مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

ولا مجازفة بل لأنها اعتصمت بحبل الله تعالى ، فالآية الشريفة توصف المعتصمين به الداعين للخير بوصف شريف رفيع وتبين قدرهم وفضلهم على من سواهم.

كما ان الآيات الاخيرة تكشف عن هوان وتصغير اهل الكتاب بل وغيرهم من الكفار بأنهم لا يملكون ما يضروكم وانما هم في ذلة وكتبت عليهم المسكنة ، تعيش في ضمائرهم وتمزق مشاعرهم لأنهم كفروا بآيات الله وتمردوا بقتل الأنبياء والاعتداء على الحق والحقيقة.

التفسير

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

اي : له وحده جميع ما في السموات والأرض من جميع الجهات خلقا وتصرفا وتدبيرا وإيجادا وإفناء لأنه إله العالم ومدبره وخالقه وما سواه محتاج اليه في جميع شؤونه.

وانما ذكر اسم الجلالة لبيان وجه مالكيته ورجوع سائر الخلق اليه ، لأنه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية ، ولما في الألوهية من السلطة التامة على جميع الممكنات.

والمراد بالملكية فيه عزوجل هي الملكية الحقيقية الايجادية والابقائية والإفنائية والتربوية التامة الابدية لا الملكية الاضافية الاعتبارية ، فإنها من الاعتباريات التي لا تليق به تبارك وتعالى كما ذكرنا في هذا التفسير مكررا.

٢٤١

قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

بيان للمعاد بعد ذكر المبدء لان من كان موجودا لما سواه لا بد ان يصير ما سواه اليه أيضا لما هو ثابت في الفلسفة الإلهية من التلازم بين المبدء والمعاد فليس لغيره من الأمر شيء ، فلا محالة ترجع الأمور اليه عزوجل ، فهو واحد في الإيجاد والإرجاع والمعاد.

وانما ذكر عزوجل ذلك في المقام لبيان التلازم بين المبدء والمعاد والإظهار في مقام الإضمار لبيان الدليل لإقامة المعاد ورجوع الأمر اليه كما استدل بذلك على إيجاد الممكنات ، ولإظهار المهابة ومنتهى العظمة وغاية الكبرياء ، فإذا كان الله تعالى مالكا لسائر خلقه ومصيرهم اليه وهو يجازي كلا بما تقتضيه حكمته وعدله حسب عمله ، فلا يتصور وجه للظلم فيه تعالى.

قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

إخبار عن حقيقة الواقع على ما هو عليه ، وهو غير محدود بأي حد من الحدود الزمانية والمكانية كما هو شأن الحقائق الواقعية يكفي في صدقها صرف الوجود وقد تحقق ذلك عند ما كان المسلمون متصفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وداعين إلى الخير فقد كانت لهم السلطة الروحية والظاهرية والتفوق على غيرهم من الأمم وصدرت منهم العجائب. وسيستعيدون سلطتهم وعظمتهم وروحانيتهم وتفوقهم إذا ظهر العدل الحقيقي في الإسلام واتفقت كلمة المسلمين على التوحيد واجتمعت الامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشاعت الرحمة بينهم.

٢٤٢

والمراد بالخروج هو الظهور بحسب مراتبه التدريجية الواقعية كخروج الأوراد من أكمامها والنباتات عن منبتها قال تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الرحمن ـ ٢٢.

وجهة الخيرية معلومة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلق بأكرم اخلاق الله تعالى ، فيصير حقيقة المعنى : كنتم خير امة ظهرت للناس لأنكم متخلقون بأعظم اخلاق الله تعالى ولا ريب في ان الصفة تعليلية يعني : انكم ما دمتم على تلك الصفة تتصفون بالخيرية وتنسلخ عنكم إذا زالت الصفة كما هو شأن كل وصف تعليلي فتكون هذه الجملة من قبيل القضايا العقلية المشتملة على العلة والمعلول المطابقة لفطرة العقول ، يؤتى بها لزيادة التحريض على الانقياد والطواعية ولبيان شدة الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتدل الآية الشريفة على مدح المؤمنين بالصفات الواردة فيها وتفوقهم على سائر الناس ، وقد تشرفت الامة بهذه الطائفة المعينة المتصفة بحقيقة الايمان وبأكرم صفات الباري عزوجل.

