تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

٣ ـ عبد الله بن عباس (ترجمان القرآن)

حبر الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير ، أبو العباس عبد الله ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم ، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه.

مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين.

صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من ثلاثين شهرا ، وحدث عنه بجملة صالحة.

وحدث عن عمر ، وعلي ، ومعاذ ، ووالده ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي سفيان صخر بن حرب ، وأبي ذر ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وخلق.

وقرأ على أبي ، وزيد.

قرأ عليه مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة.

روى عنه : ابنه علي ، وابن أخيه عبد الله بن معبد ، ومواليه : عكرمة ، ومقسم ، وكريب ، وأبو معبد ، وأنس بن مالك ، وأبو الطفيل ، وخلق كثير.

وله جماعة أولاد ، أكبرهم العباس ، وبه كان يكنى ، وعلى أبو الخلفاء ، وهو أصغرهم ، والفضل ومحمد ، وعبيد الله ، ولبابة ، وأسماء.

وكان وسيما ، جميلا ، مديد القامة ، مهيبا ، كامل العقل ، ذكي النفس ، من رجال الكمال.

وأولاده : الفضل ، ومحمد ، وعبيد الله ، ماتوا ولا عقب لهم ، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبنته الأخرى أسماء كانت عند ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن العباس ، فولدت له حسنا ، وحسينا.

انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح ، وقد أسلم قبل ذلك ، فإنه صح عنه أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين : أنا من الولدان ، وأمي من النساء.

وعن طاوس قال : ما رأيت أورع من ابن عمر ، ولا أعلم من ابن عباس.

وقال مجاهد : ما رأيت أحدا قط مثل ابن عباس ، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة.

وروى الأعمش ، عن مجاهد ، قال : كان ابن عباس يسمى البحر ؛ لكثرة علمه.

وعن مجاهد قال : ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس إلا أن يقول قائل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن طاوس ، قال : أدركت نحوا من خمسمائة من الصحابة ، إذا ذاكروا ابن عباس ، فخالفوه ، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.

٢٢١

قال يزيد بن الأصم : خرج معاوية حاجّا معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم.

الأعمش : حدثنا أبو وائل قال : خطبنا ابن عباس ، وهو أمير على الموسم ، فافتتح سورة النور ، فجعل يقرأ ويفسر ، فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا ، لو سمعته فارس ، والروم ، والترك لأسلمت.

قال علي بن المديني : توفي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين.

وقال الواقدي ، والهيثم ، وأبو نعيم : سنة ثمان ، وقيل : عاش إحدى وسبعين سنة.

ب ـ دوره في التفسير :

فاز عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١) ، فكان له القدح المعلى بين صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير القرآن ، حتى أنه يوجد له تفسير يتداوله الناس يسمى تفسير ابن عباس.

وقد كان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أكثر جرأة في الاجتهاد ، فيروى عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] ، فقال : اذهب إلى ابن عباس فاسأله ، ثم تعال فأخبرني ، فذهب فسأله ، فقال : «كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات» فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال : «قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن علمت أنه أوتي علما» (٢).

وابن عباس يقف على رأس من يرون أن كلام العرب يوضح ما غمض من ألفاظ القرآن الكريم ، وأن الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانها ، ومسائلات نافع بن الأزرق (٣) التي أربت على المائتين تدل على ذلك (٤).

ومن ثم يمكن القول ـ وللأمانة العلمية ـ : إن المنهج اللغوي في تفسير القرآن من صنع ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فهو الذي أرسى دعائمه ، معتمدا في ذلك على البذور التي بذرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفاؤه الراشدون ، وبخاصة عمر (٥).

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور للسيوطي (٤ / ٥٦٩).

(٣) انظر : المغني (٢ / ٦٩٢) ، وميزان الاعتدال (٧ / ٦).

(٤) ينظر : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (١ / ١٥٧).

(٥) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٥٨ ، ٥٩.

٢٢٢

وكان ابن عباس يبين في تفسيره الكلمات المعربة عن لغات أخرى غير العربية ، مما يؤكد رئاسته للمنهج اللغوي ، حتى قيل عنه : «إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن الكريم» (١).

وإذا كان ابن عباس قد اهتم بالتفسير اللغوي ، فإنه ـ أيضا ـ ركز على عنصر الأخبار في تفسيره ، وبخاصة الأخبار التي لم ترد في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يرجع إلى التاريخ العام ، وأخبار الأمم ، وبخاصة أهل الكتاب ، فكان ـ رضي الله عنه ـ يرجع إليهم ويأخذ عنهم (٢) ، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في

__________________

(١) جولد تسيهر : المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم ، تعريب : علي حسن عبد القادر (طبع دار العلوم ١٩٤٤ م) ص ٦٩ ، وينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٠.

