تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

ـ بالإمامة لعمر على سبيل الترشيح.

وسكن الخلاف ونامت الفتنة في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر ؛ لأنهما أخذا نفسيهما بالعدل الشامل المطلق في دقيق الأمور وجليلها ، وانتصف كل واحد منهما من نفسه قبل أن ينتصف من رعيته ، وبلغا من العدل والمساواة بين الناس مبلغا أرهق من أتى بعدهما إذا رغب أن يحذو حذوهما ولا يخالف سيرتهما.

كما شغل المسلمون آنذاك بقمع المرتدين في داخل الجزيرة العربية ، وبالجهاد وفتح الأمصار خارجها لنشر الإسلام وإعلان التوحيد ، فغدا المسلمون كما كانوا في العهد النبوي على منهاج واحد ورأي واحد أتاح للدولة أن تزدهر في فترة قصيرة من عمر الحضارة الإنسانية.

الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية (١) :

ولي الخلافة عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب ـ رضوان الله عليهما ـ بعد أن أعطى المواثيق والعهود بالنصح للأمة ، والالتزام بسنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

ورضي المسلمون على خلافة عثمان في ست السنين الأولى ، ثم نقموا منه أمورا رأوا أنه خالف فيها عن سيرة الشيخين وانحرف عن سنة النبي الكريم.

واستحال الإنكار الهادئ والاعتراض الناصح سخطا عارما عم الأمصار المختلفة ، وثورة عنيفة عمد المنخرطون فيها إلى خلع الخليفة عثمان رضي الله عنه.

وأفضت الثورة المسلحة إلى مقتل عثمان ، بعد أن حوصر في داره أربعين يوما منع خلالها من إمامة المسلمين في الصلاة.

وقد فتح مقتل عثمان على المسلمين باب الفتنة واسعا ، وأذكى نيران الخلاف بينهم من جديد ، وأورث القلوب والضمائر ضغنا وسوء ظن كان خليقا بأن يعصف بالوحدة الإسلامية ويقوض أركانها في هذا الطور الباكر.

ولم يستطع علي بن أبي طالب ـ الذي بويع بالخلافة من أغلبية المسلمين ـ أن يرأب صدع الخلاف وينتاش المسلمين من هوة الفتنة السحيقة التي تردوا فيها.

__________________

(١) ينظر : تلقيح فهوم أهل الأثر (ص ٨٤) ، الكامل في التاريخ (٢ / ٥٩) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ٥٣ ـ ٨٤) ، تاريخ الإسلام للذهبي ، جزء «الخلفاء الراشدون» (٣١١ ـ ٤٢٩) ، العواصم من القواصم (٥٦ ـ ٦٠) ، سمط النجوم العوالي (٢ / ٥١٨) ، سبل الهدى والرشاد (١١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨).

١٠١

وكان من أشد المعارضين لعلي طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان ؛ إذ رأوا أنه قعد عن نصرة عثمان ، وكان في استطاعته رد الناس عنه ، وكان من حجة بعضهم أنه ـ وقد بويع ـ يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان ، ويقول كل من طلحة والزبير : إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان ؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى ، ومن السابقين للإسلام ، ويقول معاوية : إنه أولى الناس رحما بعثمان ، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه (١).

يقول أبو الحسن الأشعري : «ثم بويع علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ فاختلف الناس في أمره ، فمن بين منكر لإمامته ، ومن بين قاعد عنه ، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته ، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» (٢).

وأما طلحة والزبير فقتلا يوم الجمل (٣) ، وبقي معاوية وحده حاملا لواء المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب ، مستعصما بالشام مطمئنا إلى اخلاص أهله وصدق ولائهم.

لم يجد علي بن أبي طالب مفرا من قتال معاوية بن أبي سفيان للقضاء على خطره ورد المسلمين إلى ما كانوا عليه من وحدة وتماسك ، فقاتله في صفين (٤) وكاد النصر يتم له لو لا أن عمد معاوية إلى خدعة التحكيم ، «فقال لعمرو بن العاص : ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ قال : بلى ، قال : فما المخرج؟ قال له عمرو بن العاص : فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال : لك ذلك ، ولك به عهد الله وميثاقه ، قال : مر بالمصاحف فترفع ، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق : يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم ، البقية البقية ، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه ، وإن خالفك خالفه أصحابه» ، وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق ، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص ، ففعلوا ذلك ، فاضطرب أهل العراق على علي ـ رضوان الله عليه ـ وأبوا عليه

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٠٤).

(٢) مقالات الإسلاميين ، (ص ٥٤ ، ٥٥).

(٣) كانت وقعة الجمل يوما واحدا وقتل من أهل البصرة وغيرهم ثلاثة عشر ألفا ومن أصحاب علي رضي الله عنه سبعة آلاف وقيل خمسة آلاف ، وقال العلامة الذهبي : قتل بينهما ثلاثون ألفا وكانت الوقعة يوم الجمعة.

ينظر : تاريخ الإسلام للذهبي جزء «الخلفاء» (ص ٤٨٤) ، سمط النجوم العوالي (٢ / ٥٧١).

(٤) ينظر : أخبار ذلك في تاريخ الإسلام «الخلفاء» (ص ٥٤٠) ، سمط النجوم (٢ / ٥٧٥) ، مروج الذهب (٢ / ٣٨٤) ، تاريخ خليفة بن خياط (ص ١٤٦) ، المحاسن والمساوئ ص (٤٨).

