تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

لم يرفعه ، علم أنه اجتهد فيه ، والمجتهد يخطئ ويصيب ، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.

وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه ؛ لظن سماعهم له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب ؛ لأنهم أدرى الناس بكتاب الله ؛ إذ هم أهل اللسان ، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهم.

قال الزركشي في البرهان : «اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد ، والأول : إما أن يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الصحابة ، أو رءوس التابعين ، فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي : فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده ، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ..... اه (١).

وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره : «إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ؛ فإنهم أدرى بذلك ؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم : كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم (٢)».

المصدر الرابع : قول التابعي :

اختلف العلماء في تفسير التابعي :

فذهب بعض العلماء إلى أنه من المأثور ؛ لأنه تلقاه من الصحابة غالبا.

ومنهم من قال : إنه من التفسير بالرأي ، أي : له حكم بقية المفسرين الذين فسروا حسب قواعد اللغة العربية دون التزام بالمأثور (٣).

والخلاصة في هذا الخلاف : أنه إن ثبت عن التابعين فيه ـ أي التفسير ـ شيء : فإن

__________________

(١) ينظر : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٣) ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٩٥ ، ٩٦).

(٢) تفسير القرآن الكريم لابن كثير (١ / ٣).

(٣) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ١٣) ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ٦٦.

٢٦١

أجمعوا عليه أخذوا به ؛ لأجل الإجماع : انطلاقا في ذلك من عين المسلمتين اللتين ذكرناهما بالنسبة لإجماع الصحابة بل قل ذلك بالنسبة لكل إجماع أيضا.

فإن لم يكن إجماع فإنه ينظر : فإن توفر في قول أحدهم شرطان :

أحدهما : أن يكون له حكم المرفوع المرسل بأن كان فيما ليس للرأي فيه مجال ، ولم يكن قائله كذلك معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات.

وثانيهما : أن يكون إماما من أئمة التفسير الآخذين لتفسيرهم عن الصحابة : كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، أو يتأيد قوله بمرسل آخر مثلهم أو نحو ذلك.

نقول : إن توفر في قول التابعي هذان الشرطان يترجح عند القوم الأخذ به.

وقد ذهب أكثر المفسرين : إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير ؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة ، فمجاهد مثلا يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول : ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.

ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.

والذي تميل إليه النفس : هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه ، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة ، فإن ارتبنا فيه ؛ بأن كان يأخذ من أهل الكتاب ، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه ، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.

قال ابن تيمية : قال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني : أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح ، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن ، أو السنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك (١).

هذا هو الأصل في التفسير بالمأثور ، وما تحرر منه سبعة أمور :

أولها : ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن.

__________________

(١) ينظر : مقدمة في أصول التفسير ص (٢٨ ، ٢٩) والإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٧٩) ، والتفسير والمفسرون (١ / ١٢٩ ، ١٣٠).

٢٦٢

ثانيها : ما كان تفسيرا للقرآن بالسنة الصالحة للحجية.

ثالثها : ما كان تفسيرا بما له حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوال الصحابة ، عليهم الرضوان.

رابعا : ما كان تفسيرا للقرآن بما أجمع عليه الصحابة أو التابعون.

وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها والتعويل عليها على هذا الترتيب الذي وقفناك عليه ، لكن بشرط ألا يتعارض أي منها تعارضا حقيقيّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي ، فإن وقع مثل ذلك التعارض وجب تأويل المنقول وطرح ظاهره لأجل المعقول في جميع هذه الألوان.

خامسها : ما اختلف فيه الصحابة اختلافا لا يخفى معه وجه الصواب.

سادسها : ما لم يعرف فيه من مأثور الصحابة كذلك إجماع ولا اختلاف.

سابعها : ما كان له حكم المرفوع المرسل من مأثور التابعين ، واعتضد مع ذلك بمرسل آخر أو نحوه من شاهد أو تابع ، أو تحقق في قائله شرط الإمامة والأخذ لأغلب تفسيره عن الصحابة.

وهذه الثلاثة الأخيرة يترجح عند القوم الأخذ بها في التفسير ترجحا فحسب ، لكن يشترط ألا تتعارض مع معقول ولو ظنيّا ، وإلا طرحت بالكلية ، أو طرحت ظواهرها على أقل تقدير لأجل المعقول أيضا (١).

