تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

الصواب» (١).

إن الحقيقة التي ينبغي التنويه بها والإشارة إليها في هذا المقام ، أن فرقة المرجئة على الرغم من خروجها من رحم الأحداث السياسية ، فإنها مذهب ديني فلسفي ، موضوعه البحث عن حقيقة الإيمان وعلاقة العمل به ، وكانت الغاية التي تهدف إليها ـ أصلا ـ الامتناع عن التسرع في إصدار الأحكام على أعمال الصحابة والتابعين ، ولا سيما تلك التي صدرت في خلال المنازعات التي وقعت بينهم ، فنظرة هذا المذهب إذن كانت إلى الماضي ، وكان حكمه على أعمال تاريخية (٢).

وقد صور ثابت قطنة ـ شاعر المرجئة ـ عقيدة الإرجاء خير تصوير في قصيدة له ، نجتزئ منها بهذه الأبيات :

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا

أن نعبد الله لم نشرك به أحدا

نرجي الأمور إذا كانت مشبهة

ونصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الإسلام كلهم

والمشركون استووا في دينهم قددا

ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا

م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا

بدع المرجئة وضلالهم (٣) :

إن تحرج المرجئة من الحكم على أعمال الصحابة ، وتأثمهم من تكفير صاحب الكبيرة يحمد لهم من غير مماراة ، وهم في ذلك لا يخالفون المسلمين من حيث تفويض أمر مرتكب الكبيرة إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء تغمده برحمته وأدخله الجنة.

بيد أن المرجئة المتأخرين قد بالغوا في فصل الإيمان عن العمل ، فأتوا بدعا وضلالات تخرجهم من دائرة الإسلام أصلا ، فزعموا ـ كما أشرنا في صدر الحديث عنهم ـ أنه لا يضر مع الإيمان ذنب جلّ أو صغر ، كما لا يجدي مع الشرك والكفر طاعة ، فالإيمان في القلب واللسان ، وهو المعرفة بالله تعالى ، والمحبة والخضوع له بالقلب (٤).

__________________

(١) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١١٩).

(٢) انظر : ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية ، (ص ٨٦).

(٣) ينظر : أصول الدين للبزدوي (ص ٢٥٢) ، نشر الطوالع (ص ٣٩٠) ، الفرق بين الفرق (١ / ١٩٠) ، والفصل في الملل والنحل (٤ / ١٥٤) ، والمواقف (٣ / ٧٠٥) ، والتنبيه والرد على أهل الأهواء (١ / ٤٣) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٣) ، فجر الإسلام (٢٧١) ، التفكير الفلسفي في الإسلام (١ / ٢٠٥) ، الخطط والآثار للمقريزي (٤ / ١٧١) ، الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية (ص ٢٩) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ١٢٨٠).

(٤) الفرق بين الفرق (ص ٢١٢).

١٢١

وزعم أبو الحسين الصالحي أن الصلاة ليست بعبادة لله ، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة (١).

بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل : أعلم أن الله قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها ، كان مؤمنا.

ولو قال : أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة ، غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنا ، ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه شاك في هذه الأمور ، فإن عاقلا لا يستجيز عقله أن يشك في أن الكعبة إلى أي جهة هي ، وأن الفرق بين الشاة والخنزير ظاهر (٢).

على هذا النحو هون المرجئة من شأن العمل ، وجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي ، وإن دل عمل الجوارح على خلافه.

فلا غرو أن أطمع هذا المذهب الفساق في عفو الله ، واتخذوا من أقوال المرجئة ذريعة يبررون بها آثامهم ، حتى غدا الإرجاء دين المستهترين وعقيدة المذنبين ، وقد أثر عن زيد ابن علي بن الحسن أنه قال : «أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو الله».

والخلاصة أن المرجئة ينقسمون إلى قسمين :

قسم : توقف في الحكم على أعمال الصحابة ، وتحرج من تصويب مواقفهم أو تخطئتها.

والقسم الثاني : منكر لأن يكون العمل جزءا من الإيمان ، وأن عفو الله يسع الصالحين والمذنبين جميعا ، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الشرك طاعة.

* * *

__________________

(١) مقالات الإسلاميين (١ / ٢١٤).

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١٢٠ ، ١٢١) ، وانظر مقالات الإسلاميين (١ / ٢٢١).

١٢٢

الفصل الثاني

المذاهب الاعتقادية

توطئة :

امتاز الإسلام بعقيدته الواضحة الصافية ، التي تخاطب العقل والوجدان جميعا ، وتسلك في سبيل إقناع الناس بها طريقا وسطا بين المنطق والعاطفة لا تجد فيه أمتا ولا عوجا ، ولسنا نقصد بالمنطق ذلك العلم الذي تقررت أصوله وتحددت قواعده لدى اليونان ، واتسم بغير قليل من الغموض والتعقيد ، وإنما نريد به لفت العقول المستقيمة إلى ما يغص به الكون الفسيح من أعلام واضحة وأدلة مقنعة على وجود الله وقدرته ووحدانيته ، والتي لا تملك هذه العقول أمامها إلا الإذعان والتسليم ؛ قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ، وقال كذلك : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢٠ ، ٢١] ، والحق أن الآيات التي تؤدي هذا المعنى وتلفت إليه في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى.