١٠٢

إلا التحكيم ، وأن يبعث علي حكما ويبعث معاوية حكما ، فأجابهم علي إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه ، فلما أجاب علي إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكما ، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكما ، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق ، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا ، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور ، كالتالي :

أولا : الخوارج

بيّنا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين على ومعاوية أن أصحاب علي من أهل العراق قد حملوه حملا على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح ، وقال أهل الشام لأهل العراق : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم ، وذلك على الرغم من أن عليّا ـ كرم الله وجهه ـ بيّن لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب الله من مكر وخديعة ، فأبوا إلا التحكيم.

فلما وقف هؤلاء على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية ، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين ـ أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ـ من العهد والميثاق ؛ لأن حكم الله في الأمر واضح جلي ، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق ، وليس يصح هذا الشك ؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون ـ بلا شك ـ أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية : «لا حكم إلا لله» فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي ، وتجاوبتها الأنحاء ، وأصبحت شعار هذه الطائفة (١).

وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم ، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي ؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته.

فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق ، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك بالله شيئا مذ آمن ، وهبه أخطأ في قبول التحكيم ـ مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرّا لا مختارا ـ فلا يعدو أن يكون مجتهدا أخطأ فله أجر واحد ، وإن كان قد أصاب فله أجران ، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام ، (ص ٤٠٦).

١٠٣

جماع رأي الخوارج وما جمعهم من مبادئ :

لم تلبث آراء الخوارج السياسية أن تحددت ، وأخذت شكل نظرية يسع الدارسين ومؤرخي الفرق إضافتها إلى النظريات السياسية الإسلامية ، ولا ريب أن مناظرات رؤسائهم ومجادلاتهم لخصومهم كابن عباس ، وعلي بن أبي طالب وابن زياد وعبد الله بن الزبير قد أسهمت بشكل ملحوظ في بلورة موقفهم السياسي وتحديد معالمه (١).

ومعلوم أن الخوارج لم يكونوا نحلة واحدة متفقة آراؤها وأنظارها إلى مسائل السياسة والعقيدة ، بل تفرقوا أحزابا شتى ومذاهب متعارضة ، بيد أن ثمة مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة ، هما :

ـ القول بإكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بتحكيم الحكمين.

ـ أما المبدأ العام الثاني : فهو وجوب الخروج على الإمام الجائر (٢).

وقد ذكر الكعبي في مقالاته أن مما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها الإكفار بارتكاب الذنوب ، بيد أن عبد القاهر البغدادي ذهب إلى أن رأي الكعبي منابذ للصواب ، وأنه قد أخطأ في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم ، واحتج البغدادي بأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقيهم ، وقد قال قوم من الخوارج : إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص ، فأما الذنب الذي فيه حدّ أو وعيد في القرآن ، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه ، مثل تسميته زانيا وسارقا ، ونحو ذلك.

وقد قالت النجدات : إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين.

يقول عبد القاهر البغدادي : وفي هذا بيان خطأ الكعبي في حكايته عن جميع الخوارج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم.

وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن ـ رحمه‌الله ـ من تكفيرهم عليّا وعثمان ، وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم(٣).

__________________

(١) انظر : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٦٦).

(٢) انظر : عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق (ص ٩٢) ، أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين (ص ١٦٧).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ٩).

١٠٤

ومهما يكن من أمر فإن ما ذهب إليه الخوارج من تكفير لأقطاب الصحابة وأعلامهم قد دفع المسلمين إلى البحث في ماهية الكفر والإيمان؟ وتمييز الحدود الفارقة بين المعصية والكفر والفسوق ، والتماس العلاقة بين الإيمان وبين العمل ، إلى آخر هذه المسائل اللاهوتية التي ترتب عليها نشأة كثير من الفرق الدينية.

ومن بين المبادئ التي أذاعها الخوارج في المجتمع الإسلامي أن الخلافة ليست حقّا مقصورا على قريش دون سائر العرب ، بل يتولاها من تحققت فيه شروطها من الكفاية والعدل والبيعة الحرة ، وخالفوا في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اشتراط القرشية إعمالا لحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش».

ورأى الخوارج أن عدم اشتراط القرشية ينسجم مع ما جاء به الإسلام من مبادئ العدل والمساواة بين الناس دونما نظر إلى لون أو جنس ، فمناط المفاضلة بين الناس التقوى والعمل الصالح(١).

فرق الخوارج :

الخوارج عشرون فرقة ، ذكرها البغدادي صاحب الفرق بين الفرق وهي : المحكمة الأولى ، والأزارقة ، والنجدات ، والصفرية ، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها : الحازمية ، والشعيبية ، والمعلومية ، والمجهولية ، وأصحاب طاعة لا يراد الله تعالى بها ، والصلتية ، والأخنسية ، والشبيبية ، والشيبانية ، والمعبدية ، والرشيدية ، والمكرمية ، والحمزية ، والشمراخية ، والإبراهيمية ، والواقفة ، والإباضية.

والإباضية منهم افترقت فرقا معظمها فريقان : حفصية وحارثية.

وليس من وكدنا في هذا المقام ـ وهو مقام إيجاز واختصار وليس مقام بسط وتطويل ـ أن نستوعب آراء هذه الفرق جميعها ، وإنما نجتزئ بذكر فرق خمسة منها ، رأى الباحثون قبلنا أنها أشهر فرق الخوارج ، وهي :

ـ المحكمة الأولى.