هذا : وقد تدرج التفسير بالمأثور في دورين : دور الرواية ، ودور التدوين.

أما في دور الرواية ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن ، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض ، ولمن جاء بعدهم من التابعين.

ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بمحض رأيه واجتهاده ، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية التي كانت لهذا العهد ، والمستوى العقلي الرفيع لأهله ، وتحدد حاجات حياتهم العملية ، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عنى باللفظ كذا.

ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير ، فروى ما تجمع لديه من ذلك عن رسول الله

__________________

(١) ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٢ ، ٣٣.

٢٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة ، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد ، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة.

ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا ، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض ... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة ، وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

ثم ابتدأ دور التدوين ـ وهو ما يعنينا في هذا البحث ـ فكان أول ما دون في التفسير ، هو التفسير بالمأثور ، على تدرج في التدوين كذلك ، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا ، وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل علم لشخص بعينه ، يعدون واضع التفسير ـ بمعنى جامعه لا مدونه ـ الإمام مالك بن أنس الأصبحي ، إمام دار الهجرة.

وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلا منظما ، ولم يفرد بالتدوين ، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة ، يجمعون فيه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة والتابعين.

ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث ، وأفرد بتآليف خاصة ؛ فكان أول ما عرف لنا من ذلك تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ثم وجد بعد ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة ، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق ، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.

ثم وجدت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير ، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وتابعيهم : كتفسير ابن جرير الطبري ، ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه ، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقا به.

كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته ـ ممن أفردوا التفسير بالتأليف ـ رجال من المحدثين بوبوا للتفسير بابا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.

ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك ، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل ؛ مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها ؛ لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق ، وهو

٢٦٤

كثير في التفسير (١).

ومن المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصّا من النصوص ، يتلون هذا النص بتفسيره إياه ، وينطبع بطابعه الخاص ، وفق قدرته الفكرية ، وسعة اطلاعه وأفقه العقلي غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير ، إن ظهر جليّا واضحا في كتب التفسير بالرأي ، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور.

أسباب ضعف الرواية بالمأثور :

ذكرنا فيما تقدم أن تفسير بعض القرآن ببعض ، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا شك في قبوله ، ولا خلاف في أنه من أعلى مراتب التفسير.

وأما تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه :

أولها : ما دسّه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس ، فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع ، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة ، وعن طريق الدليل والحجة.

ثانيها : ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم : كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء ، ومثل أولئك المتزلفين للعباسيين فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه ، تملقا واستدرارا لدنياهم.

ثالثها : اختلاط الصحيح بغير الصحيح ، ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر ؛ مما أدى إلى التباس الحق بالباطل.

زد على ذلك أن هناك من يرى رأيا يعتمده دون أن يذكر له سندا ، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا ، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية ، ولا من يرجع إليه القول.

رابعها : أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ، ومنها كثير من الخرافات التي تصادم العقيدة الإسلامية ، والتي قام الدليل على بطلانها ، وهي مما دخل على المسلمين من أهل الكتاب (٢).

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٥٤ ـ ١٥٦).

(٢) ينظر : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٢٣ ، ٢٤) ، ومحمد علي الصابوني ، التبيان في علوم القرآن ص ٦٦ ، ٦٧.

٢٦٥

وكلمة الإنصاف في التفسير بالمأثور أنه نوعان :

أحدهما : ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله ، وهذا لا يليق بأحد رده ، ولا يجوز إهماله وإغفاله ، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن ، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.

ثانيهما : ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها ، وهذا يجب رده ، ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به ، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه ، حتى لا يغتر به أحد.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أهم كتب التفسير بالمأثور ، فقد دونت مؤلفات كثيرة تفسر القرآن بالمأثور ، منها :

تفسير الطبري ، وتفسير أبي الليث السمرقندي ، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير البغوي ، وغيرها.

* * *

٢٦٦

٢ ـ منهج التفسير بالرأي

بعد أن تحدثنا عن منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور وضوابطه ، ننتقل إلى منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي (الاجتهاد) أو التفسير بالمعقول.

