الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

٦ ـ وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال : «ما عُمّرَ مَجلِسٌ بِالغَيبَةِ إلّا خُرِّبَ بِالدِّينِ فَنَزِّهُوا أَسمَاعَكُم مِنْ اسْتِماعِ الغَيبَةِ فَإِنَّ القائِلَ وَالمُستَمِعَ لَها شَريكَانِ فِي الإثْمِ» (١).

٧ ـ وفي حديث آخر أيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث فيه عن الأضرار المعنوية الكبيرة للغيبة ويقول : «مَن إِغتابَ مُسلِماً أَو مُسلِمَةً لَنْ يَقْبَلَ اللهُ صَلاتَهُ وَلا صِيامَهُ أَربَعِينَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» (٢).

٨ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «مَن رَوى عَلى مُؤمُنٍ رَوايَةً يُريدُ بِها شَينَهُ وَهَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعيُنِ النّاسِ ، وَأَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ وِلايَتِهِ إِلى وِلايَةِ الشَّيطانِ فَلا يَقْبَلُهُ الشَّيطَانُ» (٣).

ومن الواضح أنّ المصداق البارز للرواية أعلاه هو الشخص المغتاب الذي يهدف من الغيبة إظهار عيوب المؤمنين المستورة ويعمل على هدم شخصيتهم الاجتماعية واسقاطهم بين الناس ، فعذاب مثل هؤلاء الأشخاص عظيم إلى درجة أنّ الشيطان نفسه يستوحش من قبول ولاية هؤلاء ويتبرأ من رفقته وصحبته.

٩ ـ وفي الحديث الوارد في مناهي النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «نَهى عَنِ الغَيبَة وَقالَ مَنْ إِغتابَ امرءً مُسلِماً بَطَلَ صَومُهُ وَنَقَضَ وَضُوءُهُ ، وَجاءَ يَومَ القيامَةِ يَفُوهُ مِنْ فِيهِ رائِحَةٌ أَنتنَ مِنَ الجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهلَ المَوقِفِ» (٤).

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام رغم وجود روايات كثيرة اخرى في هذا المجال ولكننا نكتفي بهذا المقدار الممكن من بيان عواقب الغيبة وآثارها الوخيمة الدنيوية والاخروية حيث يقول : «إِيّاكَ والغَيبَةِ فَإنّها تُمقِتُكَ إلى اللهِ والنّاسِ وَتَحبِطُ أَجرَكَ» (٥).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٥٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٨ ، ح ٥٣.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٨ ، ح ١.

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٥٩٩ ، ح ١٣.

٥ ـ غرر الحكم.

٨١

ومن المعلوم أنّ حديثاً واحداً من هذه الأحاديث يكفي للأحاطة بأهميّة هذه المعصية وخطرها على واقع الإنسان وحياته المعنوية فكيف لو ضممنا وجمعنا هذه الأحاديث بعضها إلى البعض الآخر؟

ولا شكّ أنّه مضافاً إلى القرآن الكريم وتواتر الروايات الإسلامية وإجماع المسلمين على حرمة الغيبة ، فإنّ العقل أيضاً يقرّر قبح هذه الخطيئة ويذمّها باعتبارها أنّها من المصاديق البارزة للظلم والعدوان الذي هو من المستقلات العقلية ، وعليه فإنّ حرمة الغيبة تقوم عليه جميع الأدلة الأربعة الفقهية.

وبقيت هنا مسائل مهمّة لا بدّ من استعراضها وبحثها :

تعريف الغيبة :

ورد تعريف الغيبة لأرباب اللغة والفقهاء وعلماء الأخلاق تعاريف وتفاسير مختلفة تعود في حقيقتها إلى معنى واحد رغم اختلافها على مستوى التعميم والتخصيص وغير ذلك.

يقول في صحاح اللغة أنّ الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب الآخر وعمله في حال عدم حضوره بحيث لو سمعه ذلك الشخص لتألم وتأثر.

ويقول في المصباح المنير : أنّ الغيبة هي كشف العيوب المستورة للآخرين بحيث يتألمون منها وذلك غيبتهم.

وينقل الشيخ الأنصاري قدس‌سره عن بعض كبار العلماء أنّ الإجماع والأحاديث الشريفة تدلّ على أنّ الغيبة في حقيقتها هي (ذكر أخاك بما يكره) في غيبته (١).

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث نبوي شريف ، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تعريف الغيبة يقول : «الغَيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ ما قَد سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ ...» (٢).

ويستفاد ممّا ذكر آنفاً أنّ للغيبة عدّة أركان ، أوّلها أن يكون الكلام في حال غيبة الشخص

__________________

١ ـ المكاسب ، كتاب المكاسب المحرمة ، الشيخ الأنصاري ، ص ٤١.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، أبواب أحكام العشرة ، ص ٦٠٢.

٨٢

المذكور ، فلو قيل هذا الكلام في حضوره فإنّه يكتسب عنواناً آخر (كعنوان الايذاء أو التهتك وأمثال ذلك) والآخر أن يكون الكلام من قبيل ذكر عيوب الشخص المستورة والخفيّة فلو كانت من العيوب البارزة والظاهرة لم تكن من الغيبة رغم أنّها قد تكون محرّمة بعناوين اخرى ، والثالث أن يكون الكلام بحيث إذا سمعه الشخص المذكور بالغيبة فسوف يتألم ويتأثر ، ولكن الظاهر أنّ هذا القيد قيد توضيحي فحسب ، لأنّ إظهار العيوب المستورة للآخرين وخاصة في غيبتهم تورث التألم والأذى ، وقد يكون هناك بعض الأراذل الذين لا يمتعضون بذكر معايبهم ونشر فضائحهم بين الناس ولكن مثل هؤلاء الأشخاص قلّة نادرة.

