مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

والمعنى : انكم لو أطعتم الذين كفروا يرجعونكم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلال والشرك بالله تعالى سواء كان الضلال والرجوع إلى الكفر دفعة أو تدرجا. ومن ذلك إطاعتهم في ترك الجهاد ، والقتال أو طلب الأمان منهم كما صدر عن بعض المؤمنين في غزوة أحد عند ما غلبوا على أمرهم بادئ الأمر فانه يقتضي تسلط الكافرين على المؤمنين والميل إلى ولايتهم وهو يوجب الرد عن الايمان.

ومضمون الآية الشريفة لا يختص بعصر نزول القرآن الكريم بل هو حقيقة من الحقائق التي أكد القرآن الكريم عليها بأساليب مختلفة قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) آل عمران ـ ١٠٠.

قوله تعالى : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ).

اي : فترجعون إلى ورائكم وأنتم خاسرون للدنيا والآخرة وهو أعظم الخسران للإنسان.

قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ).

اضراب عن تولي الكافرين لأنهم ليسوا أهلا للطاعة. اي : فلا تطيعوا الكفار بل أطيعوا الله تعالى مولاكم وناصركم وقد وعدكم النصر وتولي شؤونكم بعنايته الخاصة قال تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الأنفال ـ ٣٩.

قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ).

بيان لكونه خير الناصرين ووعد منه تعالى بنصر المؤمنين بالرعب

٤٠١

وخذلان الكافرين.

والرعب : بسكون العين شدة الخوف والفزع وهو مما اختص به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما في الحديث المعروف : «ونصرت بالرعب مسيرة شهر» فكان أعدائه قد أوقع الله تعالى في قلوبهم الخوف منه فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه.

والمعنى : سنفرغ في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب اشراكهم بالله العظيم. وانما عبر سبحانه وتعالى بنون العظمة «سنلقي» والتفت في الكلام على طريق المهابة والكبرياء وأكد عزوجل الإلقاء بالسين «سنلقي» اهتماما بالموضوع.

وقد ذكر عزوجل من افراد النصر إلقاء الرعب في قلوب الأعداء وهو مما وعده به عزوجل المؤمنين في مواضع مختلفة وانه من مختصات خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما تقدم في الحديث وقد شهد به التاريخ في حروبه مع المشركين.

وانما ورد اسم الجلالة صريحا لبيان ان هذا الاسم الجامع لجميع صفات الكمال ينافي اتخاذ الشريك له ويشمل الشرك كل انحائه في الذات والخلق والفعل واسناد التأثير لغيره كالدهر والمادة وغيرها.

قوله تعالى : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).

السلطان : هو الحجة والبرهان ، وانما عبر تعالى به لإثبات التسلط على الخصم ، فيستفاد ان كل ما زعموه من الحجج في اثبات الشرك باطل وموهون.

والآية المباركة تنفي النزول والوجود معا ، فانه لا حجة في ثبوت الشريك حتى ينزلها.

٤٠٢

قوله تعالى : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ).

المأوى : هو المكان الذي يومئ اليه ليستراح فيه ويحتمي به ، وفي هذا التعبير تبكيت لهم بسوء العاقبة. اي : ان مكانهم الذين يأوون اليه في الآخرة ليستراح فيه هو النار لا مأوى لهم غيرها.

قوله تعالى : (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ).

المثوى : هو المكان الذي يمكث فيه وهو من ثويت على وزن مفعل قلبت لامه ياء اي المكان الذي يؤوى اليه الظالمين هو بئس المكان الذي يمكثون فيه ولا يمكنهم مفارقته بسبب ظلمهم.

وانما وضع الظاهر موضع المضمر ولبيان ان ايوائهم انما يكون أبديا وهم خالدون فيه ، كما ان في ذكر الظالمين بيان للعلة في استحقاقهم هذا الجزاء لأنهم في اشراكهم ظالمون.

بحث دلالي

الآية الشريفة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد وهو اطاعة المنافقين والمشركين في شأن الجهاد وإقامة الدين وترتيب الأثر على أقوالهم وأفعالهم وقد حذر سبحانه وتعالى المؤمنين في مواضع متعددة في القرآن الكريم وبيّن الآثار السيئة التي تترتب عليه بأسالبب مختلفة ، فقد ذكر عزوجل في المقام من تلك الآثار السيئة الخسران في الدنيا والآخرة وهو معلوم لان في اطاعة الذين كفروا إذهاب شوكة المسلمين وحرمانهم مما أوعده الله تعالى لهم من النصر والسعادة وتبديل

٤٠٣

الأمن إلى الخوف والامتهان والإذلال وهذا هو الخسران في الدنيا واما الآخرة فلهم عذاب أليم وحرمان مما وعد الله المتقين ، وتتضمن الآية الشريفة أهم التعاليم الإلهية للمؤمنين.