ولا ريب أن وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين يميط اللثام لصحابته عما التبس عليهم من مسائل العقيدة ، ويجيب عما يضطرب في نفوسهم وضمائرهم من أمور مشكلة قد اشتبهت عليهم ـ قد عصم المسلمين من التردي في هوة الخلاف والجدل الذي ينفي من القلوب يقين الاعتقاد ، ويبث فيها بذور الشك والارتياب.

وتدلنا الآثار الصحيحة أن شيئا من التفكير في أصول الدين والنظر في بعض مسائله قد مس عقول نفر من الصحابة مسّا رفيقا ، وإن لم يمعنوا النظر أو يوغلوا في الدرس ، فقد روي أن أحد الصحابة حين أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن كل إنسان قد كتب مقعده من النار أو الجنة قال : ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (١).

وروي أيضا عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أخبره بأن من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، سأله أبو ذر بقوله : وإن زنى وإن سرق؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن زنى وإن سرق» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٣٢) كتاب القدر باب «وكان أمر الله قدرا مقدورا» (٦٦٠٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٠) كتاب القدر كيفية خلق الآدمي (٧ / ٢٦٤٧) عن علي بن أبي طالب.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٤٤٥) كتاب الجنائز باب في الجنائز (١٢٣٧) ، ومسلم (١ / ٩٤ ـ ٩٥) كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا (١٥٣ / ٩٤).

١٢٣

ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف ، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة (١).

ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام ، بل كانت صادرة ـ هي وغيرها ـ عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدين وتدبر مراميه ، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد.

فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة ، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة ، فقال الله فيهم : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].

وقد اتخذ أولئك من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك بالله ؛ قال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].

ومهما يكن من أمر هؤلاء المشركين ، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء ، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها ، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدين ، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب الله دون المماراة فيه أو تأويله ، وتفويض أمر المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى ، وحسبك شاهدا على صدق مقالتنا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه ؛ «لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام ، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء ، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام ، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به ، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف ، ويقطع

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٥٦).

١٢٤

في الموضوع» (١).

فلا غرو أن كان المسلمون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد وفاته بقليل على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه ، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا على حد تعبير البغدادي.

ويسعنا أن نضيف إلى ما سلف أن المسلمين في عهد أبي بكر الصديق قد شغلوا بقمع المرتدين ، وفتح الأمصار والأقاليم لنشر الدعوة الإسلامية وبثها في الآفاق ، فصرفوا إلى الدعوة نفسها أكثر مما عنوا بالنظر فيها والجدال حولها.

بيد أن الفتح نفسه وما ترتب عليه من اتساع رقعة الإسلام كان عاملا من عوامل الاختلاف حول العقائد الإسلامية ، وسببا أصيلا من أسباب الشقاق الفكري الذي صار معلما بارزا من معالم الحياة الإسلامية حتى الآن ، على نحو ما سوف نشير إليه بعد قليل.

نعم المسلمون بتلك الحالة التي أشرنا إليها من الاستقرار الديني والهدوء الفكري مدة خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب وشطرا من خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وعرف الاختلاف طريقه إلى المسلمين منذ عهد عثمان نفسه ، وكان مقتله ذروة هذا الاختلاف الذي تجاوز المناقشات الفكرية والحوارات الهادئة إلى المناجزة العنيفة في ميادين القتال وساحات الوغى ، ونشأ من هذه وتلك فرق سياسية اصطرعت حول «مبدأ الخلافة» ، وأدلى كل منها بما يحسبه صوابا في ميدان السياسة ، وهي : الشيعة والخوارج ثم المرجئة ويمكن أن يضاف إليها الحزب الأموي «وهذه الأحزاب وإن كانت في الواقع سياسية ، إلا أنها لم تتخذ الشكل السياسي البحت ، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية ، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية ، وصار الذين يقتتلون سياسيّا يقتتلون دينيّا ، ولكل حزب أدلته الدينية التي يؤيد بها رأيه ، وأخذ كل حزب يؤول في القرآن حسبما يوافق نزعته ورأيه» (٢).

وأثارت هذه الفرق مسألة مرتكب الكبيرة ، واحتدم النزاع فيما بينها حول نسبته إلى الكفر أو الإيمان ، وهل هو كافر مخلد في النار أم مؤمن يدخله الله برحمته الجنة ، «ولقد ساقهم الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف في تعريف الكفر والإيمان والكبائر والصغائر ونحو ذلك ، وتكون من كل منهم فرق لها آراؤها في الأصول والفروع مما كان أساسا فيما بعد لعلم الكلام» (٣).

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٩٨).

(٢) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٣).

(٣) السابق ، الصفحة نفسها.

١٢٥

الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى :

لم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى كان المسلمون قد ضموا إلى دولتهم أقطارا شاسعة متباينة في الدين والعقيدة تباينها في نمط الحياة وطريقة العيش ، ففتحت بلاد العراق وفارس وما وراءهما ، والشام ومصر وما يليهما ، وأوغل المسلمون في الفتح فعبروا المحيط الأطلسي إلى أوربا ومدوا نفوذهم إلى الأندلس.