وممّا تقدمّ آنفاً تتضح لنا هذه الحقيقة جيداً ، وهي أنّه عند ما يقال لبعض العوام من الناس : لماذا ترتكب غيبة الشخص الفلاني وتذمّه وراء ظهره؟ يقول : إنني أتحدث بهذا الكلام أمامه أيضاً وفي حضوره ، فهذا من قبيل العذر أقبح من الذنب ، لأنّ التحدّث بذلك أمامه وفي حضوره لا يجوّز غيبته أبداً ، فذلك أيضاً ذنب كبير بدوره لأنّه يدخل تحت عنوان أذى المؤمن وكذلك هتك حرمته بين الناس وهدم شخصيته في المجتمع.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر بين يديه رجل فقال بعض الحاضرين : أنّه رجل عاجز وضعيف فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد اغتبتموه ، فقالوا : يا رسول الله لقد ذكرنا صفته فقال : «إِنْ قُلتُم ما لَيسَ فِيهِ فَقَد بَهَتّموه» (١).

والعذر الآخر الذي يذكره بعض الجهّال كمسوّغ للغيبة ويتذرّعون به أمام من ينهاهم عن الغيبة يقولون : إنّما نقوله هو حق وليس بكذب ، فالشخص الفلاني لديه هذا العيب ، وهذه الذريعة لا تقل قبحاً عن سابقتها لأنّه لو لم يكن هذا العيب في الطرف الآخر لدخل تحت عنوان التهمة لا الغيبة ، فالغيبة كما ذكرنا هي ذكر العيوب الخفيّة للآخرين في غيبتهم.

ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه يستفاد من بعض كلمات الأعاظم وعلماء الأخلاق أنّ الغيبة لا تقع بالنسبة إلى جميع المؤمنين ، بل تقع في مورد الأشخاص الذين تابوا من ذنوبهم وندموا على خطيئتهم وعادوا إلى جادة الصواب ، وأمّا الفاسق والمذنب والمتجاهر بالإثم ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥٦.

٨٣

فإنّ غيبته مباحة حتى لو كان ذنبه مستوراً ويتمسّكون في هذا بالرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث أنّه قال : «مَنْ عامَلَ النّاسَ فَلَم يَظلِمهُم ، وَحَدَّثَهُم فَلَم يَكذِبْهُم ، وَوَعَدَهُم فَلَم يُخْلِفْهُم كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَ غَيبَتُهُ وَكَمُلَتْ مُرُوَّتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ إخُوتُهُ» (١).

وبهذا فإنّ الغيبة تكون محرّمة إذا كانت بالنسبة إلى الشخص العادل بينما الشخص الفاسق فيجوز غيبته حتى لو كان يمارس الذنب في الخفاء.

العلّامة المجلسي قدس‌سره يميل إلى هذا الرأي أيضاً في الجزء ٧٢ من بحار الانوار باب كتاب العشرة رغم أنّه عدل عن هذا الرأي في ذيل كلامه أيضاً (٢).

ولكن من المسلّم أنّ هذه الرؤية تسبب في أن يكون أكثر الناس تجوز غيبتهم وهذا على خلاف اطلاق الآية القرآنية والروايات العديدة في مجال حرمة الغيبة.

ومضافاً إلى الروايات الكثيرة التي تقرّر أنّ عدّة طوائف من الناس تجوز غيبتهم أو لا غيبة عليهم ومنهم الفاسق المتجاهر بالفسق ومن جملة ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَربَعَةٌ لَيسَتْ غَيبَتُهُم غَيبَةٌ ، الفاسِقُ المُعلِنِ بِفِسقِه ، ....» (٣).

ونفس هذا المضمون ورد في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضاً.

ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصدد : «إذا جاهَرَ الفاسِقُ بِفِسقِهِ فَلا حُرمَةَ لَهُ عَلى غَيبَةٍ» (٤).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» (٥) ، وهناك أحاديث متعددة اخرى صريحة في هذا المعنى ، وبمقتضى مفهوم الوصف لهذه الأحاديث ، بل مفهوم الشرط حيث يكون الكلام في مقام الاحتراز ونفي الغير يتّضح جيداً أنّه إذا إرتكب الشخص الذنب في الخفاء فلا يجوز غيبته ، وكما سوف يرد

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ، ح ٢٨.

٢ ـ بحار الانوار ، ٧٢ ، ص ٢٣٥ إلى ٢٣٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦١.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٣.

٥ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦٠.

٨٤

في بحث إستثناءات الغيبة أنّ الشخص المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في خصوص الذنب الذي تجاهر به لا بالنسبة إلى جميع أفعاله الاخرى.

ومضافاً إلى أنّ حرمة الغيبة ثابتة بدليل العقل أيضاً لأنّها نوع من الظلم والعدوان على الآخرين وإفشاء أسرارهم وإسقاط شخصيتهم بين الناس ، ولا شكّ أنّه لا فرق بين الفاسق والعادل في هذا المجال إلّا أن تكون الغيبة في موارد النهي عن المنكر أو دفع الخطر أو الضرر عن المجتمع الإسلامي وحينئذٍ لا فرق أيضاً بين الفاسق والعادل.

وسيأتي في بحث إستثناءات الغيبة تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.

أقسام الغيبة :

أحياناً يتصوّر أنّ الغيبة تقع باللسان فحسب ، في حين أنّ حقيقة الغيبة كما إتّضح آنفاً هي اظهار العيوب المستورة للشخص الآخر بحيث إذا سمع بذلك تألّم وتأثر منها ، وهذا العمل يمكن أن يحصل بواسطة اللسان أو بواسطة القلم أو حتى بالإشارة باليد والعين والحاجب ، وأحياناً تتخذ الغيبة صبغة المزاح واخرى صبغة الجد ، وكم من الذنوب والآثام التي يرتكبها البعض في لباس المزاح والسخرية حيث تكون أخطر من الذنوب التي تلبس لباس الجد ، لأنّ الإنسان يتحرّك بحرية أكثر في حالة المزاح بخلاف حالة الجد ، حيث لا يكون قادراً على بيان المطلب المراد بصورة وافية فيذكره بصبغة المزاح والإثارة للتفكّه والضحك.