(٢) اتهم ابن عباس باعتماده كثيرا على أهل الكتاب في تفسير القرآن ، فيقول جولد تسيهر المستشرق اليهودي المجري : «وكثيرا ما نجد من مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس اليهوديين اللذين اعتنقا الإسلام : كعب الأحبار وعبد الله بن سلام» ويقول أيضا : «وكثيرا ما يذكر أنه فيما يتعلق بتفسير القرآن ، كان ـ أي ابن عباس ـ يرجع إلى رجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي الذي أثنى الناس عليه بأنه كان يقرأ الكتب». وتابع أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام جولد تسيهر فيما ذهب إليه من أخذ ابن عباس عن أهل الكتاب كثيرا. ولعل الذي دعاهما إلى اتهام ابن عباس هذا الاتهام إثارة الشبه من قبل جولد تسيهر حول تفسير ابن عباس ، وكثرة ما وضع على ابن عباس مما لم يفطن الأستاذ أحمد أمين إلى أنه ليس لابن عباس.

وأقول : إذا كان ابن عباس قد لجأ إلى أهل الكتاب يستمد منهم التفسير القصصي للقرآن ، فإن موقفه منهم كان موقف الناقد البصير المعتز بدينه الذي ينخل ما ينقل إليه من أقوالهم ، ثم يعتمد الصحيح منها ، وقد ترخص الصحابة في السماع منهم حيث رأوا عمر يسمع من كعب الأحبار بعد إسلامه في خلافة عمر. ثم إنهم ـ أي الصحابة ـ جمعوا بين قوله عليه الصلاة والسلام : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وبين قوله : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» ـ بأن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار ؛ لما فيه من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : «فإن فيهم أعاجيب» ، وأن الثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قبلهم محتملا ، ولم يقم دليل على صدقه أو كذبه. ثم كيف يستبيح ابن عباس لنفسه أن يحدث عن بني إسرائيل بمثل هذا التوسع الذي يجعله مخالفا لأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد كان ابن عباس أشد نكيرا على من يفعلون ذلك ؛ فقد كان يقول : «يا معشر المسلمين ، تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدث الأخبار بالله ، تقرءونه لم يشب ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٧٩] أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم».

ينظر : جولد تسيهر : مذاهب التفسير الإسلامي ص ٦٥ ـ ٦٧ ، وأحمد أمين : فجر الإسلام (لجنة التأليف والترجمة والنشر ، ١٩٣٥ م) ص ٢٤٨ ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٧٢ ـ ٧٤) ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧١ ـ ٧٣.

٢٢٣

القرآن وفصلت فيهما (١).

إن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بما أوتي من علم بكتاب الله أسهم إسهاما كبيرا في نشأة علم التفسير وتطوره ، بل إنه ليعد من أكبر مفسري القرآن الكريم في عصور الإسلام المختلفة ، فقد كانت له مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عنه ، استقرت في مكة (٢) ، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة ، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجابا وتقديرا ، إلى درجة أنه إذا صح النقل عنه لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر (٣) ، وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء في التفسير (٤).

٤ ـ عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :

عبد الله بن مسعود بن غافل ـ بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف ـ ابن حبيب بن شمخ ـ بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم ـ ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي ، أبو عبد الرحمن الكوفي ، أحد السابقين الأولين ، شهد بدرا والمشاهد ، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا ، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بأحد وعشرين ، ومسلم بخمسة وثلاثين ، وروى عنه خلق من الصحابة ، ومن التابعين : كمسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار ، تلقن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة.

قال علقمة : كان يشبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هديه ودله وسمته (٥).

وقال أبو نعيم : مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة.

ب ـ دوره في التفسير :

كان عبد الله بن مسعود خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف

__________________

(١) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٠.

(٢) سنفصل القول في هذه المدرسة في الفصل الثاني عند الحديث عن مدارس التفسير.

(٣) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٧١).

(٤) ينظر : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٣).

(٥) أخرجه البخاري (٧ / ٤٧٣) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٧٦٢) ، وأحمد (٥ / ٣٨٩ و ٣٩٥ و ٤٠١ و ٤٠٢) ، والترمذي (٦ / ١٣٩) كتاب المناقب باب عبد الله بن مسعود (٣٨٠٧).

وابن سعد في الطبقات (٣ / ١٥٤) ، والفسوي في المعرفة (٢ / ٥٤٠ و ٥٤٣) ، وابن حبان (٧٠٦٣) من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال : سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نأخذ عنه فقال لا أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابن أم معبد.

٢٢٤

ومؤدب ؛ لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب الله ، ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه ، حتى قيل عنه : إنه في التفسير أكثر رواية من علي كرم الله وجهه.

وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال : «والله الذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته» (١).

وهذا يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب الله ، وأسباب نزول الآيات ، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى.