وقد عرف الدكتور الذهبي التفسير بالرأي فقال : يطلق الرأي على الاعتقاد ، وعلى الاجتهاد ، وعلى القياس ، ومنه أصحاب الرأي ، أي : أصحاب القياس.

والمراد بالرأي هنا الاجتهاد ، وعليه فالتفسير بالرأي : عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر (١).

والناظر في هذا التعريف يجده ـ على حد قول المناطقة ـ غير جامع ، وغير مانع ؛ ذلك أن التفسير بالرأي أوسع دائرة مما ذكر الدكتور الذهبي ؛ إذ هو قسمان : محمود ومذموم ، وهو ذكر المحمود دون المذموم.

ومن ثم فإن تعريف التفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم بمطلق الاجتهاد ، سواء توافر لهذا الاجتهاد شرطه أم لا ، أو أن يكون مصحوبا بحسن قصد أم لا ، إلى آخر ما هنالك من الاحتمالات التي تعتور الاجتهاد (٢).

موقف العلماء من التفسير بالرأي :

اتفق العلماء المخلصون على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام ، بل كفر صريح إن تعمد فاعله سوء القصد ؛ لأنه كذب متعمد على الله تعالى وحكم عليه بما يعلم صاحبه أنه خلاف مراده تعالى ، ولا نحسب أن أحدا من أهل الإسلام يمكن أن يمتري في هذه القضية.

وإنما وقع الخلاف بين العلماء في أنه : هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذموما ، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ ، أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟

ذكر الدكتور الذهبي الخلاف فقال : اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ٢٤٦).

(٢) ينظر : د / إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : الدخيل في التفسير ص ٢٨٥.

٢٦٧

القرآن بالرأي ، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :

فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ، ولم يبيحوه لغيرهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.

وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك ، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم ، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده (١).

ثم يقول : «ولو رجعنا إلى هؤلاء المتشددين في التفسير ، وعرفنا سر تشددهم فيه ، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوزين للتفسير بالرأي ، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لا بد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا ـ يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي (٢).

ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله : الرأي ضربان :

أحدهما : جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما ؛ لأمور :

أحدها : أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم ، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، فذلك غير ممكن ؛ فلا بد من القول فيه بما يليق.

والثاني : أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف.

فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول ، والمعلوم أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه ، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به ، وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.

والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه ، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ٢٤٦ ، ٢٤٧).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ٢٥٣).

٢٦٨

بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.

والرابع : أن هذا الفرض لا يمكن ؛ لأن النظر في القرآن من جهتين :

من جهة الأمور الشرعية ، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا.

ومن جهة المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف ، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين ، وهو باطل فاللازم عنه مثله.

وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية ، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال ، كما كان مذموما في القياس ـ أيضا ـ لأنه تقول على الله بغير برهان ؛ فيرجع إلى الكذب على الله تعالى ، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء ؛ كما روي عن ابن مسعود : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم ، وإياكم التبدع ، وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق.

وعن عمر بن الخطاب : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه.

وعن عمر ـ أيضا ـ : ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله (١).

وليس الأمر على ما ذهب إليه الدكتور الذهبي ومن وافقه ، فالخلاف على حقيقته ؛ ذلك أن ما ذكره القاسمي يتجه إلى قسمين متضادين من الرأي : قسم محمود ، وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، وقسم مذموم وهو غير الجاري على موافقة كلام العربية وغير الجاري على الأدلة الشرعية.

فهذا الرأي المذموم من غير إشكال ممنوع ومحرم. وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في النوع الأول المحمود.

ويعضد هذا ما ساقه أحد الباحثين من أمور أربعة :

أحدها : أن مسألة الرأي الفاسد المبني على الهوى والتشهي والفاقد لتحقق شرط الاجتهاد وتوفر ملكاته مما يعلم لكل أحد بالضرورة ـ ولو كان من أصاغر عوام المسلمين

__________________

(١) القاسمي : محاسن التأويل ، تصحيح وتعليق : محمد فؤاد عبد الباقي (دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الثانية (١٣٨٩ ه‍ ـ ١٩٧٨ م) (١ / ١٦٤ ، ١٦٥).