مضافاً إلى أنّ الغيبة تارةً تقع بتعبيرات صريحة (وبالاصطلاح المنطقي بالدلالة المطابقية والتضمنية) واخرى بالدلالة الالتزامية والتعبيرات الكنائية التي قد تكون أبلغ من التصريح ، مثلاً عند ما يتحدّث الشخص عن أحد المؤمنين يقول : سامحه الله لنسكت عن هذا فإنّ الشرع المقدس قد أغلق أفواهنا ، وبهذه الكلمات يريد أن يفهم الآخرين على أنّ ذلك الشخص قد إرتكب أفعالاً قبيحة وعظيمة ، وقد يكون التصريح بها لا يثير المستمع كما هو الحال في الكناية ، ولكن بما أنّ مثل هذا الكلام يثير تصوّرات مجملة عن الموضوع فإنّ

٨٥

ذهن المستمع قد يتصوّر ذنوباً متنوعة وكثيرة يكون الشخص المذكور بريئاً منها.

أو يقول : إنّ الشخص الفلاني له صفات جميلة وأفعال حسنة ولكن ... ويسكت عن إكمال الحديث.

وأحياناً اخرى يتحرّك المتكلّم من موقع النصيحة والتحرق القلبي ويقول : سامح الله فلان وجعل عاقبته إلى خير ، أو يقول : أنا خائف من عاقبة أمره ، فهو في الحقيقة يعرض الذنب بلباس الطاعة والشر بثياب الخير ، وكما يقول بعض العلماء أنّه بذلك يكون قد ارتكب إثماً مضاعفاً ، فيكون قد اغتاب من جهة وارتكب الرياء من جهة اخرى ، فمن جهة قد إغتاب الشخص الآخر بتلميحه لمعايب كثيرة ونسبتها إلى الطرف الآخر ، وتحرّك من موقع الرياء حيث تظاهر بأنّه ليس من أهل الغيبة ، بل من أهل التقوى والطاعة لأوامر الله تعالى.

دوافع الغيبة :

إنّ للغيبة عوامل كثيرة ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لإرتكاب الغيبة ، ومن ذلك :

١ ـ الحسد.

٢ ـ الأنانية والعجب ورؤية الذات.

٣ ـ الغرور والكبّر.

٤ ـ الحرص.

٥ ـ الحقد.

٦ ـ حبّ الجاه.

٧ ـ حبّ الدنيا والثروة والمقام.

٨ ـ الرياء.

٩ ـ تزكية النفس واظهار الطهارة والتقوى.

١٠ ـ طلب الترفيه عن النفس بأمور غير مشروعة.

٨٦

١١ ـ سوء الظن.

١٢ ـ حبّ الانتقام.

١٣ ـ التشفي وإطفاء سورة الغضب.

١٤ ـ السخرية والاستهزاء ، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية.

والقدر المشترك بين هذه الامور هو أنّ الإنسان يسعى لتسقيط الشخص الآخر وكسر شخصيته وموقعيته الاجتماعية ليضحى في أنظار الناس ذليلاً ولا قيمة له ، ومن هذا الطريق يجبر نقصه ويهدأ غضبه ويشيع حالة الانتقام من الطرف الآخر ، أو يتحرك لحرمانه من المقام والثروة أو لاظهار الزهد والقداسة الزائفة أو يتحرك من موقع إثارة الضحك والسخرية أو يرى لنفسه امتيازاً ومقاماً على الآخرين.

ومن هنا يتّضح أولاً : أنّ الغيبة مفهوم واسع الأطراف ولها عوامل متنوعة وكثيرة ، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «أَصلُ الغَيبَةِ تَتَنوَّعُ بِعَشرَةِ أَنواعِ ، شِفاءِ غَيظٍ وَمُساعَدَةِ قَومٍ وَتُهمَةٍ ، وَتَصدِيقِ خَبَرٍ بِلا كَشفِهِ ، وَسُوءِ ظَنٍّ وَحَسَدٍ وَسُخرِيَّةٍ وَتَعَجُّبٍ وَتَبَرُّمٍ وَتَزَيُّنٍ ، فَان أَرَدتَ السَّلامَةَ فَاذكُرِ الخالِقَ لا المَخلُوقَ فَيَصِيرُ ذلِكَ مَكانَ الغَيبَةِ عِبرَةً وَمَكانَ الإِثمِ ثَواباً» (١).

ومن الواضح أنّ الإمام هنا في صدد بيان قسماً من العوامل المهمّة للغيبة لأنّه كما تقدّم أنّ دوافع الغيبة متعددة وكثيرة غير ما ذكر في الحديث الشريف.

العواقب السلبية للغيبة :

للغيبة آثار سلبية ونتائج مخربّة كثيرة على الفرد والمجتمع البشري فلو تساهل الناس معها لأزداد الحال خطورة ، ومضافاً إلى ذلك العواقب الوخيمة المعنوية والعقوبات الإلهية المتربتة على هذه المعصية كما سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة.

وبالنسبة إلى المورد الأول يمكن الإشارة إلى ما يلي :

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٧.

٨٧

١ ـ إنّ الغيبة تقوم بأتلاف أهم رأسمال للمجتمع البشري ، والذي يتمثل بتبادل الثقة والاعتماد بين الأفراد ، لأنّ أغلب الأشخاص لديهم نقاط ضعف يسعون لكتمانها وسترها ليحفظوا ثقة الناس واعتمادهم ، وقبح هذه النواقص ونقاط الضعف من شأنه أن يقطع أواصر الاعتماد والثقة بين الناس.

ومن المعلوم أنّ الأساس في ظاهرة التعاون الاجتماعي والتفاعل الإيجابي والعاطفي بين الناس يتمثل في الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع وبدون ذلك يتبدل المجتمع إلى جحيم لا يطاق من كثرة المشاكل الاجتماعية.

٢ ـ إنّ الغيبة تتسبب في سوء الظن بين الأفراد ، لأنّ العيوب المستورة للأشخاص عند ما تنكشف للناس فتتسبب في زوال حسن الظن لدى الإنسان بالنسبة لجميع الأسوياء والصالحين أيضاً حيث يقول : إنّ هؤلاء قد يمارسون مثل هذه الأعمال الشنيعة في الخفاء ويتظاهرون بالصلاح والخير فلا نعلم من حقيقة حالهم.

