مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

الانظار الامهال ، كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة ولا يؤخر عنهم العذاب يوم القيامة فان المسبب لا يمكن ان يتخلف عن السبب الذي هو الظلم وخبث الذات.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا).

استثناء ممن ذكر سابقا ، والمراد من «بعد ذلك» من بعد الكفر و «أصلحوا» اي صاروا صالحين وأتوا بالعمل الصالح ـ كقولهم «أغدّ البعير اي صار ذا غدة» ـ بقرينة سائر الآيات التي جمع فيها بين الايمان والعمل الصالح والبقاء عليه.

والمراد من التوبة البقاء عليها قلبا وعملا ، فان الذنب كبير لا يكفي فيه مجرد الندم بل لا بد من كون التوبة نصوحا يظهر أثرها على الجوارح.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

اي : فان الله يغفر لهم ذنوبهم ليزكي به نفوسهم ويرحمهم بالرضا والثواب والدخول في رضوانه وجنته.

والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء وضع فيها العلة موضع المعلول تأكيدا ، ولبيان ان رحمته ومغفرته لازمتان لمن كان أهلا لهما.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً).

بيان للصنف الثاني من الكافرين وهم الذين انغمروا في الضلالة والكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة ، فانه لا سبيل لهم للصلاح ولا مطمع في اهتدائهم فلا يهديهم الله تعالى ولا تقبل توبتهم بعد الكفر لاستهزائهم بالدين واحكام الشرع المبين فهم أصروا على العناد وصدوا

١٤١

عن سبيل الله تعالى وأحلوا نفوسهم دار البوار وازداد الطغيان في نفوسهم لممارستهم الملكات السيئة.

ومن ذلك يعلم ان ذكر هذا الصنف بعد قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) يكون من تطبيق الكلي على بعض مصاديقه فلا مجال للاشكال في عدم قبول التوبة ، لمنافاته للآيات الكثيرة الدالة على قبول التوبة مطلقا قال عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) الشورى ـ ٢٥ وكذا السنة الشريفة الدالة على قبول التوبة حتى قبل حضور الموت وقد تقدم في بعض مباحثنا تفصيل ذلك.

وملخص الكلام : ان التوبة مقبولة مطلقا الا إذا أسقط التائب نفسه عن قبولها وهذا الصنف وما ياتي من هذا القبيل. نعم لو آمن ثم ارتد وكفر ثم تاب فعن جمع من الفقهاء تبعا لبعض الروايات عدم قبول توبته أيضا. لكن صرح المحققون منهم تبعا للعمومات والإطلاقات بقبول توبته أيضا الا في الاحكام المختصة كقتله ، وبينونة زوجته ، وتقسيم تركته بين ورثته. ولكن هذا الفرد (الفطري) خارج عن مفهوم الآية الشريفة إذ ليس فيه العلة في عدم قبول توبته وهي الازدياد في الكفر ، بل هو كفر واحد بعد الايمان.

قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

نفي مؤبد لقبول التوبة في المستقبل ، لأنهم ازدادوا كفرا وأصروا على العناد واللجاج وهم على ضلالة فلا تقبل توبتهم.

وانما عدل سبحانه وتعالى عن قول «لا تقبل توبتهم» إلى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) للاشارة إلى ان توبتهم المستقبلة والمتأخرة لن تقبل

١٤٢

منهم ابدا. لأنها لا تصدر عن خوف من الله تعالى ، بل هي تصدر عن نزعات النفس الامارة والاستهزاء بالحق ، والا فان التوبة الصادقة المنبعثة عن الخوف من الله عزوجل والتقوى مقبولة حتى قبل حضور الموت كما هو ظاهر اطلاق الآيات الشريفة وصريح جملة من الروايات.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ).

الضالون المخطئون طريق النجاة والمعرضون عن الحق اي هم كذلك في مدة حياتهم ، ومن تحقق الحصر ، وإتيان الإشارة البعيدة (أولئك) وتأكيد الجملة بالضمير المنفصل (هم) ووجود اللام في الخبر واسميته كل ذلك يدل على تأكيد الضلال وتمكنه فيهم وهو راسخ فيهم فلا يرجى هدايتهم.

والآية الشريفة تشمل على علة عدم قبول توبتهم وهي الضلال الناشئ من ازدياد الكفر.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ).