والحق أن حركة الفتوحات هذه قد امتد تأثيرها ليشمل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية الدين والعقائد وما يرتبط بهما من شئون الفكر وألوان الثقافة ، وذاك أمر ما نعلم أن أحدا من الدارسين أو الباحثين قد شكك فيه أو غض الطرف عنه ، بل جلّ الباحثين الذين ينظر إليهم بعين الاحترام والاعتبار قد أرجعوا نشأة علم الكلام والتفكير الفلسفي في الإسلام إلى هذا السبب ، بالإضافة إلى أسباب أخرى أشرنا إلى بعضها وقد نشير فيما بعد إلى بعضها الآخر ، ولا غرابة في ذلك إذا نحن علمنا أن هذه البلاد المفتوحة لها عقائدها ودياناتها وثقافاتها المختلفة فتجد النصرانية في مصر والشام والعراق وإفريقية ، وتطل عليك اليهودية من العراق وشمال الحجاز ، ولو قد مددت ببصرك إلى فارس وما وراء النهر لرأيت الزرادشتية والمانوية والمزدكية ، وتستطيع أن تقف في غير ما صعوبة ومشقة على الفلسفة اليونانية منبثة في ثنايا هذه الأقطار.

إذا علمت ذلك كله ـ وما نحسب ذلك أمرا عسيرا ـ فإنك لا محالة تتبين أثر هذه الثقافات المختلفة والديانات المتباينة في العقيدة الإسلامية ، ومدى ما أسهمت به في تطورها عما كانت عليه في العهد الأول ، وما أضافته إلى البحث الديني والإسلامي من مسائل وأفكار لم يكن للمسلمين عهد بها ولا تفكير فيها ، ودونك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة :

تحدث اليهود في النسخ ولم يجيزوا القول به ، فالشريعة عندهم ابتدأت بموسى وتمت به ، واهتموا بمسائل الذات والصفات إذ وجدوا في توراتهم ما يدعو إلى ذلك من النزول عند طور سيناء انتقالا ، والاستواء على العرش استقرارا ، وجواز الرؤية وغير ذلك.

كما ناقش اليهود فكرة القدر وانقسموا حولها إلى فريقين : فريق يرى الجبر والاستسلام ، وفريق يرى القدرة والاختيار.

وقال اليهود بالرجعة ، فزعموا أن هارون مات وسيرجع ، ومنهم من قال : غاب وسيرجع.

١٢٦

أما النصارى ففي ثقافتهم الدينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر ، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط ، وهل صفات الله زائدة عن ذات الله أو هو هي ، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل ، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين (١).

وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية : كالتناسخ والحلول والاتحاد.

«وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن الله اصطفاهم للحكم بين الناس ، وخصهم بالسيادة ، وأنهم ظل الله في أرضه ... وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم» (٢).

ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية ، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين ، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء ، ولسنا حين نقرر ذلك بدعا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة.

إن انتقال مسائل العقائد الدينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحا لديانات مختلفة ، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن ، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم ؛ قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] ، «وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة ، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه ، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق ، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون ؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها ، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون ؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببا في تبادل الأفكار بين الفريقين» (٣).

__________________

(١) السابق (ص ١٠).

(٢) السابق (ص ١٢).

(٣) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ١٣).

١٢٧

ويسعنا أن نضيف إلى ذلك أن ثمة من أهل هذه الديانات من أسلم بلسانه ولم يطمئن قلبه للإسلام ؛ رغبة في الكيد له والطعن فيه ، بل إن من أسلم منهم صادقا مزج ـ عن غير قصد الإساءة ـ بين العقيدة الإسلامية ، وما درج عليه من عقائد دينه القديم ، فأسهم بغير شك في تطوير العقيدة الإسلامية ، وتغييرها.

أمست العقيدة الإسلامية ـ لما أسلفنا من أسباب ـ مفتقرة إلى من ينافح عنها ضد خصومها من أهل الديانات الأخرى ، الذين طمسوا معالمها أو كادوا ، وشوهوا صفاءها ونقاءها ، بما ألصقوه بها من آراء غريبة عنها وأفكار مناقضة لها ، بل إن حاجة العقيدة الإسلامية إلى من يدافع عنها فاقت حاجتها لمن يدعو لها ويروج لمبادئها.

ودعت الظروف الفكرية التي أحاطت بالمسلمين آنذاك إلى أن يتسلح من ندبوا أنفسهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلحة الخصوم نفسها وهي المنطق والفلسفة وأدوات الحجاج العقلي والصراع الجدلي ؛ إذ كان من أهل الديانات المناوئة للإسلام من حذق الفلسفة اليونانية واصطنع أدواتها في تقرير عقائده والدعوة لها ، «وهكذا خاض المسلمون منذ عصر الأمويين في العقائد بمنهج جدلي عقلي غير ملتزمين بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد أدى هذا الاتجاه إلى اختلاف المسلمين ووجود الفرق المختلفة التي حاولت كل منها أن تظهر رأيها على أنه الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية الصحيحة عن طريق جذب النصوص الشرعية إلى رأيها الخاص ، وقد وجدوا في المتشابه مجالا لذلك ، فأخذوا يؤولون ويخرجون النصوص تخريجا يجعلها سندا لهم» (١).

