تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

والاختلاف في هذه المسألة اختلاف حول الإجابة عن سؤال مهم ، ألا وهو :

هل يسعد الشقي أم لا ، وهل يشقى السعيد أم لا؟ حيث اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في الإجابة عن هذا السؤال.

فعند الماتريدية :

يرى الماتريدية أن السعادة والشقاوة تكونان في الحال ، وليستا أزليتين ، وبذلك يكون السعيد عندهم هو المؤمن في الحال ، ولو مات على الكفر فقد انقلب شقيّا بعد أن كان سعيدا ، والشقي هو الكافر في الحال ، ولو مات على الإيمان فقد انقلب سعيدا (١).

أما عند الأشاعرة :

فمفهوم السعادة عندهم هو الموت على الإيمان ، وذلك ـ باعتبار تعلق علم الله ـ تعالى ـ أزلا بذلك.

وكذلك فالشقاوة عندهم هي الموت على الكفر.

وبذلك يكون السعيد عندهم سعيدا في الأزل ، والشقي شقيّا في الأزل ، ولا يتبدل السعيد شقيّا ، أو الشقي سعيدا (٢).

والحق أن الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة خلاف لفظي ، ومحصور في مسألة بعينها ألا وهي : حال من أسلم بعد الكفر : هل هو شقي أم سعيد؟ والفريقان متفقان على أنه سعيد بإسلامه ، لكنهم قد اختلفوا فيما إذا كان قد تبدل بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة أم أنه سعيد أزلا في علم الله تعالى ، وليس هناك تبدل ، والكفر عرض له.

فقد ذهب الماتريدية إلى أنه قد تحول بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة ، وذلك غير مخالف لما في علم الله أزلا.

أما الأشاعرة : فقد ذهبوا إلى أنه سعيد ، ولم يتبدل حاله من حيث السعادة والشقاوة ، فهو في حالة الكفر كان سعيدا أيضا تبعا للخاتمة (٣).

* * *

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري (٢١٢ ، ٢١٣).

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة ، لأبي الحسن الأشعري (٢٢٥).

(٣) انظر : الروضة البهية (ص ٨٩ ، ٩٠).

١٦١

المسألة الثانية

حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل

قبل عرض المسألة والخلاف فيها ينبغي أولا أن نعرف بالرسول في اللغة والاصطلاح ، والفرق بينه وبين النبي.

ففي اللغة :

الرسول : يقال : أرسلت رسولا ، أي : بعثته برسالة يؤديها ، فهو فعول بمعني مفعول (١).

وفي الاصطلاح :

الرسول : هو من اختصه الله بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي ، وأمر بتبليغه (٢).

الفرق بين الرسول والنبي :

النبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر ؛ لإنبائه عن الله ـ تعالى ـ إذ هو المتلقي لوحي السماء ، وهو ـ اصطلاحا ـ : من اختصه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا.

وبذلك يكون الفرق بين الرسول والنبي أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.

ولقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل على ما يلي :

الماتريدية :

وعندهم أن الرسل والأنبياء يظلون كذلك حتى بعد موتهم (٣).

وأما الأشاعرة :

فيرون أن الأنبياء والرسل بعد موتهم في حكم الرسالة ، وحكم الشيء يقوم مقام أصله (٤).

وبذلك يتضح أن الفريقين يتفقان في أصل المسألة وهي أن الرسالة باقية إلى الآن ، لكن الخلاف فيما إذا كانت الرسالة باقية حقيقة أم في حكم الرسالة (٥).

__________________

(١) انظر : لسان العرب مادة (ر س ل) (١٣ / ٢٩٨).

(٢) انظر : أصول الدين للبغدادي (ص ١٥٤).

(٣) انظر : بحر الكلام لأبي المعين النسفي (ص ٦٥ ، ٦٦).

(٤) انظر : الإنصاف للباقلاني (ص ٦٢).

(٥) انظر : الروضة البهية (ص ١٠٥) وما بعدها.

١٦٢

المسألة الثالثة

الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا

الإرادة : في اللغة والاصطلاح :

في اللغة :

الإرادة : هي القصد ، والمشيئة ، يقال : أراد كذا ، أو شاء كذا ، أي : قصده (١).

وفي الاصطلاح :

هي صفة ثبوتية قديمة قائمة بذاته تعالى وزائدة عليها ، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة (٢).

وقد اختلف السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة بعد اتفاقهم على أن الله تعالى مريد ، وأن ما يقع في الكون من خير وشر فهو مراد له تعالى ـ في أنه : هل هناك تلازم بين الإرادة والرضا بالمراد أم لا؟

فالماتريدية :

يثبتون إرادة الله تعالى الشاملة لأفعال العباد ؛ لأن أفعال العباد من خلقه تعالى ، والقول بعدم إرادة الله الشاملة معناه عدم قدرة الله على أفعالهم ، فالقول بالقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والعلم المطلق لازم لتمام صفات الألوهية.