هؤلاء هم القسم الثالث من اقسام الكافرين وهم الذين لا تقبل توبتهم لأجل انهم ماتوا على الكفر والعناد وموتهم على الكفر كناية عن فوت التوبة عنهم في مدة حياتهم بخلاف الطائفتين السابقتين ، فان الاولى ثابت عن الكفر توبة نصوحا ولم تعد اليه والثانية تابت عن الكفر ثم رجعت إلى الكفر وازدادت كفرا ، وهذه الطائفة لم تتحقق منهم التوبة في مدة حياتهم ابدا فلا يستحقون المغفرة والرحمة ولا يهديهم الله تعالى في يوم القيامة وان حاولوا الافتداء عما فعلوه في الدنيا لتقبل توبتهم.

١٤٣

قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً).

ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه وفي الدعاء «لك الحمد ملء السموات والأرض» ومعناه لو قدر ان تكون كلمات الحمد أجساما لبلغت من كثرتها ان تملأ السموات والأرض فالمراد التمثيل لكثرة العدد والا فالمكان ليس ظرفا للكلام وإن كان ظرفا للمتكلم. والملاء (بالفتح) مصدر ملأه ملأ.

وقد شبه عزوجل الأرض بالإناء الذي يملأه الذهب فتضمن الكلام استعارة بليغة ، وانما ذكر عزوجل ملء الأرض ذهبا لأنه غاية ما يعظم عند الإنسان فيبذله للخلاص.

وانما دخلت الفاء في خبر «إن الذين كفروا» هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع ان الآيتين سواء في ذلك ، لخروج المبتدأ ـ في المقام ـ باعتبار صلته مخرج الشرط بخلاف الآية السابقة.

قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

اي : ولو قدم ذلك بعنوان الفداء في الآخرة ، وانما ذكره سبحانه وتعالى في هذه الطائفة دون السابقة لان الفداء استنقاذ محبوب بمال وقد فاتتهم التوبة في الدنيا فلا يمكن استنقاذها في الآخرة بشيء وان بلغ في نظر الإنسان ما بلغ في العظمة ، وفيه غاية التهويل والتخويف لأنه لا خلاص لهم من الوعيد.

والواو في (وَلَوِ افْتَدى) قيل انها للمصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يكون الخبر المذكور منبها عليه بالطريق الاولى ، ففي المقام إن افتدائهم بملء الأرض ذهبا من اكثر الاحتمالات بقبول الفدية فإذا لم يقبل فالاحتمالات الاخرى اولى بعدم القبول ، ومثل ذلك كثير في

١٤٤

الفصيح من الكلام ، فتكون (لَوِ) منبّهة على ان ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها يكون أقوى الوجوه بالقبول ، فلا يندرج في ما قبلها. فهذا التركيب يفيد هذا المعنى الدقيق.

وقيل : ان الواو للعطف والتقدير اي التفصيل بعد الإجمال. ويمكن ارجاعه إلى السابق. ويحتمل ان يكون هذا التركيب لبيان غاية التهويل والتخويف. والظاهر ان بين جميع ما ذكر في المقام تلازم في الجملة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

مبالغة في التحذير ، ونهاية بعدهم عن التوبة واستعدادهم لها وإيئاسهم عن جميع ما يمكن ان يتوسل به لدفع العذاب.

قوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

نفي للانتفاع بالشفعاء الذين قد يتشفعون بهم في دار الدنيا وينصرونهم فلا تلحقهم الشفاعة المعدة لأهل الذنوب والمعاصي في يوم القيامة. و (من) تدل على استغراق النفي وعمومه لجميع افراد الناصرين لكل واحد منهم ولجميعهم بالأولى.

بحث دلالي

يبين عزوجل في قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا ..) قاعدة كلية أثبتها علماء الفلسفة العملية ـ وذكرها علماء الأخلاق في كتبهم ـ واستدلوا عليها بأدلة كثيرة عقلية ونقلية وهي ان للرذائل

١٤٥

النفسانية انما ترسخ في النفس بممارستها ومزاولتها وعدم الاعتناء برفعها وإزالتها وتطهير النفس عنها ، فإذا رسخت لا تزول الا بصعوبة شديدة ومتاعب مريرة بل لا يمكن زوالها في بعض النفوس وان أمكن تخفيفها ولكنها تعود بين حين وآخر وتظهر آثارها ، لكون أصلها في الذات ، فإذا رسخ الكفر مثلا في النفس فانه لا ينفعه الايمان فلو آمن وشهد الحقيقة والرسول وآياته وبيناته ثم كفر يكشف كفره هذا عن رسوخ ملكة الكفر في نفسه ولا تزول الا بالتطهير اي التوبة النصوح المقارن مع الصلاح والإصلاح. ولأجل هذا أكد سبحانه وتعالى على الصلاح في هذه الآية الشريفة. وهي كبرى تنطبق على الأقسام التالية التي يذكرها سبحانه وتعالى في ذيل الآية المباركة ، كما عرفت في التفسير ، فيكون لفظ (كَيْفَ) للتعجب الانكاري اي الامتناع العادي.