ومن ذلك يعرف ان (كان) ناقصة تدل على تحقق الشروط ، لا ما يقال : من انها تدل على تحقق مضمونها في الزمان الماضي وانقضى وانقطع ، على ما ذكر جمع كثير من ان الآية الشريفة نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى المدينة ، واخرج بعضهم عن عمرانه قال : «أولنا ولا تكون لآخرنا فلو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا ولكن قال : كنتم في خاصة اصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير امة أخرجت للناس».

ولكن حق القول أن (كان) وان كانت ناقصة وغير منسلخة عن الزمان ، ولكنها لا تدل على ما ذكروه فانه لو كان الأمر كذلك

٢٤٣

لكانت الآية الشريفة واردة في ذم الصحابة لا في مدحهم لأنها تدل على انهم كانوا متصفين في وقت النزول بالمضمون ولكنهم انسلخوا عنه في وقت آخر. وهذا بعيد عن سياق الآية الشريفة ، ولأجل هذا قال بعضهم ان (كان) في المقام منسلخة عن الزمان وقد استعملت للأزلية قياسا على قوله تعالى (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) النساء ـ ١٤٨ وأشباهه فإنها تستعمل على اللزوم من دون انقطاع وانقضاء.

ولكن ذلك مردود أيضا فان كان كذلك بالنسبة إلى صفات الباري لان صفاته سبحانه وتعالى ازلية ابدية لا يعقل المضي والانقطاع فيها ولكن ذلك لا يوجب صرفها عن وضعها في المقام كما هو معلوم.

وقيل : ان (كان) تامة ـ كقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) البقرة ـ ٢٨٠ ـ مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين نظير قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) البقرة ـ ١١٧ ، وخير امة حال من الضمير ، وجملة أخرجت صفة للامة بمعنى أخرجت من العدم إلى الوجود.

ولكن كل ذلك تطويل بلا طائل بعد ظهور السياق في مدح من اتصف بهذه الصفة سواء كان في عصر النزول أو بعد ذلك وقد تشرفت الامة بهذه الطائفة المؤمنة ، وقد أثبتنا في الأصول ان القضايا الحقيقية الواقعية تنطبق على موضوعاتها قهرا أينما تحققت ووجدت في الماضي والحال والمستقبل. فلا وجه للنزاع في ان (كان) تامة أو ناقصة أو منسلخة عن الزمان أو غير منسلخة بعد ان كانت الآية من قبيل القضايا الحقيقية وهكذا في سائر القضايا القرآنية.

٢٤٤

قوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

بيان لسبب الصلاح والخيرية للمجتمع بل الحياة السعيدة كما تقدم فان بهما يتحقق صلاح المجتمع والامة وتبعّد الشر عنهما فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما فيهما من المتاعب والمشاق ضروريان لإصلاح المجتمع وكل ما ازداد ، وانتشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتصفت الامة بالعظمة والخيرية وكل ما ضعفا انهارت الامة في كيانها.

قوله تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

اي : تؤمنون بالله تعالى حق الايمان ، وانما قدم عزوجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الايمان بالله تعالى وان كان الأخير مشتملا عليهما وأصلا لهما ، لبيان اهميتهما وان الإخلال بشيء منهما إخلال بالإيمان ، ولان الايمان يمكن ان يدعيه كل احد الا إذا اقترن القول بالفعل. فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما الدلالة على صدق الدعوى فهما اظهر في الخيرية من مجرد ادعاء الايمان ، فيكونان كالمقتضي لتحقق الايمان وثبوته وصدقه. ولان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد ان يكونا عن علم بموردهما وعمل لهما فقد جمعا بين الاعتقاد والعمل.