غير أن الماتريدية يقولون : إنه لا محبة في صفة الإرادة ، وأن هذه الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة ؛ إذ الكفر غير مرض ، وهو مراد لله تعالى ، وأن الإرادة والمشيئة لفظان مترادفان ، كما أن إرادة الله صفة أزلية ليست حادثة ، وهي متعلقة بجميع الممكنات تعلق تخصيص ، ويترتب على ذلك نفي التلازم بين الإرادة والرضا والمحبة ؛ لأن الماتريدية يرون أن معنى الرضا ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه ، ومعنى المحبة استحماده تعالى له ، والإرادة عامة. وبذلك يكون بين الإرادة والرضا والمحبة عموم وخصوص وجهي (٣).

__________________

(١) لسان العرب مادة (ريد)

(٢) شرح المقاصد (٢ / ٦٩) ، المحصل (ص ١٢١) ، شرح الجوهرة (ص ٧٨) ، أبكار الأفكار (ص ٢٢٨).

(٣) انظر : التمهيد لقواعد التوحيد (٢٠) وتحقيق الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (ص ١٢٤).

١٦٣

أما الأشاعرة :

فيرون أن الإرادة هي الرضا والمحبة ؛ إذ المحبة هي الإرادة والرضا كذلك معناه الإرادة ، والإرادة تستلزم الرضا والمحبة ، وبهذا تكون الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والاختيار كلها بمعنى واحد ، مثلما يكون المعرفة والعلم بمعنى واحد.

وفي هذا يقول الإمام البغدادي في المسألة السادسة :

أجمع أصحابنا أن إرادة الله تعالى مشيئته واختياره ، وعلى أن إرادته للشيء كراهيته لعدم ذلك الشيء كما قالوا : إن أمره بالشيء نهي عن ضده ، وقالوا أيضا : إن إرادته صفة أزلية قائمة بذاته ، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع مراداته على وفق علمه بها فما علم منها كونه أراد كونه ، خيرا كان أو شرّا وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. ولا يحدث في العالم شيء لا يريده الله ولا ينتفي ما يريده الله ؛ وهذا معنى قول المسلمين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (١).

والحق أن الفريقين يتفقان في أصل الإرادة ويختلفان في المراد ، ويرجع هذا الخلاف إلى الجهة التي نظر منها كل منهما إلى مفهوم الإرادة ، فالماتريدية نظروا إلى جهة العلم ، وبذلك فقد ذهبوا إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضا ؛ إذ ليس هناك تلازم بين الإرادة والرضا ، بينما نظر الأشعرية إلى أنها عامة وشاملة للكائنات كلها ، وبذلك ذهبوا إلى أن كل مراد مرض ، وهناك تلازم بين الإرادة والرضا (٢).

المسألة الرابعة

الاستثناء في الإيمان

التعريف بالإيمان في اللغة والاصطلاح :

الإيمان في اللغة :

الإيمان : التصديق ، وهو ضد الكفر ، والتصديق ضد التكذيب ، من : آمن بالشيء ، يؤمن به ، إيمانا ، فهو مؤمن (٣) قال الله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧].

__________________

(١) أصول الدين ، البغدادي (ص ١٠٢).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١١٧) ، وما بعدها.

(٣) انظر : لسان العرب ، مادة (أ م ن) (١ / ١٤٠ ـ ١٤٤) القاموس المحيط (ص ١٩٧).

١٦٤

الإيمان في الاصطلاح :

لقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في التعريف بالإيمان ومفهومه في الشرع على ما يلي :

مفهوم الإيمان عند الماتريدية :

يعرف الماتريدية الإيمان بأنه «تصديق بالقلب وإقرار باللسان» (١).

مفهوم الإيمان عند الأشاعرة :

ويعرفه الأشعرية بأنه «التصديق بالله تعالى» ، وهذا هو ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري ، وقد حدد المقصود بالتصديق بأنه التصديق القلبي ، وهذا التصديق القلبي عند الأشاعرة هو : «الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات وأنه ليس كمثله شيء» (٢).

الاستثناء عند الماتريدية :

ذهب الماتريدية إلى منع دخول الاستثناء في الإيمان ، فالمؤمن عندهم يكون مؤمنا حقّا ، وليس مؤمنا بالمشيئة ؛ وذلك لأن الماتريدية يرون أن الاستثناء شك في إيمان المؤمن وشرائطه التي لا تقبل الشك.