٣ ـ إنّ الغيبة هي أحد أسباب إشاعة الفحشاء والمنكر ، لأنّ الذنوب المستورة إذا ظهرت بسبب الغيبة فإنّ ذلك سيؤدي إلى تشجيع الآخرين على إرتكابها ، وأساساً فإنّ إظهار الذنوب والكشف عنها من شأنه أن يزيل حالة الخشية منها فيستصغرها الناس ويكون ذلك عذراً للفسّاق في تبرير ذنوبهم وممارساتهم الخاطئة وأنّه إذا قمنا بارتكاب هذا الذنب فإنّ غيرنا ومن هو أفضل منّا وأعلم قد إرتكبه قبلنا.

ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق أنّه قال : «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهوَ مِنَ الَّذِينَ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

٤ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تبعث الجرأة في نفوس المذنبين على ارتكاب الذنوب وكسر حاجز الحياء ، لأنّ أعمال الإنسان ما دامت مستورة فإنّ الحياء يمنعه من إرتكاب الأشنع منها والتجاهر بها خوفاً من الفضيحة والخزي أمام الآخرين ، فلو أنّه إفتضح أمره ، فحينئذٍ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٧.

٨٨

يزول مانع الحياء من نفسه ويتجرّأ أكثر على ارتكاب الذنب.

٥ ـ إنّ الغيبة تورث الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس لأنّ أهم رأسمال للإنسان في المجتمع هو حيثيته وشخصيّته الاجتماعية ، والغيبة بإمكانها أن تذيب وتحرق رأس المال هذا فلا يبقى للإنسان شيئاً يعتدّ به في حركة الحياة الاجتماعية ، ولذا تسبب الغيبة العداوة الشديدة والحقد العميق في قلب الشخص المستغاب (فيما لو سمع بذلك).

٦ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تسقط المستغيب في أنظار الآخرين ، لأنّهم سوف يتصوّرون أن هذا الشخص الذي يتحدّث لهم عن عيوب الآخرين سوف يتحدّث عن عيوبهم أيضاً للآخرين ويغتابهم ، ولذلك ورد في الرواية عن أمير المؤمنين أنّه قال : «مَنْ نَقَلَ إِلَيكَ نَقَلَ عَنكَ» (١).

وفي حديث آخر نقرأ : «لا مُرُوَّةَ لِمُغتابٍ» (٢).

٧ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تكون عذراً لتبرير خطايا وذنوب الشخص المستغيب ، فمن أجل أن يكون في أمان من اعتراض الناس وهجومهم ، فإنّه يتحرّك لممارسة هذا الذنب ويستغيب الآخرين لدفع التهمة عن نفسه.

(وأمّا الآثار المعنوية السلبية) للغيبة فأكثر من أن تحصى في هذا البيان ، ولكن نشير إلى بعض ما ورد في الروايات الإسلامية عن ذلك :

١ ـ تقدّم في الروايات السالفة أنّ الغيبة تمحق الحسنات وتبطل الأعمال الخيّرة كما تحرق النار الحطب ، ويقول العالم الكبير الشيخ البهائي قدس‌سره في أحد كتبه : إنّ الغيبة كالصاعقة التي تحوّل الحسنات إلى رماد في لمح البصر ثم يقول : إن الشخص الذي يرتكب الغيبة هو كمن نصب منجنيقاً واستهدف به حسناته لتحطيمها وتدميرها (٣).

٢ ـ إنّ الغيبة تعمل على تدمير إيمان الإنسان ودينه وتشويه قلبه كما يصنع مرض الجدري بجلد الإنسان.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ كشكول الشيخ البهائي ، ج ٢ ، ص ٢٩٥.

٨٩

٣ ـ إنّ المرتكب للغيبة في حالة العفو عنه سيكون آخر شخص يدخل الجنّة ، وفي حالة عدم العفو عنه سيكون أول من يدخل النار.

٤ ـ إنّ الغيبة تتسبب في فضيحة الإنسان ، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوراتِهم فَإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحُهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» (١).

٥ ـ إنّ الغيبة تؤدّي إلى انتقال حسنات الشخص المغتاب إلى كتاب أعمال الطرف الآخر ، وكذلك تؤدّي إلى انتقال سيئات الطرف الآخر المستغاب إلى كتاب أعمال المستغيب فنقرأ في رواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يُؤتى بِأَحَدٍ يَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَينَ يَدَي اللهُ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَلا يَرى حَسَناتَهُ فَيَقُولُ إِلهي لَيسَ هذا كِتابِي فَإِنِّي لا أرى فِيها طاعَتِي فَقالَ إِنَّ رَبَّكَ لا يُضِلُّ ولا يَنسى ، ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغتِيابِ النّاسِ ثُمَّ يُؤتى بِآخَرَ وَيُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَيَرى فِيها طاعاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَيَقُولُ إِلَهي ما هذا كِتابِي فَإنِّي ما عَمِلتُ هذِهِ الطَاعاتِ ، فَيَقُولُ : إِنَّ فُلاناً إِغتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَناتُهُ إِلَيك» (٢).

ومن هذا المنطلق نقل عن بعض الشخصيات المعروفة السالفة أنّه أرسل إلى شخص إستغابه طبقاً من التمركهدية له وقال : إنّك قد أرسلت إليّ حسناتك وأهديتها لي فأردت جبران صنيعك هذا بهذه الهدية.

ونقل عن شخص آخر أنه كان يقول : أَنّني إذا أردت أن أستغيب أحد الأشخاص فإنّ امّي هي الأولى بذلك لأنّها أولى بحسناتي من الآخرين.

٦ ـ إنّ الغيبة تتسبب في أن لا تقبل صلاة المغتاب وصومه لمدّة أربعين يوماً كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ إِغتابَ مُسلِماً أو مُسلِمَةً لَم يَقبَل اللهُ تَعالى صَلاتَهُ ولا صِيامَهُ أَربَعِينَ يَوماً وَلَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» (٣).

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥٢.

٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٩ ، ص ١٢١ ، ح ٣٠.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ١٢٢ ، ح ٣٤.