وقد قام تفسير ابن مسعود على الرأي والاجتهاد والاستنباط ؛ لمواءمة البيئة العراقية المتأثرة بثقافة الفرس ، فوضع بذلك الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال والتي توارثها أهل العراق في التفسير والفقه.

ويتميز ابن مسعود عن غيره في مجال تفسير القرآن بأنه اعتمد بعض القراءات التي تختلف عن القراءات المتواترة في المصاحف العثمانية ، وقد تكون هذه القراءات من الروايات التفسيرية التي وردت على لسانه ، وظنها تلامذته من القراءات ، كما يمكن أن يقال ـ أيضا ـ : إنها بهذا الاعتبار كانت بداية لنشوء علم تفسير القرآن (٢).

٥ ـ أبي بن كعب

أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن يزيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني ، سيد القراء ، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها ، له مائة وأربعة وستون حديثا ، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة ، وروى عنه : ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير ، وكان ربعة نحيفا أبيض الرأس واللحية ، وقد أمر الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه ـ رضي الله عنه ـ وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة رحمه‌الله تعالى ، وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو ثلاث وثلاثين ، وقال بعضهم : صلى عليه عثمان ، رضي الله عنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٦) كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥٠٠٢). وينظر : محمد عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص ١٨.

(٢) ينظر : د. عبد الصبور شاهين : تاريخ القرآن (طبع دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٦٧ م) ص ١٤٨ ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٥.

٢٢٥

ب ـ دوره في نشأة التفسير :

أبي بن كعب هو ثالث ثلاثة بعد ابن عباس وابن مسعود كثرت عنهم الرواية ، وكان مقدما في القراءة ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «وأقرؤكم أبي بن كعب» (١).

وقد عد أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ من العلماء المكثرين في التفسير ، وربما مكنه من ذلك معرفته بمعاني كتب الله القديمة ؛ إذ كان من العارفين بأسرار هذه الكتب (٢) وكونه من كتاب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه ، ومقدم القرآن ومؤخره ، وناسخه ومنسوخه ، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن الكريم يشكل معناها دون أن يسأل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

ولقد اتبع أبي في تفسيره منهجا يتحرى الحيطة والحذر ؛ إذ كان يتوقف عند ما ورد في الآيات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستعينا بمعرفته مواضع النزول ، وأوقاته وأسبابه ، وأحوال من نزل فيهم ، بالإضافة إلى خبرته بالكتب القديمة ومعرفة أسرارها ، ووقوفه على ما ورد فيها من جهة ، وقراءته القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإقراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بعضا منه تعليما وإرشادا من جهة أخرى ، فإذا لم يجد فيما ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، أو لم تعنه وسائله التفسيرية السابقة ، فإن صنيعه يتوجه إلى بيان الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية ؛ إذ كانت الثقافة اللغوية هي زاد القوم الذي يستمدون منه ما يعينهم على ذلك (٤).

لقد استطاع أبي بما أوتي من علم وموهبة تفسيرية أن يجتذب تلاميذ كثيرين ، أثر فيهم بمنهجه الشامل ، مما أدى إلى نشأة المدرسة المدنية في التفسير والفقه.

ملاحظات حول تفسير الصحابة :

نستطيع الآن أن نورد مجموعة من الملاحظات على تفسير الصحابة تبرز لنا بشكل أكثر

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ١٨٤ و ٢٨١) والترمذي (٦ / ١٢٧ ـ ١٢٨) كتاب المناقب باب مناقب معاذ بن جبل (٣٧٩١) وابن ماجه (١ / ١٦١) في المقدمة باب فضائل زيد بن ثابت (١٥٤) والطيالسي (٢٠٩٦) وابن أبي عاصم (١٢٨١) و (١٢٨٢) وابن حبان (٧١٣١) و (٧١٣٧) و (٧٢٥٢) والطحاوي في شرح المشكل (٨٠٨) و (٨٠٩) و (٨١٠) وأبو نعيم في الحلية (٣ / ١٢٢) والحاكم (٣ / ٤٢٢) والبيهقي (٦ / ٢١٠) من طريق أبي قلابة عن أنس بن مالك بلفظ «... وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ..».

(٢) ينظر : د. الشحات زغلول : أبي بن كعب ـ الرجل والمصحف (طبع الهيئة العامة للكتاب ، ١٩٧٨ م) ص ٩ ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون ، ص ٩٢.

(٣) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون ، ص ٩٢ ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٦.

(٤) ينظر : د. الشحات زغلول : أبي بن كعب ـ الرجل والمصحف ص ٨٧.

٢٢٦

وضوحا الدور الذي قاموا به ، وهي كالآتي :

أولا : اتخذت تفسيرات الصحابة جميعهم شكل الحديث من حيث الرواية والتلقي.