يقول الإمام الماتريدي : الأصل عندنا قطع القول بالإيمان والتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه ؛ لأن كل معنى في اجتماع وجوده تمام الإيمان عندهم إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى ؛ نحو أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله إن شاء الله ، أو : محمدا رسول الله إن شاء الله ، وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب ... فالعرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه ـ أي : الاستثناء ـ في موضع الإحاطة والعلم ، ومن سمع ذلك استعظم القول ، كمن أشار إلى محسوس ويستثني (٣).

الاستثناء عند الأشاعرة :

يذهب الأشاعرة إلى جواز الاستثناء في الإيمان ، فيمكن للمؤمن أن يقول :

أنا مؤمن إن شاء الله.

يقول الإمام البغدادي : كل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر ، ملا علي القاري (ص ١٢٤).

(٢) انظر : اللمع ، لأبي الحسن الأشعري ، (ص ١٢٣).

(٣) انظر : التوحيد للماتريدي (ص ٣٨٨ ، ٣٨٩).

١٦٥

قال بالموافاة ، وكل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن ، ومن وافى بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنا ، والواحد من هؤلاء يقول : أعلم أن إيماني حق وضده باطل ، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقّا ، فيستثني في صحة إيمانه (١).

وبذلك يظهر أن محل الخلاف هو أن الماتريدية لا يجيزون الاستثناء في الإيمان ، بينما الأشعرية يجيزون ذلك.

المسألة الخامسة : إيمان المقلد

وقع اختلاف بين السادة الماتريدية والسادة الأشاعرة في صحة إيمان المقلد ، وكذلك صحة تسميته مؤمنا ، وهل يكتفي بالتقليد في العقائد الدينية أم لا؟

فالماتريدية :

يذهبون إلى القول بصحة إيمان المقلد ؛ لأن مع هذا الإيمان تصديقا ، والتصديق هو أصل الإيمان ، وعند الماتريدية يصح الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدينية ، إلا أن المقلد يعد عاصيا بتركه للنظر إذا كان قادرا على ذلك ؛ ولذلك قيل : إن النظر واجب وجوب الفروع ، وليس وجوب الأصول ، وإلا كان هذا المقلد كافرا.

يقول أبو منصور الماتريدي :

«ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي ، ولكن إذا بنى اعتقاده على قول الرسول ، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كاف لصحة إيمانه» (٢).

أما الأشاعرة :

فإنهم يقولون بأنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدينية ، ولكن لا بد من الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل ؛ لأن الإيمان من المسائل الأصولية ، وهذه قليلة يمكن الإحاطة بها ، وتكفي فيها المعرفة على الإجمال ، ولا يشترط عندهم القدرة على التعبير عن ذلك ؛ لأننا مأمورون بأن نتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرسول ـ عليه‌السلام ـ مأمور بتحصيل العلم بتلك الأصول ، والتصديق لا يوجد بدون العلم والمعرفة ، والمقلد لا علم له حتى يحصل عنده التصديق ، فإن لم يحصل هذا التصديق عنده فلا يحصل الإيمان.

__________________

(١) انظر : أصول الدين للبغدادي (ص ٢٥٣) ، وانظر كذلك الروضة البهية (ص ٦٠) وما بعدها.

(٢) أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (ص ٣٨٧).

١٦٦

ويذهب الأشاعرة إلى أن المقلد عاص بتركه النظر والاستدلال ، ولكنه ليس مشركا أو كافرا ، ويجوز أن الله تعالى يغفر له ، فإذا عوقب على المعصية دخل الجنة.

يقول البغدادي :

إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر ؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان ، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه ، وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها» (١).

والمتأمل للمسألة يرى أن الماتريدية والأشعرية يتفقان على أن المقلد قد خرج بتقليده عن الكفر والشرك ، لكنهما يختلفان في تسمية المقلد مؤمنا أو لا ، فالماتريدية يسمونه مؤمنا ، بينما يمنع الأشعرية ذلك (٢).

المسألة السادسة : الكسب

الكسب : هو ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ ، وقد يستعمل فيما يظن أنه يجلب منفعة ثم جلب مضرة.

وقال ابن الكمال : هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر (٣).

وينبغي ذكر أن السادة الماتريدية قد اتفقوا مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى ، وللعباد فيها الكسب ، لكن الماتريدية يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب.

فالماتريدية :

يثبتون للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل ، ولا أثر لها في الإيجاب والإحداث ، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، وتتمثل هذه القدرة في القصد والاختيار للفعل ، والله سبحانه وتعالى يخلق للعبد القدرة على الفعل ، وتكون نتيجة الفعل عليه (٤).

وبذلك يثبت الماتريدية أن للعبد اختيارا في أفعاله ، وهذه الأفعال هي التي يترتب عليها

__________________

(١) أصول الدين للبغدادي (ص ٢٥٥) ، أصول البزدوي (ص ١٥٢).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٤٤).