٩٠

علاج الغيبة :

إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يشبه من جهات علاج سائر الأمراض الأخلاقية الاخرى ، ويختلف عنها من بعض الجهات ، وفي المجموع لا بدّ من رعاية الامور التالية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه :

١ ـ إنّ العلاج الحقيقي لكل مرض بدني أو نفسي أو أخلاقي يتمثّل بالعثور على الجذور والأسباب الكامنة وراء الابتلاء بهذا المرض والسعي لإزالتها والقضاء عليها ، وبما أنّ عوامل حصول هذه الصفة القبيحة في النفس كثيرة ومتعددة فلا بدّ من التوجه إلى تلك العوامل والاسباب ، وقد رأينا أنّ من العوامل المهمّة هو : الحسد ، الحقد ، الأنانية ، حبّ الانتقام ، التكبّر والغرور وأمثال ذلك ، وما دامت هذه الحالات النفسية السلبية موجودة في أعماق النفس وما دام الإنسان لا يتحرّك على مستوى إزالتها من واقعه وذاته فإنّ هذه الحالة الرذيلة أي ـ الغيبة ـ لا تنقلع ولا تزول.

وعند ما لا يجد الإنسان في نفسه حسداً على أحد ولا يعيش حالة الحقد والكراهية والمقت تجاه الآخرين ولا يرى في نفسه إمتيازاً ولا تفوّقاً على الغير فلا مسوّغ له للتلّوث بخطيئة الغيبة ولا يجد في ذاته رغبة وميلاً إلى ارتكاب هذا الفعل الذميم.

٢ ـ ومن الطرق الاخرى لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو الالتفات والتفكّر في عواقبها السلبية على المستوى المادي والمعنوي ، والفردي والاجتماعي ، فإنّ الإنسان متى ما إلتفت إلى أنّ الغيبة ستؤدّي به إلى المهانة والسقوط في أنظار الناس فيعرفونه بأنّه شخص خائن ، ضعيف النفس ، ويشعر بالدونية والحقارة ، فإنّهم سوف يتحرّكون في الإرتباط معه من موقع عدم الثقة وسوف تهتز شخصيته ومكانته الاجتماعية لدى الآخرين ، وأنّ الغيبة سوف تتلف حسناته وتهدر طاقاته وتنقل سيئات الآخرين إلى صحيفة أعماله ، ولا تقبل عباداته لمدّة أربعين يوماً وهو أول من يدخل النار ، وفيما لو تاب وقبلت توبته يكون آخر من يدخل الجنّة.

وأيضاً عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الغيبة هي حق الناس لأنّها تتسبب في

٩١

هدم سمعتهم والذهاب بماء وجوههم ، ونعلم أنّ قيمة ماء الوجه مثل قيمة النفس والمال لدى الإنسان أو أكثر وما لم يرض عنه صاحب الحق ، فإنّ الله تعالى لا يرضى عنه ، وربّما لا يتسنى له التوصل إلى كسب رضى الطرف الآخر أبداً وحينئذٍ سيتحمل وزر هذا الفعل مدى الحياة.

أجل ، فلو أنّ الإنسان تدبّر في هذه الامور جيداً فسوف يندم بالتأكيد على عمله ويتحرّك بعيداً عن هذا السلوك المنحرف ، والأشخاص الذين يعيشون ممارسة الغيبة في مجالسهم وبهدف الترفيه والتفريح واللهو إذا ما فكّروا في عواقب الغيبة فسوف يتحوّلون عنها بالتأكيد ولا يقتربون من ممارسة هذا السلوك السلبي والعدواني.

٣ ـ يجب أن ينتبه المستغيب إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ طاقات الإنسان محدودة ، فلو أنّه بدلاً من إتلاف هذه الطاقات وصرفها في تسقيط شخصية الآخرين وهدم مكانتهم الاجتماعية كان يستخدم هذه الطاقات والقابليات والمواهب الإلهية في خط الكمال المعنوي والمنافسة السلمية والصحيحة بينه وبين الآخرين فقد لا تمضي فترة قصيرة إلّا ويحرز التوفيق في الكمالات الإنسانية والمعنوية على الخير ويصل إلى مراتب سامية في حركة الحياة والتكامل المعنوي والمادي من دون أن يجد حاجة إلى تسقيط الآخرين والعدوان عليهم وبالتالي سوف ينقذ نفسه من نتائج الغيبة وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.

وبعبارة اخرى أنّ الأفضل للإنسان أن يقوم باعمار بيته وبناء داره بدلاً من تخريب بيوت الآخرين ليعيش في منطقة عامرة وفي دارٍ مشيّدة ، ولكن الشخص الذي يتحرّك دائماً من موقع تخريب بيوت الآخرين فإنّ نتيجته سوف تكون تخريب بيوت المنطقة وتخريب بيته أيضاً فيعيش في الأطلال والخرائب.

يجب أن يلتفت المستغيب إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الغيبة هي احدى العلامات البارزة لضعف الشخصية وفقدان الهمّة والمروءة وأنّه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة ، ولذلك فهو يمارس الغيبة لجبران هذا الضعف النفسي وفي الحقيقة يقوم باظهار هذه العيوب الذاتية

٩٢

والصفات الباطنية ويجهر بها أمام الناس ، فهو يقوم بتدمير شخصيته وتحطيم كيانه قبل أن يحطّم شخصية الآخرين الذين يغتابهم.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنّه لا بدّ لترك الغيبة وخاصة فيما لو أصبحت عادة لدى الشخص ، أن يقوم قبل كل شيء بفرض الرقابة الشديدة على لسانه وكلماته ويتحرّك من موقع الضغط الأخلاقي في دائرة الكلام ، وكذلك ينبغي له أن يتجنّب معاشرة الأصدقاء الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة الغيبة ويدفعونه بهذا الاتجاه ويترك المجالس المهيئة للغيبة ، بل وجميع الامور التي توسوس له في ممارسة الغيبة.

وفي حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «ما عُمِّرَ مَجلِسٌ بالغَيبَةِ إلّا خَرِبَ مِنْ الدِّينِ» (١).

الملاحظة الاخرى هي أنّ أحد دوافع الغيبة هو السعي لتبرئة الذات والدفاع عنها ، مثلاً أن يقول : إذا كنت قد إرتكبت هذا الذنب ، فإنّ من هو أفضل منّي وأعلم قد ارتكبه أيضاً ، والحال أنّ تبرئة الذات لها طرق اخرى كثيرة لا تنتهي بهذا الذنب الكبير أي ـ الغيبة ـ وأساساً فإنّ الاعتراف بالخطأ في هذه الموارد يكون أسلم عذر وأفضل سبيل لتدارك الخطأ ، مضافاً إلى أنّ أحد الأخطاء الكبيرة لدى الإنسان أن يقارن بينه وبين الفاسقين والأراذل من الناس ويترك المقارنة بينه وبين الأخيار والصلحاء من أفراد المجتمع.

