مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٨

الواقع والابتعاد عن الحق ، وله اسباب عديدة واثار خطيرة ، وقد عالج الإسلام هذه الرذيلة ، وبين اسبابها وآثارها الخطيرة الفردية والاجتماعية الدنيوية والأخروية. وذكر ما يوجب علاج هذا المرض النفسي ، ومنه ما ورد في المأثور انه إذا مدح أحد آخر ينبغي للممدوح أن يقول : اللهم اجعلني فوق ما يقولون واغفر لي ما لا يعلمون. والجدير بالإنسان أن يعمل الطاعات ويجتنب عن المعاصي والموبقات ليفوز بثناء الله تعالى فانه الغاية القصوى ، والسعادة الحقيقة ، ومع وجوده يشكر ومع عدمه يستمد العون منه عزوجل.

العاشر : انما قال تعالى : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) لبيان أن تعليم الكتاب وتدريسه لا بد أن يكون عن معرفة وكمال حتى يكون قابلا لأن يكون ربانيا ، فلا يصلح لكل أحد تعليم الكتاب الكريم والسنة الشريفة وتدريسهما إلا إذا كان جامعا للشرائط منها العمل بما علم ، والتخلق بمكارم الأخلاق ، ويدل على ذلك جملة من الأحاديث.

وانما عبرّ سبحانه ب (تعلّمون) دون غيره للدلالة على ما ذكرناه ، فان التعليم والتدريس لا بد ان يكونان عن تعلم وفهم واخلاص.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ـ الآية. إن عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم

١٠١

أقول : قد ذكرنا في التفسير أن ذلك ممتنع عن الأنبياء ، وفي نفس الحديث ما يدل عليه أيضا فان قوله : إني خلقتكم. الاحتجاج على ذلك ويمكن ان يستفاد ذلك من نفس الآية الشريفة لما فيها من التعريض بالنصارى.

وفي العيون عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لا ترفعوني فوق حقي ، فان الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا ، ثم تلا هذه الآية».

أقول : قد ورد في مضمون ذلك روايات كثيرة ، وفي بعضها قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «هلك فيّ اثنان محب غال ، ومبغض قال». ويظهر من جميع ذلك أن ما يفعله بعض الناس في شأن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والائمة الهداة (عليهم‌السلام) داخل في مضمون هذه الأحاديث.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) ـ الآية». قال : كان قوم يعبدون الملائكة ، وقوم من النصارى زعموا أن عيسى رب ، وأن اليهود قالوا : عزير ابن الله فقال الله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) ـ الآية».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير.

وفي أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) ـ الآية. نزلت في نصارى نجران حين عبدوا عيسى. وقوله : (لبشر) يعني عيسى. أن يؤتيه الله الكتاب ، يعني الإنجيل.

أقول : هذا بيان لبعض المصاديق ، وإلا فالآية الشريفة عامة تشمل جميع الأنبياء.

١٠٢

وفي الدر المنثور عن ابن عباس في نفس الآية الشريفة : أن أبا رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودعاهم إلى الإسلام قال : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد يا محمد منا؟ فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني ، فانزل الله من قولهما : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ـ الآية.

وفي أسباب النزول عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لاحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ، فانزل الله هذه الآية.

أقول : أن جميع ذلك من المصاديق والآية عامة تشمل جميع ما ذكر في اسباب نزول هذه الآية الشريفة.

بحث عرفاني

من المعلوم انه لا كمال أرفع وأجل وأعلى من العبودية لله تعالى ، فهي فوق الرسالة والنبوة ، والولاية ، بل بها تنال تلك المقامات الرفيعة ، والدرجات العالية ولا غاية لها إلا جماله وجلاله جلّت عظمته وبما انهما غير متناهيين ، فلا يعقل التناهي فيها أيضا ، وكيف

١٠٣

جوهرة لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه. ولكن آثارها عظيمة ، فهي التي تهيء العبد لنيل الكمالات الواقعية ، والسعادة الحقيقة ، والعبد يكون مظهرا من مظاهر تجلي الله تعالى ، وتظهر آثار العبودية على جميع جوارحه ، وأفعاله ، وأقواله ولحظاته ، فلا يخرج لحظة عن طور العبودية وزيّ الرقية ، ولا يعقل لمثل هذا العبد أن يدعو إلى غير الله تعالى ويتخذ غيره عزوجل ربا ، فانه خروج عن الفطرة واستبدال الطيب بالخبيث الذي هو قبيح عقلا.