كما ان الآية الشريفة تبين ان السبب في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو الشرك وهذا جار على طبق السنة الإلهية في قانون الأسباب والمسببات وكلما تحقق هذا السبب يتحقق المسبب فلا اختصاص لذلك بالذين كفروا بل يجرى في المؤمنين إذا هم اعرضوا عن الدين الحق وهذا ما نراه من حال المؤمنين فإنهم كانوا في أعز مقام واحسن حال ولكنهم أصبحوا مرعوبين يخافون من كل احد ، مع ان الله تعالى وعدهم النصر وحسن العاقبة وهو يفي بعهده ان وفوا بعهدهم.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ الآية ـ» عن علي (عليه‌السلام) : «يعني عبد الله ابن أبي حيث خرج مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم رجع قال للمؤمنين يوم أحد يوم الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وارجعوا إلى دينكم».

أقول الرواية من باب التطبيق.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) قال السدي لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم انهم ندموا وقالوا

٤٠٤

بئس ما صنعنا قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك القى الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما عزموا وانزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : تقدم في التفسير ما يدل على ذلك.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ

٤٠٥

وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

لما وعد الله المؤمنين النصر والظفر على الأعداء وذكر سبحانه وتعالى ما يوجب نيل هذا الفيض الالهي وهو التقوى والصبر والثبات وشدة العزيمة يبين عزوجل في هذه الآيات صدق وعده كما يبين السبب في الهزيمة التي لحقت بالمؤمنين ، وهو عصيان امر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والتنازع في شؤون الحرب وعدم الثبات والصدق في النية.

كما ذكر سبحانه وتعالى بعض خصوصيات تلك الهزيمة التي كانت لها الأثر الكبير على المؤمنين ووعد عزوجل بالعفو والمغفرة.

وهذه الآيات المباركة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد التي كانت درسا كبيرا للمؤمنين.

التفسير

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ).

مادة (حسس) تدل على وصول شيء إلى الحاسة (إي الإدراك) فان كان بآفة فهو القتل وأمثاله وإلا فهو من مجرد الحس ، ويستعمل هذه المادة في القتل على سبيل الاستئصال كما يقال «حسوهم بالسيف

٤٠٦

حسا» اي استأصلوهم قتلا. والحسيس هو القتيل وزنا ومعنى.

اي : لما وعدكم الله تعالى النصر فقد وفى بوعده واظهر مصداقه لما وفيتم بالشروط وهي الصبر والتقوى والثبات كما عرفت ، وكان هذا النصر أول الأمر في غزوة احد حين ظهروا على عدوهم وقتلوهم قتلا ذريعا واجلوهم من مواقعهم وهزموهم باذن الله تعالى ، إلا انهم لم يستمروا على الشروط فكان الفشل والهزيمة والعتاب كما حكى عنهم عزوجل في الآيات التالية.

وانما قيد عزوجل القتل باذنه لبيان ان ذلك من مصاديق الوعد الذي وعدهم به.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ).

بيان بأن الوعد بالنصر كان مستمرا من الله تعالى إلى ان تحقق منهم ما أوجب انقطاع ذلك الفيض ، وقد ذكر عزوجل أمورا ثلاثة وهي الفشل ، والتنازع في الأمر ، وعصيان امر الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

اما الفشل فقد ظهر منهم عند ما كر عليهم المشركون بعد فرارهم والمؤمنون لم يقدروا أن يملكوا أنفسهم عن الغنيمة فظهر الجبن والجور عليهم.

واما التنازع فقد حصل من الرماة عند ما رأوا ان اصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بدءوا بجمع الغنائم فتنازعوا بينهم في ترك المكان حيث رغب أكثرهم في الغنيمة فقالوا ما بقاؤنا هاهنا وقد انهزم المشركون ، وقال الآخرون لا نبرح من هذا المكان ولا نخالف امر الرسول.