أحياناً يتحرّك الشخص لتبرئة نفسه وتبرير سلوكه إلى التشبث بهذا العذر وهو أنني عند ما رأيت العالم الفلاني قد إنحرف على مستوى السلوك وارتكب الذنوب زالت عقيدتي وضعف إيماني وأصبحت في أمر العقيدة بالمبدأ والمعاد غير مكترث ، هذه المعاذير والتبريرات هي المصداق الأتم لمقولة العذر أقبح من الذنب ، ويترتب على ذلك عواقب خطرة جدّاً ، فما أحرى بالإنسان أن يعترف بخطئه ويسعى في تعامله مع الآخرين في حمل سلوكياتهم وأفعالهم على الصحة ، وعلى فرض أنّ أحد القادة أو العلماء أو الجهّال تصرّف من موقع الإنحراف وارتكب بعض الذنوب ، فلا يكون ذلك مسوّغاً للآخرين على سلوك هذا

__________________

١ ـ روضة الواعظين ، ص ٥٤٢.

٩٣

المسلك وتبريره بتلك الذريعة الشيطانية ، بل يجب على الإنسان أن يجعل الصلحاء والأولياء اسوة له في دائرة السلوك والتكامل المعنوي والأخلاقي.

بقي من موضوع الغيبة عدّة امور مهمّة لا بدّ من التعرّض لها :

١ ـ استماع الغيبة

كما أنّ التحدّث بالغيبة من الذنوب الكبيرة فكذلك المشاركة في مجلس الغيبة والاستماع للمغتاب في تعرضّه للمؤمنين والوقيعة بالآخرين أيضاً من الذنوب الكبيرة ، لأنّ جميع المفاسد المترتبة على الغيبة تتعلق بطرفين ، المغتاب والمستمع للغيبة ، فلو أنّ الشخص لم يجد في نفسه استعداداً لسماع الغيبة فمضافاً إلى أنّه قد تقدّم خطوة في طريق النهي عن المنكر ، فكذلك لا يمكن للغيبة أن تتحقّق في الواقع ، فلا يجد المغتاب من يستمع له ليكشف عن عيوب الناس ولا يتمكن من تسقيط شخصية الآخرين ولا هتك حرماتهم ولا يترتب على ذلك المفاسد الاجتماعية الاخرى.

ولهذا السبب نجد الروايات الإسلامية قد شاركت المستمع للغيبة وجعلته أحد المغتابين كما ورد في أحد الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «المُستَمِعُ أحدُ المُغتَابِينَ» (١).

وورد عن الإمام علي عليه‌السلام قوله : «السّامِعُ للغَيبَةِ أَحَدُ المُغتَابِينَ» (٢).

وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه عند ما رأى أحد الأشخاص يرتكب الغيبة في حضور ولده الإمام الحسن عليه‌السلام فقال له : «يا بُنَي نَزِّهِ سَمعَكَ عَنْ مَثلِ هذا فَإنَّهُ نَظَرَ إلى أَخبَثِ ما فِي وِعائِهِ فَأَفرَغَهُ فِي وِعائِكَ» (٣).

وكذلك ورد في الروايات الشريفة أنّ المستمع للغيبة يجب أن يتحرك من موقع الدفاع عن أخيه المسلم وذلك من خلال حمل سلوكه على الصحّة.

__________________

١ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٩٧ ؛ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٢٦.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٣٣٩.

٩٤

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «مَنْ أُغتِيبَ عِندَهُ أَخُوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنيا والآخِرةِ» (١).

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال : «إذا وَقَعَ فِي رَجُلٍ وَأَنْتَ فِي مَلاءٍ فَكُنْ لِلرَّجُلِ ناصِراً وَلِلقَومِ زاجِراً وَقُم عَنهُم» (٢).

وأيضاً ورد في الحديث النبوي الشريف قوله : «الساكِتُ شَرِيكُ المُغتَابِ» (٣).

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً حيث قال : «ألا وَمَنْ تَطَوَّلَ عَلى أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ فَرَدَّها عَنهُ رَدَّ اللهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ هُوَ لَم يَرُدَّها وَهُو قادِرٌ عَلى رَدِّها كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ سِبعِينَ مَرَّةً» (٤).

ويمكن أن تكون هذه الرواية ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الشخص المستمع من أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في حين أنّ المغتاب ليس كذلك ، ومن الواضح أنّ سكوت مثل هذا الشخص يترتب عليه نتائج وخيمة على مستوى هتك حرمة ذلك الشخص المسلم حيث يكون استماعه لذلك أكثر ضرراً من كلام المغتاب نفسه.

٢ ـ الغيبة حق الناس أو حق الله؟

وطبقاً لما ورد في تعريف الغيبة سابقاً يتّضح أنّ الغيبة من حقوق الناس لأنّها تتسبب في هتك حرمتهم وتسقيط شخصيتهم وإزهاق سمعتهم : ونعلم أنّ ماء وجه المسلم له من القيمة كما هو الحال في روح المسلم وماله وعرضه.

ومن التشبيه الوارد في الآية من سورة الحجرات حول الغيبة وأنّها كمن يأكل لحم أخيه ميتاً يتّضح جيداً أنّ الغيبة من حق الناس ؛ ومن الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستوحي هذا

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ص ٢٣٣٩.

٢ ـ كنز العمال ، ح ٨٠٢٨.

٣ ـ آثار الصادقين ، ج ١٦ ، ص ٩٨.

٤ ـ من لا يحضره الفقه ، ج ٤ ، ص ٨ و ٩.