والآية الشريفة ترشد الناس إلى نبذ كل أنحاء الأنانية ، وتدعو إلى العبودية الحقة ، والتوجه إلى الله الواحد الأحد ، والاعراض عن كل ما يبعد عن ذكر الله عزوجل ، وتحرضّهم إلى نيل الكمالات بالتعلم والتعليم ودراسة المعارف الحقة الإلهية ، وتبين أن الغرض الأقصى من سعي الإنسان في الدنيا أن يكون ربانيا قد تخلّق بأخلاق الله عزوجل وزكيّ نفسه بالتخلية عن الرذائل ، والتحلية بالفضائل ومكارم الأخلاق ليستعد بذلك أن يكون معلّما للمعارف الإلهية ، ومرشدا إلهيا ، وداعيا إلى كتاب الله تعالى ، ولا ينال هذه الدرجة إلا بتهذيب النفس وتزكيتها ، والتخلق بمكارم الأخلاق ، وتعلم المعارف الحقة وتعليمها فلا يليق بهذا المنصب كل متطاول ليس له حظ من ذلك ، فان الأغيار لا يمكنهم الوصول والتقرب إلى دار الحبيب إلا بعد الجهاد مع النفس والتزين بما يرضي المحبوب. وعلى مرشدي الامة وطلاب العلم لا سيما علوم الدين أن يزكوا أنفسهم أولا ويتخلقوا بمكارم الأخلاق ، وأن يكونوا داعين إلى الله تعالى علما وعملا بل يكونوا داعين إلى الله بعملهم اكثر من دعوتهم اليه بعلمهم ، ولا يخرجوا عن زي العبودية أبدا.

١٠٤

بحث فلسفي

المعبود الحقيقي لا يعقل التعدد فيه بوجه من الوجوه ، لأنه عبارة عن الكمال المطلق المسلوب عنه جميع النواقص الواقعية والإدراكية ، وهو الربوبية العظمى بالنسبة إلى جميع الموجودات تدبيرا وعلما وحكمة فلا يعقل التعدد في مثل هذه الحقيقة ، لأن التعدد فيها نقص ، والمفروض انتفاء جميع النواقص عنه. وقد أكد سبحانه وتعالى وحدته مطلقا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ببراهين متعددة ، وهو أساس نظام الشرائع السماوية ، وجميع ما افتعل في التعدد انما حصل من مغالطات الوهم والآية الشريفة بأسلوبها الواضح المتين تبين امتناع التعدد في المعبود ببراهين ثلاثة ذكرناها في البحث الدلالي ، والمعروف بين الفلاسفة أن بسيط الحقيقة من كل حيثية وجهة لا يعقل الاثنينية والتغاير فيه ، لأنه خلف لفرض البساطة ، لأن معنى بساطته من كل جهة انه مع الكل ، قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) الحديد ـ ٤ وقال تعالى : (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق ـ ١٦. فكل فرض اثنينية يكون خلاف للمعية المطلقة ، ولا يعني بالمعية الحلول الذي يدعيه النصارى ، ولا وحدة الوجود والموجود التي يذهب إليها بعض المتصوفة ، بل المعية القيومية ، كما فسرها علي (عليه‌السلام) بقوله : «خارج عن الأشياء لا بالمغايرة والمزايلة ، وداخل في الأشياء لا بالممازجة» فهو الحي القيوم باحاطة قيومية على جميع ما سواه ، وفي