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى. (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ـ الى قوله تعالى ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصامت وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ثم ندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآيات المتقدمة فحملها اليه رجل من

١٤٦

قومه فقال : اني لأعلم انك لصدوق وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أصدق منك ، وان الله تعالى اصدق الثلاثة ورجع الى المدينة وتاب وحسن إسلامه» وقال الطبرسي وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام).

أقول : روى قريبا منه السيوطي في الدر المنثور.

وفي الدر المنثور أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال : «ارتد رجل من الأنصار عن الإسلام ولحق بالشرك فندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هل لي من توبة فاني ندمت؟ فنزلت : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) ـ الى قوله تعالى ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فكتب بها قومه اليه فرجع فاسلم».

أقول : يمكن أن يكون سبب النزول متعددا.

وفي الدر المنثور عن عطاء في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) قال : «نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا ببعثة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقرآن».

وفي اسباب النزول للواحدي عن أبي العالية في الآية : «انها نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد ايمانهم بنعته وصفته (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بإقامتهم على كفرهم».

أقول : بعد كون دين الله واحدا في اصل التوحيد والنبوة والمعاد فلا فرق بين ان آمن بني واحد ثم كفر به أو آمن صنف بني خاص أخبر بالنبي ثم كفروا بالنبي اللاحق فتنطبق الآية الشريفة على كل منهما بعد وحدة المناط فيهما.

١٤٧

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

بعد ان ذكر سبحانه وتعالى جملة من احوال الكافرين ، وبيّن الميثاق الذي أخذ منهم وحاجهم في ما ادعوه من الايمان. ثم سرد أقسام الكافرين وبيّن ان قسما منهم تقبل توبتهم إذا كانوا في مقام الإصلاح وأتوا بالعمل الصالح.

يذكر عزوجل في المقام ان الايمان لا بد وان يقترن بالعمل بالاحكام الإلهية التي أنزلها الله تعالى على رسله وان الميزان الصحيح هو متابعة ملة ابراهيم ونبذ الشرك والكفر والعناد وان من أهم مظاهر الايمان والعمل الصالح هو الانفاق في سبيل الله تعالى بل ان البر هو الثمرة الظاهرة للايمان فلا بد ان يقترن ذكره لان البر يكشف عن محبة الله تعالى والزهد في حطام الدنيا والرغبة الى ثوابه عزوجل ورضائه ، فمن آثر شهوة المال وجمعه كان ممن آثر حب الدنيا على محبة الله تعالى ، فالإنفاق في سبيل الله تعالى هو الميزان الفارق بين الايمان الحقيقي والادعائي.

ثم بين بعض مفتريات اليهود على الله تعالى وفنّد مزاعمهم ووبّخهم على التعدي في احكام الله والشرك به وأوعدهم العذاب.

١٤٨

التفسير

قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

النيل هو الإصابة والوصول وفي الحديث : «خرج بلال بفضل وضوء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فبين ناضح ونائل» اي مصيب منه وآخذ.

والبر هو كل ما يصح ان يتقرب به الى الله تعالى من الخير والإحسان والفعل المرضي ، ومن أسمائه تعالى «البر» بالفتح اي العطوف على عباده ببره ولطفه وتقدم في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) البقرة ـ ١٧٧ بعض ما يتعلق باشتقاق هذه الكلمة.

والمشهور ان الخطاب للمؤمنين ولكن يمكن ان يكون الخطاب للجميع لا سيما بعد ورود هذه الآية بعد الآية التي بينت اقسام الكافرين وما سيذكره عزوجل من بيان خلاف اليهود وافترائهم.