ومن سياق الآية الشريفة يستفاد ان مجرد الايمان لم يكن كافيا في الاتصاف بالخيرية والفضل العظيم بل لا بد من تحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتختص هذه الفضيلة بطائفة خاصة وليس كل واحد من المؤمنين داخلا فيها فالخطاب يكون لجماعة مخصوصين ملازمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متلبسين بحقيقة الايمان

٢٤٥

قوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

اي : ولو كان اهل الكتاب على ما وصف به المؤمنون واستعصموا بالإيمان بالله العظيم حقيقة وواقعا لفازوا بالسعادة في الدنيا والآخرة ودفع عنهم العذاب.

قوله تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ).

اي : لكنهم مختلفون فمنهم أمة مؤمنة واخرى فاسقة خارجة عن طاعة الله تعالى فكان هذا الاختلاف سببا في بعدهم عن حقيقة الايمان فلم يجتمعوا على الاعتصام بحبل الله تعالى بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واجتمعوا على الاعتصام بحبله تعالى واتفقوا على طاعة الله عزوجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففازوا بسعادة الدارين وعلى هذا يمكن ان يكون الايمان والكفر في الآية الشريفة هما الايمان والكفر الجهتيان اي الاجتماع على الاعتصام بالله والتمسك بحبله والاتفاق على طاعته والكفر خلاف تلك.

قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً).

الأذى : ما يعرض الإنسان من مكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته والمراد به في المقام إما في القول كالكذب والبهتان ، وقبيح الكلام أو في الفعل كالتهييج والتجمع للحرب والقتال أو ما يجرح قلوب المؤمنين بإظهار الكفر والمجاهرة بالضلال وإفساد القلوب الضعيفة وقد يستلزم الضرر اليسير فيكون الاستثناء متصلا.

وقيل : ان الاستثناء منقطع باعتبار خروج الأذى عن مفهوم الضرر ولكنه بعيد لان الضرر مطلق النقص فيشمل الجميع.

٢٤٦

والمعنى : ان اهل الكتاب لا يمكنهم إيقاع الضرر بكم الا ما يوجب أذيتكم فإنهم مع اختلافهم المزبور وفسقهم لا يجتمعون على امر فيه الضرر عليكم ولا يقدرون على قتالكم والغلبة عليكم.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ).

تولى الأدبار : كناية عن الانهزام وهو معروف والآية في مقام بيان الضرر الذي تقدم ذكره اي : وان اجتمعوا على إيقاع الضرر بكم بالقتال معكم فإنهم ينهزمون من غير ان يظفروا منكم بشيء.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

جملة اخبارية مستقبلة ووعد آخر منه عزوجل بأنهم لا ينصرون عليكم ، لأنه لا ينصرهم احد عليكم. ويمكن ان تكون الجملة تتمة للسابق اي مع انهزامهم لا ينصرهم احد فتكون عاقبتهم العجز والخذلان.

وكيف كان ففي الآية الشريفة ثلاث بشارات للرسول الكريم والمؤمنين ، وقد تحققت مصاديقها على احسن وجه وأكمله وتستمر ذلك أيضا او اتفق المسلمون على العمل بما نزل من القرآن الكريم وما جاء به الرسول العظيم ، ونبذوا الاختلاف والتفرق كما أمرنا به.

قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا).

الذلة (بالكسر) ذل خاص قرين الاهانة ضد العز الذي هو بمعنى الامتناع فيكون الذل بالمعنى العام هو الانكسار والضعف ومن أسمائه تعالى «المذل» اي هو الذي يلحق الذال بمن يشاء من خلقه ، وينفى عنه جميع انواع العز كما ان من أسمائه عزوجل «المعز» و «العزيز».

وهما اي الانكسار والضعف تارة يكونان عن قهر فهو ذل (بالضم)

٢٤٧

واخرى : عن تصعب وشماس فهو الذل (بالكسر) وهي من صيغ الهيئة.

