مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨))

الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصائل الحميدة الفردية والاجتماعية ، وهي تهدي الإنسان إلى استكمال نفسه ومجتمعه وتعلمه كيفية علاج الرذائل النفسانية فهي تدعوه إلى الخير والإحسان ، والتحلي بمكارم الأخلاق والانزجار عن الشر والسوء ومساوي الأخلاق.

٣٤١

وهي المسارعة إلى الخير ، والانفاق في سبيل الله في السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس ، والتوبة عن المعاصي والذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه وتوقعه في الورطات والمشاكل.

وقد امر عزوجل بنيل الإحسان وكل خير فردي واجتماعي ، وبيّن سبحانه وتعالى ان في التخلق بها وفي افشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة وتأمنه من الوقوع في المهالك وتوجب له النجاة من الشدائد وبها تثبت الوحدة بين افراد المجتمع ويشد بعضهم بعضا.

فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي من سلكه لا يضل ولا يشفى ، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم وما يعيقه من تكميل نفسه ومجتمعه وهو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية والمعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة وتمنع من الانفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة.

وقد عد عزوجل ان التعدي عما ذكره والاعراض عما بينه يؤدي إلى الشقاء والحرمان وامر عزوجل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه الله تعالى لهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

دعوة عامة إلى الغفران ، وبشارة عظيمة لجميع اهل الذنوب والعصيان واستضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه ، وترغيب إلى العباد

٣٤٢

في إزاحة جميع الاغشية والظلمات ، ودفع انواع الجهالات ، ووعد منه عزوجل لمن أطاع الله وأطاع الرسول ، وقد ذكر جزاء المتقين المطيعين اتباعا للوعيد بالوعد الجميل ، واقترانا للترهيب بالترغيب كما هو سنته عزوجل.

والمسارعة المبادرة والاشتداد في السرعة ، وهي في الخير ممدوحة وفي الشر مذمومة ، والمسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها. وانما امر سبحانه وتعالى بالمسارعة إليها باطاعة الله تعالى والرسول للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر والحظ وكثرة المثبطات ووسوسة الشيطان التي توهن العزائم.

ويمكن ان يكون قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) مبينا للمغفرة في هذه الآية الشريفة ، كما ان قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) مبينا للمسارعة إلى الجنة.

وكيف كان فان اسباب المغفرة والدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، كما ان اسباب الدخول في النار كذلك.

قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

العرض خلاف الطول وهو اقصر الامتدادين عادة ، ويكنى به عن السعة ، واستعماله في ذلك شايع يقال بلاد عريضة اي واسعة ، ومنه قولهم : اعرض في المكارم إذا توسع فيها ، وفي الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لقد ذهبتم فيها عريضة» اي الأرض الواسعة وقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك عند ما هرب جماعة يوم أحد فرارا من الزحف.

٣٤٣

كذلك فأين الطول وما مقداره مع انه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة.

ويمكن ان لا يكون التعبير كنائيا بل كان على الحقيقة أما بناء على عدم تناهي الابعاد كما عن جمع من الفلاسفة فالامر واضح. واما بناء على التناهي كما عن بعض فلا ريب في انه على فرض صحته انما هو في الدنيا ، واما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات زمانا ومكانا وسعة ونعمة وغير ذلك.

وقد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل ونقل عن أبي مسلم بن بحر أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشيء على البيع والمقايضة اي لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمنا. وهذا تأويل باطل.

وكيف كان فالآية الشريفة ترمز إلى معنى جميل ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف وجار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج وتبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يجدها حد وهمي ، وهذا مما يوجب اطمينان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات ففي بعض الأحاديث القدسية : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهذا هو شأن النعمة التي أعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة ، وهذه هي الحياة الكاملة الابدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.

قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

الاعداد التهيئة وهو إما علمي أو خارجي ، في هذه النشأة أو في

٣٤٤

نشأة اخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة والمرآة لهذا العالم بجميع جزئياته وكلياته ، ويمكن ان يعبر عنه بعالم المثال الخارجي وهو موجود بوجود روحاني معنوي ، ودخله سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في معراجه واطلع على خصوصياته فيكون الاعداد مطابقا للوجود العلمي الازلي ، والوجود الخارجي في الدنيا والوجود الاخروي في ما لا يزال.