١٠٥

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي تبين دستور الإنسان ومنهاجه في الدنيا ومصيره في الآخرة وهي عامة تشمل جميع أفراد الإنسان بما فيهم الأنبياء ، وهي باسلوبها الخلاب نفيسا واثباتا تقرر حقيقة من الحقائق ، وهي عالم الميثاق وأخذ العهود المؤكدة من أفراد الإنسان بالإيمان بالله تعالى وتصديق الأنبياء ونصرتهم ، ودعوة كل نبيّ سابق

١٠٦

إلى نبيّ لاحق ، وهي تدعو الناس باتباع الإسلام والانقياد إلى الله تعالى وطاعته ، وعدم الخروج عن طور العبودية له عزوجل ، وهي تثبت نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وتدحض حجج المخالفين ، وتقطع اعذار المعاندين ، وتبطل ما ادعاه أهل الكتاب في الأنبياء العظام وانكار نبوة خاتم الأنبياء ، وترجعهم إلى الفطرة التي تدعوهم إلى الوفاء بالعهد والتسليم لله تعالى والايمان بالأنبياء لا سيما خاتمهم ، ونبذ كل ما يخالف ذلك العهد المأخوذ منهم. والآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة التي تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان والتسليم والانقياد ، وطرح كل مكر وخديعة ، والاجتناب عن الكذب والافتراء على الأنبياء وفي هذه الآيات يأمرهم عزوجل بالجري على الميثاق.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ).

الآية تقرر عالما من العوالم الإلهية وهو عالم الميثاق الذي أخذ فيه من الإنسان العهود المؤكدة بالتسليم لله والتصديق بالأنبياء ونصرتهم ، والعمل بما انزل عليهم ، وأودعه عزوجل في الفطرة الانسانية ، فهي تدعو إلى الله تعالى كما تخبر عن أن هناك ميثاقا مأخوذا من أفراد الإنسان يجب الوفاء به بحكم العقل.

وتتجلى عظمة هذا الميثاق انه ذو أطراف عديده ، فمن ناحية انه

١٠٧

بعضهم لبعض ، بأن يبشر كل نبي سابق لنبي لاحق ويدعو الناس بالإيمان به ونصرته ، كما أن كل نبي لاحق ينوّه بالنبي السابق ويدعو إلى الايمان به ، كما قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة ـ ٢٨٥. وثالثة بينه تعالى وبين الأنبياء جميعا لسيد الأنبياء وخاتمهم ، كما في قوله تعالى في ما يأتي (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ورابعة بين الله تعالى وجميع عباده مطلقا بالإيمان به ، والعمل بما أنزله على الأنبياء وجميع هذه المواثيق متلازمة يتقوم بعضها ببعض.

والميثاق الأول دليل اعتماد المعاهد (بالفتح) على نفسه من حيث انه مبعوث إلهي لا ينطق عن الهوى ، كما يوجب زيادة اعتماده على من يصدر عنه لاتصاله بالحي القيوم.

واما الثاني فلأن وحدة المعبود الحقيقي بالوحدة الحقة الحقيقة لا بد له من وحدة الداعي اليه ، والتقدم والتأخر الزماني وتعدد الأفراد لا اثر له في ذلك ، لأنه من لوازم هذا العالم المادي المبني على التكثر والتعدد. كما أن المرايا المتقابلات لشيء واحد لا يوجب تكثر ذلك الواحد ، وإن تكثرت المرايا.

واما الثالث : فلأن الغاية مقدمة في العلم وإن كانت متأخرة في الوجود خصوصا في مثل هذا الكمال المطلق الذي هو أصل الكمالات بل هو مرآة الكمال المطلق الأتم الأرفع.

وأما الأخير فلإتمام الحجة وإيضاح المحجة ، وقطع اعذار الناس لئلا يقولوا بانه لو كنا في غير هذا النحو من الوجود لآمنا بالله تعالى ولإظهار كمال قدرته عزوجل على كافة مراتب الوجود ، وجميع العوالم الممكنة ، وعالم الميثاق من اظهر عوالمه وقد تجلّت فيه قدرة الله

١٠٨

عزوجل ولا يمكن الاحاطة به لغير علام الغيوب ، والمطلع على السّر المكنون المحجوب ، وسياتي في البحث القرآني تتمة الكلام.