٢٦٩

فضلا عن أكابر خواصهم وعلمائهم ـ ضرورة امتناعه فيبعد جدّا بل لا يكاد يتصور أن ينفرد المانعون فيما نحن بصدده هنا بإقامة الأدلة على امتناع هذا الرأي المذموم.

وكذلك يبعد أن يخفى أمر ذلك على المجيزين حتى يشتغلوا بنقض أدلة هؤلاء ثم معارضتها بما يثبت نقيضها على ما سترى إن شاء الله تعالى ، كيف والكل يشتركون ويتفقون على امتناع الرأي المذموم كما قلنا.

ثانيها : أنا لا ندري كيف ظهر للدكتور الذهبي ما خفي على كافة فحول العلماء من قبله حتى عدوا الخلاف بين الفريقين حقيقيّا وأوردوه جميعا في كتبهم على هذا النحو واشتغلوا ببيان وجه الحق فيه.

ثالثها : أن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة أبين صراحة في قصد كل تفسير بالرأي ، ناصة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب إلى آخر ذلك ، فليس له أن يفسر القرآن برأيه وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب.

رابعها : أن كلّا من أدلة المانعين وردود المجيزين على هذه الأدلة ظاهرة أتم ظهور في أن قصد المانعين إنما هو التعميم لكل رأي ، وأن قصد المجيزين هو إبطال ذلك التعميم بإثبات التخصص على حد ما هو معلوم لدى المناطقة وأهل آداب البحث والمناظرة عن كون مناقضة السلب الكلي هي بالإيجاب الجزئي كذلك فكيف كان يصلح من هؤلاء المانعين هذا التعميم لو أن قصدهم بالفعل هو إرادة التخصيص بالرأي الفاسد (١).

ويهمنا في هذا المقام دون خوض في عرض الخلاف بين المانعين والمجوزين أن نؤكد على ضعف القول بمنع تفسير القرآن بالرأي على الإطلاق ، وأن ما ساقه أصحاب هذا القول لتعضيد قولهم ما هو إلا شبهات أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الحق عنده يدحض هذه الشبهات ، ويكشف وجه الحق في المسألة ، وهو أن تفسير القرآن بالرأي جائز بشروطه الضابطة.

فهناك أمور ـ ذكرها الزركشي ـ يجب استناد المفسر بالرأي إليها ، فقال : «للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة :

الأولى : النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

__________________

(١) د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص (٢٩٠ ـ ٢٩٣).

٢٧٠

الثانية : الأخذ بقول الصحابي ، فقد قيل : إنه في حكم المرفوع مطلقا ، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.

الثالثة : الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

الرابعة : الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١).

فمن فسر القرآن برأيه ، أي : باجتهاده ، ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله ، كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود ، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها ، كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم» (٢).

ثم إن هناك أمورا أخرى فصل فيها القول الإمام السيوطي يجب أن يفعلها المفسر بالرأي ، وأمورا أخرى عليه أن يدعها ، فقد قال السيوطي : قال العلماء : يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض ، ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه.

وعليه مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات.

ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية ، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف ثم الاشتقاق ، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب فيبدأ بالإعراب ثم بما يليق بالمعاني ثم البيان ثم البديع ثم يبين المعنى المراد ثم الاستنباط ثم الإشارات.

وقال الزركشي في أوائل البرهان : قد جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر أسباب النزول ووقع البحث في أنه أيهما أولى بالبداءة به بتقدم السبب على المسبب أو المناسبة ؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول.

__________________

(١) تقدم.

(٢) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (١ / ٤٩ ، ٥٠).

٢٧١

قال : والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول كآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨].

فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب ؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد ، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة.

وقال في موضع آخر : جرت عادة المفسرين ممن ذكر فضائل القرآن أن يذكرها في أول كل سورة ؛ لما فيها من الترغيب والحث على حفظها ، إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها.

قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني : سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال : لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف ، وكثيرا ما يقع في كتب التفسير «حكى الله كذا» فينبغي تجنبه.

قال الإمام أبو نصر القشيري في المرشد : قال معظم أئمتنا : لا يقال : «كلام الله محكي» ولا يقال : «حكى الله» ؛ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل.

وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار ، وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف ، وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه.