٩٥

المفهوم أيضاً وهو أنّ الغيبة نوع من الظلم والعدوان على الآخرين والذي يجب التحرك على مستوى جبران هذا العدوان وتعويض الطرف الآخر لجبران الظلم الذي وقع عليه ، ومن ذلك :

١ ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في حجة الوداع : «أَيُّها النّاسُ إِنَّ دِمائَكُم وَأَموالَكُم وَأَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا فِي شَهرِكُم هذا فِي بَلَدِكُم هذا إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَما حَرَّمَ المَالَ وَالدَّمَ» (١).

ولا شك أنّ كل دم برىء يسفك لا بدّ من جبرانه ، وكل مال مشروع يتُم اتلافه من قِبل شخص آخر يجب عليه أن يقوم بتعويضه ، والغيبة أيضاً ومن خلال هذا المنطلق يجب العمل على تلافيها وجبرانها بأي نحو ممكن.

وأساساً فإنّ جعل عرض المؤمن إلى جانب ماله ودمه لهو دليل واضح على أنّ تسقيط شخصية الإنسان وهتك حرمته إنّما هي من حق الناس.

٢ ـ وفي حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن قارن الغيبة بالزنا وأنّها أشدّ إثماً منه قال : «إنّ صاحِبَ الغَيبَةِ لا يُغفَرُ لَهُ حتّى يَغفِرَ لَه صاحِبُهُ» (٢).

٣ ـ وجاء في كتاب مجموعة ورام أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كُلُ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرامٌ وَدَمُهُ وَمالُهُ وَعِرضُهُ ، والغَيبَةُ تَناوُلِ العِرضِ» (٣).

العبارة الأخيرة من هذا الحديث الشريف وهي أنّ (الغيبة تناول العرض) مصداق التعرّض لناموس الشخص سواء كانت من كلمات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو كلمات الرواة ، فإنّها على أي حال يمكن أن تكون شاهداً على المقصود.

والشاهد الآخر على هذا المعنى هو الروايات الشريفة التي تتحدث عن أنّ الغيبة تسبب في نقل حسنات المغتاب من صحيفة أعماله إلى صحيفة أعمال المغتاب ، ونقل سيئات المستغاب إلى الشخص المرتكب للغيبة (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) وهذا يعني أنّ الغيبة

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٩ ، ص ٦٢.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥١.

٣ ـ مجموعة ورام ، ج ١ ، ص ١٢٣.

٩٦

هي من حق الناس ، لأنّ نقل الحسنات والسيئات لجبران الضرر الذي لحق بالمستغاب يعني أنّ الغيبة من حقوق الناس.

وبعد أن اتّضح هذا المفهوم وأنّ حق الناس يجب أن يجبر ويعوّض يثار في الذهن هذا السؤال ، وهو أنّ المغتاب كيف يتمكن من جبران خطئه وذنبه؟

ويستفاد من بعض الروايات أنّ المستغاب لو علم بذلك وسمع بأنّ المستغيب يذكره بسوء ، فيجب على المستغيب أن يذهب إليه ويطلب منه أن يرضى عنه ويجعله في حِلّ وإلّا لو لم يتصل به فيجب عليه أن يستغفر الله تعالى ، ويدعو للمستغاب بالرحمة والمغفرة (ليتم له التعويض عن ذلك الظلم في حق أخيه المؤمن) وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : «فَإنَّ اغتِيبَ فَبَلَغَ المُغتابَ فَلَم يَبقَ إلّا أَن تَستَحِلَّ مِنهُ وإنْ لَم يَبلُغْهُ وَلَمْ يَلحَقهُ عِلمَ ذَلِكَ فاستَغْفِرِ الله لَهُ» (١).

ويتّضح من هذا الحديث الشريف أنّه لو لم تصل الغيبة إلى مسامع المستغاب فإنّ نقل هذا الخبر إليه قد يتسبب في أذاه أكثر ويترتب على ذلك مسؤولية أكبر ، ولهذا السبب نجد أنّ الوارد في الحديث الشريف هو الاستغفار فحسب ، وعليه ففي الموارد التي لا يتأثر فيها المستغاب من خبر الغيبة فلا يبعد وجوب طلب التحلل منه وكسب رضاه.

ومن هنا يتّضح جيداً ما ورد في الروايات الشريفة أنّه : «كَفَّارَةُ الإغتِيابِ أَنْ تَستَغفِرَ لِمَنْ إِغتَبتَهُ» (٢).

والشاهد الآخر ما ذكر آنفاً هو الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : «مَنْ كانَتْ لأخِيهِ عِندَهُ مَظلَمَةٌ فِي عِرضٍ أَو مالٍ فَليَتَحَلَّلها مِنهُ مِنْ قبلِ أَنْ يَأتِي يَومٌ لَيسَ هُناكَ دِينارٌ وَلا دِرهَمٌ إِنَّما يُؤخَذُ مِنْ حَسَناتِهِ فَإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ اخِذَ مِنْ سَيئَاتِ صاحِبِهِ فَزِيدَتْ عَلَى سَيئَاتِهِ» (٣).

وجاء في أدعية أيّام الاسبوع للإمام زين العابدين عليه‌السلام الواردة في ملحقات الصحيفة

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٤٢.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٣٣٩ ، ح ١٥٥٤٣ إلى ١٥٥٤٨.

٣ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٣٠٦.

٩٧

السجادية عبارات واضحة لهذا المفهوم في دعاء يوم الإثنين حيث يقول فيه الإمام (من خلال كونه اسوة للآخرين): «وَأَسأَلُكَ فِي مَظَالِمِ عِبادِكَ عِندِي ، فَأَيُّما عَبدٍ مِنْ عَبِيدِكَ ، أَو أَمَةٍ مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظلَمَةٌ ظَلَمتُها إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَو عِرضِهِ أَو فِي مالِهِ أَو فِي أَهلِهِ وَوَلَدِهِ ، أو غَيبَةٍ اغتَبتُهُ بِها ، أو تَحامُلٌ عَلَيهِ بِمَيلٍ أو هَوىً ، أو أنَفَةٍ أو حَمِيَّةٍ أو رِياءٍ أَو عَصَبِيةٍ غائِباً كانَ أَو شاهداً ، حَيَّاً كانَ أَو مَيتاً ، فَقَصُرتْ يَدِي وَضاقَ وسعِي عَنْ رَدِّها إِلَيهِ ، وَالتَّحلُّلِ مِنهُ. فَأَسأَلُكَ يا مَنْ يَملِكُ الحاجاتِ وَهِيَ مُستَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ أَن تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وأَن تُرضِيَهُ عَنِّي بِما شِئتَ ...» (١).