واما العصيان فقد كان في مخالفة أمر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٤٠٧

بعدم ترك المكان مهما كان الأمر ، كما انه حصل أيضا بالفرار عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما يأتي في الآيات التالية.

و «حتى» للغاية و «إذا» بمعنى الوقت والحين لا الشرط ، وقيل انها للشرط وقد حذف الجواب ليذهب ذهن المخاطب في تقديره كل مذهب.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ).

اي : ان كل ذلك حصل منكم من بعد ما رأيتم النصر وقتل المشركين وهزيمتهم. وفيه التنبيه على قبح ما صدر منهم ، وعظم المعصية ، وزيادة في التقريع لان الذي يرى توارد النعم عليه وإنجاز الوعد بالنسبة اليه لا بد ان يمتنع عن المعصية ولا يقدم على مخالفة المنعم وإلا كان كفرانا وسببا في سلب الإكرام والفيض عنه وهذا ما جرى عليهم في أحد.

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).

تفصيل بعد إجمال وبيان لسبب التنازع الذي حصل منهم في ترك المكان فان من ترك فم الشعب وخالف امر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) آثر الحياة الدنيا والغنيمة على طاعة الرسول (ص) والجهاد في سبيل الله ومنهم من آثر الآخرة وامتثل امر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فثبت وجاهد حتى استشهد.

قوله تعالى : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).

بيان للأثر الذي ترتب على أفعالهم. والجملة عطف على «صدقكم الله» اي ان الله تعالى صدقكم وعده وأيدكم بالنصر ومن عليكم

٤٠٨

بهزيمة الأعداء ولكن صرفكم عن المشركين بسبب ما صدر منكم من الفشل والتنازع والعصيان ، فكان ذلك طبق السنة الإلهية من ايكال الأمر إلى الناس إذا صدر منهم العصيان. والصرف هو الكف.

والمعنى : ثم كفكم عن المشركين وكان ذلك بانهزامهم بعد الظفر على المشركين وكان سبب ذلك ظهور الاختلاف في المسلمين بالفشل والتنازع والعصيان ، وكل ذلك كان لأجل امتحانكم واختباركم ليظهر صبركم أو رسوخ ايمانكم فيتميز المؤمن عن المنافق ليجزي الله تعالى المؤمنين بمراتب ايمانهم ويرفع درجات الصابرين المجاهدين.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).

اي : ولقد عفا الله تعالى بفضله عنكم ببركة ايمانكم ، أو كان هذا العفو بعد الاختبار والتمحيص. وقد ظهر أثر هذا العفو بعد ذلك عليهم وأنجز وعده لهم بالظفر على الأعداء بعد الهزيمة.

قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

تقرير لمضمون ما قبله وتأكيد لإنجاز الوعد ، فهو يتفضل على المؤمنين بأنحاء النعم فلا يذرهم على ما هم عليه من الضعف وياتي في الآيات اللاحقة بعض وجوه نعمه وتفضله عليهم. وانما ذكر «المؤمنين» تشريفا ولبيان العلة في الفضل وهي الايمان والتنوين في «فضل» للتفخيم.

قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ).

بيان للصرف اي صرفكم عنهم في الوقت الذي كنتم تنهزمون فيه والإصعاد هو الدخول في الصعود الى الجبال والابتعاد عن المواقع نظير انجد ، وأبهم وقيل الإصعاد هو الدخول في السير في الأرض قال الشاعر :

٤٠٩

يبارين الاعنة مصعدات اي مقبلات ومتوجهات نحوكم. وقال بعضهم : صعد بمعنى ذهب أينما توجه.

ومادة (لوي) تدل على الميل والالتفات والاعراض يقال : مرّ لا يلوي على أحد اي : لا يلتفت ولا يعطف او لا ينتظر ولا يبالي وقال في المجمع لا يستعمل الا في نفي فلا يقال : لويت على كذا.

والمعنى : ان الله تعالى صرفكم عن المشركين في الوقت الذي ابتعدتم عن مواقفكم منهزمين فرارا من القتل غير ملتفتين إلى احد سواء كان مؤمنا مسالما أو عدوا محاربا لشدة الدهشة والخوف الذي وهمكم.

قوله تعالى : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ).

الأخرى مقابل الاولى وأخر القوم الجماعة التي في آخرهم.

اي : والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ورائكم يناديكم اليه. وهو يدل على إمعان القوم في الفرار وابتعادهم عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى كان النداء والدعاء في آخرهم وهم لا يبالون إلى دعائه وندائه.