وضرب الذلة عليهم كناية عن ملازمتها لهم وظهور أثرها فيهم فلا خلاص لهم منها كضرب السكة على الفلز.

وثقفوا بمعنى وجدوا وأدركوا الظفر بهم. والمعنى : ان الذلة قد تمكنت في نفوسهم بحيث يظهر اثرها فيهم عند الملاقاة والظفر فيهم فانه لا منعة لهم بسببها.

قوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).

استثناء مفرغ ، والحبل هو السبب الذي يوجب التمسك به العصمة والامتناع ويطلق على العهود ، والذمام والرعاية توسعا ، وحبل الله هو الالتجاء اليه عزوجل بالإيمان به والإخلاص له ، وحبل الناس هو الدخول في ذمامهم وعهودهم وحمايتهم.

والمعنى : انهم لن يسلموا من الذلة إلا إذا آمنوا ودخلوا في عهد الله تعالى وانقطعوا اليه بإخلاص أو دخلوا في عهود الناس وذمامهم فإنهم يسلمون من القتل والأسر وذل التباغض ونحو ذلك.

وإنما كرر سبحانه وتعالى لفظ الحبل لاختلاف المعنى فانه من الله هو الحكم والقضاء تكوينا أو تشريعا ومن الناس العمل والبناء.

والمراد بضرب الذلة الأعم من التشريعي الذي هو القتال معهم وأخذ الجزية منهم والتكويني الذي جعله الله تعالى عليهم بسبب الجحود بآيات الله تعالى وقد أثبته التاريخ في العهود الماضية ، ولا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة منهم بل تشمل اليهود والنصارى وكل من جحد الحق.

٢٤٨

قوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).

اي : رجعوا من رحمة الله تعالى وهم متلبسون بغضبه عزوجل.

قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).

المسكنة شدة الفقر ، والمراد بها الفقر الذاتي الذي لا خلاص لهم عنه وهو أشد أنحاء الفقر والحال السيئة.

والمعنى : ان إصرارهم على الجحود أوجب اتصافهم بانحاء الرذائل المعنوية والظاهرية.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ).

تعليل لاتصافهم بالرذائل وقد ذكر عزوجل بعض الإفراد وهو الكفر بآيات الله تعالى وقتل الأنبياء بغير حق. ثم أجمله عزوجل بعد ذلك بوجه كلي.

وانما كان قتل الأنبياء من أسلافهم ولكن نسب إلى الأخلاف باعتبار رضائهم بفعل الآباء كما انه وصف قتل الأنبياء بغير حق تشديدا لهذه الجريمة النكراء لبيان أن قتل كل نبي انما يكون بغير حق فيكون القيد توضيحيا اعلاما لأهمية الجريمة وتشديد النكير فيها.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

تعليل لاتصافهم بالرذائل المعنوية والظاهرية وظاهر التعليل شموله لكل من اتصف به ولو لم يكن منهم فلا وجه لما في بعض التفاسير من التخصيص بطائفة خاصة منهم فان المناط عموم التعليل اي إصرارهم

٢٤٩

على الاعتداء الذي أوجب العصيان والكفر بآيات الله فيكون العصيان منهم مستمرا بسبب استمرار الاعتداء منهم.

بحث دلالي

قد اشتهر في العلوم العقلية ان الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا وذلك لان العلم مطلقا انما يتعلق بالكليات والقواعد العامة واما الجزئيات والإفراد فهي تابعة لها وهذا هو المراد من قول الفلاسفة الإلهيين والطبيعيين ان نتائج الأفكار مطلقا ليست الا الكليات هذا في العلم المستفاد من الحواس الجسمانية.

واما ما يوحى من الله سبحانه وتعالى على أنبيائه أو ما يقوله نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنها كلها ليست إلا قواعد كلية عقلية فطرية فان الجزئيات لا يمكن ان تكون مورد نظر الفلاسفة المتألهين فضلا عن المبدء القيوم ونبيه الأعظم الذي يفتخر على سائر الأنبياء بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أوتيت جوامع الكلم» فالقرآن الكريم والسنة المقدسة كلاهما حقايق كلية وكليات واقعية تظهر للعقول آثارها وتنشر في العالم أخبارها ، ويستفاد من كل آية قواعد واصول كثيرة ، ولذا اتفق الجميع على ان المورد لا يكون مخصصا ومقيدا.