ونتناول الحديث عن أهم هذه الفرق فيما يلي :

أولا : المعتزلة

أشرنا آنفا إلى أن العقيدة الإسلامية قد مست حاجتها إلى من ينافح عنها ، ويدحض شبه الطاعنين فيها من أهل الديانات الأخرى ، وأن من يقوم بهذه المهمة ينبغي عليه أن يقف على أدوات الحجاج العقلي ووسائل الجدل التي أتقنها الخصوم ، وهي المنطق والفلسفة ، والحق أن المعتزلة قد قاموا بهذه المهمة خير قيام ، وأسهموا في ميدان الدفاع عن الإسلام وتبيين عقائده والاستدلال لها استدلالا عقليّا ممتازا ـ ما يحمد لهم ، ويذكر في كفة حسناتهم بغير قليل من الإكبار والاحترام ، «فالمعتزلة تعد من أوائل الفرق الكلامية التي نظرت في العقائد وأيدتها بالبراهين العقلية ، وخاضت في الجدل والكلام ، وبرعت في

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٧٤).

١٢٨

مناظرة الخصوم وإفحامهم» (١).

وينتظم حديثنا عن هذه الفرقة الكلامية عدة محاور :

أولا : النشأة وسبب التسمية.

ثانيا : مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة.

ثالثا : منهج المعتزلة في درس العقائد.

رابعا : الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة.

أولا : النشأة وسبب التسمية :

تنسب هذه الفرقة ـ كما هو مقرر معلوم ـ إلى واصل بن عطاء (٨٠ ـ ١٣١ ه‍) الذي كان تلميذا للحسن البصري أشهر علماء زمانه وأبرزهم.

وثمة خلاف شجر بين الدارسين حول سبب تسمية هذه الفرقة للمعتزلة ، أثمر ـ أي هذا الخلاف ـ ثلاثة آراء متباينة لا بأس من ذكرها ، ثم نختار من بينها ما نراه صوابا.

أما الرأي الأول : فيذكره الشهرستاني صاحب الملل والنحل ، حيث روى أن رجلا دخل على الحسن البصري فقال له : يا إمام الدين : لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم الخوارج ، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ؛ لأن العمل عندهم ليس ركنا من الإيمان ، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأمة ، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ ففكر الحسن في هذه المسألة وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء ـ الذي كان حاضرا مجلس الحسن البصري ـ : أنا لا أقول : إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ، ولا كافر مطلق ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، أي : لا مؤمن ولا كافر ، ثم قام واعتزل مجلس الحسن إلى مكان آخر من المسجد ، فلما رآه الحسن وبعض أصحابه قال :

اعتزل عنا واصل ؛ فسمى هو وأصحابه معتزلة (٢).

والرأي الثاني حكاه المسعودي في مروج الذهب حيث قال : سموا بذلك ؛ لأنهم قالوا باعتزال صاحب الكبيرة ، فيكون الاعتزال وصفا لمرتكب الكبيرة في الأصل ، وسميت به الفرقة ؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين (٣).

__________________

(١) السابق (ص ٨١).

(٢) الملل والنحل (١ / ٩٥).

(٣) نصيب المعتزلة في تطوير علم الكلام (ص ١٩).

١٢٩

أما الرأي الثالث : فقد ذكره البغدادي حين قال : سموا بذلك ؛ لأنهم اعتزلوا قول الأمة (١) ، فالخوارج كانوا يقولون : إن مرتكب الكبيرة كافر ، والمرجئة يقولون : إنه مؤمن ، والحسن البصري ـ وهو ممثل علماء التابعين آنذاك ـ يرى أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام (٢).

والذي نميل إليه ونأخذ به هو الرأي الثالث ؛ «لأن التسمية فيه تكون متعلقة بالجوهر وهو الآراء ، لا بالعرض وهو انتقال واصل ومن معه من حلقة من المسجد إلى حلقة أخرى ؛ إذ إن هذا الانتقال الحسي ليس بالأمر الهام ذي الخطر الذي من شأنه أن تسمى بسببه فرقة هامة كالمعتزلة» (٣).

ومهما يكن من أمر فقد نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده : «وأول ما ظهر مذهب الاعتزال وشاع إنما ظهر من واصل بن عطاء ، أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية الذي قيل : إنه كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه هو وأخوه الإمام الحسن بن محمد ابن الحنفية ... ولكن ظهر واشتهر الاعتزال من واصل بن عطاء أبي حذيفة المعروف بالغزال» (٤).

وقدّر لهذه الفرقة أن تملأ العالم وتشغل الناس ، يؤمن بعقائدها الخلفاء وأهل السياسة ، فقد اعتقد آراءهم المأمون وحمل الناس عليها حملا ، وامتحنهم بها امتحانا ، وتبعه المعتصم والواثق ، فلما جاء المتوكل ناهض المعتزلة وأمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال ، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة ، بيد أن المتوكل لم يستطع أن يقضي على آراء المعتزلة ولم يتمكن من اقتلاع أفكارهم من المجتمع الإسلامي ، بل ظلت هذه الآراء والأفكار باقية بعده ، وبالرغم من العبث بتراثهم وإتلاف كتبهم ، فإن آراءهم لا تزال باقية حتى اليوم (٥).