__________________

(١) الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٤٤) ، المواقف (٣ / ٦٩٢) ، التبصير في الدين (١ / ٤٥) ، حجج القرآن للرازي (١ / ٥٨) ، تلبيس إبليس (١ / ١١٠) ، مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (١ / ١٥٦) ، أصول الدين للبغدادي ص (٣٣٢) ، أصول الدين ص (٢٤٨) ، نشر الطوالع (ص ٣٩٠) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٢ / ١٨١ ـ ١٨٢) ، العناية على شرح الهداية (٢ / ١٩٩) ، أسنى المطالب شرح روض الطالب (٤ / ١١٢) ، حاشية البجيرمي على المنهج (٤ / ٢٠١) ، منح الجليل (٨ / ٣٩٠) ، بدائع الصنائع (٧ / ١٤٠) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ٣١٠).

١٠٥

ـ الأزارقة.

ـ النجدات.

ـ الصفرية.

ـ الإباضية.

أولا : المحكمة الأولى :

وهم من خرج على عليّ ـ رضي الله عنه ـ حين قبل التحكيم ، ويقال لهم : محكمة ، وشراة ، وسموا محكمة ؛ لقولهم : «لا حكم إلا لله» ، وأما تسميتهم بالشراة فمحمولة على قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] ، فكانوا يقولون : شرينا أنفسنا في طاعة الله ، أي : بعناها بالجنة (١).

يقول عبد القاهر البغدادي : «واختلفوا في أول من تشرى منهم ، فقيل : عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي ، وقيل : أولهم يزيد بن عاصم المحاربي ، وقيل : رجل من ربيعة من بني يشكر ، كان مع علي بصفين ، فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلا ، وحمل على أصحاب علي وقتل منهم رجلا ، ثم نادى بأعلى صوته ، ألا إني قد خلعت عليّا ومعاوية ، وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب علي حتى قتله قوم من همدان» (٢).

ومهما يكن من أمر فقد انحاز الخوارج بعد صفين إلى حروراء ، وهم يومئذ اثنا عشر ألفا ، وزعيمهم يومئذ عبد الله بن الكواء وشبث بن ربعي ، فخرج إليهم علي بن أبي طالب يناظرهم فوضحت حجته عليهم ، فلم يسع بعض الخوارج إلا الإذعان للحق ، فانضموا إلى علي وكان منهم ابن الكواء نفسه ، وخرج الباقون إلى النهروان وأمّروا على أنفسهم رجلين ، أحدهما : عبد الله بن وهب الراسبي ، والآخر : حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية.

فلما رأى علي انحراف الخوارج عن سماحة الإسلام ومحاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والبطش وليس بالجدال بالتي هي أحسن ، عمد إليهم في أربعة آلاف من أصحابه ، وناظرهم مرة أخرى ، وبين لهم وجه الحق فيما نقموا منه ، فاستمال منهم يومئذ ثمانية آلاف ، ولم يبق إلا أربعة آلاف أبوا إلا قتال عليّ وأمّروا عليهم ـ كما ذكرنا ـ عبد

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، (ص ٢٠٧).

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٩٣ ، ٩٤).

١٠٦

الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي.

والتقى الجمعان في النهروان ، وظهر عليّ وصحبه على الخوارج ، وقتل عبد الله بن وهب ، وذو الثدية ، ولم يفلت من الخوارج في هذا اليوم إلا تسعة أنفس :

صار منهم رجلان إلى سجستان ، ومن أتباعهما خوارج سجستان ، ورجلان إلى اليمن ، ومن أتباعهما إباضية اليمن ، ورجلان صارا إلى عمان ، ومن أتباعهما خوارج عمان ، ورجلان إلى ناحية الجزيرة ، ومن أتباعهما كان خوارج الجزيرة ، ورجل منهم صار إلى تل موزن (١).

خلاصة رأي المحكمة الأولى :

ذهب المحكمة الأولى ـ كسائر الخوارج ـ إلى إكفار علي وعثمان ، وأصحاب الجمل وصفين ، ومعاوية وصحبه ، والحكمين ، ومن رضي بالتحكيم.

ومن آرائهم كذلك إكفار كل ذي ذنب ومعصية ، والقول بخلوده في النار (٢).

ثانيا : الأزارقة :

تنسب هذه الفرقة إلى نافع بن الأزرق الحنفي ، وهم أقوى فرق الخوارج بأسا وأعزها نفرا ، يقول البغدادي : «ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أشد منهم شوكة» (٣).

وقد بايع الأزارقة نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين ، ولم يلبث أن انضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفا.

وقد هدد الخوارج الأزارقة الدولة الإسلامية تهديدا كبيرا ، حيث استولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس ، ثم بسطوا نفوذهم على كرمان وجبوا خراجها ، فحاربهم عبد الله بن الحارث عامل عبد الله بن الزبير على البصرة ، ومنيت الجيوش التي وجهها لقتالهم بهزائم منكرة ، فعهد عبد الله بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة بقتالهم ، فهزمهم عند الأهواز وقتل نافع بن الأزرق ، فبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مأمون التميمي فقتل ، ثم بايعوا قطري بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين ، «فقاتلهم المهلب حروبا كانت سجالا ، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس ، وجعلوها دار هجرتهم ، وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة ، بعضها في أيام عبد الله بن

__________________

(١) السابق (ص ٩٨ ، ٩٩).