وقيل ان (فِي أُخْراكُمْ) حال من الفاعل في «يدعوكم» اي الرسول يدعوكم حال كونه في الجماعة التي ثبتت معه وهي في اخراكم وهم الذين وصفهم الله تعالى في الآيات السابقة بأنهم من الشاكرين.

قوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ).

مادة ثوب تدل على رجوع الشيء إلى حالته الاولى حقيقة أو اعتبارا ، ويسمى الثواب ثوابا لأنه بمنزلة رجوع العمل إلى عامله

٤١٠

قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة ـ ٨ وتستعمل في الخير والشر وان كان في الاول اكثر قال تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) آل عمران ـ ١٤٨ ومن الثاني قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) المائدة ـ ٦٠ وكذا المقام.

والمعنى : اي رجع إليكم غما مقابل غم اوقعتموه على المشركين ، فيكون هذا مبينا لما تقدم في قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) وهذه هي المداولة المذكورة في قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) فيكون متعلق الغمين متعددا كما تقدم في القرحين.

ويحتمل ان يكون متعلقهما واحدا بالنسبة إلى المسلمين فقط ، فالغم الاول إشراف المشركين والغم الثاني وقوع الهزيمة ويشهد له بعض الروايات.

ويحتمل وجه ثالث وهو ان يكون الغم الثاني مؤكدا للغم الاول اي غما متصلا وشديدا ومنشأ الشدة توارد الهموم عليهم ، فالغم الاول هو غم الهزيمة والثاني غم الندامة والحسرة وذلك شايع في كل مقاتل انهزم حيث يتوارد عليه الغموم. وهناك وجوه اخرى ذكرها المفسرون لا طائل في ذكرها والخدشة فيها.

وكيف كان فيكون تفريع هذه الآية المباركة على الآية السابقة من قبيل ترتب المسبب على السبب ، فان الاختلاف ، وعدم الاعتناء بقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اقتضى ان يقعوا في غم ولكن الله سبحانه وتعالى تفضل عليهم بان جعل هذا الغم مقابل الغم الذي أوقعه على المشركين ، فتكون هذه الجملة مبينة لجهات فضله تعالى عليهم كما بينه عزوجل في الآية اللاحقة أيضا.

٤١١

قوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ).

بيان لقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) وهو عدم الحزن على ما فاتكم من الظفر بعدوكم والنصر التام عليه أو الغنيمة والغلبة.

قوله تعالى : (وَلا ما أَصابَكُمْ).

بسبب إثم المخالفة والعصيان فانه كان لهما الأثر الكبير في الانكسار والهزيمة والخوف والرعب. والمعنى : ان الله تعالى أثابكم غما بغم لأجل التسلية وعدم تراكم الغموم عليكم ولأجل ان تذهلوا عن الحزن الذي أصابكم من الهزيمة وغلبة العدو ، وهذه حكمة الهية يختبر بها عباده المؤمنين ويعلمهم الصبر في الشدائد ويرزقهم الثبات في الايمان وللتمييز بين المؤمن والمنافق ولتكميل الفضائل ومكارم الأخلاق وهي سنة الهية قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) الحديد ـ ٢٣.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

اي والله لا يخفى عليه أعمالكم ونياتكم وهو محيط بكم وقادر على مجازاتكم.

والخبير : من اسماء الله الحسنى وهو بمعنى العليم ولكن العلم إذا أضيف إلى الأمور الخفية سمى خبرة وكان صاحبها خبيرا.

وفي الآية المباركة الترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية.

٤١٢

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ).

الغم معروف وهو حالة تعرض على الإنسان عند المصائب والحزن ومادة غمم تدل على الستر والخفاء فكأن هذه الحالة تستر الفرح والسرور وتخفي أسارير الوجه وتضيق الصدر.

والأمنة بالتحريك مصدر ، كالمنعة وهو بمعنى الأمن وفي حديث نزول المسيح بعد ظهور الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) : «وتقع الأمنة في الأرض» اي تمتلئ الأرض بالأمن فلا يخاف احد من الناس والحيوان.

والنعاس ما يتقدم على النوم من فتور ويظهر اثره على العين ابتداء وهو بدل اشتمال من أمنة الذي هو مفعول «انزل» وقيل غير ذلك في اعرابهما. والغشيان الاحاطة.