قال بعضهم : مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين ؛ نحو : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [المدثر : ٢٨] (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ، وأشباه ذلك ـ أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدا ، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك. انتهى.

وقال الزركشي في البرهان : ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز.

وقال في موضع آخر : على المفسر مراعاة مجازي الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف والقطع بعدم الترادف ما أمكن ؛ فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ؛ ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد. انتهى.

وقال أبو حيان : كثيرا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه ودلائل مسائل الفقه ودلائل أصول الدين وكل ذلك مقرر في تآليف هذه العلوم ، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.

٢٧٢

وكذلك ـ أيضا ـ ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب بينها وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير (١).

وقال السيوطي في موضع آخر : وقال ابن النقيب : جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال :

أحدها : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

الثاني : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.

الرابع : التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل.

الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى.

ثم قال : واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام :

الأول : علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه ، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو ، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعا.

الثاني : ما أطلع الله عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به ، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن أذن له ، قال : وأوائل السور من هذا القسم ، وقيل : من القسم الأول.

الثالث : علوم علمها الله نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها ، وهذا ينقسم إلى قسمين : منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع ، وهو أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمور الحشر والميعاد.

ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان : قسم اختلفوا في جوازه ، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات.

وقسم اتفقوا عليه ، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية ؛ لأن مبناها على الأقيسة.

وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ص (٢٢٧ ـ ٢٢٩).

٢٧٣

واستخراجها لمن له أهلية (١).

ويمكن أن نستخلص من هذين النصين عدة أمور هي :

أولا : مطابقة التفسير للمفسر مطابقة تامة ، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده ، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق.

ثانيا : حمل الكلام على ما يتعين أو يترجح على أقل تقدير أنه المعنى المراد منه حقيقيّا كان ذلك المعنى أو مجازيّا ، في التركيب كان المجاز أو في المفردات.

ثالثا : مراعاة سياق الكلام ـ سوابقه ولواحقه ـ بحيث تتآخى وتترابط كافة أجزائه ، ويأخذ أوله بحجزه ، وفي ذلك لا بد من تجلية المناسبات بين الآيات ، بل بين السور كذلك.

رابعا : تجلية سبب النزول ، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل.

خامسا : تحقيق القول أولا في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم ، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة بالنص.

سادسا : يجب على المفسر اجتناب الهجوم على التفسير من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم.

سابعا : اجتناب الخوض في بيان ما استأثر الله بعلمه.

ثامنا : اجتناب الهوى والقول في القرآن بمجرد الاستحسان من غير برهان.

تاسعا : عدم القطع بأن مراد الله من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع.

هذا ، ويحتاج المفسر بالرأي إلى خمسة عشر علما عددها السيوطي في مجموعات هي :

المجموعة الأولى : علوم اللغة وما يتعلق بالنحو والصرف والاشتقاق ، وهو ضروري للمفسر ؛ إذ كيف يمكن فهم الآية بدون معرفة المفردات والتراكيب ، وهل باستطاعة أحد أن يفسر قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ٢٢٦] بدون أن يعرف المعنى اللغوي للإيلاء والتربص والفيء؟

ولهذا قال الإمام مالك : «لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب ، يفسر كتاب الله إلا

__________________

(١) السابق ص (٢٢٩) وما بعدها.

٢٧٤

جعلته نكالا».

فعلم النحو ضروري للمفسر ؛ لأن المعنى يتغير بتغير الحركات تغيرا كبيرا. وعلم الصرف والاشتقاق ضروريان ـ أيضا ـ للمفسر ؛ حتى لا يخبط الإنسان خبط عشواء.

المجموعة الثانية : علوم البلاغة «المعاني ـ البيان ـ البديع» وهي ضرورية لمن أراد تفسير الكتاب العزيز ؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.

المجموعة الثالثة : أصول الفقه ، وأسباب النزول ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، ومعرفة علم القراءات ، وهي كلها مما يحتاج إليه المفسر بالرأي ؛ حتى لا يخطئ الفهم ، ولا تزل قدمه بسبب الجهل بهذه الأمور الضرورية.

