨٦).

٢٩٥

اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] فهل شهد هنا بمعنى حضر؟ لا ، بل شهد هنا بمعنى أقام الأدلة وبينها ، وما ذا يقول ـ أيضا ـ في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤]؟ فهل الشهود هنا يعني الحضور والمعاينة؟

ثم إن الآيات التي استشهد بها أبو القاسم حاج ليدلل بها على ما ذهب إليه تدل على خلاف ما أراد ، فقول الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣].

فمادة (نظر) التي تكررت مرتين ، في كل مرة منهما لا يمكن أن تدل إلا على الرؤية الحسية ، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي ، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؟ ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه ؛ مما لا يخفى على المبتدئ فضلا عن العالم (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة : ٦٩] فالنظر هنا بالعين ، وليس بالعقل ، وإلا لبطل معنى الآية» (١).

وقول الله تعالى الذي استدل به على أن الشهود بمعنى الحضور (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هو معنى قال به المفسرون قبله ، فقد قال القرطبي : «وشهد بمعنى حضر ، وفيه إضمار ، أي : قال : من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه» (٢).

ومعنى هذا أنه لم يأت بجديد ، ولكن الجديد عنده والغريب في الوقت نفسه ، حصر الشهود في معنى الحضور ، وهو ما فندته قبل قليل.

ومحمد شحرور الذي تناول في كتابه «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة» القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل : المنهج البنيوي والمنهج الجدلي ، له تفسيرات تقترب من التفسيرات السابقة ، فمثلا تجده ينكر الترادف ، وهو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن ، فيقول عند التفريق بين الحرام والاجتناب : «تبين لنا

__________________

(١) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (مجلة المسلم المعاصر ، العدد ١٠٢) (ص ١١ ، ١٢).

(٢) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن (دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، ط ٣ ١٣٨٧ ه‍ ـ ١٩٦٧ م) (٢ / ٢٩٩).

٢٩٦

أن من قال : إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق ؛ لأن التحريم هو لحدود الله ، كقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣](١).

وهذا القول يؤدي ـ كما يقول الجيلاني بن التوهامي مفتاح ـ إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية ، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتما إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى (٢) ، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال : «وإني أقول لهؤلاء الناس ، أيهما أكبر ، أمن يشرب كأسا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) [النساء : ٢٣](٣).

ويقال لشحرور : أليس الشرك من أكبر الكبائر ، وأعلى المنهيات حرمة ، فلما ذا عبر عنه الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال الله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] ، وقال سبحانه أيضا : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج : ٣٠].

فعلى مذهب الدكتور شحرور يصبح الشرك بالله والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم ، مثل : الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة ، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم.

يتبين لنا أن تفسير محمد شحرور للحرام والاجتناب مجانب للصواب ، مخالف للأصول الثابتة ، مزلزل لقواعد القرآن وأصوله.

ومن تفسيراته ـ أيضا ـ ما جاء في مسألة الخلق الآدمي ، فقد انطلق ـ كما فعل كثير غيره من أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير ـ من نظرية دارون في التطور ، فهو يرى أن آدم انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابا ، ولم يخلق ابتداء كما يرى التراثيون ، ويرى شحرور أن خير من أوّل آيات خلق البشر هو (دارون) ، ويعتمد نظريته في التطور ويوظفها في تفسير قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) [آل عمران : ٣٣](٤).

وينقل ماهر المنجد في كتابه (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) عن شحرور قوله :

__________________

(١) د. شحرور : الكتاب والقرآن ، قراءة معاصرة (ص ٤٧٧).

(٢) المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير (المسلم المعاصر ، / عدد ١٠٢) ص (٤٩).

(٣) د. شحرور : الكتاب والقرآن ص (٤٧٧).

(٤) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠٢) (ص ٥١).

٢٩٧

«أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر ، وأن الله نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم ، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي» (١).

ويدلل الدكتور شحرور على تفسيره بدليل يراه دامغا ، وهو «أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري ؛ لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرا ، له شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم» (٢).

ولا شك أن هذا لا يمثل براهين علمية ، ولا أدلة عقلية ، ولا علاقة له أصلا بأي منهج علمي ، إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية.

ثم إن تفسيره للآية أوهى من نسج العنكبوت ؛ لأنه :

أولا : بتر الآية ، فالآية تقول : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] ، وهي واضحة في أنها تدل على غير مراد الدكتور شحرور ، وأن تفسيره لها غريب وبعيد كل البعد عن المراد منها ؛ حيث إن الله عطف نوحا وآل إبراهيم وآل عمران على آدم ، فهل كان هؤلاء مصطفون من المملكة الحيوانية المسماة بالبشر مثل آدم كما زعم؟ فهذا لا يصدق على نوح وآل إبراهيم وآل عمران ، ومن ثم فهو لا يصدق على آدم ـ أيضا ـ فترجح ما ذكرناه وهو مخالف لما ادعاه الدكتور شحرور.

ثانيا : تناسى المؤلف آيات كثيرة تدل على أن الله ـ سبحانه ـ ابتدأ خلق آدم من العدم ، وهو بقوله هذا يكذب صريح هذه الآيات ، فالله جل وعلا يقول : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) [ص : ٧١ ، ٧٢] فالخلق يدل على الابتداء وأنه من العدم ، فكيف يقال : إن آدم اصطفاه الله من البشر.

ثالثا : هل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه الروح؟ وهل القرود التي مثل بها ليس فيها روح؟ وكيف يعيش أي كائن حي بدون روح وبخاصة العائلة الحيوانية؟

والخلاصة أن أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة ـ على الرغم من زعمهم التذرع بالمنهج التحليلي الموضوعي ـ قد تناقضت مقدماتهم مع نتائجهم ، واتسم تفسيرهم لبعض آيات القرآن بالتسرع وعدم الدقة والاستقصاء ، ولعل ذلك راجع إلى رغبتهم الجامحة في تسويق مشروعهم الفكري حتى ولو كان على حساب ثوابت القرآن الكريم ومعطياته الدلالية والمضمونية والسياقية ، أو على حساب المعنى الصحيح للآية المفسرة.

__________________

(١) ينظر ماهر المنجد : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن (دار الفكر ، دمشق ، الطبعة الأولى ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٤) (ص ١٠٨).

(٢) الصفحة السابقة نفسها.

٢٩٨

الباب الخامس

الماتريدي مفسرا

ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : انتماء الماتريدي في التفسير.

الفصل الثاني : منهج الماتريدي في التفسير.

الفصل الثالث : بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة.

الفصل الرابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه.

الفصل الخامس : تأثير الماتريدي في لاحقيه.

٢٩٩
٣٠٠