ثانيا : الصحابة لم يفسروا القرآن الكريم كله ، وإنما تناولوا بالتفسير ما كانوا يسألون عنه ، أو ما يبدو غريبا في أذهان بعضهم.

ثالثا : تفسيراتهم لم تكن تخرج عن تفسير اللفظ بما يوضحه ، والاستشهاد له من اللغة ، وما يمكن أن يروى حوله من تفسير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مناسبة النزول.

رابعا : لم يكن بين تفسيراتهم اختلافات كبيرة ؛ نظرا لقربهم من عهد النبوة ، كما أنهم لم تتوزعهم الأهواء ، وما كان بينهم من اختلافات فهي للتنوع وليس للتضاد (١).

ومع كل هذا ، فقد كان الصحابة الأجلاء ، وبخاصة ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب ـ رضوان الله عليهم ـ هم أول من أسس علم التفسير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قدموه من إسهامات فتحت الطريق أمام التابعين من بعدهم ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا.

* * *

__________________

(١) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٩.

٢٢٧

المرحلة الثالثة : التفسير في عصر التابعين

جاء عصر التابعين ، فوجدوا بين أيديهم ميراثا ضخما من التفسير ، لكنه ليس شاملا لكتاب الله تعالى كله ، بل هو تفسير لبعض الآيات ، كما أنه لم تكن هناك مصنفات كاملة فيه ، حيث إنه لم يدون في عهد الصحابة ، لقرب العهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقلة الاختلاف ، وللتمكن من الرجوع إلى الثقات.

ثم لما انقضى عصر الصحابة أو كاد ، وصار الأمر إلى تابعيهم ، انتشر الإسلام ، واتسعت الأمصار ، وتفرقت الصحابة في الأقطار ، وحدثت الفتن ، واختلفت الآراء ، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء ، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن (١).

ومعنى هذا أن حركة واسعة لتدوين علوم الإسلام قد بدأت مع عصر التابعين ، في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني ، وقد نال التفسير قسطا وافرا من اهتمام التابعين ، سواء فيما يتعلق بتدوينه أو تطويره والبلوغ به درجات لم يبلغها من قبل.

ونريد في عجالة أن نستجلي أهم ما قام به التابعون في مجال تفسير القرآن الكريم ، ولتحقيق ذلك نقف أمام النقاط الآتية :

أولا : مصادر التابعين في تفسير القرآن الكريم :

اتبع علماء التابعين سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته الكرام ، فصدروا عن طريقتهم في التفسير ، فجاءت مصادرهم في التفسير هي المصادر الثلاثة السابقة : تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنة ، وتفسير القرآن بما عند أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، ولكنهم زادوا مصادر أخرى : ففسروا القرآن بما رووه عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم توسعوا في الاجتهاد وتفسير القرآن بالرأي عما كان عليه في عهد الصحابة.

يقول الدكتور الذهبي : اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه ، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم ، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى.

وقد روت لنا كتب التفسير كثيرا من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير ، قالوها بطريق

__________________

(١) ينظر : د. عبد الله شحاتة : علوم القرآن والتفسير ص ٢٥١.

٢٢٨

الرأي والاجتهاد ، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن أحد من الصحابة (١).

ثانيا : دور التابعين في تفسير القرآن الكريم :

بعدت الشقة بين عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر التابعين ، وتزايد الغموض في فهم القرآن الكريم ، واحتاج الناس إلى التفسير وقد اضطلع التابعون في هذه المرحلة بدور بارز.

يقول الدكتور الذهبي : تزايد هذا الغموض ـ على تدرج ـ كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة ، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص ، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض ، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعا ، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول ، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن ، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث (٢).

وبرز في عصر التابعين علماء كثيرون ، كانوا قد تتلمذوا على أيدي صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوف نتعرض لأبرزهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن المدارس التفسيرية.

ثالثا : يمتاز التفسير في عصر التابعين بما يلي :

أولا : غالب أقوالهم في التفسير تلقوها عن الصحابة ، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب ، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم.

ثانيا : دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات ؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام ، وكان لا يزال عالقا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية : كأخبار بدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، وبدء الكائنات وكثير من القصص ، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية ، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد ، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٠١).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٢).

٢٢٩

بعدهم.

وترتب على دخول الإسرائيليات والنصرانيات أن غص التفسير بكثير من الأباطيل ، والخرافات ، وممن ساعد على رواج هذه الأباطيل القصاص والوعاظ بالمساجد ، ولم يسلم من نسبتها إليهم أئمة ورعون كالحسن البصري بالكوفة ، ومحمد بن كعب القرظي بالمدينة (١).