(٣) انظر : تعريفات ابن الكمال (ص ١٤٥).

(٤) انظر : أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (ص ٤٣٢).

١٦٧

المدح والذم في الدنيا ، كما يترتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة ، ولم يمنع الماتريدية إضافة الأفعال إلى الله تعالى ؛ إذ إنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.

أما الأشاعرة :

فيذهبون إلى أن قدرة العباد التي وقع بها الفعل غير مخلوقة ، وأن أمرها بأيديهم ، وعليها مدار تكليفهم. والإرادة عند الأشاعرة هي الإرادة الجزئية ، أما الإرادة الكلية عندهم فهي مخلوقة لله تعالى (١).

المسألة السابعة

الكافر منعم عليه أم لا؟

التعريف بالنعمة والكفر في اللغة والاصطلاح :

أ ـ اللغة :

النعمة : هي اليد والصنيعة والمنة ، وكذلك : النعمى ، وهي النعماء والنعيم ، والجمع : أنعم.

أما الكفر : فهو نقيض الإيمان ، يقال : كفر يكفر كفرا وكفورا وكفرانا (٢).

ب ـ في الاصطلاح :

النعمة : ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض.

أما الكفر : فهو ستر نعمة المنعم بالجحود أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم (٣).

وقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة فيما إذا كان الكافر منعما عليه أم لا ، وكذلك في هذه النعمة وهل هي نعمة دين أم دنيا أم هما معا ، وهل هي نعمة على الحقيقة أم لا؟ وذلك على ما يلي :

رأي الماتريدية :

يرى الماتريدية أن الكافر منعم عليه ، لكن هذا الإنعام إنما وقع في الدنيا فقط.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف للجرجاني (٨ / ١٤٦) وما بعدها ، وانظر كذلك : الروضة البهية (ص ١٤٦) وما بعدها.

(٢) انظر : لسان العرب مادة (ن ع م) (٢ / ٥٧٩).

(٣) التعريفات للجرجاني (ص ٢١٧).

١٦٨

يقول الإمام أبو حنيفة : إن الكافر منعم عليه في الدنيا ، حيث خوله الله تبارك وتعالى قوى ظاهرة وباطنة ، وجعل له أموالا ممتدة ، فالنعمة دنيوية والنقمة أخروية (١).

رأي الأشاعرة :

ويرى الأشاعرة أن الكافر لم ينعم عليه لا في الدين ولا في الدنيا ولا في الآخرة.

يقول الأشعري : إن الله تعالى لم ينعم على الكافر دنيا ولا أخرى ، وإن كان قد أنعم عليه نعمة الدنيا بأن خلقه ورزقه ، فإن الحياة في حد ذاتها نعمة بشرط أن يكون الإنسان موفقا في طاعة الله تعالى ، فإذا وجدت تلك النعمة مع فقد التوفيق في المكلف فليست الحياة نعمة إطلاقا.

ونرى أن الخلاف بين الفريقين في هذه المسألة ليس خلافا كبيرا ذلك أن الماتريدية القائلين بأن الكافر منعم عليه إنما يعنون النعم التي يعطاها الكافر في الدنيا حتى ولو لم تكن عقباه محمودة.

أما الأشاعرة الذين يقولون بأن الكافر غير منعم عليه فقد حصروا النعمة في مجال خاص ، إذ قصدوا بالنعمة ما ينعم به على الإنسان ويكون محمود العاقبة ، والمتأمل للمسألة يجد أن الفريق الأول ـ وهم الماتريدية ـ قد نظر إلى النعم نظرة خاصة لمفهوم النعم ذاته ، وبينما نظر الفريق الثاني ـ وهم الأشاعرة ـ إلى هذا المفهوم ـ وهو مفهوم النعم ـ نظرة أخرى (٢).

ثانيا : المسائل المختلف فيها معنويّا :

المسألة الأولى

التكليف بما لا يطاق

التكليف : في اللغة والاصطلاح :

التكليف في اللغة :

التكليف من الكلفة ، وهي التعب والمشقة ، يقال : تكلف الأمر إذا فعله على كلفة ومشقة (٣).

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري (ص ١٩٠).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٠١).

(٣) انظر : لسان العرب (ك ل ف) (٩ / ٣٠٦ ـ ٣٠٨).

١٦٩

التكليف في الاصطلاح :

التكليف هو : إلزام الكلفة على المخاطب (١).

وقبل أن نبين رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة فإن ثمة أقساما وأركانا للتكليف يجب أن نعرضها وهي :

أقسام التكليف :

ينقسم التكليف باعتبار اللفظ الوارد به ، أو باعتبار الحكم :

فباعتبار اللفظ الوارد به يكون ثلاثة أقسام :

الأول : التكليف بالأمر ، مثل قول الله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣].