والتقوى هي سبب معد للجنة فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الازلي مثل بالوجود المثالي ثم نزلت إلى هذا العالم وستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها ، كما ان حقيقة العصيان والطغيان والكفر كذلك ولكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها ، ويمكن التمثيل له في هذا العالم ايضا فان بعض الاراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران وقطعة اخرى لا تصلح إلا ان تكون سبخة يعلوها الملح. وذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ومن ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم‌السلام) : «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا» أو «ان الدنيا مزرعة الآخرة».

وانما أتى عزوجل الفعل مجهولا للاشارة إلى ان لفعل الفاعل دخلا في الاعداد ، وأضيفت الجنة إلى المتقين لبيان ان الوصف وهو التقوى علة لهذا الاعداد.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الحديد ـ ٢١. ولعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة والمسابقة لأجل ان المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد والمسابقة تكليف فردي بان يتسابق كل فرد فردا آخر حين المسارعة ، فتكون المسابقة أخص من المسارعة ، ويكون

٣٤٥

المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة عرضها كعرض السماء والأرض فان لله تعالى جنات كثيرة بل غير متناهية.

كما ان المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السموات والأرض ، ويصح ان يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس فيتحد مفاد الآيتين حينئذ.

ثم انه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها ، وهي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق وهي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد أمروا بالتحلي بها لغاية تهذيبهم وتكميلهم وقد نزلت هذه الآيات بعد غزوة احد ، وقد جرى على المسلمين ما جرى ، كما صدر منهم ما صدر فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين وتهذيبهم واعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث وقد وصف عزوجل المتقين بأوصاف خمسة وهي :

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).

السراء من السرور ، وهو الرخاء والفضل ، والضراء من الضرر وهو الشدة والعسر والضيق. اي : الذين ينفقون لوجه الله تعالى في حالة الرخاء والسرور ، وحالة الشدة والضيق والعسر.

وظاهر الآية الشريفة ان السراء والضراء حالتان للمنفق ، ويحتمل ان تكونان حالتان للإنفاق في حالة الرخاء والسرور ، وحالتي الضيق والشدة فمن الاول الانفاق في التوسعة على العيال ، ومن الثاني الانفاق لرفع ما يضطرون اليه.

وانما حذف عزوجل متعلق الانفاق ليشمل القليل والكثير ، وكل ما يصلح للإنفاق ، سواء كان مالا أو غيره.

٣٤٦

وقد بدأ سبحانه وتعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهى عنه عزوجل في الآية السابقة الماحق لكل فضل وفضيلة ، ولان الانفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق لله تعالى وتقواه لأنه أنفق أحب الأشياء لنفسه. ولان الانفاق انفع للناس من سائر الصفات فان فيه يظهر التعاون بين افراد المجتمع وبه ترتفع المشكلات وتنحل المعضلات ويخفف من هموم الفقراء ويبعث في نفوسهم الأمل ويشدهم مع سائر افراد المجتمع.

قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ).

وصف ثان ومادة (كظم) تدل على الحبس والإمساك ، ومنه الحديث «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» اي يحبسه مهما أمكن ويقال كظم البعير اي امسك عن الجرة ، وكظم القربة شد رأسها عند الامتلاء. والغيظ شدة الغضب وفوران الدم للانتقام.

قوله تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ).

وصف ثالث وهو من أجل مكارم اخلاق الله تعالى فان بعفوه يتم تدبير نظام العالم. ومن أسمائه تعالى العفوّ وهو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، وأصله المحو والطمس والعفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها والتجاوز عن عقوبة من استحقها ، وهو اقرب للتقوى وفي الحديث : «سلوا الله العفو والعافية والمعافاة» اما العفو فمحو الذنوب ، والعافية ان تسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة ، والمعافاة هي صرف أذى الناس عنك وأذاك عنهم ويغنيك عنهم ويغنيهم عنك.

وإنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه.