والمراد بنيل البر هو الدخول في زمرة الأبرار والوصول الى الدرجات العالية والثواب الجزيل الذي أعده الله تعالى لهم ، وقد اختلف المفسرون في المراد بالبر الذي يناله المنفق في المقام ، فقيل انه الجنة ، وقيل انه بر الله تعالى وإحسانه ، وقيل غير ذلك ولكن كل ذلك يرجع الى ما ذكرناه ، وما ذكروه يكون احد افراده.

والبر كما يشمل الأفعال الخيرة كعبادة الله تعالى والطاعة له عزوجل

١٤٩

أيضا ما هو فعل القلب كالايمان بالله عزوجل وكتبه ورسله ، والاعتقاد الحق ، والنية الصادقة ، وتهذيب النفس بمكارم الأخلاق ويدل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة ـ ١٧٧. فانه تعالى جمع القسمين من البر : الأفعال القلبية والأفعال الجوارحية.

كما أن الانفاق عام يشمل الانفاق من الأموال وغيرها ، ولكنه بقرينة ما يأتي يختص بتلك الأشياء التي يرغب إليها الإنسان ويعتز بها الإفراد ويهواها ويحبها ، وهو يعم المستحب وغيره ، ولا معنى للنسخ حينئذ ، لان وجوب بعض افراد الانفاق لا ينافي استحباب بعضها الآخر.

وانفاق المحبوبات والمشتهيات في سبيل الله تعالى من أعظم ما يختبر به الايمان الصحيح عن الايمان الفاسد ، لان فيه يظهر الاعتزاز بالإيمان بالله ومحبته عزوجل التي لا بد أن تعلو على محبة الأموال وغيرها التي يعتز بها الإنسان وتشح بها نفسه ويرغب في ادخارها ، فهو كاشف عن رضى الله تعالى والرغبة في ثوابه والايمان الصادق ، فيكون الانفاق في حبه برا يرضاه الله تعالى بالشروط التي ذكرها عزوجل في آيات الانفاق في سورة البقرة.

وذكر بعض المفسرين انه يفهم من الحصر المستفاد من النفي والإثبات ـ اي : من اثبات البر في الانفاق ونفيه عن غيره ، وان الانفاق غاية لا ينال البر الا بها ـ أن من أنفق مما يحب كان برا وان لم

١٥٠

يأت بسائر شعب البر من الايمان بجميع أركانه.

ولكنه باطل لان هذه الآية بانضمام سائر الآيات الواردة في الانفاق يستفاد منها ان انفاق المحبوب هو احد اركان الايمان ، وقد جمع سبحانه وتعالى الانفاق مع سائر اركان الايمان وشعبه في سورة البقرة آية ـ ١٧٧. وانما جعل الانفاق غاية لنيل البر هنا للاهتمام به لما يترتب عليه عظيم الفائدة ، ولما فيه الآثار الكبيرة التربوية والنفسية والاجتماعية ولان الانفاق من أهم الاساليب في ترويض غريزة النفس في حب الدنيا وما فيها بحيث يكون فقد المال موجبا لتألمه بخلاف غيره ، كما قال علي (عليه‌السلام) : «ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على الحرب» ، وقد تقدم في آيات الانفاق في سورة البقرة بعض ما يتعلق به.

يضاف الى ذلك ان قوله (مِمَّا تُحِبُّونَ) يدل على ان الشيء الذي يبذل لا بد أن يكون مرضيا لله تعالى فان الشيء الزهيد الذي لا ترضونه لا يدخل في الانفاق المحبوب ، لان القصد هو التقرب الى الله تعالى وابتغاء وجهه الكريم وهو من احد طرقه وبقية الأركان هي من شروطه.

ومن جميع ذلك يستفاد ان الالف واللام في (الْبِرَّ) إما للحقيقة اي حقيقة البر التي بيّنها عزوجل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أو للعهد اي ذلك البر المعهود الذي جعله الله تعالى للأبرار وهم المؤمنون الصادقون المتقون.

قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

ترغيب للإنفاق ، وترهيب عن تركه وتطييب لنفوس المنفقين

١٥١

وإخلاصهم ويجازيهم على ذلك ويضاعف لهم الجزاء ، كما وعدهم به فلا يخشى احد بعد ذلك عن الانفاق ، ولكن لا بد من الإخلاص فيه ليفوز بالجزاء الأوفى.

وترشد الآية الشريفة إلى حسن الإخفاء في الانفاق والحث عليه ، فان الله تعالى عليم به وان خفي عن الناس ولم يعلم به سوى المنفق.

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ).