الثاني : التكليف بالنهي ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢].

الثالث : التكليف بالخبر ، وهو إما خبر في معنى الأمر ؛ مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أو خبر في معنى النهي ؛ مثل قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩].

أما باعتبار الحكم فيكون خمسة أقسام :

الأول : تكليف موجب ؛ مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣].

الثاني : تكليف محرم ؛ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢].

الثالث : تكليف يدل على أن ما ورد به سنة ؛ مثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١].

الرابع : تكليف يدل على أن ما ورد به مكروه ؛ مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق» (٢).

__________________

(١) انظر : التعريفات (ص ٥٨).

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٦٦١ ـ ٦٦٢) كتاب الطلاق باب في كراهية الطلاق (٢١٧٨) ، وابن ماجه (٣ / ٤٢٦) كتاب الطلاق باب حدثنا سويد بن سعيد (٢٠١٨) والحاكم (٢ / ١٩٦) ، وصححه البيهقي (٧ / ٣٢٢) ، وابن عدي في الكامل (٦ / ٤٦١ ـ ٤٦٢) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (٢ / ٦٣٨) من طرق عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر ... فذكره.

وقال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح. وذكره العلامة الألباني في الإرواء (٧ / ١٠٦) وقال : ضعيف.

قلت : قد ورد الحديث مرسلا عن محارب بن دثار.

أخرجه أبو داود (٢١٧٧) بلفظ : ـ

١٧٠

الخامس : تكليف يدل على إباحة ما ورد به من غير وجوب ولا حظر ولا كراهة ولا استحباب ؛ مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧].

أركان التكليف :

وللتكليف ثلاثة أركان :

الأول : المكلّف.

الثاني : المكلّف.

الثالث : المكلّف به.

مراتب التكليف :

وهما مرتبتان :

الأولى : التكليف بما يطاق.

الثانية : التكليف بما لا يطاق.

أما رأي الماتريدية والأشاعرة في المسألة فهو كما يلي :

الماتريدية :

يذهبون إلى عدم جواز أن يكلف الله تعالى عباده بما لا يطيق العباد ، فالماتريدية يرون أن التكليف يكون فيما يقدر على إتيانه ، أما غير المقدور على إتيانه فلا تكليف فيه.

يقول الماتريدي : «تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل».

الأشعرية :

ويذهب الأشاعرة إلى أن قدرة الله تبارك وتعالى قدرة مطلقة ، ويجوز لله أن يكلف عباده بما لا يطيقون.

يقول أبو بكر الباقلاني : «يجوز لله أن يكلف عباده ما لا يطيقون ، إلا أن التكليف بما لا يطاق على نوعين :

أحدهما : العجز أصلا عن الفعل ، وذلك ينتفي التكليف به لوجود مانع ، وهو العجز.

الثاني : إذا كان المراد عدم القدرة على الفعل لتركه والاشتغال بضده ، فذلك جائز

__________________

ـ «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» ورجح أبو حاتم في العلل (١ / ٤٣١) الرواية المرسلة على الموصولة حيث قال : إنما هو محارب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل.

١٧١

التكليف به لارتفاع العجز المانع أصلا» (١).

وبعد عرض رأي كل من الماتريدية والأشعرية يظهر لنا أن الماتريدية والأشعرية متفقون في حكم أقسام التكليف ما عدا التكليف بالمحال لغيره ، وهو أدنى مراتب التكليف بما لا يطاق ، فقد ذهب الماتريدية إلى منعه إلا في المقدور على إتيانه ، أما ما لا يمكن إتيانه فلا تكليف فيه ، لكن الأشعرية قد ذهبوا إلى جوازه ؛ لأن قدرة الله تعالى قدرة مطلقة (٢).

المسألة الثانية : الثواب والعقاب

من الواضح أن كلّا من السادة الماتريدية والأشاعرة يتفقان في القول بعدم جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي.

أما محل الخلاف بينهما فهو في المدرك ، حيث ذهب الماتريدية إلى أن المدرك لذلك هو العقل والشرع.

وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن المدرك لذلك هو الشرع.

وقد ترتب على ذلك أن الماتريدية منعوا جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي ، بينما أجاز ذلك الأشعرية ، وفي ذلك خلاف سنفصل القول فيه على ما يلي :

الماتريدية :

لقد ذهب الماتريدية إلى القول بمنع تعذيب المطيع عقلا أو شرعا.

يقول الإمام أبو حنيفة : «لا يجوز مطلقا لا عقلا ولا شرعا أن يعذب الله تبارك وتعالى العبد الطائع ؛ إذ لا يجوز في بداهة العقل أن يعذب الله تبارك وتعالى المطيع» (٣).