٣٤٧

وهذا الوصف يكشف عن كرم المتصف به وحسن سريرته وضبط نفس الامارة تحت ارادته وحكمته فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ فان الشخص قد يكظم غيظه ولكن على حقد وضغينة والعفو دليل على انتفائهما.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وصف رابع وهو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق بل هو أكرم المكارم ولعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق.

والإحسان : صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ والعفو عن الناس فان هذه نعوت معدة لكسب الإحسان والتحلي به ، والإحسان : هو جعل الأشياء في موضعها وإتيان الأعمال على الوجه اللائق بها ، وبالإحسان يتم الانفاق الذي لا بد ان يعري عن جميع ما يشينه ويكمل كظم الغيظ والعفو عن الناس ، ولذلك كان للمحسنين اجر عظيم ومنزلة كبيرة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت ـ ٦٩ ويكفي في منزلة هذا الوصف ان الله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم وكفى بذلك فخرا وفوزا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ).

وصف خامس ، وهو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد وفيها التنويه بمقام العفو والإحسان ، وتذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب فانه بعد ان ذكر أوصاف المتقين من كظم الغيظ والعفو والإحسان عقبه سبحانه بأعظم ما منّ به على العباد وهو العفو عن المذنبين والإحسان بهم تعليما لهم وتنويها لمقامها واعلاما بأن

٣٤٨

الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا ان يكون معصوما بعصمة الله تعالى ، فهو محتاج إلى العفو والإحسان فتكون الجملة معطوفة على المتقين ، وأولئك في الآية التالية اشارة إلى الجميع.

والفاحشة من الفحش وهو مجاوزة الحد في السوء فتكون الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وشاع استعماله في الزنا باعتبار انه اظهر افراد الفحشاء ؛ وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال وفي الحديث : «ان الله لا يحب الفحش والتفاحش».

والمراد بها في الآية الشريفة بقرينة المقابلة للظلم المعصية الفاحشة في قبحها ، سواء كانت مقتصرة على النفس كترك الصلاة ونحوه ، أو متعدية إلى الغير ، كالقتل والغيبة ونحوهما. والظلم ما دون ذلك كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة والصغيرة.

قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللهَ).

اي تذكروا عظمة الله تعالى وآياته الموجبتين للخشية منه وانه مرجعهم في كل خوف ورجاء بعد أن اغفلهم الشيطان وأنساهم ذكر ربهم حين الذنب فيسرعون إلى الاستغفار وطلب المغفرة.

والمراد بذكر الله هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعيا إلى ترك الذنب واستشعار الخوف والرجوع اليه تعالى لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب فانه حينئذ يكون كالمستهزئ به تعالى.

قوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).

اي حين ما ذكروا الله وتذكروا جلاله وكبريائه أحبوا التقرب اليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان فتابوا اليه طالبين المغفرة منه عزوجل لجميع ذنوبهم.

٣٤٩

والآية الشريفة في مقام التمييز بين من يفعل المعاصي محادة وعنادا ولجاجا فانه بعيد عن الاستغفار ولا يوفق اليه ابدا. وبين من تذكر الله تعالى حين المعصية وارتدع عنها خوفا فتاب اليه تعالى وطلب المغفرة منه فان لهم مقاما معلوما.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ).

بشارة عظيمة ، وتطييب للنفوس ، وتشويق إلى التوبة والاستغفار وتنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى الله تعالى وعدم اليأس منه عزوجل ، فانه لا منجى من الذنوب ولا ملجأ في الغفران الا إلى الله تعالى ، وهذا مما يؤكد الفزع والرجوع اليه عزوجل.

والآية المباركة باسلوبها البديع وخطابها البليغ تؤثر في المخاطبين ابلغ التأثير وينبه الضمير الانساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب والمعاصي بالرجوع إلى الله والانابة اليه لازالة ما يوجب ضلاله واغوائه.

وفي هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد كإظهار اسم الجلالة ، واسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية ، ودلالة ذلك على الغفران الواسع وانحصاره فيه عزوجل لأنه المسلط على ذلك كله فان من بيده اصل الخلق وتدبير شؤونهم يكون مسلطا على الغفران بالأولى وليس لغيره هذا الحق ، وهذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي والإثبات. وفيه الإنكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الإفراد الذين لم يأذن لهم الله تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص.

ويؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الاخبار.

وفي ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم إعلان بان الله جل

٣٥٠

شأنه يغفر جميع الذنوب صغائرها وكبائرها فيكون المذنب بعد الاستغفار والتوبة عنده كمن لا ذنب له كما في الحديث.

ثم ان مجيء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس فيه الدلالة على سعة غفران الله تعالى وعدم مبالاته فيه فان الذنوب مهما كبرت وجلت ولكن عفوه وغفرانه أجل وأعظم واكبر.

قوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

الإصرار على الشيء المداومة عليه وملازمته واكثر ما يستعمل في الشر والذنوب ، وفي الحديث : «ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوه وهم يعلمون» وقد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) آل عمران ـ ١١٧.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فاعل الإصرار ومتعلق به.

والمعنى : انهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب والمعاصي وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها.

وانما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية لبيان ان مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصرارا شرعا ، كما يبينه قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) النساء ـ ١٧.

والآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي لأنه يوجب عدم المبالاة بحرمات الله تعالى والاستكبار عليه والاستهانة باحكامه المقدسة ويجعل النفس ميالة إلى الطغيان والخروج عن الطاعة فتنتفي العبودية وتخرج عن الفطرة المستقيمة فلا ينفع حينئذ ذكر الله تعالى الذي كان يمنع عن المعصية والاقامة على الذنب.

٣٥١

قوله تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها).

وعد منه عزوجل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف وبيان للأجر الجزيل والثواب الكبير المعد لهم وهو المغفرة والجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها ، ولتمامية النعمة انهم خالدون فيها لا يشوبها نقص.

ويمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عزوجل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وجنة عرضها السموات والأرض ، فتكون تلك الأوصاف من المعدات والأسباب للمغفرة والدخول في الجنة وتكون هذه الجنات ضمن تلك الجنة الفسيحة.

وقد أضاف سبحانه وتعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشريفا ، وفي ذكر الرب المضاف إلى «هم» لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم وتربيته تعالى المعنوية لهم.

قوله تعالى : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).

تأكيد للوعد الجميل وتشويق لهم الى العمل اي : تلك المغفرة والجنات انما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس اعدادا صالحا وتهيئوها لنيل تلك المراتب العالية.

والخطاب على إيجازه يشمل على وجوه من الدلالات المحسنة الدالة على عظمة الموضوع والاهتمام به وتهييج الشوق والمسارعة الى نيله.

منها إقامة الأجر مقام الجزاء إعلاما بإنجاز الوعد وتحققه مما يزيد في شوق العامل وتنشيطه للعمل فكان العامل يستحق ذلك.

ومنها : ذكر الجمع المحلي باللام وإقامته مقام الضمير تأكيدا ،

٣٥٢

وللدلالة على حصول المطلوب.

ومنها إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء وتفصيله لبيان الاهتمام بالوعد ، والتأكيد على المسارعة لدركه.

قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ).

أمر بالاعتبار بما جرى على الأمم الغابرة والنظر في ما بقي من آثارهم زيادة في التحريض على العمل والاستعداد لنيل الكمال ، وتشويقا للجزاء الذي أعده الله تعالى للعاملين وتنبيها للمؤمنين على عدم الغفلة وتذكيرا لمن خالف الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتسلية للمؤمنين ، وتوبيخا لمن اعرض عن آيات الله تعالى وأحكامه المقدسة وغفل عن الاستكمال وتشنيعا على من أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة التي يكون منها الرجوع إلى احوال الماضين والسير في الأرض والنظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار فقد خلت عن أصحابها بعد ما كانت قصورا شاهقة أو عروشا جمعت كل اسباب البهجة والسرور وقد ابتهج ساكنوها وعمارها مدة فيها ، أو كنوزا امتلأت بكل اسباب العيش الهنيء ، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان ، وقد جرت عادته عزوجل انه يرجع المخاطبين بعد سرد جملة من الحوادث وبيان الاحكام الفردية والاجتماعية إلى سنن الأمم الغابرة والأمر بالاعتبار بها والنظر في آثارهم لمزيد التنبيه ، والاستفادة من تجاربهم ولئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأمة وان يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم والاعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم ، وقد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد.