وأخيرا : علم الموهبة ، ويقصد به العلم اللدني الرباني (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] الذي يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، ويفتح قلبه لفهم أسراره ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٨٢] فهو ثمرة التقوى والإخلاص ، ولا ينال هذا العلم من كان في قلبه بدعة أو كبر أو حب للدنيا أو ميل إلى المعاصي ، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ١٤٦]

وما أجمل قول الشافعي رحمه‌الله :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصي (١)

قال السيوطي : «ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول : هذا شيء ليس من قدرة الإنسان ، وليس كما ظننت من الإشكال ، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.

ثم قال : «علوم القرآن وما يستنبط منه بحر ولا ساحل له ، فهذه العلوم التي ذكرناها هي كالآلة للمفسر ، ولا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه» (٢).

__________________

(١) ينظر : محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٥٧ ـ ١٦١.

(٢) الإتقان (٢ / ١٨١).

٢٧٥

منهج المفسرين بالرأي :

قسم الشيخ محمد عبده التفسير إلى مرتبتين : مرتبة عليا ، ومرتبة دنيا.

ومن حاول المرتبة العليا من مراتب التفسير بالرأي ، فعليه أن يأخذ حذره ، وأن يتذرع بكل العلوم التي أشرنا إليها ؛ ليكون قد أصاب المراد أو كاد ، ووجب عليه أن ينهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي :

أولا : أن يطلب المعنى من القرآن ، فإن لم يجده طلبه من السنة ؛ لأنها شارحة للقرآن ، فإن أعياه الطلب رجع إلى أقوال الصحابة ؛ فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله ، فوق ما امتازوا به من الفهم التام والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، فإن عجز عن هذا كله ولم يظفر بشيء من تلك المراجع الأولى للتفسير ، فيتبع طريق الاجتهاد والرأي.

ثانيا : اتباع طريق الاجتهاد والعقل باتباع الخطوات الآتية :

الأولى : فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعت في القرآن عن طريق استعمالات أهل اللغة من نحو وصرف واشتقاق ، مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن.

الثانية : إرداف ذلك بالكلام عن التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة ، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه.

الثالثة : تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ؛ بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.

الرابعة : مراعاة التناسب بين الآيات ، فيبين وجه المناسبة ، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن ، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه ، وإنما هو آيات يأخذ بعضها برقاب بعض.

الخامسة : ملاحظة أسباب النزول ، فإن لسبب النزول دورا كبيرا في بيان المعنى المراد.

السادسة : مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام.

السابعة : مراعاة مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.

الثامنة : مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون ، وعلم أحوال البشر ، واختلاف أحوالهم : من ضعف وقوة ، وعز وذل ، وإيمان وكفر.

٢٧٦

التاسعة : مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هديه وسيرته ؛ لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.

العاشرة : رعاية قانون الترجيح والاحتمال (١) ، وذلك أن اللفظ قد يحتمل معنيين فصاعدا ، فما ذا يكون العمل؟

نقل السيوطي عن الزركشي في هذه المسألة قولا من أجمع الأقوال ، فقال :

«قال الزركشي ـ رحمه‌الله ـ : كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي ، فإن كان أحد المعنيين أظهر ، وجب الحمل عليه ، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.

وإن استويا ، والاستعمال فيهما حقيقة ، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية ، وفي الآخر شرعية ، فالحمل على الشرعية أولى ، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية ، كما في : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].

ولو كانت في أحدهما عرفية ، والآخر لغوية ، فالحمل على العرفية أولى.

وإن اتفقا في ذلك ـ أيضا ـ : فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد : كالقرء للحيض والطهر ، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه ، وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكما؟ أو بالأخف؟ أقوال.

وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة ، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما» (٢).

ونستجلي الأمر بوضوح أكثر عند الرجوع إلى نص الزركشي الأصلي ، ففي بيانه ـ رحمه‌الله ـ لأقسام التفسير ، وأنها أربعة أقسام ، قال في القسم الرابع :

والرابع : ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل ، وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه ، فالمفسر ناقل والمؤول ، مستنبط وذلك استنباط الأحكام

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي التفسير والمفسرون (١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٧) ، والزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص ٥٩ ، ٦٠ ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٦٢ ، ود / إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٥١ وما بعدها ، ود / أبو شهبة : الإسرائيليات والموضوعات ص ١١٧ ـ ١٢١.

(٢) الإتقان (٢ / ١٨٢).