وجاء في المسايرة لابن الهمام : «القول في تجويز تعذيب المحسن عقلا عدمه ، فوقوع ذلك منه تعالى مقطوع بعدمه وفاقا بالشرع» (٤).

الأشعرية :

أما الأشعرية فيذهبون إلى جواز تعذيب الله تعالى للعبد الطائع وإدخاله النار عقلا ، وإدخال الكافر الجنة ، كما أن الله تعالى إيلام البهائم والأطفال والمجانين ؛ لأنه عدل في حكمه متصرف في ملكه.

__________________

(١) انظر : التمهيد للباقلاني (ص ٢٩٤ ، ٢٩٥).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ٢١٤ ، ٢١٥).

(٣) انظر : شرح الجوهرة المنيفة : شرح الملا إسكندر الحنفي (ص ٣١) ، طبعة الهند لسنة ١٣٢١ ه‍.

(٤) انظر : المسايرة بشرح المسامرة (ص ١٧٤).

١٧٢

يقول أبو عذبة : إنه لو وقع منه ـ سبحانه وتعالى ـ تعذيب العبد الطائع لم يكن ذلك منه ظلما ولا عدوانا ؛ لأنه متصرف في ملكه بالتعذيب وتركه ، فله ما يختار منهما ، لكنه سبحانه وتعالى جاد في حق العباد بالإحسان إليهم بترك العقاب.

وبذلك يظهر أن تعذيب الطائع لا يقع من الله سبحانه وتعالى شرعا عند كل من الماتريدية والأشاعرة ، لكن الأشاعرة يجيزون وقوع ذلك عقلا ؛ لأن الله تعالى متصرف في ملكه (١).

المسألة الثالثة : التكوين

لقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في مسألة التكوين ، فقد أثبتها الماتريدية ، ونفاها الأشاعرة ، كما سيظهر فيما يلي :

الماتريدية :

يقول السادة الماتريدية بأن التكوين صفة حقيقية زائدة غير القدرة والإرادة ؛ إذ هو صفة أزلية ، وغير المكون الحادث ، وقدم التكوين لا يستلزم قدم المكوّن ، وأما كون التكوين غير المكوّن ؛ لأنه لو كان التكوين عين المكوّن لم يكن من الله تعالى شيء يوجب كونه خالقا للعالم سوى أن ذات الباري أقدم من العالم ، وكون ذاته أقدم من غيره لا يوجب كونه خالقا. والقول بأن التكوين عين المكوّن يؤدي إلى قدم العالم ، وكونه بنفسه لا بغيره ، وما لا يحتاج في حصوله إلى غيره كان قديما ، فدل ذلك على أن التكوين غير المكوّن (٢).

يقول الماتريدي : «إن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته ، فيقال : الله خالق ورحمان ورحيم وقد سمى به ذاته».

الأشاعرة :

أما الأشاعرة فيقولون بأن التكوين ليس صفة حقيقية له ، لكنه أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر ، وإضافته إليه ، فهو من صفات الأفعال ، وهي عند الأشعرية حادثة ، لا من الصفات الذاتية ، والتكوين عين المكوّن ، والتخليق هو القدرة

__________________

(١) انظر : نظم الفرائد وجمع الفوائد ، لشيخي زاده (ص ٣٠). وانظر كذلك الروضة البهية (ص ١٥٧) وما بعدها.

(٢) انظر : أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية ، (ص ١٨٥) وما بعدها.

١٧٣

باعتبار تعلقها بالمخلوق ، كما أن الترزيق هو القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق (١).

والمتأمل للمسألة يرى أن الخلاف بين الفريقين راجع إلى المعنى لا إلى اللفظ ، فعند الماتريدية مبدأ الإيجاد عندهم هو صفة التكوين ، وعند الأشاعرة التكوين لا يعد صفة حقيقية لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة ، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر (٢).

المسألة الرابعة : كلام الله تعالى

إن هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام بصفة عامة ، ولقد اشتدت أهميتها بعد الجدل الذي دار حول مسألة قدم القرآن وحدوثه ، والمحن التي تعرض لها علماء كثيرون بسبب ذلك ، وقبل عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة نبين أن ثمة قياسين يعارض كل منهما الآخر :

فالأول : هو أن كلام الله ـ تعالى ـ صفة له ، وكل ما هو صفة له فهو قديم ، وبذلك يكون كلامه تعالى قديما.

وأما الثاني : فهو أن كلام الله تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود ، وكل ما من شأنه ذلك فهو حادث ، ويكون بذلك كلام الله تعالى حادثا.

ولقد اختلف المسلمون وافترقوا بين من قال بصحة القياس الأول ، وبين من قال بصحة القياس الثاني ، حيث نجد أن أهل السنة والحنابلة يقولون بصحة القياس الأول ، بينما يقول المعتزلة ومعهم الكرامية بصحة القياس الثاني.