والمعنى : ان الله تبارك وتعالى رأفة بكم أنزل عليكم من بعد الغم الذي أصابكم ما يشغلكم عن خوفكم ويغفلكم عن ذلك الغم بأن سلط عليكم النعاس الذي أصاب طائفة منكم وأحاط بهم وكانت هذه الحالة بمنزلة الأمن لكم. وهذه الطائفة هي التي اصابها الغم الشديد وتراكم عليهم من عدة وجوه كالخوف من الله تعالى وغم المخالفة وغم الهزيمة وغم الندم على الذنب ، وكانت هذه نعمة كبرى عليهم وسكينة إلهية وعناية خاصة بهم في هذه الحالة التي سلبت عنهم لبهم وازداد غمهم فكان النعاس لهم راحة للأجسام بعد الضعف والفتور ، واطمينان للقلب الذي اصابه الغم والتسليم لقضاء الله وقدره. وهؤلاء هم الذين رجعوا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واحتفوا به ونصروه.

٤١٣

قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ).

اي وطائفة اخرى مقابل الطائفة الاولى الذين لم يكونوا أهلا لهذه المنحة الربانية واللطف الالهي بهم فلم يكن لهم هم الاحفظ أنفسهم وحطام الدنيا فلم يهتموا بحفظ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودين الحق بشيء أصلا. وانما كان شغلهم الشاغل أنفسهم لما اعتراهم الخوف وهم الضعفاء في الايمان الذين لم يثقوا بوعد الله تعالى ولم يرسخ الايمان في قلوبهم يميلون مع كل ريح. ولا تختص هذه الطائفة بخصوص المنافقين كما ذكره بعض المفسرين بل يجرى في كل من كان ضعيف الايمان.

ويستفاد من الآية الشريفة شدة الخوف واستيلائه عليهم بحيث سلب النعاس عنهم فلم يكن لهم همّ الا نجاة أنفسهم فيكون المراد بالنعاس في الآية السابقة النوم الطبيعي الذي يعرض على الإنسان ويوجب الراحة في الجملة له وكان ذلك بفضل الله تعالى عليهم والندم على ما فعلوه بحيث حصل لهم الطمأنينة بوعد الله عزوجل.

قوله تعالى : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ).

بيان لقوله تعالى : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لان شغل اهل الجاهلية لم يكن إلا الاهتمام بالنفس وحفظها فقط فلا محالة تنتفي عنهم الثقة بالله تعالى وتعرض جهات الخوف على النفس فيظنون بالله ظنا باطلا كظن اهل الجاهلية ، والمراد بالظن هنا الاعتقاد ، وسيأتي في الآيات اللاحقة ذكر بعض ما اعتقدوه كقوله تعالى : حكاية عنهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وقوله تعالى : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ).

ومن الظنون الباطلة ان من آمن بالله تعالى لا بد ان يحفظ من جميع انواع البلايا ويسعد في الدنيا لفرض انه على دين الحق وهو لا يغلب.

٤١٤

وهذا الظن باطل لان الايمان به تعالى لا بد وان يجري على المجرى الطبيعي ، وقد حكى عزوجل في ما تقدم من الآيات ابتلاء المؤمنين واختبارهم وتمحيصهم ، ولا يخرج كل ذلك عن قانون الأسباب والمسببات. نعم لله تعالى عنايات خاصة لهم يظهر أثرها بين حين وآخر حتى تظهر دولة الحق.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ).

بيان لظنهم الباطل وهذا القول سواء كان خطابا للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو كان في ما بينهم. ويحتمل ان يكون القول بمعنى الاعتقاد اي يتردّدون في اعتقادهم وهو يكشف عن عدم ثبات الايمان في قلوبهم وتشكيكهم في الدين واستحكام روح الشرك والكفر.

والاستفهام انكاري ، والمراد من الأمر إما الحق أو النصر والظفر أو ان الأمر هنا هو الأمر في قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الذي يكشف سبحانه فيه حقيقة الدين وهي ان العبد مطلقا لا يملك من الأمر شيئا سوى التسليم لأمر الله تعالى وهو المؤثر فقط إلا انه اقتضت حكمته ان تجري الأمور بأسبابها.

والمعنى : انهم يقولون ليس لنا من الحق أو النصر والظفر نصيب والله تعالى لا ينصر رسوله كما نصره في بدر وذلك لأنهم اعتقدوا ان الدين والنصر متلازمان ولم يعلموا ان الله تعالى جعل الأمر مداولة بين الناس واختبارا للمؤمنين وتمحيصا لهم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).