ثالثا : تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل التفسير ؛ إذ وضعت فيها بذور المذاهب الإسلامية ، من نزوع العقل إلى فهم الآيات وتفسيرها ، إلى تصرف في اللغة وإيغال في التأويل ، وقد وجدنا هذا في مدرستي مكة والمدينة ، بالقدر الذي وجد في مدارس الكوفة والعراق ومصر بعامة ، وإن اختلف الأساس الذي بني عليه هذا الفهم في كل مدرسة على حدة (٢).

رابعا : يعتبر التابعون هم المؤسسون الرئيسون للمدارس التفسيرية (٣) التي وجدت بذور نشأتها في عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فقد تبلورت المدارس التفسيرية وبرزت وتحددت في عصر التابعين والعصور التالية.

خامسا : ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي ، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب ، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري ، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره ، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه ، ونجد الحسن البصري (٤) يفسر القرآن على إثبات القدر ، ويكفر من يكذب به.

سادسا : شهدت هذه المرحلة محاولات فردية في تدوين التفسير ، وإن ظل محتفظا بطابعه في عهد الصحابة من الرواية والتلقي الشفهي مثل الحديث ، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يعنون ـ بوجه خاص ـ بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبي ، والعراقيون عن ابن

__________________

(١) السابق (١ / ١٣١) ، وينظر : د / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧٥.

(٢) ينظر : د / الذهبي الإسرائيليات في التفسير والحديث (طبع مجمع البحوث ١٩٦٨ م) ص ٩٠ ، ود / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧٥.

(٣) د / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ، الصفحة نفسها.

(٤) ينظر : التفسير والمفسرون (١ / ١٣٢).

٢٣٠

مسعود ... وهكذا (١).

وعموما ، فإن التفسير في عهد التابعين تطور عما كان عليه في عصر الصحابة ، مما أسهم في بلورته في المرحلة التالية.

المرحلة الرابعة : التفسير في عصور التدوين :

وهذه المرحلة تبدأ مع ظهور تدوين العلوم في أواخر عصر بني أمية وبداية عصر العباسيين ، وفي هذه المرحلة خطا التفسير خطوات أخرى ، نستطيع بلورتها فيما يلي :

الخطوة الأولى : أنه مع ابتداء التدوين لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت أبوابه متنوعة ، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث ، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة ، وآية آية ، من مبدئه إلى منتهاه ، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث ، فجمع بجوار ذلك ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى أصحابه أو التابعين ، ومن هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة ١١٧ هجرية ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ هجرية ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧ هجرية ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هجرية ، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة ٢٠٥ هجرية ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة ٢١١ هجرية ، وآدم بن إياس المتوفى سنة ٢٢٠ هجرية ، وعبد بن حميد المتوفى سنة ٢٤٩ هجرية ، وغيرهم ... وهؤلاء جميعا كانوا من أئمة الحديث ، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبواب الحديث ، ولم يكن جمعا للتفسير على استقلال وانفراد ، وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسندا إليهم ، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شيء منها ؛ ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها (٢).

الخطوة الثانية : انفصل بها التفسير عن الحديث ، فأصبح علما قائما بنفسه ، ووضع التفسير لكل آية من القرآن ، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف ، وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣ ه‍ ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ ه‍ ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة ٣١٨ ه‍ ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍ ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩ ه‍ ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ ه‍ ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

__________________

(١) السابق (١ / ١٣١ ، ١٣٢).

(٢) السابق (١ / ١٤٣ ، ١٤٤).

٢٣١

وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى الصحابة ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور ، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ، ورجح بعضها على بعض ؛ وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة ، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية (١).

وتجدر الإشارة إلى أن التفسير إذا كان قد انفصل عن الحديث ، فإنه ليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به ، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته ، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية ، كانت الخطوة الثانية له هي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث ، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة ، وهي تدوينه على استقلال وانفراد ، فكل هذه الخطوات ، تم إسلام بعضها إلى بعض ، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالثة ، يسيرون على نمط الخطوة الثانية ، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث ، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن الصحابة أو عن التابعين (٢).

الخطوة الثالثة : تجاوز التفسير حدود التفسير بالمأثور ، بعد ما كان مقصورا على ذلك ، فصنف في التفسير خلق كثير ، اختصروا الأسانيد ، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها ، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل ، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح ، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم ، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة ، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير (٣).

الخطوة الرابعة : وهي خطوة أوسع من سابقتها ، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا ، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورا على رواية ما نقل عن سلف الأمة تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي ، وتدرج ذلك تدرجا واضحا ، فبدأ أولا التفسير العقلي على هيئة محاولات فهم شخصي ، وترجيح لبعض الأقوال على بعض ، وكان هذا أمرا مقبولا ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية ، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم ، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة ،

__________________

(١) السابق (١ / ١٤٤).

(٢) السابق (١ / ١٤٤ ، ١٤٥).

(٣) السابق (١ / ١٤٧).

٢٣٢

حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة ، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم (١).