أما فيما يخص السادة الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة فعلى النحو التالي :

الماتريدية

لقد ذهب الماتريدية إلى أن الكلام صفة لله تعالى ؛ لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ متكلم بكلام واحد ، وهو صفته الأزلية القائمة بذاته ، وهي صفة منافية للسكوت والآفة ، والله سبحانه وتعالى بهذه الصفة آمر ، ناه ، مخبر.

ويرى السادة الماتريدية كذلك أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد ، وإنما تكون على الموافقة والمجاز ، كما يقول المرء : سمعت كلام فلان وقول فلان ، ويكون ذلك على

__________________

(١) انظر : معالم أصول الدين للرازي (ص ٥٩) وما بعدها.

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٩٤ ، ١٩٥).

١٧٤

المجاز وليس على الحقيقة ، وذلك لأنه لم يسمع قول فلان حقيقة ؛ ولم يسمع كلامه وإنما سمع صوتا يفهمه به.

وبناء على ذلك فإن الماتريدية يقولون بأن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسمع كلام الله ، وإنما سمع صوتا دالّا عليه ، ولقد خلق الله تعالى هذا الصوت ، وليس ذلك لأحد من خلقه.

فالماتريدي يرى أن كلام الله القديم لا يسمع ، وأن ما نسمعه من الحروف والأصوات ليست هي كلام الله بذاتها ؛ وذلك لأنها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين (١).

الأشاعرة :

يقول الأشاعرة بأن الكلام إنما يراد به الصفة القديمة.

يقول البيجوري في شرح الجوهرة عن الكلام : «إنه صفة أزلية قائمة بذاته ، ليست بصوت ولا حرف منزهة عن التقديم والتأخير ، ومنافية للسكوت والآفة».

ويقول أبو الحسن الأشعري : «إن كلامه واحد ، هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام» (٢).

ويجب أن يعرف أن الإمام أبا الحسن الأشعري لا ينكر الكلام اللفظي ، وإنما يثبت الكلام النفسي واللفظي ، ويتضح ذلك من قوله : «وأجمعوا على إثبات حياة لله عزوجل لم يزل بها حيّا ، وعلما لم يزل به عالما ، وقدرة لم يزل بها قادرا ، وكلاما لم يزل به متكلما ، وإرادة لم يزل بها مريدا ، وسمعا وبصرا لم يزل بهما سميعا بصيرا» (٣).

ويتضح من عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة أن الماتريدية يتفقون مع الأشاعرة في إثبات صفة الكلام لله تعالى ، وأن الماتريدية يرون أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد ، وإنما تسمع على سبيل الموافقة والمجاز.

ويظهر الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة فيما سمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ أن الماتريدية يذهبون إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسمع كلام الله القديم وإنما سمع أصواتا دلت عليه ، وخص موسى بذلك ؛ لأنه بغير واسطة الكتاب والملك.

__________________

(١) انظر : شرح البيجوري للجوهرة ص (٨٥).

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٨٧ ، ٨٨).

(٣) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد (ص ٣٥٣) وما بعدها بتصرف.

وانظر كذلك : الروضة البهية (١٩٦) وما بعدها.

١٧٥

أما الأشاعرة فيذهبون إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع كلام الله القديم بلا حرف ولا صوت (١).

المسألة الخامسة : معرفة الله تعالى

لقد اتفق علماء الكلام على أن النظر هو طريق المعرفة ، لكن الاختلاف بينهم في طريق ثبوت هذه المعرفة ، وهل هو واجب بالشرع أم بالعقل.

فالماتريدية :

يذهبون إلى أن معرفة الله ـ تعالى ـ واجبة بالشرع ، لكنهم يرون أن العقل آلة لوجوب المعرفة ، والله ـ عزوجل ـ هو الموجب.

ويرى الماتريدية ـ أيضا ـ أن العقل ليس موجبا بذاته ولكنه سبب لوجوب.

يقول الماتريدي : «يجب على الصبي العاقل معرفة الله تعالى ، فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ قد فطر الناس على فطرة يعرفون وحدانيته وربوبيته بعقول مركبة فيهم».

وبذلك يذهب الماتريدي إلى أن العقل هو أساس المعرفة ويعاونه السمع في ذلك ، وقد يسر الله سبحانه السبيل إلى الوصول إلى الدين ، ومعرفة الله تعالى إنما هي عن طريق العقل والسمع ، والعقل هو المختص بمعرفة الله تعالى ، والسمع مختص بمعرفة الشرائع والعبادات.

ويقول أبو منصور الماتريدي في موضع آخر :

«إن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل ، أما معرفة الله ـ تعالى ـ فإن سبيل لزومها العقل ، فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة ؛ لأن الله خلق في كل واحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على وجود الله ووحدانيته وربوبيته ، والله قد بعث الرسل ليقطع عليهم الاحتجاج».