ومن ذلك يعرف ان ما ورد في الآية الشريفة حقيقة من الحقائق لا تختص بعصر دون آخر ولا بطائفة معينة من المؤمنين فكل ما تحققت فيه الشروط كان داخلا في مضمون الآية الشريفة وثبتت له الخيرية والتفضيل على سائر الناس ، فلا وجه للنزاع في ان (كان) في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ناقصة أم تامة منسلخة عن

٢٥٠

الزمان أم لا وان كان ظاهر السياق بحسب العلوم الادبية يقتضي ان تكون (كان) ناقصة لكن حقيقة الواقع على ما هو عليه لا تتغير بالجهات الادبية ، فالآية المباركة في مقام الإخبار عن أمة مؤمنة وفت بما التزمت لله تعالى وثبتت على إيمانها ففازت بالسعادة والخيرية والفضل على سائر الناس ، ولا ينافي ذلك ان يقال : انهم كانوا في علم الله كذلك.

ثم انه يدل قوله تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) على ان السبب في نفي الخيرية عنهم انهم اختلفوا ولم يجتمعوا على الايمان والثبات عليه ، فكان هذا الذيل راجعا إلى صدر الآيات التي أمرنا فيها بالاعتصام بحبل الله والاجتماع ، فيرجع الذيل إلى الصدر ، وهذا من بدائع الأسلوب كما فيه التأكيد على اهمية الاجتماع ونبذ الافتراق.

والسر في التعبير بالبناء للمجهول في «أخرجت» كون الناس في طريق الاستكمال تكوينا وان الحركة في سير الاستكمال ، فتصير هذه الامة خير الأمم لا محالة ان طبقت على نفسها مبادئ دينها وذلك لا يتحقق إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم.

وانما عبّر سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة بالمجهول «أخرجت» وفي قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) البقرة ـ ٢٢٧ بالمعلوم ، وأضاف الفعل إلى نفسه الأقدس ، لان تأسيس الاهتداء إلى الصراط المستقيم وجعل هذا القانون القويم يختص بالله تعالى ولذا أضاف ذلك إلى نفسه الأقدس قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ الحجرات ـ ١٧. واما بعد البيان وإتمام الحجة فتصبح النفوس مستعدة لنور الفيض عليها وقبولها للكمالات

٢٥١

اعتقادا وعملا ولذا أتى بالفعل مجهولا «أخرجت» مدحا لهم. فالآيتان المباركتان تبيّنان السبب الفاعلي والمادة القابلة اي النفوس المستعدة.

والتعبير ب (الأذى) في قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) للاشعار بان الضرر لا يكون عميقا ولا أصيلا بحيث يتناول أمس الدعوة وانما هو مجرد عرض يزول وان النصر ليس من نصيبهم فالآية الشريفة تعد من ملاحم الآيات في القرآن الكريم وهي تدل على ان المسلمين لو داوموا على ما كانوا عليه في بدء الدعوة من الاتحاد والوحدة بينهم تاركين الخلاف والاختلاف لكانت لهم الكلمة العليا والسيطرة والاستيلاء على الأعداء والكفار ولن يقدر احد ان يضرهم ، ولكنهم اختلفوا وتفرقوا وكان فعلهم هذا بمنزلة إعطاء السلاح بيد عدوهم فصار يقاتلهم بسلاح أنفسهم فلا يلوموا في ذلك إلا أنفسهم وفي مثل ذلك لا ينفع الدعاء ولا الاستغاثة بالله العظيم كما تقدم في مباحث الدعاء.

كما يستفاد من الآية الشريفة ان الذلة عليهم كانت مستمرة ما داموا مستحقين لها لسوء أعمالهم إلا ان يعتصموا بحبل الله أو يعتصموا بذمة المسلمين.