ثم إن ما ظهر من مذاهب واتجاهات ، وما دون من علوم ، وما ترجم منها ، أدى إلى اختلاط التفسير بغيره من العلوم ، وتلونه بالمذاهب المختلفة ، فكل فسر القرآن الكريم حسب ما يتمشى مع فكره ومذهبه ، ويساير اتجاهه.

غير أنه يجب التنبيه إلى أن التفسير العقلي لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب ، فقد وجد من العلماء من استطاع في كل العصور مقاومة طغيان التفسير العقلي ، ففسر القرآن الكريم تفسيرا نقليا بحتا ، أو فسره تفسيرا نقليا مختلطا بالتفسير العقلي.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اهتم بموضوعات معينة في القرآن الكريم ، فابن القيم مثلا أفرد كتابا سماه «التبيان في أقسام القرآن» ، وأبو عبيدة أفرد كتابا سماه «مجاز القرآن» ، وألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ ، وبعضهم في أسباب النزول ، وبعضهم في أحكام القرآن ، وبعضهم في إعراب القرآن.

* * *

__________________

(١) ينظر : السابق (١ / ١٤٨).

٢٣٣

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

في زماننا بدأ يظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي ، وهو يعني أمرين :

الأول : أنه يعني الوحدة الموضوعية ، أي : أن بناء السورة الكريمة من سور القرآن الكريم يتناول في معظمه موضوعا واحدا ، تقوم السورة الكريمة على بيانه والإلحاح عليه من أولها إلى آخرها ، وقد يتخلل ذلك موضوعات أخرى أو إشارات إلى موضوعات أخرى ، ولكن يبقى الخيط العام في السورة وموضوعها واضحا ، ونادرا ما تقتصر سورة من سور القرآن على موضوع واحد ، وذلك من مميزات أسلوبه الفريد وإعجازه الواضح ، ومع هذا يبقى الموضوع الكبير وتفاصيله واضحا في بناء السورة الكريمة ، صغيرة كانت أو كبيرة.

يمثل ذلك سورة يوسف فإن موضوعها قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ منذ ولادته والرؤيا التي رآها إلى وفاته (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

ومع أن قصة يوسف هي موضوع السورة الأكبر ، وأن وحدة الموضوع وعناصره بادية في السورة من أولها إلى آخرها إلا أن الأسلوب القرآني المعجز يدخل في ثنايا ذلك موضوعات أخرى لا تخل بوحدة موضوع السورة ، ولكنها تضيف إليه التقدير والتعظيم.

فالموضوع الأكبر هو قصة يوسف ، وقد تم سردها بدقة وإحكام ، والموضوع الآخر إثبات صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به من القرآن الكريم ، فهو وحي من عند الله ومعجز لأمته ، وبين هذين الموضوعين تعرضت آيات القصة لكثير من القيم والتوجيهات الدينية ، وقد أفاد كل ذلك في بناء الموضوع ووحدته.

الأمر الثاني :

وهو سابق على الأمر الأول المتمثل في الوحدة الموضوعية في السورة ، فهناك محاولات سابقة للعلماء للربط بين الآيات وبيان المناسبة بين كل آية وآية مما يعد لبنة في تلك الدراسة ، فخصص السيوطي لذلك فصلا في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» سماه : «مناسبة الآيات» قال فيه كلاما طيبا لا يبعد كثيرا عما يسمى بالوحدة الموضوعية ، بل وهناك محاولات لبيان مناسبة السورة مع التي قبلها.

وقد تطور هذا الأمر ، فأصبح التفسير الموضوعي يعني «جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع الواحد لفظا أو حكما ، وتفسيرها حسب المقاصد

٢٣٤

القرآنية».

وأطلق التفسير الموضوعي على جميع الأشباه والنظائر في القرآن الكريم حسب مادة الكلمة ، ثم ترتيبها ترتيبا معجميا ، وذلك كما صنع الفقيه الدامغاني في كتابه : «إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم».

ونستطيع القول : إن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هو معرفة مراد الله تعالى من كلامه الكريم في آيات عديدة يجمعها موضوع واحد ، وذلك بقدر الطاقة البشرية والعلوم المعنية (١).

ولكن مما ينبغي إبرازه أن التفسير الموضوعي وجد منذ عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس وليد العصر الحاضر ، وذلك لسببين :

الأول : أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ، فما أجمل في موضع فصل في موضع آخر ، وما أبهم في موضع بين في موضع آخر ، وهكذا ، وفي ذلك يقول السيوطي عند حديثه عن شروط المفسر وآدابه : «قال العلماء : من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن ، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه ، وقد ألف ابن الجوزي كتابا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه» (٢).