ولا عذر عند الماتريدية في معرفة الله تعالى عند من له عقل ؛ لأن من يملك العقل يستطيع معرفة الله عن طريق التفكر في خلق الكون وما فيه.

أما الأشاعرة :

فيرون أن معرفة الله ـ عزوجل ـ واجبة على الإنسان المكلف ، والشرع هو طريق وجوب هذه المعرفة ، وهو كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم.

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص ٣٥٩) ، وانظر كذلك : الروضة البهية (١٦٨) وما بعدها.

١٧٦

ويذهبون إلى أن الواجبات ثابتة بالسمع ، فالحسن عندهم هو ما حسنه الشرع ، والقبيح عندهم هو ما قبحه الشرع ، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب.

يقول الإمام الغزالي : «إنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته خلافا للمعتزلة».

المسألة السادسة : عصمة الأنبياء

العصمة في اللغة والاصطلاح :

العصمة في اللغة (١) :

العصمة : المنع ، يقال : عصمه الطعام من الجوع ، أي : منعه.

وهي ـ كذلك ـ : الحفظ ، يقول الله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، أي : يحفظك.

العصمة في الاصطلاح (٢) :

هي : عدم خلق الله تعالى ذنبا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا تكون أمرا إعداميّا.

وهذا بصفة عامة ، وقد اختلف تعريف الماتريدية للعصمة عن تعريف الأشاعرة لها وذلك على ما يلي :

الماتريدية

يعرف السادة الماتريدية العصمة بأنها عدم القدرة على المعصية ، أو خلق مانع فيها (٣).

الأشعرية :

ويعرفها الأشعرية بأنها : «ألا يخلق الله فيهم ذنبا» ، وذلك بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار (٤).

أما عن رأي كل من السادة الماتريدية والأشعرية في مسألة العصمة ، فذلك على ما يلي :

الماتريدية :

يقول السادة الماتريدية بعصمة الأنبياء من الكبائر والقبائح وخصوصا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة.

__________________

(١) انظر : لسان العرب مادة (ع ص م) (٢ / ٤٠٣) ، مختار الصحاح ص (٤٣٧).

(٢) انظر : بغية الراغبين في عصمة ومعجزة الأنبياء والمرسلين ، (ص ١١٣).

(٣) انظر : التحرير بشرح التيسير (٣ / ٢٠).

(٤) انظر : شرح المواقف (٨ / ٢٨٠).

١٧٧

ويذهب الماتريدية إلى أن الأنبياء معصومون من الصغائر ، وأوجبوا تأويل كل ما أوهم في حقهم عليهم‌السلام من الكتاب والسنة مما اغتر به بعض من أجاز عليهم الصغائر ، فالأنبياء منزهون عن الصغائر والكبائر ومن جميع المعاصي.

يقول شارح الفقه الأكبر :

«إن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون عن الكذب ، خصوصا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدا وإما سهوا : عمدا فبالإجماع ، وسهوا عند الأكثرين ، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل ، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي ، وبعده بالإجماع ، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور ، وأما سهوا فجوزه الأكثرون» (١).

الأشاعرة :

يتفق الأشاعرة مع الماتريدية ـ وغيرهم من سائر الفرق ـ على أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقا ، قبل البعثة وبعدها.

وفيما يخص الصغائر ، فهي عندهم نوعان :

أحدهما : صغائر قبل النبوة.

ثانيهما : صغائر بعد النبوة.

ويذهب الأشاعرة إلى أن الأنبياء تصدر عنهم هذه الصغائر قبل النبوة إذا لم تكن خسيسة وليس هناك دليل على منع ذلك ، سواء أكان ذلك عمدا أم سهوا ، أما بعد النبوة فإن الأنبياء معصومون عن تعمد كل ما يخل بصدقهم حتى إذا كان من الصغائر.

يقول الآمدي في الأحكام : «وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى» (٢).

وبهذا يتضح أن محل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة أن الماتريدية يرون وجوب العصمة أيضا من الصغائر ، لكن بعض الأشاعرة يجيز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل البعثة وبعدها كذلك سهوا (٣).

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر ، (ص ٨٨ ـ ٩١).

(٢) انظر : الإحكام في أصول الأحكام (١ / ٢٤٣).

(٣) انظر : الروضة البهية (٢٢٥) وما بعدها.

١٧٨

الباب الرابع

حول تفسير القرآن الكريم

ويشتمل على الفصول الآتية :

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره.

الفصل الثاني : مدارس التفسير.

الفصل الثالث : المناهج التفسيرية بين القديم والحديث.

١٧٩
١٨٠