وانما جمع بين ضرب الذلة وضرب المسكنة على هؤلاء ، فان الاولى انما هي حالة خاصة تعتري الشخص الذليل من ناحية الغير إما لانكسار الشوكة وانحلال الجامعة أو لسلب الحق ونحو ذلك. والمسكنة هي حالة تعتري الشخص من ناحية نفسه منشؤها استصغار الشخص نفسه عند الغير كتوارد حالات الذلة والفقر عليه.

وتعدد كلمة «ضربت» في الآية الشريفة لأجل تعدد متعلقها.

كما ان تعدد اسم الإشارة «ذلك» انما هو لتعظيم الأمر والتفخيم ولتعدد السبب والتأكيد وإتمام الاحتجاج.

٢٥٢

بحث روائي

في تفسير العياشي عن عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قال : «يعني الامة التي أوجبت لها دعوة ابراهيم (عليه‌السلام) فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها ، وهم الامة الوسطى وهم خير امة أخرجت للناس».

أقول : يستفاد من هذا الحديث ان الامة التي ورد مدحها في مواضع من القرآن الكريم واحدة وهي التي تتصف بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي محصورة في افراد معدودين كما عرفت في التفسير.

في تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال نزلت : «كنتم خير أئمة أخرجت للناس».

أقول : قريب منه في تفسير العياشي وهذا على وجه التأويل وهو بيان لأظهر مصاديق الامة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.

وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر (ع) : «كنتم خير امة أخرجت للناس» قال : «اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) عن عكرمة ومقاتل : «نزلت في ابن مسعود وابى ابن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم : ان ربنا خير مما تدعوننا اليه ونحن خير وأفضل منكم فانزل الله تعالى هذه الآية».

٢٥٣

أقول : لو صح الحديث وانطبقت عليه العلة يكون الحديث بيانا لبعض المصاديق فلا تنافي بينه وبين غيره.

وفي الدر المنثور اخرج احمد : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعطيت ما لم يعط احد من الأنبياء نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت احمد ، وجعل التراب لي طهورا وجعلت امتي خير الأمم».

أقول : الحديث معروف بين الفريقين ، والمراد بالفقرة الاخيرة هي البعض كما عرفت. أو تشرفت سائر الامة بهم.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

الآيتان المباركتان متحدتان في السياق مع ما قبلهما من الآيات لأنهما تبين وتقرر ان اهل الكتاب ليسوا جميعا علي حد سواء في الانحراف والبعد عن الايمان بالله تعالى كما اسلفتها الآيات السابقة بل استثنى سبحانه وتعالى عنهم امة مستقيمة على الهدى قائمة بالعبادة مؤمنة بالمبدإ والمعاد ناهضة بتكاليف الامة المسلمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سباقة إلى الخير فهم مجزيّون على أعمالهم كما يجزى الصالحين والله سبحانه وتعالى يعلم ما اضمرته قلوبهم كما هو عليم بالمتقين.

٢٥٤

التفسير

قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً).

جملة استينافية تبين عدم استواء جميع اهل الكتاب في ما وصفهم الله تعالى به والحكم الذي حكمه عليهم آنفا ، فانه سبحانه وتعالى قد قسمهم الى طائفتين هما المؤمنون وهم الأقلون ، والفاسقون وهم الأكثرون. قال تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) آل عمران ـ ١١٠ ثم بين أوصاف الفاسقين وحذّر المؤمنين من غيّهم ومكرهم وبيّن تعالى جزاؤهم ثم حكم على النوع بما تقدم.

وفي هذه الآية المباركة يبين عزوجل حال الطائفة المؤمنة منهم وصفاتهم. والسواء مصدر ، ولذا أفرد مع كونه خبرا لجمع ، ولكن أريد به الوصف أي : ليسوا مستوين.

قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ).