(٢) السابق (ص ٩٩).

(٣) السابق ص ١٠١.

١٠٧

الزبير ، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق» (١).

وكان المهلب قبل الواقعة يثير خلافهم ، فتحتدم المناقشة بينهم احتداما شديدا ، ثم يلقاهم وهم على هذا الخلاف ؛ ولذا أخذ شأن الخوارج يضعف في عهد قطري بن الفجاءة ؛ لاختلافهم فرقا من جهة ، ولأثر هذا الاختلاف في مواقفهم في ميدان القتال من جهة ثانية ، وتألب المسلمين عليهم من جهة ثالثة ، وغلظتهم في معاملة مخالفيهم من جهة رابعة.

وقد توالت هزائمهم على يد المهلب ومن جاء بعده من قواد الأمويين حتى انتهى أمرهم (٢).

خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة :

أجمل عبد القاهر البغدادي مبادئ الأزارقة في مسائل أربعة :

أولا : قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون ، وكانت المحكمة الأولى يقولون : إنهم كفرة لا مشركون.

ثانيا : قولهم : إن القعدة ـ ممن كان على رأيهم ـ عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم.

ثالثا : أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم : أن يدفع إليه أسير من مخالفيهم ويأمروه بقتله ، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم ، وإن لم يقتله قالوا : هذا منافق ومشرك وقتلوه.

رابعا : استباحوا قتل نساء مخالفيهم ، وقتل أطفالهم ، وزعموا أن الأطفال مشركون ، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار (٣).

ومن آرائهم كذلك : أن مرتكب الكبيرة والمعصية كافر مخلد في النار ، وأن دار مخالفيهم دار كفر ، كما يكفرون ـ كسائر الخوارج ـ عليّا في التحكيم ، والحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص(٤).

__________________

(١) السابق ص ١٠٤.

(٢) الإمام محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧١).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٠١ ، ١٠٢).

(٤) مقالات الإسلاميين (ص ١٧٠) ، وانظر أيضا : المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، المقريزي (٢ / ٣٥٤).

١٠٨

ومن الآراء الفقهية التي انفرد بها الأزارقة :

أنهم ينكرون حد الرجم على الزاني المحصن ، وحجتهم في ذلك أن القرآن لم ينص على ذلك ، فيهملون بذلك السنة الصحيحة في رجم الزاني المحصن.

كما يرون أن حد القذف لا يثبت إلا لمن يقذف محصنة بالزنى ، ولا يثبت على من يقذف المحصنين من الرجال ؛ لأنهم أخذوا بظاهر النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٤] فلم يذكر حد قذف المحصنين من الرجال (١).

ثالثا : النجدات :

وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، والسبب في ظهور هذه الفرقة أن بعض الخوارج الأزارقة قد نقموا من رئيسهم نافع بن الأزرق براءته من القعدة عنه بعد أن كانوا على رأيه وإكفاره إياهم ، وأنه استحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم ؛ ففارق نافعا جماعة من أتباعه منهم أبو فديك وعطية الحنفي ، وراشد الطويل وغيرهم ، وذهبوا إلى اليمامة ، وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم ، كما أكفروا من قال بإمامة نافع (٢).

ومن المسائل التي خالف فيها النجدات الأزارقة استحلالهم دماء أهل الذمة ، وأما الأزارقة فذهبوا إلى تحريم دمائهم احتراما لذمتهم التي دخلوا بها في أمان أهل الإسلام (٣).

وقال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام ، من ناحية الشرع ، وأن إقامة إمام واجبة وجوبا مصلحيّا ، فإذا أقام المسلمون حدود الدين والتزموا أحكام الشريعة وتناصفوا فيما بينهم ، فليس ثمة حاجة إلى وجود خليفة أو إمام.

وقد ابتدع النجدات مبدأ جديدا لم يكن معروفا عند الخوارج آنذاك ، وهو مبدأ التقية ومعناه : «أن يظهر الخارجي أنه جماعي ؛ حقنا لدمه ، ومنعا للاعتداء عليه ، ويخفي عقيدته حتى يحين الوقت المناسب لإظهارها» (٤).

__________________

(١) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٢) ، وانظر الخطط المقريزية (٢ / ٣٥٤).

(٢) عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق (ص ١٠٥).

(٣) انظر : خطط المقريزي (٢ / ٣٥٤) ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٣).

(٤) أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٣).

١٠٩

وقد تولى نجدة أصحاب الحدود ممن هم على مثل رأيه ، وقال : لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة ، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه (١).

وزعم النجدات كذلك أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ثم أصر عليها فهو مشرك ، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم (٢).

فمناط الشرك في ارتكاب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إنما هو الإصرار عليها ، فمن أصر على صغيرة فهو مشرك ، ومن لم يصر على كبيرة فهو مسلم ، وإن شاب إسلامه شيء من نقص ، يلحقه بأهل المعصية.

ومن بدع نجدة وضلالاته أنه أسقط حد الخمر (٣).

وجماع مذهب النجدات أن الدين أمران :

أحدهما : معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم.

والثاني : الإقرار بما جاء من عند الله جملة.

وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع ، فإن الناس يعذرون بجهلها ، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ (٤).

ولم يلبث النجدات أن ثاروا على رئيسهم نجدة وخرجوا عليه لأمور نقموها منه (٥) ، وقد تشعبوا لهذا إلى ثلاث فرق :

١ ـ فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان ، وتبعهم خوارج سجستان ؛ ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت : عطوية.