خطاب للرسول الكريم بالتبليغ لهم لأنه واسطة الفيض بان ازمة الأمور كلها بيده عزوجل وتجري الأمور وفق سنة محكمة متقنة بها

٤١٥

انتظم نظام الدنيا والآخرة وسينصر الله تبارك وتعالى المؤمنين المتقين على ما يشاء ويريد دون ما يعتقدون.

قوله تعالى : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ).

تأكيد لظنهم الباطل وتوصيف لهم بأشد مما وصفهم أولا ، وهم يضمرون امرا لا يبدونه لك لرسوخ النفاق والشقاق فيهم كما كانوا في الجاهلية.

اي : وان أظهروا ظنهم الباطل في صورة السؤال وكان ذلك كاشفا عن شكهم وعدم ثبات ايمانهم إلا انهم يضمرون في أنفسهم اكثر من ذلك فهم يكذبون الحقيقة وينكرون الحق ويكفرون بالدين ولكنهم لا يبدونه لك.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

اي : يقولون في أنفسهم أو في ما بينهم أو يعتقدون ذلك دون ان يبدونه للنبي لأنه يشتمل على الكفر ، وهذا القول يحتوي على الإنكار في صورة البرهان بزعمهم وهو لو كان الأمر لنا كما وعد به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما وقع القتل فينا وانما قالوا ذلك زعما منهم بأنهم مهما كانوا من اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأي اعتقاد كانوا ينصرهم الله تعالى وهم غافلون عن حقيقة الدين وقد امر الله تعالى نبيه الكريم ببيان الأمر لهم.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ).

البروز : الظهور والبراز الصحراء والأرض المستوية. والمضاجع

٤١٦

جمع المضجع وهو في المقام المصرع الذي قدر القتل فيه.

أي : قل لهم يا محمد جوابا عما أخبره الله تعالى بما هو مكنون في قلوبهم وما يعتقدونه ان القتل تابع للتقدير والقضاء ابتلاء للمؤمنين وتمحيصا لهم وتمييزا بين الصابر المجاهد والمنافق الكاذب فإذا تعلقت ارادته بموت أحد لخرج بسبب من الأسباب من بيته إلى مضجعه فيلقى مصرعه من دون دخل ارادته فيفوز السعيد ويشقى الشقي ويستفاد من الآية الشريفة امور :

الاول : ابطال زعمهم بأن الحق لا بد ان لا يغلب وان المؤمن لا بد ان يكون حليفه النصر دائما فان مقادير الأمور وتدبيراتها كلها بيد الله عزوجل وان النصر والظفر كسائر الأمور انما تدخل تحت سنة الهية وهي جريان الأمور بأسبابها.

الثاني : ان من قتل في المعركة انما كان بتقدير الله تعالى وقضائه وليس قتله كان لأجل عدم كونه على الحق وعدم الأمر له ، بل لان القضاء الالهي إذا تعلق بذلك فلا راد لقضائه ولا مناص من وقوعه فلو لم يخرج احد من بيته لبرز من تعلق قضاؤه بمصرعه إلى مضجعه بل لو لم يخرجوا إلى القتل وكتب الله عليهم القتل والموت لماتوا وقتلوا وهم في بيوتهم لفرض تعلق القضاء والقدر بذلك.

الثالث : ان تلك سنة إلهية محكمة تتعلق بالإنسان لأجل الاختبار والامتحان والتمحيص وتمييز الحق عن الباطل.

قوله تعالى : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ).

بيان لإحدى وجوه الحكمة في ما حل بهم. والواو هنا مقحمة ويحتمل ان يكون حرف عطف على غاية مقدرة.

٤١٧

اي : ان كل ذلك يقع لأجل اختبار الله تعالى ما في قلوبكم بذلك وليظهر مكنونها من الطاعة والنفاق.

قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ).

اي : ولأجل تخليص ما فيها من سوء الاعتقاد ووساوس الشيطان ويطهرها من النفاق والشرك وتمييز المؤمن الصابر المجاهد الثابت واظهار ما في قلبه من النيات الحسنة ومكارم الصفات عن غيره.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

لإحاطته القيوميّة بجميع الممكنات إيجادا وإبقاء وإفناء ولا يعقل تلك الاحاطة إلا بالاحاطة العلمية. والله عليم بنياتهم ومكنونات ضمائرهم وفي الآية الشريفة التحذير عن سوء النية ومخالفة الفعل للنية.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا).