ثانيا : مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة :

أشرنا فيما سبق إلى نشأة الاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء ، فعدّت البصرة لذلك المركز الأول للمعتزلة والمدرسة الرائدة لهم.

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٣٥).

(٢) السابق ص (١٣٥).

(٣) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ١٩).

(٤) السابق (١٩).

(٥) السابق (ص ٢٠).

١٣٠

بيد أن ثمة مركزا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة ، ألا وهو «بغداد».

والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة ، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد ، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانا رفيعا ، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها ، وكانت سنة ٢١٨ ه‍ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية ، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن ، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري ، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره ، ولم تقبل شهادته (١).

على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد ، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى.

وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين :

ـ أولها : أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد.

ـ ثانيها : أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية.

ولا غرابة في ذلك ، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم ، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم.

ـ وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو «أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد ؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد ، فمثلا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من الله ؛ لأن طبيعة الله من شأنها الإيجاد بالطبع ، ولا يمكن أن يتخلف ذلك ، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم ؛ لأن طبيعة الله لا تتغير ، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم» (٢).

__________________

(١) انظر : نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٢٠).

(٢) السابق (ص ٢١).

١٣١

على هذا النحو كان تأثر معتزلي بغداد بالفلسفة اليونانية عظيما ، ولقد مزجوا هذه الفلسفة بدرس العقائد الإسلامية ، على نحو ما سنعرف عند حديثنا عن منهج المعتزلة.

وقد افترقت المعتزلة إلى اثنتين وعشرين فرقة وهي : الواصلية ، والعمروية ، والهذلية ، والنظامية ، والأسوارية ، والمعمرية ، والإسكافية ، والجعفرية ، والبشرية ، والمرداوية ، والهاشمية ، والثمامية ، والجاحظية ، والخابطية ، والحمارية ، والخياطية ، وأصحاب صالح قبة ، والمريسية ، والشحامية ، والكعبية ، والجبائية ، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم الجبائي.

فهذه ـ كما يذكر البغدادي ـ ثنتان وعشرون فرقة ، فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر ، وهما : الخابطية والحمارية ، وعشرون منها قدرية محضة (١).

على أن ثمة أصولا مشتركة تؤلف بين هذه الفرق المختلفة ، درج الباحثون على نعتها بالأصول الخمسة ، ونرجئ الحديث عنها بعد أن نلم بمنهج المعتزلة في درس العقائد.

ثالثا : منهج المعتزلة في درس العقائد (٢) :

أشرنا فيما سبق إلى أن للسلف ـ رضوان الله عليهم ـ طريقة في فهم العقيدة تنهض على ساق من النصوص ـ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ـ وساق من المعرفة العميقة باللغة العربية والفقه الواسع بأسرارها ، ولم يكونوا ينحرفون قليلا أو كثيرا عن هذا المنهج الذي أرسى دعائمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا ما اشتبه عليهم أمر من أمور العقيدة توقفوا فيه وفوضوا أمره إلى الحق تبارك وتعالى.

ولسنا في حاجة إلى أن نقرر أن السلف الصالح قدموا النقل على العقل ، وكانت مهمة العقل لديهم مقصورة على فهم النصوص دون تأويل ، فلا غرو أن كان العقل تابعا للنقل أو النص أو الوحي ، سمه ما شئت.

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٣١).

(٢) ينظر : مقالات الإسلاميين (١ / ١٥٥) ، الفرق بين الفرق (١ / ٩٣) ، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (١ / ٢٨٤) ، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (١ / ٣٨) ، التبصير في الدين (١ / ٦٧) ، الفصل في الملل والنحل (٣ / ٥٦) ، التعريفات للجرجاني (١ / ٢٨٢) ، المواقف للإيجي (٣ / ٦٥٧) ، أصول الدين للبزدوي (ص ٢٥٠) ، شرح العقيدة الطحاوية (ص ٥٢٨) ، شرح الخريدة البهية (ص ١٠١) ، تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي (ص ٤٤) ، نشر الطوالع (ص ٣٨٨) ، أصول الدين للبغدادي (ص ٣٣٥) ، الزينة لأبي حاتم (ص ٢٧٤) ، حاشية أحمد ملا على شرح العقائد النسفية (١ / ٥٣) ، أدب المعتزلة للدكتور عبد الحكيم بلبع (ص ٦٢) ، المعتزلة لزهدي جار الله (ص ٢٤٥) ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (١ / ١٠٢) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ١٣١٨).

١٣٢

أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج ، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادا كبيرا ، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل.

بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته ، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعا ، وقد أشار إلى ذلك الأسفرائيني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول ، وأقاموا سياجا قويّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها (١).

ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية ، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية (٢).

ويقول أحد الباحثين معلقا على ذلك :

«وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران :

الأول : أنهم وجدوا فيها ـ أي في الفلسفة اليونانية ـ ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري ، وجعلوا فيها مرانا عقليا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة.

الثاني : أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هؤلاء للرد عليهم ، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل ، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم» (٣).

وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدينية بين العقل والنقل ، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول ، ويرونه قادرا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية ، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول.

وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافا كبيرا حيث يقدم هؤلاء الدليل النقلي على الدليل العقلي ، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام

__________________

(١) انظر : د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٨٣).

(٢) الفصل في الملل والنحل (٣ / ٥٧).

(٣) منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام ، محمد حسن أحمد ، رسالة دكتوراه ، كلية أصول الدين ص (٧٦).

١٣٣

منها.

ولقد حمل هذا المنهج الاعتزالي أحد المشتغلين بالفكر الفلسفي في الإسلام إلى التصريح بأن المعتزلي لم يكن يأبه أن تكون النصوص الدينية متوافقة مع أصوله الفلسفية أو غير متوافقة ، وأن كل ما يرمي إليه هو دعم الأصل العقلي الذي وصل إليه (١).

كان المعتزلة يرون أن العقل أصل والسمع ـ أي النقل ـ فرع ، ولا يجوز تقديم الفرع على الأصل ، ومن هنا كان تقديمهم العقل على النقل.

ويتمثل النقل لدى المعتزلة في ثلاثة أدلة : الكتاب ، والخبر المجمع عليه ، والإجماع ، «وقد عولوا جميعا في بحوثهم على القرآن ، أما الحديث فقد اختلفوا في موقفهم منه ، فواصل لم يقبل منه إلا المتواتر أو المشهور ، وعمرو بن عبيد شكك في الرواية والرواة ، وأبو الهذيل العلاف يرفض المتواتر ، وبلغت هذه النزعة أوجها عند النظام الذي أنكر بعض الأحاديث ، ورفض الإجماع ، ولكن هذه النزعة قد خفت ومالت إلى الاعتدال عند المتأخرين من المعتزلة ، وخاصة القاضي عبد الجبار وتلاميذه الذين اعتدوا بالحديث» (٢).

وللدليل النقلي عند المعتزلة ضوابط وشروط ، لا يأخذون به إلا عند تحققها فيه ، وهي :

أولا : ألا يتعارض مع العقل ؛ لأن العقل حجة الله والشرع حجة الله ، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.

ثانيا : أن يكون قطعي الثبوت ؛ ولذلك فهم لا يأخذون بأحاديث الآحاد ولا يعولون عليها في مسائل الاعتقاد.

ثالثا : أن يكون قطعي الدلالة بحيث لا يحتمل تأويلا (٣).

رابعا : الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة :

ثمة أصول خمسة أجمع المعتزلة ـ مع تعدد فرقهم وتباينها ـ على القول بها ، ولم ينتحل نحلة المعتزلة متكلم إلا وقد آمن بها ؛ قال أبو الحسن الخياط في كتابه الانتصار : «وليس أحد يستحق اسم الاعتزال ، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،

__________________

(١) د / علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (١ / ٢٥٧).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٨٤).

(٣) شرح الأصول الخمسة (ص ٢٦٩).

١٣٤

فإذا جمع هذه الأصول فهو معتزلي» (١).

١ ـ التوحيد :

لا مراء في أن التوحيد جوهر الإسلام وحجر الزاوية في عقيدته ، وما من نبي أو رسول إلا دعا قومه إليه ودلهم على شواهده وبراهينه في الكون.

ويقوم التوحيد على تنزيه الله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وقد سلك السلف فيه طريقا وسطا بين النفي والإثبات دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تجسيم.

أما المعتزلة فلهم طريقة مخصوصة في فهم التوحيد ، يدلنا عليها أبو الحسن الأشعري بقوله : [«أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وليس بجسم ، ولا شبح ، ولا جثة ، ولا صورة ، ولا لحم ، ولا دم ، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ، ولا اجتماع ولا افتراق ، ولا يتحرك ولا يسكن ، ولا يتبعض ، وليس بذي أبعاض وأجزاء ، وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ، ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات ، وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ، ولا تحجبه الأستار ، ولا تدركه الحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحل به العاهات ، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ، لم يزل أولا سابقا للمحدثات ، موجودا قبل المخلوقات ، ولم يزل عالما قادرا حيا ، ولا يزال كذلك ، لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع ، شىء لا كالأشياء ، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء ، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ، ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ، ولا معين على إنشاء ، أنشأ وخلق ما خلق ، لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شىء بأهون عليه من خلق شىء. آخر ولا بأصعب عليه منه ، ولا يجوز عليه احتراز المنافع ولا تلحقه المضار ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل إليه الأذى والآلام ، ليس بذي غاية

__________________

(١) ينظر : التبصرة في الدين (١ / ٦٧) اعتقادات فرق المسلمين (١ / ٣٨) أصول الدين للبزدوي ص (٢٥٠) ، وللبغدادي ص (٣٣٥) ومقالات الإسلاميين (١ / ١٥٥).

١٣٥

فيتناهى ، ولا يجوز عليه الفناء ، ولا يلحقه العجز والنقص ، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء»].

ونستطيع أن نزعم أن طريقة المعتزلة في فهم التوحيد تتكئ عندهم على بعض آيات القرآن الكريم التي اصطبغت بصبغة التنزيه ؛ كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ، ٤].