٢ ـ وفرقة صارت مع أبي فديك حربا على نجدة ، وهم الذين قتلوا نجدة.

٣ ـ وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته (٦).

رابعا : الصفرية :

تنسب هذه الفرقة من الخوارج إلى زياد بن الأصفر ، وقد اختلف الخوارج الصفرية في

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٠٧) ، وانظر أيضا : مقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥).

(٢) مقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٠٧).

(٤) خطط المقريزي (٢ / ٣٥٤).

(٥) انظر في ذلك : الفرق بين الفرق (ص ١٠٢) ، ومقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥ ، ١٧٦).

(٦) الفرق بين الفرق (ص ١٠٦).

١١٠

الحكم على مرتكب الكبيرة ، وتباينت آراؤهم في ذلك أشد التباين :

فمنهم من ذهب إلى الحكم عليه بالشرك ، شأنهم في ذلك شأن الأزارقة.

وزعم بعضهم أن الذنب الموضوع له حد لا نتجاوز تسمية الله فيه من أنه زان أو سارق أو قاذف وليس صاحبه كافرا ولا مشركا ، أما الذنب الذي لم تقرر له الشريعة حدّا كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر.

وثمة من الصفرية من رأى أن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده (١).

ولم ير الصفرية ـ خلافا للأزارقة ـ قتل أطفال مخالفيهم وسبي نسائهم ، كما أنهم لا يوافقون الأزارقة فيما ذهبوا إليه من عذاب الأطفال (٢).

ومن أئمة الصفرية : عمران بن حطان السدوسي ، وأبو بلال مرداس الخارجي.

فأما أبو بلال مرداس ، فقد خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله ابن زياد ، فأرسل إليه عبيد الله من قتله.

فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إماما ، وهو الذي رثى مرداسا بقصائد يقول في بعضها :

أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس

وكان عمران بن حطان هذا ناسكا شاعرا شديدا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثه في بغض علي ـ رضي الله عنه ـ أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم ، وقال في ضربه عليّا :

يا ضربة من منيب ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البرية عند الله ميزانا

قال عبد القاهر : وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا :

يا ضربة من كفور ما استفاد بها

إلا الجزاء بما يصليه نيرانا

إني لألعنه دينا وألعن من

يرجو له أبدا عفوا وغفرانا

ذاك الشقي لأشقى الناس كلهم

أخفهم عند رب الناس ميزانا (٣)

__________________

(١) السابق (ص ١٠٨).

(٢) مقالات الإسلاميين (١ / ١٨٢).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١١٠ ، ١١١).

١١١

ويقول الإمام محمد أبو زهرة في شأن هذه الفرقة : «ومن أخبار الذين تولوا أمر هذه الطائفة من الخوارج نتبين أنها لا ترى إباحة دماء المسلمين ، ولا ترى أن دار المخالفين دار حرب ، ولا ترى جواز سبي النساء والذرية ، بل لا ترى قتال أحد غير معسكر السلطان» (١).

خامسا : الإباضية :

وإمام هذه الفرقة عبد الله بن إباض ، به تعرف وإليه تنسب ، وقد افترقت إلى فرق أربعة ، بيد أن ثمة مبادئ مشتركة تجمع بينها وتسوغ للباحث ردها إلى أصل واحد أو فرقة واحدة ، ومنها :

القول بأن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ، ولكنهم كفار ، وكفرهم كفر نعمة لا كفر اعتقاد ؛ وذلك لأنهم لم يكفروا بالله ، ولكنهم قصروا في جنب الله تعالى (٢).

وصحح الإباضية مناكحة مخالفيهم والتوارث بينهم ، وأجازوا شهادتهم.

وذهب الإباضية إلى أن دماء مخالفيهم حرام ، وإن أسروا ذلك في أنفسهم ولم يعلنوه.

واستحل الإباضية من غنائم المسلمين الخيل والسلاح ، وسواهما من أدوات الحرب وأسباب القوة ، دون الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابهما عند الغنيمة (٣).

ويقول الإمام محمد أبو زهرة عن الإباضية : «وهم أكثر الخوارج اعتدالا ، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرا ، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ؛ ولذلك بقوا ، ولهم فقه جيد ، وفيهم علماء ممتازون ، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية ، وبعض آخر في بلاد الزنجبار ، ولهم آراء فقهية ، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم ، وذلك في الميراث بولاء العتاقة ، فإن القانون المصري أخره عن كل الورثة حتى عن الرد على أحد الزوجين ، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية ويسبق الرد على أصحاب الفروض الأقارب» (٤).

ثانيا : الشيعة

نشأ المذهب الشيعي ـ كما ألمحنا إلى ذلك آنفا ـ كنتيجة مباشرة لإشكالية الإمامة التي

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٤).

(٢) السابق (ص ٧٦).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٢٠).

(٤) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٦).

١١٢

أورثت الجماعة الإسلامية شيئا غير قليل من الفرقة والاختلاف ، ومزقتهم شيعا وأحزابا متصارعة.

ولم يكن لدى أعضاء هذا الحزب في مبدأ ظهوره تصور محدد أو فكرة واضحة عن نظرية الإمامة ، غاية الأمر أن ثمة من المسلمين من رأى أن عليّا أحق بالخلافة من سائر أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أولى قرابته بها ، فيذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن من الصحابة من فضلوا عليّا ، وذهبوا إلى القول بأن الخلافة حق له ، منهم : عمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، وأبي بن كعب ، وحذيفة ، وأبو أيوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وعثمان بن حنيف ، وأبو الهيثم بن التيهان ، والعباس بن عبد المطلب وبنوه ، وبنو هاشم كافة (١).