الطعام ما يطعم ويتغذى به وفي الحديث : «ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء» وان كان يطلق عند اهل الحجاز على البر وخاصة وينصرف عند الإطلاق اليه عندهم ، وفي حديث أبي سعيد : «كنا نخرج زكاة الفطرة صاعا من طعام أو صاعا من شعير» ويأتي بمعنى المطعوم.

والحل مصدر بمعنى المفعول كالحَل مقابل العقد وهو ضد الحرام وهما قسمان من اقسام الاحكام الخمسة التكليفية ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أكل من حلال القوت صفا قلبه ورق ودمعت عيناه ولم يكن لدعوته حجاب».

وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم وهي كلمة عبرانية مركبة ، ومعناها المحارب أو المجاهد في الله أو جندي الله ، وقد ذكر المؤرخون من اليهود في وجه تسمية يعقوب بهذا الاسم إنه صارع الله أو الملاك عند فنوئيل وهو اسم موضع. وهذا مما يكذبه القرآن الكريم والعقل السليم. واطلق على الأسباط الاثني عشر عموما ، ويعرفون ببني إسرائيل وبعد ذلك صار اسما للمملكة الشمالية التي لم تكن لقبائل يهوذا وبنيامين ، ولاوى ، ودان ، وشمعون شركة فيها. وبعد سبي

١٥٢

بابل اتخذ الراجعون من السبي إسرائيل اسما لامتهم مع ان أكثرهم كانوا من مملكة يهوذا. وفي القرآن الكريم يطلق على من دان بدين موسى بن عمران.

والمعنى : كل الطعام بجميع أصولها كانت حلالا لبني إسرائيل الا ما استثناه عزوجل من تحريم يعقوب على نفسه بعض المطعومات. وهذا الحكم ارفاقي امتناني بالنسبة إليهم كجملة كثيرة من الاحكام الامتنانية التي شرعها الله جل جلاله عليهم ابتداء ولكنهم ظلموا فحرم عزوجل عليهم بعض الطعام تأديبا لهم وعقوبة لما فعلوه من الجرائم كما حكي عزوجل في موضع آخر فقال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) النساء ـ ١٦٠.

ويستفاد من قوله تعالى (عَلى نَفْسِهِ) ان التحريم لم يكن عاما يشمل جميع بني إسرائيل بل كان مختصا به لأجل مصالح خاصة كانت تتعلق به.

وقد اختلف المفسرون في النوع الذي حرمه فنسب الى ابن عباس انه الشحم الباطن والكليتان وزائدتا الكبد. وعن آخر انه لحوم الانعام وعن ثالث انه حرم لحوم الإبل وألبانها ونقل الحاكم عن ابن عباس انه (عليه‌السلام) كان به عرق النساء فنذر ان شفي لم يأكل أحب الطعام اليه وكان تلك أحب الطعام اليه».

ولكن نقل شيخنا البلاغي انه : «لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا بل انما تذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النساء إلى هذا اليوم فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل

١٥٣

والآية الشريفة مجملة من هذه الجهة فلم تعين شيئا ولعل الغرض من ذلك اثبات ان التحريم كان لبعض انواع المطعومات لشخص معين لا لجميع الشعب ، وان الله تعالى قد أحل لهم جميعها ، فما تقوّله اليهود في هذا المجال افتراء على الله تعالى.

وقال بعض المفسرين ان المراد من إسرائيل الشعب كله كما هو شايع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب. ويرد عليه : انه استعمال غير معهود في القرآن الكريم بل عند العرب في عصر النزول ، وقد ورد لفظ بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين موردا. مع ان ذكر بني إسرائيل أولا شاهد على ان المراد من إسرائيل هو يعقوب (عليه‌السلام) ولا يتصور وجه لحذف المضاف من الكلمة الثانية في موضع الإبهام والالتباس ، يضاف إلى ذلك رجوع الضمير المفرد في (عَلى نَفْسِهِ) اليه فلو كان بني إسرائيل لكان الضمير ضمير الجمع.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ).

الظاهر انه متعلق ب «حرم» والمعنى : ان الله تعالى لم يحرم من الطعام شيئا على بني إسرائيل قبل نزول التوراة الا ما حرم إسرائيل على نفسه.

وذكر بعض المفسرين انه متعلق ب «كان حلا». وأورد عليه بانه يلزم الفصل باجنبي وهو جملة (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد والإبهام.