والسبب الثاني : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استخدم هذا الأسلوب في بيان وتفسير ما أشكل على الصحابة من القرآن الكريم ، حيث ضم الآيات إلى بعضها ؛ ليتضح المعنى ويتبين المراد ، فمن ذلك أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لما سمعوا قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢] خافوا وظنوا أنهم قد حرموا الأمن والأمان ؛ لأن الظلم واقع من كل إنسان لا محالة ، حتى ظلمه لنفسه ، فذهبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فزع وخوف ، فطمأنهم ، وبين لهم أنهم في أمن وأمان ؛ لأن الظلم المراد في الآية هو الشرك ، وتلا عليهم قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فاطمأنت نفوسهم بذلك (٣).

وقد سار الصحابة على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فكانوا يجمعون آيات القرآن

__________________

(١) ينظر فيما سبق : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي (دار الهداية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى ١٤٢٢ ه‍ ـ ٢٠٠٢ م) ص ١٠ وما بعدها.

(٢) الإتقان (٢ / ١٧٥).

(٣) ينظر : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي ص ١٩ ، ٢٠.

٢٣٥

الكريم ؛ ليستنبطوا الحكم الصحيح وقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن دور علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في التفسير أنه يعد ـ بحق ـ واضع اللبنة الأولى للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم ، ومن أمثلة ذلك ـ أيضا ـ ما سبق أن ذكرناه عن ابن عباس وعمر بن الخطاب في توقع موعد ليلة القدر ، فقد أخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة ، فذكروا ليلة القدر ، فتكلم كل بما عنده ، فقال عمر : ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة ، قال ابن عباس : فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله وتر يحب الوتر ، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع ، وخلق أرزاقنا من سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، وخلق فوقنا سماوات سبعا ، وخلق تحتنا أرضين سبعا ، وأعطى من المثاني سبعا ، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع ، وقسم الميراث في كتابه على سبع ، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع ، وطاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكعبة سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ورمى الجمار سبعا ، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان ، فتعجب عمر ، وقال : ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه (١).

وقد توالت الجهود وتتابعت في التفسير الموضوعي حتى أصبح مصطلحا معروفا واتجاها واضحا في التفسير في العصر الحديث ، حيث وجدنا من العلماء من يتناول بالتفسير سورة واحدة ، كما فعل الدكتور محمد البهي في تفسير سورة يوسف وإبراهيم وغيرهما ، ومنهم من تناول بالتفسير موضوعا من موضوعات القرآن ، فجمع آياته المتفرقة وقام بتفسيرها في كتاب واحد ، كما فعل الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه «الأخلاق في القرآن الكريم» ، والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه «الصبر في القرآن الكريم» ، ومن قبل : الشيخ محمد رشيد رضا في «الوحي المحمدي» وتوالت الكتب المختصة بهذا الشأن ، حتى وجدنا بعض العلماء كالشيخ الغزالي يؤلف مباشرة تحت عنوان «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم».

وقد بلغ من شهرة هذا الاتجاه أن أصبح شعبة دائمة في منظمة المؤتمر الإسلامي ، وصدرت عنها عدة بحوث كان لها الأثر الكبير في التعريف بالقرآن والإسلام لدى غير المسلمين ، مما أسفر عن إعجاب الكثير بالإسلام وإعلان إسلامهم (٢).

إذن فإن التفسير «تفسير القرآن الكريم» مر بمراحل متعددة حتى صار إلى ما نراه الآن ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي ص ٢٤.

٢٣٦

ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا ، وهو : هل صار التفسير علما بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟

عرض الدكتور الذهبي ـ رحمه‌الله ـ لهذه المسألة ، فقال : يرى بعض العلماء : أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد ؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية ، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله ، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها.

ويرى بعض آخر منهم : أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية ، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد ؛ فيتكلف له التعريف ، فيذكر في ذلك علوما أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن ، كاللغة : والصرف ، والنحو ، والقراءات ... وغير ذلك (١).

والحق الذي يصدق الواقع ، وتشهد به التفاسير الكثيرة ، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المنضبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك ، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم ، وأيضا : فإن فيه كثيرا من القواعد الكلية التي يتدرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه ، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء الله ، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن.

وكونه مفتقرا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلا من كونه علما متكاملا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم ، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبديهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علما قائما برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض.

كما أن كونه بيانا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علما قائما بذاته ، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا ، ثم لم يمنع ذلك من عده علما ، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى ، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق (٢).

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٥ ، ١٦).

(٢) د / إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج المفسرين ص ٢٦ ، ٢٧.

٢٣٧

الفصل الثاني

مدارس تفسير القرآن الكريم

قلنا : إن المدارس التفسيرية تبلورت في عصر التابعين ، فظهرت عدة مدارس ، لكل مدرسة منها أسلوبها وطريقتها ومنهجها في تفسير القرآن الكريم ، اضطلع بالتفسير فيها أئمة كبار من أهل العلم.