تلك هي الفكرة المبدئية التي قام على أساسها مذهب الشيعة ، ثم تطورت هذه الفكرة نتيجة عوامل متباينة إلى نظرية لها أصول محددة وقواعد مجمع عليها من جانب الشيعة.

وأول هذه العوامل : الشعور العاطفي الذي خامر نفوس أكثر المسلمين بسبب الاضطهاد الذي وقع على آل بيت النبي عامة ، وآل علي خاصة ، والأحداث المحزنة التي تعاقبت على علي وآله ، ونستطيع أن نلتمس هذه الأحداث في «مصرع علي على يد الخوارج ، ثم في التياث الأمر على ابنه الحسن ، وتخاذل الناس عن نصرته حتى اضطر إلى التسليم ، ثم في موته في ظروف مريبة غامضة يرى شيعته أنها من تدبير أعدائه ، فبموته ضاع الأمل الذي كان باقيا في أن حقه ربما كان سيعود إليه بعد وفاة معاوية. ثم في قسوة زياد ـ الذي ألحقه معاوية بنسبه ـ على رجال الشيعة واضطهاده لهم ، وإرساله حجر بن عدي ـ من زعمائهم ومن أشراف العرب ومن خير الناس تقوى وعبادة ، وأبطال فتح نهاوند ـ إلى الشام ليقتل ؛ وذلك لاتهامه بأنه كان يعمل لإحداث ثورة في الكوفة ، ثم في تقرير معاوية العهد لابنه يزيد ، فأغلق الباب نهائيّا على أي أمل في عودة أبناء علي إلى الخلافة.

وأخيرا وهذه هي الطامة الكبرى والفاجعة التي حفرت في قلوب الشيعة وقلوب المسلمين آثارا عميقة من الحزن واللوعة ، لا يمكن أن يمحوها الزمن : ألا وهي مقتل الحسين. كل هذه الأحداث أو المآسي المتتابعة هي التي كونت فرقة الشيعة ودفعتهم إلى إنتاج آرائهم ، وأعطتهم هذه القوة التي جعلت منهم أكبر هيئة في المعترك السياسي الديني ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة (٢ / ٥١).

١١٣

ومكنتهم من أن يصيروا الحزب الخالد الذي لا يزال باقيا بتمام قوته ووجوده إلى اليوم» (١).

إذن فقد أسهمت هذه الأحداث المفجعة في تكوين فرقة الشيعة وفي إنتاج آرائها في السياسة ثم في العقيدة ، وبيّن أن هذا العامل التاريخي يستند على الشعور والوجدان أكثر مما يقوم على البرهان والحجة.

وثمة عامل آخر ساعد بشكل كبير على قوة التيار الشيعي ، ومنحه ذيوعا وانتشارا ، وتأثيرا في الحياة السياسية ، ألا وهو انضمام الموالي الفرس إلى الحركة الشيعية.

والحق أن فكرة الشيعة عن الخلافة وما ذهبوا إليه من ضرورة تخصيصها بعلي وبنيه لاءمت إلى حد كبير نظرية الحق الملكي المقدس التي اعتنقها الفرس ؛ يقول الأستاذ دوزي موضحا حقيقة هذا العامل : «إن الشيعة فرقة فارسية في حقيقتها وجوهرها ... إن الفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب ، فهذه الفكرة غير معهودة له وغير معقولة ، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه هو مبدأ الوراثة ، وكل الذي كان هو في حاجة إليه ، وقد تغيرت بيئته واعتنق دينا جديدا ، هو أن ينقل ولاءه ويحول وجهة شعوره من أفراد أسرة مقدسة إلى أخرى. فليس من المبالغة إذن في شيء ـ وإن كان الدافع ونوع العاطفة ولا شك مختلفين وكان حدوث العملية غير شعوري ـ أن يقال : إن «البيت النبوي» ، وقد مثله آل علي ، قد حل في قلوب الفرس واعتبارهم محل بيت آل ساسان» (٢).

ويسعنا أن نضيف سببا آخر يفسر لنا انضمام الفرس إلى الشيعة وهو دفاعهم عما رأوه حقّا لعلي وبنيه ، وهو اضطهاد الأمويين للموالي والذي أورثهم شعورا مؤلما بانخفاض مستواهم المعيشي ، وتدني مكانتهم الاجتماعية عن العرب.

نتج عن العوامل السابقة مجتمعة تطور الفكرة الشيعية وتبلور ملامحها ، وغدا للشيعة رأي محدد في الإمامة ذكره ابن خلدون فقال : «إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ، ويتعين القائم بتعيينهم ، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة ، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر ، وإن عليّا ـ رضي الله عنه ـ هو الذي عينه صلوات الله

__________________

(١) د / محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٦٩ ، ٧٠).

(٢) ينظر : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٧١).

١١٤

وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم ، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه ، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة» (١).

أبرز فرق الشيعة :

يطلق مصطلح الشيعة على فرق عدة منها المتطرف ومنها المقتصد ، عد منها البغدادي عشرين فرقة اعتبرها معدودة في فرق الأمة ، وما سوى هذه الفرق العشرين ، فليسوا من فرق الإسلام وإن كانوا منتسبين إليه (٢).