والميثاق هو العهد المؤكد المشدّد ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في عدة مواضع ، ولكن تستعمل في الكتاب والسنة في موضوع خاص ، وهو عالم الميثاق وقد جمع بعض المحدثين ـ رفع الله تعالى شأنهم ـ أحاديث هذا الموضوع الواردة في أبواب متفرقة في باب واحد ، وسمّاه باب الطينة والميثاق.

وقد ذكر المفسرون في المراد من هذا الميثاق وجوها كثيرة لم يقم دليل يصح الاعتماد عليه على اعتبارها ، بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة ، وهي قد بينت الميثاق العام المأخوذ من الأنبياء عن أممهم على ما عرفت تفصيله ، ووجه الميثاق ، وقررته بأسلوب لطيف لا غموض فيه.

وذكر بعض المفسرين أن المروي عن الصادق (عليه‌السلام) أن المراد أمم النبيين على حذف المضاف. كما ذكر السيوطي وغيره عن سعيد بن جبير قال : «قلت لابن عباس : أن اصحاب عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يقرءون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ ميثاق النبيين. فقال ابن عباس : انما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم».

والظاهر انه من تفسير الآية الشريفة لا كونه من القرآن ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك أيضا.

والمراد بأخذه تعالى الميثاق هو الجعل والإلزام ثم قبوله منهم على الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، والنصرة للنبيين ودعوتهم إلى خاتم الأنبياء.

وانما ذكر سبحانه ميثاق النبيين أولا لأن ميثاقهم هو الأصل في كل

١٠٩

ميثاق. وتشريفا لهم ، وتعظيما لميثاقهم ، ولكونه أشد وآكد بالنسبة إلى غيرهم ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الأحزاب ـ ٨ ، ولورود ذكرهم في الآية الشريفة السابقة.

قوله تعالى : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ).

قرأ الجمهور (لما) بفتح اللام والتخفيف. وقرئ بالكسر. والمعروف أن اللام هي الموطئة للقسم ، لأن الميثاق كالعهد والنذر في دخول اللام على جوابه ، نظير قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) التوبة ـ ٧٦. وقيل : (ما) شرطية ، كما في قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) الأعراف ـ ١٧ ، وهي في موضع نصب مفعول أول ل (آتيت) ، والمفعول الثاني الضمير المخاطب. و (من) بيانية.

وقيل : اللام ابتدائية ، و (ما) موصوله ، وآتيتكم صلته ، والضمير المحذوف يدل عليه قوله : من كتاب وحكمة ، والموصول في موضع رفع مبتدأ ، والخبر (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) الذي يكون اللام فيه لام القسم.

والحق أن يقال : إن (ما) موصولة ، كما هو المتفاهم العرفي والجملة تتضمن معنى الشرط ، فيكون فهم الشرطية منها سياقيا ، لا أن يكون لفظيا دلاليا بالمطابقة ، أو التضمن وأما الدلالة الالتزامية فقد تكون داخلة في الدلالات السياقية ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بذلك أيضا.

والخطاب للنبيين وأممهم بقرينة قوله تعالى : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ

١١٠

عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي).

والمعنى كلما آتيتكم يا أيها الناس ـ الأنبياء والأمم ـ من كتاب يتضمن التشريعات السماوية ، والمعارف الإلهية ، والبشارات بنبوة خاتم الأنبياء والأحكام الإلهية ، والدلائل الدالة على حكمة إرسال الرسل وبعث الأنبياء.

قوله تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ).

تقرير للميثاق المأخوذ من الأنبياء واللام في (لتؤمنن به ولتنصرنه) جواب القسم ، والجملتان جواب القسم والشرط معا إن جعلنا (ما) شرطية والضمير في الموضعين راجع إلى الرسول ، كما هو الظاهر. وقيل : إن الضمير في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) يرجع إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة. والضمير الثاني راجع إلى الرسول. ولكن الظاهر ـ كما عرفت ـ هو الأول ، ويستفاد الثاني من السياق.