ومهما يكن الدافع الذي سلك بالمعتزلة هذا الطريق في النظر إلى التوحيد ، فإن هذا الأصل عندهم ترتب عليه نتائج أخرى تكشف عن رأيهم في بعض مسائل الاعتقاد.

رأي المعتزلة في الصفات :

الصفات عند المعتزلة قسمان : صفات سلبية تسلب عن الله ما لا يليق به ، وصفات ثبوتية أو إيجابية.

ولم يجد المعتزلة في إثبات الصفات السلبية لله سبحانه ما يتعارض مع مفهومهم عن التوحيد ، أو يمس فكرة التنزيه كما يفهمونها من القرآن الكريم.

من هذه الصفات : القدم ، وتنفي هذه الصفة عن الله الحدوث ، والوحدانية وتنفي عن الله التعدد ، ومخالفة الحوادث.

«أما الصفات الثبوتية أو الإيجابية التي تتعلق بإثبات معنى زائد على الذات ـ ومن هذه الصفات : العلم والقدرة والإرادة والحياة ـ فقد نفى المعتزلة اتصاف الله بها أو أكثرها ؛ لأن إثباتها يتعارض مع فهمهم للتوحيد» (١).

فقد رأى المعتزلة أن إثبات هذه الصفات لله يجعلها مشاركة له في القدم ، ويعني هذا تعدد القدماء مع ما فيه من معارضة لفكرة التوحيد ، كما يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التعدد الذي وقع فيه النصارى الذين قالوا بوجود ثلاثة أقانيم في الذات الإلهية ، الأب والابن والروح القدس. ولا يخفى أن منهج المعتزلة في النظر إلى صفات الله يتعارض مع القرآن الكريم الذي أثبت هذه الصفات لله ، وكذا فهمها الصحابة ولم يجادلوا فيها.

وثمة صفات أخرى تصف الله بما يوهم مشابهته للإنسان : كوصف الله بأن له وجها أو عينا أو يدا ، ووصفه بالاستواء على العرش والنزول إلى السماء وغير ذلك.

وقد وجد المعتزلة أن الإيمان بهذه الصفات دون تأويل يقود إلى التجسيم الذي

__________________

(١) د / عبد المقصود (ص ٨٧).

١٣٦

يتعارض مع التوحيد ، فلا غرو أن أولو هذه الصفات ، فاليد لديهم تعني القدرة ، والعين تدل على الرحمة ، والوجه يعني الذات.

والحق أن السلف آمنوا بهذه الصفات دون تأويل ، وما أدق عبارة الإمام مالك بن أنس في الإنباء عن منهج السلف في فهم الصفات حين سئل عن الاستواء فقال : «الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة».

القول بخلق القرآن :

ذهب المعتزلة إلى نفي صفة القدم عن القرآن الكريم ، وزعموا أن القرآن مخلوق ؛ لأن القول بقدمه يقود إلى تعدد القدماء ، وهو ما يتنافي مع مفهومهم للتوحيد.

وقد حاول المعتزلة إجبار غيرهم من المسلمين على الأخذ برأيهم ، غير أن بعض العلماء من أصحاب الاتجاه السلفي رفضوا هذا الرأي ، وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن البحث في هذه المسألة مبتدع لم يثبت عن السلف ، ومن ثم لا ينبغي الخوض في هذه الأمور بل ينبغي الوقوف عند رأي السلف.

إنكار رؤية الله :

يقول أبو الحسن الأشعري : «أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه وتعالى لا يرى بالأبصار ، واختلفت : هل يرى بالقلوب؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة : نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا ، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان هذا وذلك» (١).

إن القول برؤية الله عند المعتزلة ينطوي على إلحاق الجسمية به سبحانه ؛ إذ يجري عليه عند ذلك ما يجري على المرئيات الجسمية ، والجسمية تتنافى مع التوحيد. وقد لجأ المعتزلة لإنكار رؤية الله إلى تأويل الآيات التي تثبت هذه الرؤية ، كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

كما طعنوا في صحة الأحاديث التي تثبت هذه الرؤية ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته» (٢) رواه البخاري ومسلم.

٢ ـ العدل :

هذا هو الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي اتسم بها المعتزلة ، ويتخذ أهمية عظيمة

__________________

(١) مقالات الإسلاميين (١ / ٢٣٨).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣) كتاب التفسير باب «وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» (٤٨٥١) ومسلم (١ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠) كتاب المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣) عن جرير بن عبد الله.

١٣٧

لديهم ، ويمثل مع التوحيد الأصلين اللذين بهما عرف المعتزلة ونسبوا إليهما حتى قيل : «أهل العدل والتوحيد».

والعدل صفة من صفات الحق تبارك وتعالى واسم من أسمائه الحسنى ، غير أن المعتزلة نظروا إلى «العدل» نظرة مغايرة لما عليه جمهور المسلمين ، وفلسفوه فلسفة خاصة أثمرت عددا من المسائل العقدية نوجزها فيما يلي :

وجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى :

ويعني ذلك أنه إذا كان ثمة أمران أحدهما صلاح والآخر فساد ، وجب على الله تعالى فعل الصلاح منهما ، وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على الله تعالى فعل الأصلح.