ونكتفي هاهنا بذكر أبرز فرق الشيعة :

الزيدية :

تنسب هذه الفرقة إلى زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وكان زيد قد خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة فقتل وصلب ، ويقول المسعودي في سبب خروجه :

كان زيد دخل على هشام ، فلما مثل بين يديه لم ير موضعا يجلس فيه فجلس حيث انتهى به المجلس ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ليس أحد يكبر عن تقوى الله ولا يصغر دون تقوى الله ، فقال هشام : اسكت لا أم لك ، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لك جوابا إن أحببت أجبتك به ، وإن أحببت سكت عنه ، فقال هشام : بل أجب قال : إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق ، فلم يمنعه ذلك أن يبعثه الله نبيّا ، وجعله الله للعرب أبا ، فأخرج من صلبه خير البشر محمدا فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي ، وقام وهو يقول :

شرده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

منخرق الكمين يشكو الجوى

تنكثه أطراف مرو حداد

__________________

(١) المقدمة (٢ / ٥٨٧) تحقيق د / علي عبد الواحد وافي.

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٤٣) ، أصول الدين للبزدوي (ص ٢٤٧) ، نشر الطوالع (ص ٣٨٨) ، الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٣٧) ، الملل والنحل (١ / ١٩٠) ، المواقف (٣ / ٦٧١) ، الصواعق المحرقة (١ / ٧٦) ، حجج القرآن للرازي (١ / ٥٤) ، أصل الشيعة ص (٤٦) ، التفكير الفلسفي في الإسلام (١ / ١٨٦) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ٨٣٧) ، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية (٣ / ١١٢) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٥٥).

١١٥

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث الله له دولة

يترك آثار العدا كالرماد

فمضى إلى الكوفة وخرج عنها ، ومعه القراء والأشراف ، فلما قامت الحرب انهزم عنه أصحابه ، وبقي في جماعة يسيرة ، فقاتل بهم أشد قتال وهو يقول متمثلا :

أذل الحياة وعز الممات

وكلا أراه طعاما وبيلا

فإن كان لا بد من واحد

فسيري إلى الموت سيرا جميلا

وانتهى الأمر بقتله (١).

والحق أن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية وأكثرها اعتدالا ؛ فهي لم ترفع الأئمة إلى مرتبة النبوة ، بل لم ترفعهم إلى مرتبة تقاربها بل اعتبروهم كسائر الناس ، ولكنهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

والزيدية لا يؤمنون بأن الإمام الذي أوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عينه بالاسم والشخص ، بل عرفه بالوصف ، وأن الأوصاف التي عرفت تجعل الإمام عليّا ـ رضي الله عنه ـ هو الإمام من بعده ؛ لأن هذه الأوصاف لم تتحقق في أحد بمقدار تحققها فيه. وهذه الأوصاف توجب أن يكون هاشميا ورعا تقيا ، عالما سخيا ، يخرج داعيا لنفسه ، ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميّا أي من ذرية السيدة فاطمة رضي الله عنها (٣).

الإمامية :

وهم يجعلون الإمام بعد علي زين العابدين محمد الباقر لا زيد بن علي ، وأهم فرقهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.

والاثنا عشرية هي الفرقة التي تقول باثنى عشر إماما ، هم : علي المرتضى ، والحسن المجتبى ، والحسين الشهيد ، وعلي زين العابدين السجاد ، ومحمد الباقر ، وجعفر الصادق ، وموسى الكاظم ، وعلي الرضا ، ومحمد النقي ، وعلي التقي ، والحسن العسكري الزكي ، ومحمد المهدي الذي اختبأ واختفى سنة ٢٦٠ ه‍ وما يزال مستورا حتى يظهر في آخر الزمان ؛ ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا (٤).

__________________

(١) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٢١٧ ـ ٢١٩).

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة (ص ٤٢).

(٣) الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٣٨) ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٤٣).

(٤) انظر : الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٣٨).

١١٦

أما الإسماعيلية فساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق ، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل ، وإليه تنسب هذه الفرقة (١).

وافترقت الإسماعيلية فرقتين :

ـ فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.

ـ وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إن جعفرا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل (٢).

وقد نشأ ذلك المذهب بالعراق كغيره من مذاهب الشيعة ، واضطهد كما اضطهد غيره ، وقد فر المعتنقون له بتأثير الاضطهاد إلى فارس وخراسان ، وما وراء ذلك من الأقاليم الإسلامية كالهند والتركستان ، وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة ، والأفكار الهندية ، وتحت تأثير ذلك انحرف كثيرون منهم فقام فيهم ذوو أهواء ؛ ولذلك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة ، بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام ، وبعضهم انحرفوا بما انتحلوا من نحل لا يتفق ما اشتملت عليه مع المقرر الثابت من الأحكام الإسلامية ، وقد سموا الباطنية أو الباطنيين ؛ وذلك لاتجاههم إلى الاستخفاء عن الناس ، الذي كان وليد الاضطهاد أولا ، ثم صار حالة نفسية عند طوائف منهم (٣).

ومن الآراء الشاذة التي قال بها الإسماعيلية الباطنية :

ـ زعمهم أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.

ـ تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا ، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم ، والحج زيارته وإدمان خدمته ، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام ، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق.

وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها ، وتأولوا في ذلك قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل (٤).