والتراخي الزماني المستفاد من إتيان (ثم) في الكلام لبيان الميثاق المأخوذ من النبي السابق وهو الدعوة بالإيمان بالنبي اللاحق ونصرته ، كما أن كل نبي لاحق لا بد له من التنويه بالنبي السابق والإيمان به.

والمراد بقوله تعالى : (مَعَكُمْ) هو المعية المعنوية المستكملة للنفوس الانسانية ، لا خصوص المعية الجسمانية ، فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أرسل بعد فترة من الرسل ، وهو خاتمهم.

والآية في مقام بيان حقيقة النبوات السماوية ، وكيفية ارتباط بعضها مع بعض ، وارتباطها مع الخلق ، وتفصيلها أولا ثم بيان مجملها بما هو منطو في خاتم رسله ، لأن النبوّات السماوية متقومة

١١١

بالبيانات الإلهية التي هي عبارة عن الكتاب والحكم المودعة فيه. وهي تشمل جميع المعارف الضرورية من المبدأ والمعاد ، وكل ما يحكم به العقل السليم ، والفطرة المستقيمة التي قررتها الكتب السماوية ، وهي الميثاق المأخوذ من الجميع ، فالحكمة ترجع إلى الكتاب وهو يرجع إليها ، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل ، كما أن الفرق بين جميع الأنبياء وخاتم النبيين أيضا كذلك ، لأنه يبين حقيقة ما أوحي إليهم مع شيء زائد ، فلذلك كانت دعواتهم اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولأجل ذلك فصّل سبحانه الدعوة اليه بقوله عزوجل : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) اهتماما به ، وإرشادا إلى علوّ درجته وسموّ مقامه.

قوله تعالى : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا).

خطاب للمأخوذ منهم الميثاق والاستفهام تقريري. والإقرار معروف وهو الإثبات والإلزام. والإصر هو العهد والميثاق ، سمي به ، لأنه إما من الإصر وهو الثقل ، لأن العهد فيه ثقل وتشديد. أو من الإصار ، وهو ما يعقد به ويشدّ ، لأن العهد يشد به ، وتقدم في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) البقرة ـ ٢٨٦ بعض الكلام.

وإنما عدل سبحانه عن لفظ العهد إلى هذه الكلمة (إصري) للإرشاد إلى أن ناقضه محروم من الثواب وواقع في مأزق العقاب وشدة العذاب ، فيكون مثل هذا العهد قد حبس صاحبه عن التهاون في التزامه ، والتسامح فيه.

أي قال الله تعالى للنبيين : أأقررتم بالميثاق المذكور آنفا وأخذتم

١١٢

من الأمم العهد وبلغتموه إليهم. قال النبيون أقررنا بذلك وأخذنا من الأمم العهد والإصر.

وانما ذكر جواب الأنبياء باعتبار انه كان جوابا عما أراد عزوجل تقريره منهم ابتداء ، فيتضمن عهد الأمم وتقريرهم أيضا ، فاكتفي بالأول. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

وقيل : المراد من أخذ العهد هو القبول ، واستشهد لذلك بقوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) البقرة ـ ٤٦ ، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) البقرة ـ ١٢٣. فيكون قوله : وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله : «أأقررتم». وعلى هذا يكون الميثاق مختصا بالأنبياء لا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

لكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة. والأخذ هو بمعناه المعروف وهو الاستيفاء. ويبعده أيضا قوله عزوجل : (قالَ فَاشْهَدُوا) لظهوره في كون الشهادة على الغير. ولكن يهون الخطب أن الميثاقين متلازمان يغني ذكر أحدهما عن الآخر ، كما ذكرنا سابقا.