وأجيب عنه بانه لا يضر الفصل بالاستثناء ، إذ هو فصل جائز لأنه من متممات الكلام.

وكيف كان فالمعنى على كلا التقديرين واضح وهو اثبات الحلية العامة والحرمة الخاصة قبل نزول التوراة.

١٥٤

والاحتمالات في الآية الكريمة ثلاثة : الاول : إن تكون الآية الشريفة مقولة قول اليهود ، ومن مزاعمهم الفاسدة ، ويؤيده ذيل الآية المباركة (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الذي هو في مقام الرد عليهم بالرجوع إلى توراتهم. فيصير معنى الآية : ان بعض اهل الكتاب قالوا ان جميع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل قبل ان تحرم التوراة بعضا منها واستثنوا من ذلك ما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة ، فنزلت هي بتحريمه. وجميع ذلك كذب منهم وافتراء ، فان التوراة حرمت الرجس عليهم كما في العدد الثالث من الفصل الرابع من سفر التثنية ، ونصت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين على حرمة الحيوانات البرية والمائية والطيور ، فكيف يكون الرجس حلالا عليهم قبل نزول التوراة ، كما ان التوراة لم تذكر ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا كما عرفت آنفا فما ذكروه افتراء وكذب.

الثاني : ان تكون الآية جملة خبرية في مقام الإنشاء ، وهذا كثير شايع في المحاورة ، واعتمد عليه في علم الأصول ، نظير قوله تعالى (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) البقرة ـ ٧٤ وغير ذلك. وحينئذ فالآية في مقام الاستفهام الانكاري حذفت منه اداة الاستفهام لدلالة المقام عليه ، فيكون قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تفسيرا واثباتا لمضمونها.

الثالث : ان يكون قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) حكاية عن قول اليهود الذي أوردته لإلقاء الشبهة على المؤمنين ، ونفي كون الإسلام دين الفطرة وعلى ملة ابراهيم ، وهي ان الرسول لو كان صادقا لما اخبر بالنسخ

١٥٥

وان الله حرم الطيبات لظلمهم بعد ما كانت حلالا لبني إسرائيل ويكون قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) واردة في دفع الشبهة لإظهار كذبهم وابطال شبههم ، فأمرهم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بتعليم من الله عزوجل بالرجوع إلى التوراة فإنها الفصل في الدعوى ورد مزاعمهم وهي دالة على حلية كل الطعام فان أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعلموا انكم المفترون على الله كذبا وانكم الظالمون وان الرسول هو الصادق في دعوته وان ملته على ملة ابراهيم.

وقد ذكر بعض المفسرين في المقام وجوها لم يقم دليل على صحتها بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة فراجع.

قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

خطاب إلى الرسول الكريم بالمحاجة معهم لإظهار حقيقة مدعاهم وأمرهم بإتيان التوراة وتلاوتها في الموارد التي حاجوا المؤمنين وافتروا على الله الكذب فيها ليتبين اي الفريقين على الحق واي منها كاذب في دعواه.

وفي الآية الشريفة دلالة على صحة دعوة نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانه اخبر عن ان التوراة تدل على كذبهم وهو لم يقرأها ، وهذا لا يكون الا من وحي من الله تعالى.

قوله تعالى : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

الخطاب توبيخي للفريق الكاذب بعد المحاجة معهم وقد ذمهم عزوجل

١٥٦

بافترائهم على الله بعد قيام الحجة والأمر بالكف عن الافتراء على الله وإلا كانوا ظالمين لأنفسهم يستحقون العقاب.

والافتراء هو الكذب المخترع. وأصله القطع ، وكأن المفتري يقطع صلة كلامه بالواقع والحقيقة فيكون كذبا.

قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللهُ).

اي أعلمهم بان الله تعالى صادق في جميع ما أخبر به واني لم أستطع ان أنبئكم بذلك لو لا وحي الله تعالى اليّ فإذا عرفتم صدقي في الدعوة واني على حق فلا بد من متابعة ديني والاعتراف باني على ملة ابراهيم وفي الآية الشريفة تثبت لدعواه ونبوته.

قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

تفريع على معرفة الحق وثبوت صدق الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانما أمرهم بمتابعة ملة ابراهيم لأنهم كانوا معترفين بملته (عليه‌السلام) ولبيان ان شريعته على ملة ابراهيم التي هي على دين الفطرة والمبتنية على الإخلاص لله تعالى والتسليم لوجهه الكريم ونبذ كل أنحاء الشرك ، وللإرشاد إلى ان عدم قبول الإسلام يستلزم عدم متابعة ملة ابراهيم كما تزعمون وهذه حجة اخرى على بطلان مزاعمهم واظهار كذبهم. وإنما وصف ابراهيم بكونه حنيفا وعدم كونه من المشركين لإظهار عظيم منزلته وجلالة قدره ، ولبيان ان شريعته كذلك أيضا وفيه التعريض لهم بأنهم على الشرك.

١٥٧

بحوث المقام

بحث ادبي :

الطعام : مصدر منعوت وكل مصدر منعوت يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع وهو بمنزلة الجنس. وكل في قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ) لتأكيد الاستغراق المفهوم من الجنس المعرف بالألف واللام (الطعام).

وذكر شيخنا الأديب النيسابوري الاول (رحمة الله تعالى عليه) ان بعض الآيات القرآنية تجيء في النظم والأسلوب وزان الشعر مع انه ليس ذلك مراد المتكلم. وهو يدل على نهاية الفصاحة والبلاغة وكان يعد جملة كثيرة من الآيات الكريمة منها هذه الآية الشريفة (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) التي هي من البحر السابع وهو بحر الرمل. ومنها قوله تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الأنفال ـ ٣٨ وهو من بحر الرجز.

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة امور :

الاول : كلمة البر الواردة في قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ)

١٥٨

موضوعة لذات البر وطبيعته بلا اختصاص له بنوع دون آخر فتشمل البر المادي والمعنوي بجميع مراتبهما.

كما ان لفظ الانفاق كذلك فانه يشمل انفاق الماديات والمعارف الحقة والكمالات الانسانية ، وذلك لان الألفاظ موضوعة في حد ذاتها للمعاني العامة من غير تقييد في حاق الواقع بنوع دون آخر ولا لعالم مخصوص دون سائر العوالم ، وانما التقييد والتخصيص يحصل من ناحية الاستعمال بلا التفات إليهما ، وقد جعل بعض الأعاظم ذلك من الأصول العقلائية النظامية وأثبتها علماء الأدب والأصول بأدلة كثيرة فالآية المباركة بعمومها تشمل من حيث المعنى جميع ما يمكن ان يفرض من الكمالات الانسانية الفردية والاجتماعية والنوعية والشخصية ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة ـ ١٧٧ في جمعها للكمالات الانسانية وانما الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل.

الثاني : لعل وجه ارتباط قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) بآية البر من حيث المفهوم ببيان لطيف وأسلوب رفيع وهو ان غير الإخلاص والصدق ليس من البر حتى ينفق اعتقادا كان أو قولا أو عملا فلا بد في جميع ذلك من الإخلاص والصدق ليكون برا يقبله الله تعالى ويثيب عليه بالجزاء الأوفى فما ورد في الآية من الحلية والحرمة إذا كانتا من افتعال اليهود فلا

١٥٩

ربط لها بالبر وهما خارجان عن البر موضوعا ، واما إذا كانتا من شرايع الله تعالى فهما عين البر فيشملهما قوله تعالى : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ـ الآية» التعريض باليهود في انهم يكذبون ولا يصدقون وانهم لا يعلمون احكام الله تعالى ويستهزئون بها مع ان الله تعالى في مقام الامتنان عليهم والتسهيل لهم.

الرابع : يدل قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) على تحريف التوراة وانهم يكذبون في كثير من الأمور التي ينسبونها إليها وليس المراد بالتوراة في الآية الشريفة هي التوراة المحرفة التي هي بين ايدي اليهود ، بل المراد منها التوراة التي نزلت على موسى (عليه‌السلام) والتي لم تنلها يد التحريف فان الله تعالى أمرهم بالرجوع إليها وطرح التوراة المحرفة ، فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي تدل على تحريفها وتنهاهم عن الكذب والافتراء على الله تعالى وتأمرهم بالرجوع إلى الحق ، ويشهد لذلك الآية التي تدل على انهم يفترون على الله الكذب بقرينة قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

الخامس : يدل قوله تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) على انهم هم الظالمون الذين عرفوا بتحريف احكام الله تعالى وتبديل آياته عزوجل وان مقابلهم على الصدق والحق. كما تدل عليه الآية التالية ، فيكون تفريع قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) من قبيل ترتب النتيجة على المقدمات المعلومة.

١٦٠