يقول الدكتور الذهبي : فتح الله على المسلمين كثيرا من بلاد العالم في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عهود الخلفاء من بعده ، ولم يستقروا جميعا في بلد واحد من بلاد المسلمين ، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى ، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام ، وكان منهم الولاة ، ومنهم الوزراء ، ومنهم القضاة ، ومنهم المعلمون ، ومنهم غير ذلك.

وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها ، ما وعوه من العلم ، وما حفظوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم ، وينقلونه لمن بعدهم ، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية ، أساتذتها الصحابة ، وتلاميذها التابعون.

واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير ، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة ، فقامت مدرسة للتفسير بمكة ، وأخرى بالمدينة ، وثالثة بالعراق ، وهذه المدارس الثلاث ، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد (١).

ويمكننا القول : إن أصل هذه المدارس ، وأعلمها بالتفسير هي مدرسة مكة ؛ لأن شيخها وأستاذها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، كان نسيج وحده في التفسير ، فكان أعلم الناس به ، وكان تلاميذه أعلم التابعين به أيضا ؛ ولذلك يقول ابن تيمية : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم (٢).

ونحاول في الصفحات الآتية الوقوف أمام أبرز مدارس التفسير ؛ لبيان خصائصها

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٢) ، وينظر : الإسرائيليات والموضوعات في التفسير ص ٩٢ ، ٩٣.

(٢) ينظر : مقدمة في أصول التفسير ص ٦١.

٢٣٨

وسماتها والمفسرين الذين يمثلونها وينتمون إليها.

أولا : المدرسة المكية :

واضع بذور هذه المدرسة ومؤسسها الأول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ترجمان القرآن وحبر الأمة ، فقد جلس لتلاميذه يفسر لهم ما غمض من القرآن ويوضح لهم ما أشكل عليهم من معانيه ، وكان جلوسه لهم بمكة ، وقد اجتمع حوله كثير من التلاميذ الذين وعوا ما يقوله ورووه لمن جاء بعدهم ، وقد اشتهر من هؤلاء التلاميذ : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح.

ولكي نعرف بالمدرسة المكية لا بد لنا من دراسة خصائصها وسماتها في التفسير ، ثم بيان دور تلاميذها وما قاموا به في التفسير مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم ، فنقول (١) :

تتسم المدرسة المكية في التفسير بعدة سمات ، أبرزها ما يأتي :

أ ـ الرواية :

قامت هذه المدرسة على الرواية عن ابن عباس ، فروى عنه سعيد بن جبير وسمع منه التفسير وأكثر من روايته عنه (٢).

وروى مجاهد والفضل بن ميمون وعكرمة وطاوس وعطاء بن أبي رباح ، وكانت رواية هؤلاء الأعلام أكثرها عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومن ثم تأثروا به وبمنهجه في التفسير.

ومما يدل على رواية هؤلاء الأعلام عن ابن عباس ما رواه الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة (٣).

وروي عنه ـ أيضا ـ أنه قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم نزلت ، وكيف كانت (٤)؟

ولا تعارض بين هاتين الروايتين ؛ لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير ، فلعله

__________________

(١) لن نترجم للصحابة المؤسسين للمدارس التفسيرية ، لأمرين : أولهما : أنه قد سبقت ترجمتهم في الفصل الأول من هذه الدراسة ، وثانيهما : أنه برغم دور الصحابة الكبير في تأسيس المدارس التفسيرية ، فإن الفضل الأكبر يرجع في بلورتها إلى تلاميذهم من التابعين ومن جاء بعدهم.

(٢) ينظر : وفيات الأعيان لابن خلكان (١ / ٢٠٤).

(٣) ينظر : ميزان الاعتدال (٣ / ٩).

(٤) ينظر : تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٢).

٢٣٩

عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ؛ لتمام الضبط ، ودقة التجويد وحسن الأداء ، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات ؛ طلبا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره ، وخفي من معانيه ، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية (١).

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله حبيب بن أبي ثابت : «اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما ، جعل يقول : أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا» (٢).

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله ابن عباس نفسه عن عطاء بن أبي رباح : «تجتمعون إليّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟!» (٣).

وهذا إن دل على رواية عطاء ، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم ، حتى إن ابن عباس ـ وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ـ يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح.

وخلاصة القول : إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير ، فمثل ما روى الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفسير ، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالأخص عن ابن عباس رضي الله عنهما.

هذا ، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عباس والصحابة وحسب ، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم ، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (٤).

لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب ، كلا ، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه ، ولم يخالف بيّنا مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب ، ورأس مدرستهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما

__________________

(١) ينظر : د / الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٠٦ ، ١٠٧).

(٢) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٣) التفسير والمفسرون (١ / ١١٥).

(٤) السابق (١ / ١٠٧).

٢٤٠