قوله تعالى : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

ظاهر السياق أن تكون الشهادة من النبيين والأمم ، أي شهادة الأنبياء على الأمم بأخذ العهد منهم ، وشهادة الأمم عليهم بالتبليغ والمناصرة لهم ، وإقرار منهم بالقبول. وأما شهادة خاتم النبيين فإنها تقوم على إمضاء شهادتهم وتقريرها باعتباره العلة الغائية للخلق ، وأن شهادة النبيين كانت لأجله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فكانّ شهادتهم لا تقبل إلا بشهادته (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وقيل : ان المراد من الآية شهادة الأنبياء بعضهم لبعض ، وهذا

١١٣

وإن كان صحيحا في نفسه ولكنه تخصيص بلا موجب.

وقيل : الخطاب للملائكة أمروا بالشهادة على الأنبياء والأمم ، وقد وردت به رواية أيضا. وفيه : انه خلاف الظاهر.

والحق أن الشهادة عامة ، وهي من الأنبياء على الأمم وبالعكس من قبيل مقابلة الجمع بالجمع.

ثم إن هذه المحاورة التي وقعت في الآية الشريفة إنما هي لتأكيد الميثاق وتثبيته ، وبيان أهميته ، وظاهرها الاخبار بوقوعها في ما مضى من الزمان لا أن يكون من مجرد التمثيل ، ولكنها مجملة في تعيين زمان هذه المحاورة ، فأصل السبق الزماني معلوم وأما تعيينه في انه كان في عالم الذر الأول ، أو الثاني ، أو انه كان في عالم المثال المعبر عنه بعالم الأشباح والاظلة ، أو انه كان في الأعيان الثابتة المسماة بالثابتات الأزلية ـ بناء على صحة هذا القول ـ أو انه من قبيل لوازم الماهيات الممكنة مطلقا ولو في هذا العالم ، أو غير ذلك احتمالات ، ولا يظهر من الآيات الشريفة ، والادلة العقلية والنقلية تعيين واحد منها.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

تأكيد للميثاق المذكور ، أي من تولّى بعد أخذ الميثاق منه وإقراره به ، فلا ريب في فسقه وخروجه عن طاعة الله تعالى ، بحكم العقل والفطرة ، لأنهما يحكمان بوجوب الوفاء بالعهد. فان كان توليه عن أصل الايمان بالتوحيد والمعاد فهو كافر مضافا إلى فسقه ، وإن كان توليه عن العمل بالاحكام فهو وإن كان فاسقا ولكنه ليس بكافر إن لم يحصل منه ما يوجب الكفر. ولأجل ذلك عبّر سبحانه بالفسق ليشمل الجميع ، ولم يبين جهته ، ولا ما يترتب على ذلك للتنبيه على

١١٤

عظمة هذا الموضوع وكثرة اهميته.

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ).

عطف على الآية السابقة ، وتفريع على أخذ الميثاق من النبيين والأمم ، وتوبيخ لمن اعرض عنه ، ويدل على أن دين الله واحد وهو دين الإسلام ، فانه تعالى بعد ما ذكر أخذ الميثاق من جميع افراد الإنسان ، واثبت انهم متفقون في الدين الذي أراده عزوجل منهم ، وأخذ الميثاق من النبيين على الدعوة اليه. كما أخذ ميثاق كل نبي بالدعوة إلى النبي اللاحق ، والتنويه بالنبي السابق ، وأن على جميعهم الدعوة إلى الرسول الكريم خاتم النبيين ، والتبشير به والتصديق به ونصرته فإذا تولى أحد عن هذا الميثاق ، ولم يف بما عاهد عليه وأقر به ، فليس هناك دين آخر يعتقد به. كيف وقد خرج عن الطاعة ودين الحق. واعرض عن الدين الحقيقي الذي أمر العباد بالاعتقاد به وعانده فلا يرجى منه خير حيث لم يؤمن بدين الإسلام ولم يعترف بنبوة الرسول الكريم الذي يسوق الإنسان إلى دين الفطرة الذي أخذ عليه الميثاق.

والهمزة في (أفغير) للإنكار والتسفيه لمن تولى عن دين الله ونبذ العهد ، ولها التصدير في الكلام ، ولذا جاءت قبل حرف العطف بين المعطوف والمعطوف عليه.

قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً).

جملة حالية مؤكدة ، وهي في مقام الاحتجاج على كون الإسلام دين الفطرة. والإسلام إما أن يراد به التسليم التكويني القهري لله

١١٥

تعالى ، فيكون المراد من الطوع مقهورية الممكنات تحت إرادته عزوجل القهارة ، والمراد من الكره قهارية إرادته عزوجل التامة بالنسبة إليها فيجتمع في كل شيء الطوع والكره معا ، فانه من حيث الاضافة إلى ذات المخلوق يكون طوعا ، ومن حيث إضافته إلى الخالق والجاعل يكون كرها ، ولا محذور فيه. ويكون التعبير ب (من) المستعمل في ذوي العقول إما لأجل الفضل ، أو الغلبة ، كما يكون الواو في قوله تعالى : (طَوْعاً وَكَرْهاً) لمطلق الجمع.

وإما أن يراد من الإسلام التشريعي الاختياري ، فيكون المراد من الطوع هو إسلام من آمن بالله تعالى لأنه وجده أهلا للعبادة فعبده ، ولم يتعلق غرضه بغيره جل جلاله فوجد الذات ذاتا لا تليق الا للعبادة والايمان بها. والمراد من الكره هو اسلام الذين آمنوا به عزوجل لأغراض زائدة على اهلية المعبود للعبادة ، كدخول الجنة أو الخوف من النار أو غير ذلك.

وقد اختلف المفسرون في معنى الآية الشريفة ، فقيل : المراد من الإسلام طوعا ما إذا حصل من الدليل والفكر والرويّة بخلاف الإسلام كرها وهو ما إذا حصل من السيف والخوف.

وقيل : إن المراد بالإسلام طوعا ما إذا حصل من غير معارضة في النفس ، والإسلام كرها هو الانقياد مع معارضة النفس والوساوس والتعلق بالوسائط.

والحق ما ذكرناه ، ويمكن أن يرجع الأخير اليه بالعناية.

١١٦

قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

حجة أخرى على لزوم الرجوع إلى الدين الحق والتسليم لله تعالى والانقياد له ، وقبح التولي عن الميثاق. لأن جميع من في السموات والأرض مرجعهم اليه عزوجل فيجزيهم على معتقداتهم وأعمالهم ، رجوعا قهريا لا دخل للإرادات مطلقا وإن بلغت ما بلغت فيه ، فاللازم هو الرجوع إلى ما بينه المعبود الحقيقي ، والالتزام بالدين الحق والرجوع إلى ما أخذ عليه الميثاق.

ويمكن أن يكون هذا قرينة على أن المراد من الكره هذا المعنى في الآية السابقة. فان من كان مرجعه اليه بلا اختيار منه ولا إرادة كيف يعقل أن يتخذ إلها غير الله تعالى الذي ترجع اليه الأمور ، وهو مرجع العباد ، فيقبح منه التخلّي عن الميثاق المأخوذ منه ، والتولي عن دين الحق.

قوله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا).

أمر للرسول الكريم بالجري على الميثاق المأخوذ منه ودعوة منه به وهو الميثاق الذي أخذ منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالإيمان بالله تعالى والتنويه بالأنبياء السابقين والايمان بهم ، وبالقرآن الكريم المشتمل على جميع المعارف الحقة ، وقد بين سبحانه هذا الميثاق بعد أن أشار اليه في الآيات السابقة ، وبين الميثاق المأخوذ من الأنبياء بالإيمان بالرسول الكريم خاتم النبيين والتبشير به والدعوة إلى نصرته.

وانما قدم سبحانه المنزّل عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على المنزل عليهم اشارة إلى علوّ منزلته ، ولأنه واسطة الفيض ، وهو الوجود الجمعي للكل.