جملة تعليلية تفصيلية تبين الوجه في عدم الاستواء. ومادة (قوم) تدل على الثبات والاستدامة ، وقد استعملت في القرآن الكريم كثيرا بهيئات مختلفة ، والمراد في المقام استقامة تلك الأمة على الطاعة والايمان والعبادة وثباتها على ذلك.

وبعبارة جامعة : الثبات على الحق مقابل من أنحرف عنه ، ويدل على ذلك ذيل الآية الشريفة الذي يبين انها كانت قائمة في الايمان بالله والطاعة له عزوجل والقيام بوظائف العبودية والعمل الصالح.

والمراد من أهل الكتاب هم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية

٢٥٥

السابقة عند تقسيمه لهم. قال تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) بلا فرق في ذلك بين اليهود والنصارى ، وذكر المفسرون أنهم النجاشي وجماعة من اليهود الذين ثبتوا على الحق وآمنوا بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المبشر به في الكتب الإلهية.

وقد وصفهم الله تعالى بأوصاف متعددة تبين صدق إيمانهم واستقامتهم على الحق.

قوله تعالى : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

تفصيل بعد إجمال ، والتلاوة هي القراءة مع التأمل في الجملة. والآناء جمع (انى) بكسر الهمزة أو فتحها وهو مطلق الوقت والزمان أي قيامهم في الليل بقراءة آيات الله في صلاتهم وتهجدهم.

والمراد بآيات الله تعالى الأعم مما ورد في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم. وهذا الوصف يبين جهة عبودتهم وثباتهم فيها.

قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

وصف آخر يبين سبقهم الى الايمان بالمبدإ والمعاد الأعم من الايمان بهما في حالة العمل بشريعتهم وحالة ظهور شريعتنا وتصديقهم لها ، فهم في كلتا الحالتين يؤمنون بالله واليوم الآخر.

وإنما أخر سبحانه وتعالى الايمان بالله واليوم الآخر عن التلاوة والسجود اشعارا بان العمل بالدين أهم أركانه. وانه ليس من مجرد الاعتقاد فقط وان عبادتهم لله تعالى وملازمتهم لها أوجبت توفيقهم بقبول الإسلام وعدم جحودهم له.

٢٥٦

قوله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وصف ثالث يبين طاعتهم لله تعالى بأهم أركانها وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويتشرفون بذلك بالاتصاف بما اتصف به خير أمة.

قوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ).

وصف رابع يبين الإخلاص في اعتقادهم والصدق في ايمانهم وسعادتهم.

والمسارعة : المبادرة. والفرق بينها وبين العجلة أن المسارعة وصف للحركة ، سواء كانت بارادة أم لا. وأما العجلة فهي وصف للمتحرك اي استعجل في فعله وحركته.

وعن جمع من اللغويين وبعض المفسرين ان الفرق بين السرعة والعجلة ان السرعة : التقدم في ما ينبغي أن يتقدم فيه ، وهي محمودة ونقيضها مذموم وهو الإبطاء ، والعجلة : التقدم في ما لا ينبغي ان يتقدم فيه وهي مذمومة ونقيضها محمود وهو الإناءة.

ولكن لا يمكن قبول ذلك على الإطلاق لاستعمال العجلة بالنسبة اليه تعالى ، قال جل شأنه : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) الفتح ـ ٢٠.

والخيرات جمع خير وهو معلوم عند الجميع سواء كان في العبادة أو في غيرها ، ولكن الغالب استعماله في بذل المال وقضاء الحوائج به ولكن لا بد ان لا يتعلق به نهي شرعي والا سقط عن الخيرية.

٢٥٧

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

قضية حقيقية تبين نتيجة ما تقدم من الصفات والأعمال ، فتكون جميع الآية المباركة بمنزلة العلة والمعلول.

والصالحون هم اهل الحق في الدنيا والآخرة ، ولهم مقام محمود يتمناه الأنبياء العظام قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه‌السلام) : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف ـ ١٠١ ، وقال تعالى حكاية عن ابراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الشعراء ـ ٨٣. فيكون المراد من الصالح من كمل اعتقاده وعمله فصلح للوصول إلى مقام القرب اليه تعالى ، ولهذه الصلاحية مراتب كثيرة ياتي التعرض لها ان شاء الله تعالى.