«وقد وجه إلى رأي المعتزلة كثير من الاعتراضات وهي في جملتها وتفصيلها قائمة على أساس أن في إيجاب الصلاح والأصلح تقييدا لإرادة الله ؛ ولذلك أخطأ المعتزلة في القول بإيجاب الصلاح والأصلح على الله ، وتطاولوا على مقام الألوهية ، وأساءوا الأدب مع الله كما وصفهم الماتريدي بذلك» (١).

الإنسان مريد لأفعاله :

إن مسألة الجبر والاختيار مسألة هامة من مسائل علم الكلام الإسلامي ، وركن أصيل من أركان الفكر الاعتزالي ؛ وتدور هذه المسألة حول العلاقة بين قدرة الله تعالى وأعمال العباد ، من حيث إن هذه الأعمال مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة للعبد (٢).

فقد فرق المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد أحدهما ضروري اضطراري ، والثاني : اختياري ، وحكموا بأن أفعال النوع الأول ليس للإنسان فيها اختيار.

أما أفعال النوع الثاني فالإنسان فيها فاعل مختار ، «ومن ثم قالوا : إن الأفعال الاضطرارية مخلوقة لله تعالى ، ولا دخل لقدرة العبد فيها ، وأما الأفعال الاختيارية فقد ذهبوا فيها إلى أنها واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال ، وهذه القدرة أوجدها الله تعالى في العبد باختياره» (٣).

وقد رأى المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في أفعاله انسجاما مع العدل الإلهي ؛ إذ مما

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٩١).

(٢) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٩٤).

(٣) السابق (ص ٩٥).

١٣٨

يتعارض مع هذا العدل أن يحاسب الله الإنسان على أفعال ليست من إرادته أو اختياره.

كما يترتب على عدم القول بذلك بطلان التكليف والأوامر والنواهي ؛ لأن الاختيار مناطها ، كما يبطل الثواب والعقاب ؛ لأنه لا معنى لأن يعاقب المرء أو يثاب على غير فعله ، وتنتفي الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

وثمة دليل آخر احتج به المعتزلة على حرية الإنسان وإرادته ، خلاصته : أن الله تعالى لو كان هو الفاعل المريد لأفعال العباد ، لنسب إليه عزوجل ما يقع على أيديهم من المعاصي والشرور والقبائح ، وهو أمر لا يصح أن يوصف الله به (١).

واستدل المعتزلة لصحة ما ذهبوا إليه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تثبت للإنسان إرادة حرة واختيارا مقصودا ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] ، وكقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠].

على هذا النحو كان رأي المعتزلة في حرية الإنسان ، ورأوا أن القول به يجعل التكليف مستساغا والثواب مقبولا والعقاب عادلا وينزه الله تعالى عن الشرور والآثام التي تجري على يد الإنسان.

٣ ـ الوعد والوعيد :

ربط المعتزلة بين العمل والجزاء ربطا وثيقا ، فجاء قولهم بالوعد والوعيد ملائما لهذا الربط ، فالله تعالى وعد الطائعين ثوابا عظيما وجنة خالدة وأوعد المذنبين عقابا أليما ونارا يصلونها ، والواجب على الله تعالى ألا يخلف وعده أو وعيده ؛ لما ينطوي عليه ذلك من فعل القبيح والله لا يفعل القبيح.

يقول أحد الباحثين مصورا رأي المعتزلة في وجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية :

«أما وجوب الثواب على الطاعة فلأن التكاليف الشاقة التي كلفنا الله بها ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها ؛ إذ ليس بمعقول أن يكلفنا الله بشيء لا لغرض لأن ذلك عبث ، فيستحيل صدوره من الله لقبحه ؛ فوجب أن يكون التكليف لغرض وهذا الغرض ينبغي ألا يكون عائدا إلى الله لتنزهه وتعاليه عن الانتفاع والضرر ، بل يجب أن يكون هذا الغرض عائدا إلى العبد وحده ، ثم يقال : لا يجوز أن يكون عائدا عليه في الدنيا لأن الإتيان

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ٩٢).

١٣٩

بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب ، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدا عليه في الآخرة ، وحينئذ يقال : إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدّا ، لا يليق أن يتصف به الله ؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه : إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه ، بل يجب عقابه ؛ لأن الله أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به ، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده ، والكذب في خبره ، وهو محال.

وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب ، بل يكون ذلك تقريرا له على ذنبه ، وإغراء للغير عليه ، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات.

وإذن فالثواب على الطاعات ، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف ، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار».

والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع ، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلا منه ورحمة مصداقا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة» (١).

أما العاصي فيعاقبه الله بعدله ، وإن شاء عفا عنه برحمته ، ولا نوجب شيئا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة.

إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة الله على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته ، والعفو عنهم لا يلحق بالله نقصا أو قبحا ؛ لأنه يعفو ـ إذا عفا ـ عن قدرة ، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو.

ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرا على إرادة الله تعالى ومشيئته ، وتقييدا لرحمته (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٣٠٠) كتاب الرقاق باب القصد والمداومة (٦٤٦٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين باب لن يدخل أحد الجنة بعمله (٧٥ / ٢٨١٦) عن أبي هريرة واللفظ لمسلم.

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٩٤).

١٤٠