١١٧

وقد عبر عزوجل في المقام (علينا) ، وفي غيره (إلينا) ، ولا فرق بينهما ، إلا انه إذا لوحظ المنزل من الله عزوجل باعتبار انه محيط بالجميع ومستول عليهم ، فتكون فيه جهة العلو من جميع الجهات فيصبح التعبير ب (على) حينئذ. واما إذا لوحظ المنزل عليه فيعبر حينئذ (إلينا).

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ).

الأسباط جمع السبط وهم القبائل من أبناء يعقوب الاثني عشر والإنزال عليهم باعتبار الإنزال على أنبيائهم بقرينة ذكر الأنبياء المنزل عليهم قبلهم وبعدهم. وهم كثيرون ، كداود وسليمان ويونس وغيرهم.

وانما خص عزوجل هؤلاء بالذكر باعتبار اعتراف أهل الكتاب بنبوتهم جميعا ، وقبول ما انزل عليهم ، والمراد بما انزل عليهم الصحف.

قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ).

من التوراة والإنجيل وسائر الكرامات الباهرات ، وانما ذكر النبيين بعد ذكر آحادهم للتعميم ليشمل جميع الأنبياء ، وقد خصّ موسى وعيسى بالذكر تشريفا لهما وتعظيما لما انزل عليهما ، ولأن الكلام مع اليهود والنصارى.

وانما ذكر سبحانه الرب لبيان كمال العناية بهم ، ولأنه الرب الرءوف بالعباد نزّل عليهم الكتاب لتكميل النفوس المستعدة.

١١٨

قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).

تأكيد بالإيمان بجميع الأنبياء ، فان الميثاق قد أخذ منهم بالإيمان بجميعهم من دون تبعيض ، وفيه التعريض باليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض دون بعض تبعا لأهوائهم الفاسدة. وما تمليه عليهم العصبية البغيضة.

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

اي نحن جميعا منقادون لله تعالى مطيعون له في جميع ما أنزله عزوجل على الأنبياء وما أراده عزوجل.

في التعبير بالإسلام كمال التذلل والانقياد ، أي مستسلمون لكل ما هو في الميثاق.

وفيه اشارة إلى أن الايمان لا يتم ولا يكمل إلا بالاستسلام والانقياد من كل جهة قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).

بعد ما بين عزوجل أن الأيمان المطلوب هو الإسلام دون غيره ، وبه أخذ الميثاق ، وانه الجامع لجميع الأديان الإلهية ، والكمالات الانسانية ، فيكون الإسلام لله تعالى هو الجامع بين جميع الأديان السماوية ذكر هنا أن غيره باطل لا أثر له ولا يهدي الإنسان الى الكمال المنشود بل يوجب بطلان الانسانية ومقامها الرفيع.

وفي التعبير بالابتغاء الإشارة الى أن الإنسان وان اجتهد في ما ابتغاه وارتاض

١١٩

فيه كمال الجهد والرياضة لا يقبل منه.

قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

دليل على أن الأعمال مع غير الإسلام تكون فاسدة ومفسدة للآخرة فإنها هي المحل الأتم لظهور مقام الانسانية الكاملة. فمن ذهب من العرفاء وعظماء الفلاسفة إلى وحدة الوجود والموجود إن كان نظره إلى ذلك فلا بأس ، وتشهد له الادلة الكثيرة ، وإلّا فلا يرجع إلى محصل. وهذه الآية الشريفة تشتمل على الإثبات والنفي بطريق برهاني علمي ، وهو ترتب المعلول على العلة التامة.

بحوث المقام

بحث أدبي :

(إذ) في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) منصوب بفعل مقدر ، أي واذكر إذا أخذ الله ... كما في غير هذا المورد. وقيل : انه مقول لقوله تعالى في ما يأتي : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ). وأورد عليه بعضهم أن خطاب أأقررتم إنما كان بعد أخذ الميثاق. ولكن فساده واضح. وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية فراجع.

والميثاق كالنذر والقسم في دخول اللام على جوابه. لأنه يتضمن العهد الذي يؤخذ من المعاهد (بالكسر) للمعاهد (بالفتح). وهي

١٢٠