٣٥٣

وخلت بمعنى مضت ، والسنن جمع سنة وهي الطريق المعبدة المسلوكة وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعة عشر موضعا ، قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الأنفال ـ ٣٨ ، وقال تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الحجر ـ ١٣.

والنظر في سنن الماضين من سبل الرشاد ، وفيها وجوه من الحكمة منها الاعتبار بها ، وإتمام الحجة على اللاحقين ، وتسلية لما يجري عليهم ، والاستفادة من تجاربهم وغير ذلك ، ولذا اهتم بها عزوجل فذكرها في مواضع متعددة. وبالجملة : فهو إرشاد إلهي.

والمراد بها في المقام منهاج الماضين وما جرى عليهم سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله تعالى والعاملين المستعدين للقائه والدار الآخرة ، وما كابدوا من عتاة زمانهم وجبابرتهم وصعوبة العيش فرضوا بما قسمه الله لهم وصبروا وآثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية ، وسنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ونعيمها لانهماكهم في الضلال والشهوات مع وضوح الحجة ومعرفة البينات ، والأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين والتبصر منها ، ويدخل في السير في الأرض السير في حالات اهل الأرض من خلال التاريخ والحوادث الواقعة فيهم.

قوله تعالى : (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

المراد بالنظر هو التأمل والتبصر بانه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين وما جرى من الصراع بين الحق والباطل ، وما آل أمر المؤمنين اليه وعاقبة امر المكذبين وما حل بهم من العذاب والهلاك

٣٥٤

بسوء أعمالهم فان النظر في ذلك كله يزيد المعرفة ويوجب التسلية بما يجري على المؤمنين ، ويفيد العظة والاعتبار. والتوبيخ للمكذبين الكافرين.

قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أحد والمضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات ، والتقسيم باعتبار حالات الناس ومدى تأثرهم بالقرآن الكريم ، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة اليه بلاغا وبيانا ، والبعض الآخر يكون هدى وموصلا له إلى الهداية وموعظة تدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار وزيادة الايمان وثباته ، كل ذلك لا بد ان يكون للذين اعدوا أنفسهم لقبول الهداية والاتعاظ ، وهم المتقون الذين يتأثرون بالبيان وينتفعون منه ويهتدون بهداه ويتعظون بمواعظه دون سواهم ، وقد تقدم نظير ذلك في أول سورة البقرة فراجع.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الاول : قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البر ومكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها ولا يسع لاحد الإعراض عنها فإنها فاتحة الكمالات وجامعة للخيرات وهي من المكارم الفردية والاجتماعية بها يعيش الفرد حياة سعيدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات

٣٥٥

والشرور. وبها يصلح المجتمع.

ومن هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الاخلاقي في الإسلام ، فانا ذكرنا في أحد مباحثنا الاخلاقية : أن المنهج الاخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الاخرى في الأصول والأسلوب والطريقة وان الإسلام ينظر إلى التقوى والعمل أولا وبالذات وانه السبيل الوحيد لنيل الكمال والوصول إلى الغاية ، وهذه الآيات تبين المنهج العملي ، ونظير هذه الآيات قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة ـ ١٧٧ فراجع ما ذكرناه هناك.

الثاني : انما قدم عزوجل المغفرة على الجنة لان المغفرة سبب للدخول فيها ، وكل سبب مقدم على المسبب ، مع ان الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها وبالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ان التقوى هي السبب في اعداد الجنة وتهيئتها للمتقين وحضورها لهم.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) كمال الجنة من جميع الجهات وتمامية النعمة فيها فان الجنة التي تكون سعتها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة والسرور وفيها الحياة الكاملة كما قال عزوجل : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) العنكبوت ـ ٦٤.