__________________

(١) انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ٨١).

(٢) انظر : السابق (ص ٨١).

(٣) تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة (ص ٥٢).

(٤) الفرق بين الفرق (ص ٣١٨).

١١٧

كما زعموا أن تكاليف الدين وشعائره ليست إلا للعامة ولا يلزم الخاصة أن يعملوا بها (١).

ويقول البغدادي موضحا خطر الباطنية : «اعلموا ـ أسعدكم الله ـ أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس ، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم ، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ؛ لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره ؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوما ، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر (٢).

الكيسانية والراوندية :

سميت الكيسانية بذلك نسبة إلى كيسان رئيس جند المختار ابن عبيد الله الثقفي الذي خرج ودعا إلى محمد بن الحنفية.

ومنهم من يزعم أن محمد بن الحنفية لا يزال حيّا بجبال رضوى.

ومنهم من قال : إن الإمام بعد ابن الحنفية ابنه عبد الله بن محمد أبو هاشم الذي أوصى لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالإمامة ، ومن ثم انتقلت الإمامة من أبناء علي إلى أبناء العباس.

ومن الكيسانية نشأت الراوندية ، حيث أوصى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلى ابنه إبراهيم ، وإبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية.

والراوندية فرقة تشيعت للعباسيين ولم تكتف بمدح العباس بل أنكروا على أبي بكر وعثمان أن تقلدوا الخلافة مع وجود العباس ، وأنه ما كان يجوز لأحد أن يتولاها إلا العباس وعلي ؛ لأن العباس أذن له فيها.

بل ذهبوا إلى أبعد من هذا حينما قال بعضهم بالتناسخ ، أي : حلول روح آدم في زعيم لهم ، وروح جبريل في آخر (٣).

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي ، للشيخ السائس (ص ٢١٥).

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٣٠٥).

(٣) انظر : الفرق بين الفرق ص (ص ٢٦ ، ٢٧) ، مقالات الإسلاميين (١ / ٢٨) ، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ السائس (ص ٢١٧).

١١٨

ثالثا : المرجئة

يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك ـ قد ارتبط ارتباطا مباشرا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم ، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر ، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعا ، واعتبار العمل جزءا من إيمان صاحبه ، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة (١).

وعلى العكس من معتقد الخوارج ، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك ، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزوجل وولي لله عزوجل ، من أهل الجنة (٢).

ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان ـ وكان من كبار المرجئة ـ : لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا(٣).

وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير ؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان (٤) ، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية ، أنهم سموا بذلك ؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدين ، ويفوضون أمره إلى ربه (٥).

ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي ، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم ، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر الله ، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليّا والقائلين بالتحكيم ، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان ، والفريقان جميعا ـ الشيعة والخوارج ـ يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة ،

__________________

(١) ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية ، (ص ٨٥).

(٢) انظر في ذلك : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٨٥) ، أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٤١ ، ٤٤٢).

(٣) ابن حزم ، الفصل (٥ / ٢٠٤).

(٤) السابق (٥ / ٢٠٥).

(٥) الفرق بين الفرق (ص ٢١١).

١١٩

والأمويون يقاتلون الجميع ويرون أنهم ضالون مضلون ، «فظهرت المرجئة تسالم الجميع ، ولا تكفر طائفة منهم ، وتقول : إن الفرق الثلاث : الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون ، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب ، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب ، فلنترك أمرهم جميعا إلى الله ، ومن هؤلاء بنو أمية ، فهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فليسوا إذن كفارا ولا مشركين ، بل مسلمين نرجئ أمرهم إلى الله الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها» (١).

والحق أن هذه الفرقة قد وجدت لنفسها من مواقف بعض الصحابة تجاه الفتنة مستندا دعمت به وجهة نظرها ، بل يصح لنا أن نعتبر مواقف هؤلاء الصحابة البذرة الأولى التي نبتت منها المرجئة ، وتفصيل ذلك أن ثمة من الصحابة فئة لما رأوا الفتنة محدقة بالمسلمين ، ومقالة الكفر فاشية بين الناس جارية على ألسنتهم يرمون بها كل أحد مهما علا قدره وتميزت مكانته ـ : اعتصمت هذه الفئة من الصحابة بالصمت ، وأحجمت عن الانخراط في الفتنة ، وتمسكت بحديث أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستكون فتن : القاعد فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ألا فإذا نزلت أو وقعت ، فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه ، فقال رجل : يا رسول الله ، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ، ثم لينج إن استطاع النجاة» (٢).

ومن الصحابة الذين امتنعوا عن المشاركة في الفتنة عملا بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سعد ابن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو بكرة راوي الحديث وعمران بن الحصين ، وروي أن سعد بن أبي وقاص كان يقول إذا سئل القتال : «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول : هذا مؤمن وهذا كافر».

«وبهذا أرجئوا الحكم في أيّ الطائفتين أحق ، وفوضوا أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى. وقد قال النووي في ذلك : «إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة ، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ، ولم يقاتلوا ، ولم يتيقنوا

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٤٢).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢١٢) كتاب الفتن باب نزول الفتن (١٣ / ٢٨٨٧) ، وأحمد (٥ / ٣٩ ، ٤٨).

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (٦ / ٧٠٨) كتاب المناقب باب علامات النبوة (٣٦٠٤) ، ومسلم (١٠ / ٢٨٨٦) في الموضع السابق.

١٢٠