٢٧٧

وبيان المجمل وتخصيص العموم.

وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه ، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين ، فهو قسمان :

أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فيجب الحمل على الظاهر ، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.

الثاني : أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة ، وهذا على ضربين :

أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين ، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية ، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة على إرادة اللغوية ؛ نحو قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].

وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية ، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ، ولو دار بين الشرعية والعرفية ، فالشرعية أولى ؛ لأن الشرع ألزم.

الضرب الثاني : لا تختلف أصل الحقيقة ، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء ، وهذا ـ أيضا ـ على ضربين :

أحدهما : أن يتنافيا اجتماعا ، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء ، حقيقة في الحيض والطهر ، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه ، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه ؛ لأنه نتيجة اجتهاده ، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم ، فمنهم من قال : يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال : يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث ، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.

الضرب الثاني : ألا يتنافيا اجتماعا ، فيجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما ، وهذا ـ أيضا ـ ضربان :

أحدهما : أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر ؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة.

الثاني : ألا تقتضي بطلانه ، وهذا اختلف العلماء فيه.

٢٧٨

فمنهم من قال : يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر ، بل يجوز أن يكون مرادا ـ أيضا ـ وإن لم يدل عليه دليل من خارج ؛ لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه ، وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج.

ومنهم من قال : ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر.

فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل ، والله أعلم.

إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١) على قسمين من هذه الأربعة :

أحدهما : تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.

الثاني : حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم : علم العربية واللغة والتبحر فيها ، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد ، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا ، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول : يحتمل كذا ، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه ، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله (٢).

وهذا القانون له نظائر أخرى غير ما ذكر الزركشي ، منها :

أولا : يجب حمل اللفظ إذا دار بين كونه حقيقة أو مجازا مع الاحتمال على حقيقته.

ثانيا : إذا دار الأمر في اللفظ بين جريانه على عمومه أو تخصيصه ، فإنه يحمل على عمومه ؛ لأن الأصل بقاء العموم.

ثالثا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركا أو مفردا فإنه يحمل على إفراده ؛ كالنكاح فإنه مشترك بين الوطء وسببه الذي هو العقد فيحمل على الوطء دون العقد أو على العقد دون الوطء لا على الاشتراك.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٣٣ ، ٢٦٩ ، ٢٩٣ ، ٣٢٣ ، ٣٢٧) والترمذي (٢٩٥٠) ، (٢٩٥١) والنسائي في الكبرى (٥ / ٣١) وأبو يعلى (٢٣٣٨) ، (٢٧٢١) والطبراني في الكبير (١٢ / ١٢٣٩٢) ، (١٢٣٩٣) والطبري في تفسيره (١ / ٥٨) (٧٣) ، (٧٤) ، (٧٥) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».

(٢) البرهان في علوم القرآن (٢ / ١٦٦ ـ ١٦٨).

٢٧٩

رابعا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مضمرا أو مستقلا فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير.

خامسا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدا أو مطلقا فإنه يحمل على إطلاقه.

سادسا : إذا دار اللفظ بين أن يكون زائدا أو متأصلا فإنه يحمل على تأصيله.

سابعا : إذا دار الأمر بين أن يكون اللفظ مؤخرا أو مقدما فإنه يحمل على تقديمه.

ثامنا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مؤكدا أو مؤسسا فإنه يحمل على تأسيسه ... وهكذا (١).

وبالجملة فإن على من فسر القرآن برأيه لكي يكون تفسيره محمودا أن يتقن هذا القانون أيما إتقان ، وبقدر ما يقع له من الانحراف عنه بقدر ما يكون تفسيره دخيلا ، والمعصوم من عصم الله.

ويبقى أن نشير إلى بعض كتب التفسير بالرأي ، وهي : تفسير الجلالين ، وتفسير البيضاوي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير النيسابوري ، وتفسير الألوسي ، وتفسير الخطيب ، وتفسير الخازن.

* * *

__________________

(١) ينظر : شرح تنقيح الفصول للقرافي ص ١١٢ وما بعدها ، أحكام القرآن لابن العربي (٢ / ٥٩٦) ، ود.

إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٥٦ ـ ٣٦١.

٢٨٠