٣٥٦

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ان كل وصف سابق معد للوصف اللاحق فان الانفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال والملذات والسيطرة عليها ، فتستعد لكظم الغيظ وهذا موجب للعفو عن الناس ، وهو موجب لمزيد الإحسان.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللهَ) ان ذكر الله تعالى هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية والانزجار عن الذنوب وعدم العود إليها والتوبة إلى الله تعالى وطلب المغفرة منه عزوجل لان غفران الذنوب تحت سلطته عزوجل ، وان الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر الله تعالى وهم يعلمون بان الإصرار يكون كذلك ويوجب التجري على الله تعالى والاستكبار عليه وعدم المبالاة بحرماته وتزول عنه حالة الندم والخوف عن نفسه.

السابع : انما جعل عزوجل قصص الماضين سواء الصالحين منهم أو الظالمين خاتمة لتلك التعاليم الاسلامية عبرة لللاحقين ودستورا للعمل ومنهاجا في سيرهم وسلوكهم ، مضافا إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون ، ويصلح بها الفاسد.

بحث روائي

في المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه سئل إذا كانت عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال (ص) :

٣٥٧

أقول : روى السيوطي أيضا في الدر المنثور عن التنوخي في كتاب هرقل إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مثل ذلك ، ويمكن أن يكون هذا الجواب منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إقناعيا اسكاتيا. كما يمكن ان يكون على وجه التحقيق بان نقول ان خلق النار تبع لخلق الجنة فهي لا تنفك عنها ، كما ان خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار وأما وجه التبعية فلقوله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) غافر ـ ٧ و «سبقت رحمته غضبه».

وفي الخصال عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) قال (ع). «انكم لن تنالوها إلا بالتقوى».

أقول : لما تقدم من أن التقوى سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها إلا بالتقوى ولا بد من تعميم التقوى إلى التوبة والاستغفار ، كما في صدر الآية الشريفة.

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ما من عبد كظم غيظا إلا زاده عزا في الدنيا والآخرة ، قال الله عزوجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين».

أقول : وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.

وفي الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عليكم بالعفو فانه لا يزيد العبد إلا عزا فتعافوا يعزكم الله».

أقول : لان العفو من صفات الله تعالى فيعز العبد العافي بعزه ، ويأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.

وفي المجمع والإرشاد للمفيد «إن جارية لعلي بن الحسين (عليهما‌السلام)

٣٥٨

جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها ، فقالت له الجارية : ان الله تعالى يقول : والكاظمين الغيظ ، فقال لها : كظمت غيظي ، قالت : والعافين عن الناس. قال : عفا الله عنك. قالت : والله يحب المحسنين قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله».

أقول : رواه السيوطي في الدر المنثور أيضا عن البيهقي ، والحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على اصل العفو ، ومثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) قال (عليه‌السلام) : «الإصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر الله ، ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».

أقول : الأحاديث في ذلك كثيرة ، وقد تقدم ما يشهد لذلك ، وسيأتي ما يرتبط بذلك أيضا.

وفي تفسير العياشي في حديث قال : «وفي كتاب الله نجاة من الرديء وبصيرة من العمى. وشفاء لما في الصدور في ما أمركم الله به من الاستغفار والتوبة قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) فهذا ما امر الله به من الاستغفار واشترط معه التوبة والإقلاع عما حرم الله فانه يقول : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)

٣٥٩

أقول : تقدم مكررا ان العمل الصالح من الايمان فلا ايمان إلا به.

وفي المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) نزل في بهلول النباش وكان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها ونزع أكفانها ـ وكانت بيضاء جميلة ـ فسوّل له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فرده ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد ويتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل توبته ونزل فيه القرآن».

وفي اسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في رواية عطا قال : «نزلت الآية وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) في نبهان التمار أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا ، فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».

أقول : قد وردت روايات متعددة في شأن هذه الآية وهي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.

وفي المجالس عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا له : يا سيدنا لم تدعونا؟ قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا. فقال : لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك. فقال : لست لها. فقال الوسواس الخناس : أنا لها. قال : بما ذا؟ قال : أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار. فقال : أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة».

٣٦٠