المراد من الذين تولوا هم الذين انهزموا من المعركة وفروا من أماكنهم إلى الجبال وغيرها كما حكى عنهم عزوجل في الآيات السابقة (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ).

والمراد بالجمعين : هما جمع المؤمنين وجمع المشركين لما التقيا في يوم أحد.

والاستزلال : هو الوقوع في الزلل الذي هو الخطيئة والانحراف ويستفاد من هذه الكلمة الوقوع في الذنب تدريجا قال الراغب : «استجرهم الشيطان حتى زلوا فان الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه» وفي الحديث :

٤١٨

«فازله الشيطان فلحق بالكفار».

والمعنى : ان الذين انهزموا وولّوا الدبر من المعركة يوم التقى الجمعان في أحد انما أوقعهم الشيطان في تلك الخطيئة الكبيرة وهي الهزيمة والاعراض عن الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بسبب انقيادهم للشيطان بما كسبوه من سوء النية والسيئات التي سهلت لهم الوقوع في الذنب الكبير وكان ذلك سببا في تمكين الشيطان ان يغويهم ويزلهم ويوقعهم في الهلكة. وذلك لان الإنسان إذا اقترف الإثم والخطيئة تأثرت نفسه وهانت عليها فتميل إلى اكتساب الخطيئة وتندرج من الصغيرة إلى الكبيرة ، فان الذنب يجر الذنب ويدعوا إلى الخطيئة وارتكاب الآثام.

ومن ذلك يستفاد ان الباء في «ببعض ما كسبوا» هي للسببية فيكون الكسب متقدما على الاستزلال والوقوع في الذنب العظيم وهو التولي.

وقيل ان الباء للآلة اي : ان الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم اليه هو التولي فيتحد ما كسبوا والتولي. ولكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة.

ومما يهون الخطب ان التولي لم يكن حدثا آنيا بل كانت له مقدمات أوجبت هذه النتيجة المذلة وهذه المقدمات هي بعض ما كسبوا فحينئذ لا فرق بين ان تكون الباء للسببية أو للآلة.

وانما ذكر عزوجل بعض ما كسبوا دون الجميع إما لان في كسبهم ما هو طاعة لله عزوجل أو لان العقوبة انما كانت ببعض ما كسبوا دون الجميع فإنها تستدعى ان تكون اكبر إلا ان الله تعالى منّ عليهم بالعفو عن كثير.

٤١٩

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ).

اي : لقد عفى عن جميع المؤمنين الذين حضروا في أحد والمنهزمين ومن تولوا عن الجهاد ببركة الرسول الكريم وما اظهروه من الندم وانما كانت عقوبة الهزيمة للاختبار والتمحيص وتربيتهم تربية عمليا.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

الجملة في موضع التعليل لما تقدم اي عفا عنهم لأنه غفور لجميع الذنوب ومن يحسن التوبة حليم لا يعجل بالعقوبة.

ثم إن المنساق من الآيات الشريفة ان هذه الطائفة هم ضعفاء المؤمنين الذين لم يثبت الايمان في قلوبهم ولم يترسخ الدين في نفوسهم فلم تطهر قلوبهم من رذائل الجاهلية فظنوا بالله الظنون الباطلة وابدوا بعض ما في صدورهم واخفوا الكثير منه على ما حكى عنهم عزوجل. ولا يقدح ان يكون بعضهم من المنافقين الذين كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر وهم لا يعتقدون بالله العظيم لا ان يظنون به الظن الباطل وسيذكرهم الله تعالى في الآيات التالية.

هذا ولكن المعروف بين جمهور المفسرين ان المراد بهؤلاء هم المنافقون الذين كانت تهمهم أنفسهم ويظنون بالله ظن الجاهلية ويخفون ما في أنفسهم من الكفر ولكنهم يعتذرون بألسنتهم عن أنفسهم احتجاجا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفيه ان المنساق من الآيات المباركة غير هؤلاء فان الخطاب للمؤمنين وارجاعه إلى المنافقين يستلزم التفكيك في الآيات الشريفة وهذا ينافي بلاغة القرآن الكريم مضافا إلى ان الكلام في المنافقين يأتي في ما بعد. ولكن ذكرنا آنفا انه لا ينافي ان يتفق هؤلاء الذين وصفهم

٤٢٠