والمعروف بين المفسرين ان المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه. ولكن ذكرنا سابقا أن الآيات الشريفة كليات حقيقية واقعية انما يتعرض المفسرون لبعض مصاديقها وذلك لا يوجب التخصيص بشيء ابدا.

قوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ).

المراد من الخير ما تقدم في الآيات السابقة من الايمان بالله واليوم الآخر ، والطاعة له عزوجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة إلى الخيرات.

والمعنى : وكل ما يصدر منهم من خير اعتقادا كان أو عملا فلن يحرموا شكر الله تعالى والاثابة لهم ولن يضيع عملهم عند الله فيوفيهم أجورهم من غير نقصان ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) البقرة ـ ١٠٨.

٢٥٨

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ).

اي : ان الله تعالى يعلم السرائر وما تنطوي عليه نفوسهم وعليم بأعمالهم وإن أسروا بها ، وعليم بتقواهم فيجازي كل فرد بحسب ما يعمله.

وفي الآية الشريفة التحريض على تحصيل التقوى ، وقد ختم سبحانه وتعالى الخطاب بالتقوى للتنويه بفضلها ولبيان انها الأساس في جميع الأديان.

بحث ادبي

ذكرنا ان قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) جملة مستقلة مركبة من اسم ليس وهو الضمير ، وخبرها «سواء» وقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ) جملة اخرى مركبة من المبتدأ والخبر.

وقيل «امة» اسم ليس وسواء خبرها ، وأتى الضمير في ليس على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ورد بأن المقام ليس مثل أكلوني.

وقوله تعالى : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) في موضع رفع صفة ل أمة.

وقيل : ان الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير «يتلون» ولكن أشكل عليه بان التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع.

والحق ان يقال : ان المستفاد من الجملة استمرار التلاوة منهم في حال تهجدهم وعبادتهم سواء كانت في السجود أم الركوع أم في غيرهما ، مع انه لم يثبت بدليل امتناع التلاوة في شريعة اهل الكتاب في حال السجود.

وقوله تعالى : (آناءَ اللَّيْلِ) نصب على انه ظرف زمان.

وانما تعدى «فلن يكفروه» إلى مفعولين لأنه بمعنى الكفران اي

٢٥٩

ان يحرموا ثواب فعلهم والشكر عليه.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الاول : يستفاد من قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) التفرقة بين الحق والباطل ، وهو امر فطري كالتفرقة بين النور والظلمة ويرشد الى ذلك قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) السجدة ـ ١٨ فانه عزوجل ارجع عدم استواء الفريقين إلى فطرة الإنسان وهو لا يختص بفريقين أحدهما يكون مؤمنا والآخر فاسقا ، بل يمكن ان يجري في الشخص الواحد في حالتين مختلفتين وهو أمر وجداني.

الثاني : يدل قوله تعالى : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) على ان مناط الايمان انما هو الاستقامة وانما تتحقق بالعمل بكتاب الله تعالى والطاعة له عزوجل والايتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه فيصير بذلك صالحا ويدخل في زمرة الصالحين ، وقد ذكر عزوجل صفات متعددة في هذه الآيات كل واحدة منها تبين جانبا من جوانب الشخصية الايمانية.

الثالث : انما قرن سبحانه وتعالى الايمان بالله مع الايمان باليوم الآخر لبيان ان ايمانهم كان ايمانا يثير الخشية لله تعالى والاستعداد للقاء الله تعالى والمحاسبة للأعمال ، فكان ايمانهم ايمانا اذعانيا لا ايمانا ادعائيا كما يدعيه أبناء جنسهم.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ان هذين التكليفين من أهم الواجبات النظامية في جميع الشرائع الإلهية وكل مؤمن في اي دين كان انما يثبت إيمانه بالأمر بالمعروف

٢٦٠