وعلى أيّة حال فإنّ احتمال كون الغيبة من حق الناس قوي جدّاً ، ولذلك فإنّه لو لم يكن أمامه مشكل في طلب الرضا والتحلل منه وجب عليه ذلك.

وهناك ملاحظة مهمّة وهي أنّ أحد طرق جبران الغيبة هو أن يقوم المستغيب بالحضور في مجلس يحوي الأشخاص الذين كانوا قد حضروا مجلسه السابق ، فيقوم بإعادة الشريط وتبرير سلوك أخيه المؤمن بما يوافق الأخلاق الحسنة والشرع المقدّس ويحمله على الصحة بحيث تزول من الأذهان آثار الغيبة وتعود المياه إلى مجاريها.

٣ ـ مستثنيات الغيبة

يتفق علماء الأخلاق وكذلك الفقهاء على أنّ هناك موارد تجوز فيها الغيبة وقد تصبح واجبة أحياناً ، وذلك بسبب طروء عوارض معينة على الغيبة ممّا يغيّر حكمها الأصلي.

وبعبارة اخرى أنّ الغيبة بعنوانها الأولى حرام بلا شك ومن الذنوب الكبيرة وفي ذلك يتفق علماء الإسلام ، ولكن هناك عناوين ثانوية تطرأ على هذا الفعل بإمكانها أن تكون حاكمة على العنوان الذاتي والأولى ممّا يفضي إلى أن تكون الغيبة جائزة بل واجبة ، وذلك في الموارد التي تكون فيها المصلحة أهم ويكون حفظ هذه المصلحة غالب على المفاسد

__________________

١ ـ ملحقات الصحيفة السجادية ، دعاء يوم الاثنين.

٩٨

الكبيرة المترتبة على الغيبة.

ومن جملة هذه الموارد التي تدخل في مستثنيات الغيبة ما يلي :

١ ـ أن يكون الإنسان في حالة التظلّم وطلب حقّه من الآخر ويسعى لرفع هذه الظلامة بحيث لو أنّه لم يتعرّض لذكر الطرف الآخر بالسوء ولم يصرّح للآخرين بسلوك ذلك الظالم فإنّه لا يصل إلى حقّة.

وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : «لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً» (١).

٢ ـ في موارد النهي عن المنكر ، أيّ في حالة ما إذا لم يتحرّك الإنسان لفضح الطرف الآخر ويكشف عن أعماله السيئة ، فإنّ ذلك المذنب سوف يستمر في غيّه ويقوم على ذنبه ، فهنا ترجح مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مفسدة الغيبة ، بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.

٣ ـ في مورد أهل البدع وكذلك الذين يحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بحيث لو أنّ أعمالهم الخفيّة تجلّت وكشفت للمسلمين ، فإنّ الناس سوف يتصدّون لهم ويتحركون من موقع دفعهم وابطال مؤامراتهم ، فهنا تكون غيبة مثل هؤلاء الأشخاص جائزة ، بل واجبة.

٤ ـ في مورد ما إذا كان المسلم يعيش الخطر على نفسه أو ماله أو عرضه من شخص آخر وهذا المسلم لم يكن على علم بالخطر المحيط به ، وهنا يكون إخباره بهذا الخطر جائز ، بل واجباً أحياناً.

٥ ـ في مورد المشورة ، بمعنى أنّ أحد الأشخاص أراد مثلاً الزواج من مسلمة وأراد طلب يدها من والديها أو أراد شخص تشكيل شركة أو السفر إلى أحد البلدان ، وطلب من شخص آخر أن يشير عليه بما يراه صلاحاً له ، فهنا لا يمكن القول بأنّ الكشف عن عيوب الطرف الآخر حرام ، بل إنّ أمانة المشورة تقتضي أن يقول المستشار ما يعلمه وما هو مطلّع عليه من نقاط القوّة والضعف ، ولا ينبغي أن يحجم عن النصح والمشورة لأخيه المؤمن خوفاً

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١٤٨.

٩٩

من الوقوع في الغيبة ، لأنّ ستر مثل هذه المعايب يعتبر خيانة للمستشير والخيانة في المشورة حرام.

٦ ـ في مورد الشهادة ، وذلك عند ما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم أو المحكمة ، فهنا تجوز الغيبة ، لأنّ مصلحة الشهادة أقوى ، وكذلك في موارد إجراء الحدود الإلهية ، فلو أنّ عدّة أشخاص رأوا بأنّ الشخص الفلاني يشرب الخمر أو يزني فلهم أن يأتوا إلى حاكم الشرع ويشهدوا عليه بذلك ليجري عليه الحدّ ، وكذلك فيما لو شهد أشخاص على أمر معيّن وكان هؤلاء الشهود في الواقع فسّاق ولم يكن الحاكم يعلم بخبرهم وحالهم ، وهنا يجوز فضح هؤلاء الشهود ، وبعبارة اخرى يجوز جرح الشهود (وطبعاً فإنّ جميع هذه الموارد هي فيما لو كان عدد الشهود كافياً لإثبات الموضوع).

٤ ـ حكم المتجاهر بالفسق

يتفق علماء الأخلاق والفقهاء العظام عادةً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ويرون أنّها من مستثنيات الغيبة ويصرّحون بأنّ غيبة مثل هؤلاء الأشخاص الذين مزّقوا ستار الحياء وأجهروا بالمعاصي أمام الناس ، فإنّهم لا غيبة لهم وقد تمسكوا في ذلك بروايات في هذا الباب.

ففي حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أَربَعَةٌ ليستْ غَيبَتُهُم غَيبَة الفاسِقُ المُعلِنُ بُفسقِهِ ...» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «ثَلاثَةٌ لَيسَ لَهُم حُرمَةٌ صحِبُ هَوىً مُبدِعٍ والإمامُ الجائِرُ والفاسِقُ المُعلنُ الفِسقَ» (٢).

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» (٣).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٦١.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٢٥٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦٠.

١٠٠